الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دون كيشوت والحروب الخاسرة

احمد شحيمط
كاتب في مجالات عدة كالفلسفة والاداب وعلم الاجتماع

(Ahmed Chhimat)

2020 / 4 / 7
الادب والفن


كتب الروائي الاسباني ميغيل دي سيرفانتيس روايته المشهورة "دون كيخوطي دي لا مانشا " ما بين 1605 و10615 في جزئين، من منطقة المانش باسبانيا، رجل نحيف من الطبقة المتوسطة، شارع وفارس مولع بقراءة كتب الفروسية ، ورجل بلغ من العمر ما يجعله مهيئا لاستيعاب مشاكل العصر وأزمات الإنسان عندما يستفحل الشر في مكان ما، إنه يمتلك نظرة حالمة في تطهير الأرض من الجبابرة والأشرار ، يعيش الواقع بفكر الخيال وبمقياس الفرسان القدماء في نشر العدالة والفضيلة، والتضحية بذاته في سبيل المبادئ ، شخصية تدافع عن الإنسانية الراقية في الإعلاء من حب الخير وكره المفسدين في الأرض، والسعي الدائم نحو نشر الخير والعدالة ، رفيقه الدائم "سانشو" ولنقل الرجل الواقعي الذي لا يعير اتهاما للقضايا التي تثير خيال دون كيشوت في الهرولة المتكررة والسريعة نحو الأعداء والأشرار المفترضين، وليس في الواقع كما يلمس سانشو بالعقل والحواس سوى مجموعة من الطواحين الهوائية على بعد مسافة معينة ، إنه الوهم الذي يسكن خيال وأفعال دون كيشوت، ويعرف بالتمام أن فكره لا يمكن أن يستوعب النصح ، تلك حقيقة لا يرقى إليها شك أن المكان يعج بأصوات لأشرار. صدق أرسطو عندما قال ثلاثة من الناس يسكنهم نوع من الجنون الصامت وهم الفلاسفة والفنانون والشعراء ، فقد كان دون كيشوت شاعرا مهووسا ببطولات "الشوفالييه"، من الفرسان القدماء الذين خبروا الحرب والمغامرات، وعاشوا في الدفاع عن فكرتهم النبيلة وعدالة القضية، هذا النوع من الهوس يسكن الناس الحالمين والذين يتأملون ما وراء الأشياء حتى يعثرون على النماذج الممكنة للحياة والعيش المشترك .
نوازع الإنسان ممزوجة بالخير والشر، بالفضيلة والرذيلة ، قوى الإنسان تركيب من الغريزة والغضب والعقل ، يدرك سانشو أن دون كيشوت يعاني فكره من انفصال عن الواقع، ونظرته للأشياء حالمة، ومن الصعب إقناعه بجادة الصواب، هذا الرجل عاش وحيدا لم يتزوج ، يمتلك حصانا ورمحا ودرعا، وكلما سمع صوتا من مكان ما يدرك للتو أن في الأمر مدعاة للهرولة ، ويصيح بصوت عال: أنا قادم إليكم أيها الأشرار، سقوطه في النهاية دليل على تغلغل الوهم، والسقوط في الوعي المزيف للواقع ، هذا الوهم الذي سكن الفكر والأحلام معا يتلاشى صاحبه أمام صخرة الحقيقة، فمن الصعب إقناع رجل الأوهام إذا كان يمتلك خيالا سقيما، ووعيا مريضا، وأفكارا غير واقعية ونظرة شمولية تتجاوز الذات وكل الإمكانات المتاحة . سقوطه في النهاية لا يعني فقط انتهاء شخصيته الحالمة بل عبرة لكل من يتجاوز الأفكار ويرسم من الأخطاء حقائق ممكنة، والأوهام عوالم مصطنعة في نقل الإنسانية من عصر الاستبداد وهيمنة الطغاة إلى عصر الحرية والعدالة، وكل مواصفات العصر الذهبي، فلا يستسيغ ممن يخالفه الرأي . حروب خاسرة كتلك التي خاضه الفارس دون كيشوت ، من أفكاره الخصبة والشاعرية، وللوجدان صفات ضرورية في إقامة العدالة والدفاع عن الإنسانية من القهر والاستبداد .

تطابق الفكرة الملموسة مع الواقع المادي، والفكر الخلاق المبني على التنظير والنظر للمستقبل بالنسبية من سمات الفكر العلمي الحديث في القرن السابع عشر. في كل مرة يعود دون كيشوت من معركة خاوي الوفاض، لا يغنم ولا ينتصر على الأشرار، خيبة الأمل عندما لا يتحقق الحلم ويمتزج بالأوهام فيضرب الواقع في صميمه ،إنه الصراع الأبدي بين المثالية والواقعية، بين الخير والشر ، بين غريزة الحياة وغريزة الموت ، وصراع الناس على الفكرة وإقامتها بكل قوة، واندفاع الآخر نحو أفكار ملموسة تأتي بالنتائج الحسنة، في عالم مشترك يسكنه الأشرار والأخيار، عالم توازن القوى، التي تنهار مرة وتصعد مرة أخرى. كل إنسان يسكنه الوهم وعندما نتمادى في أوهامنا تنكسر الأحلام، ونصاب بعصاب من جراء عدم تحقيقها أو نصاب بخيبات الأمل، وهذا يولد فينا الشقاء ولا ننعم بالسعادة ، شوبنهاور الفيلسوف الألماني ورغم نزعته التشاؤمية لخص السعادة في فكرة واحدة، وهي تحقيق التطابق بين الرغبات والفعل الإرادي دون اللهفة وراء تحقيقها دفعة واحدة بل يجب تعليق بعضها، وتأجيل أخرى، وتحقيق أقربها حتى ينعم الإنسان بالهدوء والسكينة .
عالمنا اليوم تسكنه الأوهام التي تنتجها السياسة في تعميم نماذج معينة في الاقتصاد والثقافة، وتعميم نموذج معين للكائن الإنساني بمواصفات متطابقة مع العصر، علما أن هذا الكائن ينفلت في كثير من الأحيان من التنميط ، أوهام العلم في السيطرة على الكون وعلى الجنس البشري كما كان يطمح إلى ذلك فرانسيس بيكون، وما يمكن أن يحققه الغرب من العلم الوضعي، والثورات العلمية في مجال البيولوجيا والفيزياء والفلك، أوهام المثقف والتي تحدث عنها المفكر علي حرب من وهم الحرية، وهم النخبة، وهم المطابقة، وهم الهوية، وهم الحداثة، تلك أوهام المثقف والنخب العربية التي بقيت منفصلة عن واقعها للتنظير من فوق لأنها تمرست في الفكر النظري ودرست في مدارس الغرب، وتعلمت الكثير من النظريات العلمية واليات الفكر النقدي، أوهام يحملها الإنسان ويعتنقها ويراها حقائق ثابتة، ومناسبة للتدرج بالمجتمعات نحو التقدم، حتى انقسمت النخبة في عالمنا إلى طوائف، من ليبراليين وماركسيين وقوميين واشتراكيين، ومهللين للعولمة والحداثة الغربية وسلفيين ودعاة التقنية وغيرها من التصنيفات، أوهام بأفكار إيديولوجية، وعالم متعدد تتحكم فيه معطيات اقتصادية وتوجهات سياسية مغلفة بالمنفعة والمصلحة، البرغماتية في أوسع معانيها وحدودها الضيقة معا، التي تسير العالم وتخلق قوى وعلاقات مصلحة .
كل إنسان يسكنه الوهم ولا نتخلص من أوهامنا إلا عندما ندرك بالتمام عدم التطابق بين أفكارنا والواقع ،وأننا بالفعل جزء من العالم الذي تتصارع فيه قوى عالمية، ويحمل تناقضات جمة لا يمكن حصرها ، عالم كالقرية الكونية من حيث ثقافة الصورة وانتقالها، ونقل الأخبار، ومعرفة ما يجري من أشياء هناك، معارك تحركها قوى خفية ومصالح متباينة، وإعلام مرئي يعيد تكرار الأخبار، ونقل الواضح منها، وأفكار تتصارع لأجل الريادة والقيادة، واقعنا تنسجه أوهام وحقائق وتخطيطات ظاهرة و وكامنة في السيطرة على الجنس البشري ، ونعتقد في العلم بقدرته على حل المشكلات والأزمات وعندما أصيب العالم بفيروس كورونا، وجدنا أن العالم لا يسير وفق ما نريده كالزيادة في الأبحاث العلمية وفهم أعمق للطبيعة البيولوجية والاستعداد الفوري في القضاء على كل الأوبئة. تسكننا الأوهام أن الحروب التي تدور في أماكن معينة من أجل العدالة والفضيلة، بل حروب مصالح ولإنعاش تجارة سوق السلاح، لا تنتهي الحرب إلا بانتصار الغالب، وفرض سياسته على الطرف المغلوب، وضريبة الحرب خاسرة في كل الأحوال عندما تتدخل فيها قوى خارجية، فلا تحل الأزمات العالقة على طريقة دون كيشوت في سعيه نحو العدالة ومحاربة الأشرار ،بل ثنائية الخير والشر تنهار في ظل الأوبئة وشراسة الحروب التي لا تعترف بالأخلاق بل ميزان القوة على الأرض، ومن يتحكم في وضع الشروط، وإرغام الطرف الآخر على الاستسلام.

دون كيشوت ينطوي على شخصية مزدوجة، يسكنه الميل للخير وإقامة العدالة، والفصل بين الحق والباطل، ومن جهة أخرى يسكنه الخطأ والوهم في عدم تقدير الأشياء وحسن الإنصات بالعقل والرؤيا بالعين للواقع ، ينزلق في هرولة مستمرة نحو البراري ويشق الحقول مسرعا وصائحا بصوت عال مخاطبا الأشرار والطغاة ، في العالم أشرار وهذا الأمر دقيق وصادق، وفي العالم أصوات للخير والسلام، والحروب التي خسرها دون كيشوت كانت نتيجة هذا التهور في تقدير الأشياء وامتلاك الوعي المزبف، المرافق "سانشو" نموذج للوعي الحقيقي ومثال للأفكار الملموسة في محاولة منه القيام بإرشاد دون كيشوت للمكان الذي لا يوجد فيه سوى طواحين الهواء .
عالمنا يعج بنماذج دون كيشوت في الاندفاع نحو حروب خاسرة ، طواحين هوائية تطحن الإنسان في مجال السياسة والاقتصاد، يطحننا الإعلام ويمارس علينا نوع من التخدير، ويغير من الحقيقة حتى نعتقد أننا نتملك وعيا صحيحا عن الأشياء والوقائع ، عالم يفترسنا حتى نعيش في دوامة الاستلاب والتبعية، ونكاد نخرج من أوهامنا عندما نكتشف هشاشة الوجود الإنساني، لا نتملك القدرة على الفعل أحيانا، وعندما نسرع ونريد أن نحدث شيئا، سيوفنا خشبية والطواحن الحديدية أجساد قوية، نصيح في البراري ونعلو التلال والقمم، ونخاطب بأصوات عالية، ونعود مرة أخرى للواقع ونستسلم بكل ما هو موجود ، أفعالنا محكومة بالسياقات، وأفكارنا نتاج منظومات فكرية، وخيالنا لم يعد يسافر في زمن الأبطال القدماء بل حتى البطولات والملامح والحروب على طريقة الفرسان الجوالين لم تعدد ممكنة ، الوهم عندما يسكننا لا نعتبره من الأخطاء بل يزيدنا تشبثا بخيالنا السقيم للعيش في الرفاهية والحرية دون مركب نقص، وعندما نستفيق من أوهامنا أحيانا نجد أنفسنا في عالم ممتلئ بالأكاذيب والإيديولوجيات، وتصبح حياتنا لحظة ظرفية عابرة في زمن معين، لا نلبث أن نعيش هذا الزمن ونترقب الموت في كل لحظة .

برع سيرفانتيس في كتابة روايته بالشكل الظاهر الذي عبر عنه من خلال شخصيات الرواية، لكن أعتقد أنه خاطب الإنسان في أعماقه، في مملكة الوهم المقابلة لمملكة العقل، وكل مملكة هناك المشترك محددة بالغايات النبيلة لإقامة المجتمع العقلاني وإقامة المجتمع الطوباوي، هكذا قدم لنا هذا الروائي فكرة كامنة عن الأوهام التي تسكن بعض الناس وهم بالفعل ليسوا حمقى ومجانين، هوسهم بالمجتمع المثالي حقيقي في خيالهم، وحروبنا الخاسرة مع أنفسنا عندما لا نقتنع أن العالم ليس كما يريده الفلاسفة والشعراء في المدن الفاضلة، هذه الكيانات ما هي إلا تصورات لما يمكن تحقيقه، وحروبنا الخاسرة سواء المباشرة أو بالوكالة هي تعبير عن أفكار سقيمة لا تنتهي إلى نتائج حسنة، ما ينهيها الإرادة والسلطة المشتركة. الوهم عندما يسكن خيال الإنسان بدون رؤية واضحة المعالم يجر على الإنسان والإنسانية نتائج صعبة لا تضمد جراحها إلا بعد سنوات طويلة الأمد ، لازلنا في المجتمع العربي نتكلم عن الحروب الاستعمارية، ولازال التاريخ يدرس هيمنة الإمبراطورية الرومانية ، ولازالت اسبانيا تتحدث عن سنوات الحكم الإسلامي بتخليد الحفلات والذكريات حتى لا تمحى الذاكرة ، خلدت اسبانيا إسم هذا الروائي الكبير الذي أصبح تحمل اسمه المعاهد الاسبانية، ووضعت له تماثيل، وعمله يكشف عن نوازع الإنسان الداخلية ورغباته في إقامة عالم خال من الشر والأشرار، والنهاية القاسية يمكن أن تكون نهاية كل إنسان يتوهم كسب كل المعارك حتى لو كان يعتقد جازما أنها خاسرة ووهمية . فكل إنسان يسكنه القليل من أوهام دون كيشوت .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا