الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في العراق (3-3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 4 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


لقد كان تاريخ العراق الحديث، خصوصا بعد انقلاب تموز عام 1958 وحتى اليوم هو زمن الانتقال من دكتاتورية إلى أخرى. وبهذا المعنى لم يكن أكثر من مجرد أفعال دائمة الانتهاك لفكرة الدولة الشرعية والمجتمع المدني والثقافة العقلانية. أما الآمال التي وضعت على إمكانية البناء الواقعي والعقلاني للدولة الشرعية والمجتمع المدني بعد سقوط الصدامية، فإنها تقف أمام امتحان تاريخي غاية في التعقيد. فالوقائع الفعلية ما بعد انتخابات 2005 التي مهدت لكتابة دستور دائم وإجراء الاستفتاء عليه، تشير إلى حقيقة واحدة جلية وهي استمرار زمن المساومات الخفية، أي المؤامرات والمغامرات الجزئية التي تضع مصالح الأحزاب والقوى التقليدية فوق مصلحة البناء الضروري للدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الاجتماعي. وإلا فمن الصعب فهم طبيعة ومستوى «المساومة» السياسية بين الحركات السياسية الشيعية والحركات القومية الكردية. فهي قوى تختلف من حيث مكوناتها وغاياتها القومية والسياسية والأيديولوجية. لكنها التقت في الممارسة العملية. وهو أمر يشير إلى أن القوة الفاعلة في أساليبها تقوم في غلبة المصالح الضيقة، أي المصالح التي لا علاقة جوهرية لها بفكرة البديل الديمقراطي.
وتكشف هذه النتيجة من الناحية السياسية عن بقاء وفاعلية فكرة المؤقت فيها. وليس مفارقة أن تسود في رغباتها وأعمالها وأقوالها فكرة المؤقت. تماما كما يمكننا القول، بان ما توصلت إليه هو عقد مؤقت اقرب ما يكون إلى زواج متعة محكوم بحساب العد والنقد. وشأن كل متعة مؤقتة عرضة للزوال السريع لأنها محكومة بمشاعر الغريزة ومتطلبات الجسد. بينما الدائم في تاريخ الدول والأمم والثقافات هو إبداع الروح. ولا معنى للروح في العراق المعاصر غير الطاقة العقلية والأخلاقية الساعية لنقله من مستنقع التوتاليتارية والاستبداد إلى فضاء الحرية والديمقراطية المحكومة بقوة القانون والشرعية. وهو انتقال يشكل مضمون الغاية الكبرى التي يعاني العراق منها وفيها لكي تكون تضحياته الجسيمة وآماله الكبرى على قدر من الوفاق لا يمكن حجبها «بوفاق وطني» هو اقرب ما يكون إلى طائفية مبطنة وقومية مغلفة بعباءة التدين المزيف والوطنية الكاذبة. لاسيما وان فكرة الوفاق الضروري والحقيقي لا يمكن إرساؤها على أسس الخروج المغامر على منطق الديمقراطية الاجتماعية، كما ظهر في «زواج المتعة» بين القوى السياسة الشيعية والقومية الكردية، بل في عقد اجتماعي سياسي جديد. وهو عقد كشفت عن ضرورته الفعلية أحداث الشهرين التاليين لانتخابات بداية 2005، والسنوات الثلاث الأخيرة بعد سقوط الدكتاتورية الصدامية.
فقد كشفت تجربة ثلاثة أعوام بعد سقوط الدكتاتورية، بان القوى الطائفية والقومية الضيقة لا تفعل في الواقع إلا على إنتاج صدامية جديدة. وذلك لما في نفسية المؤامرة والمقامرة من ملامح هي الوجه الآخر لضعف الهوية الوطنية في سياسة وتركيبة الأحزاب. ولا يستطيع هذا الضعف الصمود طويلا، لأنه لا يحتوي على أية احتمالات اجتماعية عقلانية بالنسبة لتطور الدولة والمجتمع. مما يؤدي بالضرورة إلى أن يكون سلوكها مجرد سلسلة من الأفعال الجزئية العاملة من اجل «التعويض» عن ضعفها الروحي. وبرزت هذه الحالة بصورة جلية ما بعد الانتخابات. إذ ترتب على عدم ثقتها (الفعلية) بالمجتمع والقانون والمستقبل وبفكرة الديمقراطية الاجتماعية، البحث عن تعويض مناسب لها في أساليب المؤامرة والمغامرة من خلال وضع ثقتها في القوى الحزبية والأفراد (الزعماء) والاتفاقيات (الجزئية والسرية) والعمل من اجل الحاضر فقط (المؤقت). من هنا بروز نفسية الغنيمة وتنوع أشكالها. ففي الحركة القومية الكردية ظهرت أولا بمطالب الابتزاز السياسي للحصول أولا على كركوك وفيما بعد على مناصب معدودة. ولا علاقة لهذه «المطالب» بالدولة والوطنية والرؤية الاجتماعية ولا بالمستقبل. بينما سعت الحركات الشيعية السياسية لسرقة الشيعة من خلال تحويلهم إلى طائفة. وهو نزوع كان يلتقي مع نزوات الحركة القومية الكردية، بمعنى انه نزوع لا علاقة له بالعراق والعروبة، بقدر ما انه كان محكوما بنفسية الاستحواذ المميزة للبنية الدينية التقليدية للحوزة ومؤسساتها بما في ذلك السياسية. وهي ممارسة كملتها الحركات السنية في محاولتها للتعويض عن هزيمتها بتغذية طائفية سياسية لا عروبة فيها ولا عراقية، أملا في انتظار «فرصة ضائعة». في حين فشلت الحركة الشيوعية في الحصول على إي تأييد وطني وذلك لذيليتها الرقيعة أمام النزعات القومية والدينية الصغيرة أولا ثم الطائفية الدينية والسياسية ثانيا. في حين أفلست الحركات الديمقراطية لخلو أرضيتها من الفكر والجماهير. وليس مصادفة أن يجري انتخاب الطالباني رئيسا للعراق الجديد. فهو انتخاب لا علاقة له بالانتخاب السياسي الديمقراطي، بقدر ما انه يشكل من حيث أسلوبه وغايته الفعلية نموذجا كلاسيكيا لما ادعوه بنفسية المؤامرة والمغامرة.
فمن بديهيات الفكر السياسي القول، بان حقيقة الشخصية والحزب والحركة السياسية والاجتماعية أيا كان شكلها ومضمونها تنعكس في خاتمتها. ويمكن رؤية ملامح هذه الخاتمة فيما يمكن دعوته بالأفعال الرمزية الكبرى، أي الأفعال التي تعكس طبيعة ومضمون الفاعل. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى «انتخاب» لطالباني «رئيسا للعراق» على انه أحد الأفعال الرمزية التي تعكس طبيعة الأحزاب الشيعية، وبالأخص المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والدعوة «العراقي» وغير العراقي! إذ تكشف هذه الممارسة عما اسميه بنفسية المؤامرة وذهنية المغامرة. فقد كان «انتخاب» الطالباني «رئيسا للعراق» أول «ممارسة ديمقراطية» في سرقة الديمقراطية. والقضية هنا ليست فقط في أن الطالباني كردي المنزع والمشرب، وبالتالي لا يمكنه أن يمثل العراق والمجتمع العراقي، وليس بسبب تاريخه السياسي الذي يجعل من الصعب قبوله رئيسا للعراق في ظل انتخابات ديمقراطية فعلية مباشرة، بل ولاستحالة حصوله في ظل انتخاب طبيعي مباشر على أكثر من 5%، أو عشرة بالمائة في حال افتراض اتفاق الأكراد جميعا عليه (وهو أمر شبه مستحيل!). بعبارة أخرى، إن منح شخصية لا يمكنها أن تحصل على إجماع وشرعية أقلية قومية في العراق لرئاسة العراق، فعلا لا علاقة له بالسياسة بالمعنى الاجتماعي والوطني والديمقراطي، أي انه يتناقض مع المجرى الضروري لتكامل الدولة والمجتمع والنظام السياسي. وهو أمر بدا بوضوح بما في ذلك في «مشاهد» الاحتفالات «بانتخاب الرئيس» في إقطاعيات «الرئيس»، وبعض التهاني والرسائل من أشخاص و«هيئات «عربية» لنصرة الأكراد»!! والأغرب مما في الأمر أن يجري تصوير هذه المهزلة بمعايير الديمقراطية والانتصار على مخلفات الماضي!!
أما في الواقع، فان «اختيار الرئيس العراقي» الجديد كان يشير من حيث الجوهر إلى طبيعة ومستوى تغلغل نفسية وذهنية المؤامرة والمغامرة في الأحزاب السياسية «المنتصرة». ويكشف هذا «الاختيار» عن طبيعة المساومات الخفية، بوصفها خيانة اجتماعية وليس مساومة سياسية عراقية. فرئاسة كردي للعراق لا تعني التجرد من كرديته الضيقة، كما لا تعني بالضرورة اندماجه بالعراق. فهذه قضايا مختلفة ومتباينة النوعية والمقدمات والنتائج. وهو حكم مبني على أساس استقراء تاريخ الطالباني والحركة القومية الكردية عموما من حيث مقدماتها وممارساتها ووثائقها وتربيتها وسلوكها العملي. فهي بمجموعها تسير ضمن فكرة ونموذج الرؤية القومية الانفصالية. ويكشف عن هذا التوجه طبيعة ونوعية الخطأ السياسي الذي اقترفته القيادات الشيعية، الذي يرتقي في الواقع إلى مستوى الخيانة التاريخية بحق العراق والعرب والشيعة، أي بوحدته الجوهرية. بمعنى تغليب مصالحها الضيقة واللعب بعواطف الطائفة من اجل ترسيخ طائفيتها. وهي ممارسة كانت تستخف بأبسط مقومات التاريخ العراقي، كما أنها تشير إلى جهل فاضح بواقع العراق وآفاق حركته الاجتماعية والسياسية والقومية اللاحقة.
ولكن حالما ننظر إلى هذه المساومة أو الخيانة الاجتماعية بمنظار الرؤية الواقعية للانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية، فإنها تبدو «طبيعية». وذلك لأن الانهماك فيها كان يعكس استمرار تقاليد المؤامرة والمغامرة من جهة، وإعادة إنتاجها من جهة أخرى. مع ما يترتب عليه من حالة فكرية وسياسية يصبح من الصعب، بل من المستحيل رؤية وفهم حقيقة الأمور والأحداث الجارية وآفاقها المستقبلية. أما النتيجة، فهو اندفاع الجميع صوب الشكوك بكل شيء ومن ثم الانزواء وراء الستائر وحبك كل ما يمكنه توكيد الثقة بالنفس فقط. وهي حالة لا يمكنها أن تصنع غير حلقة جديدة في سلسلة الخروج على منطق الدولة والحق. إلا أنها سلسلة هشة لا يمكنها الصمود طويلا، لكنها سوف تبقى لفترة طويلة نسبيا ما لم يجر تحول الأحزاب السياسية إلى قوى وحركات اجتماعية وطنية بالمعنى الدقيق والملموس للكلمة، وما لم يتكامل المجتمع المدني بوصفه حاضن الحركات والأحزاب السياسية وموجهها.
إن المأساة التاريخية التي تعيد إنتاج نفسها في مهزلة المؤامرة والمغامرة تقوم في كون اغلبها لم يعذبه قلق المواجهة الحرة مع الضمير المعذب للملايين. لهذا لم يكن بإمكان اغلب هذه الحركات والأحزاب أن تصرخ كما صرخ مرة أحد الأولياء قائلا: «لإلهي! لماذا تعذبهم وهم عبيدك؟! ولهذا السبب أيضا لم يكن بإمكانهم سماع الجواب الواضح والقاطع بدلالته على انه هو (الله) الذي يدرك حقيقة الرحمة! فقد كانت تلك وما تزال إشكالية تعذّب العقل والضمير الإنسانيين في بحثهما عن تبرير أو إدراك لحقيقة الرحمة والعذاب. كما إنها الإشكالية التي كانت وما تزال تشكل صلب التفكير الفلسفي واللاهوتي، التي لا حل نهائي لها مازال العذاب والرحمة جزءا من كينونة الإنسان. لكن حالما ننقلها إلى واقع الإنسان وحياته الاجتماعية والسياسية، فإنها ستتمحور في قضية النضال والصراع من اجل السعادة. إذ ليست حقيقة الرحمة الإلهية سوى الوجه الآخر للسعادة الإنسانية. لهذا يلتقيان حالما نضعهما بمعايير الحق والعدالة والمساواة سواء في الرؤية الدينية أو الدنيوية.
فالتاريخ الإنساني في جوهره هو صراع من اجل تقرير ماهية الرحمة والعذاب من اجل إحقاق الحق والعدل والمساواة. وعندما يعجز البشر عن تحقيقها الفعلي، فإنهم ينقلوها إلى ما وراء الحياة والموت بوصفها الصورة «المُثلية» للرغبة الجامحة في تحقيقها بوعد الجنة للمحسنين ووعيد العذاب للمذنبين. غير أن الوجود الإنساني ليس صورة باهتة لنماذج أفلاطونية رفيعة المستوى، بل و في جوهره مساعي دائبة من اجل تجسيدها في نماذج مقبولة للعقل والضمير. وهي مساعي ضحى بأنفسهم من اجلها أنبياء وأولياء وعقلاء ونبلاء ومؤمنين وملحدين وحالمين ومقاتلين ورجال ونساء، أي كل من أدرك قيمة الحق والعدالة والمساواة، بوصفها القيمة الضرورية للوجود الإنساني.
الأمر الذي يشير إلى أن هناك قيما ذات أهمية بحد ذاتها تتجاوز «المصلحة العابرة» أيا كان شكلها وتأسيسها النظري. ولعل أهم هذه القيم هي تلك التي لها صلة بفكرة بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. مما يجعل منها فكرة فائقة الأهمية مقارنة بغيرها من الأفكار. وذلك لما فيها من تمثل عقلاني وضروري لنفي زمن الاستبداد والدكتاتورية. فهي الفكرة التي تتمحور فيها وحولها حقيقة المصالح الكبرى والصغرى للعراق المعاصر. مما يجعل منها في ظروفه الحالية محك ومعيار المضمون الفعلي للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والشخصيات الفكرية والأدبية والإعلامية وغيرها، أي لكل من له دورا في تحديد المسار اللاحق لتطور المجتمع والدولة.
وإذا كان دور رجل السياسة هو الأكثر أهمية في الظرف الحالي، فلأنه مرهون بضعف القوى الاجتماعية والبنية الحقوقية للدولة ومؤسساتها ككل. مما يعطي للسياسة قوة وفاعلية استثنائية قادرة على عقلنة الصراع وجذبه صوب الرؤية الواقعية ومتطلبات الحياة التي تفرضها قواعد المجتمع المدني. من هنا المسئولية الكبرى للأحزاب السياسية في الظرف الراهن، التي ترتقي للمرة الأولى إلى مصاف ما يمكن أن نطلق عليه بالفعل وليس مجازا كلمة «المسئولية التاريخية». لاسيما وأن المسئولية التاريخية للأحزاب السياسية ورجال السياسة تفترض دوما العمل بمعايير الرؤية الإستراتيجية وليس بنفسية «المصلحة السياسية». إن فكرة وقيم «المصلحة السياسية» الحقيقية تفترض ألا تكون جزء من لعبة المؤامرة والمغامرة. طبعا أن السياسة والصراع السياسي لا يخلون من هذه النقيصة بوصفها إحدى المكونات «الطبيعية» للحياة السياسية، إلا انه حالما يجري رفعها إلى مصاف التأسيس «الحقوقي»، فإنها تتحول إلى رذيلة سياسية سافرة.
غير أن تأمل النشاط السياسي للأحزاب والنخب العراقية الحالية يكشف عن أن اغلبها إن لم يكن جميعها مصاب بمرض النفسية المتآمرة والذهنية المغامرة. ولا تصنع هذه النفسية والذهنية نخبا وأحزابا ثابتة، ومن ثم لا يمكنها تأسيس الثبات الضروري بالنسبة للدولة والنظام السياسي والمجتمع. لكنها تؤدي بالضرورة إلى إنتاج مؤقتين قدماء وجدد، بوصفها قوى الزمن العابر وليس قوى التاريخ الفعلي، أي قوى المستقبل. وفي هذا يكمن سر استمرار الخراب واستفحال مختلف أشكال ونماذج القوى الإرهابية. فهي القوى التي تعتاش وتعيش على حالة الاغتراب والانفصام الشامل بين النخبة والمجتمع، وانعدام الاستقرار السياسي والتطور الديناميكي للدولة ومؤسساتها، والمجتمع وخلاياه الحية، والثقافة ومكوناتها المبدعة. إذ ليس الإرهاب في الواقع سوى النتيجة الملازمة لفقدان التوازن الضروري في الدولة، أو لخلل الأيديولوجية العامة والهوية الوطنية. وهي مكونات لا تفعل نفسية المؤامرة وذهنية المغامرة إلا على استثارتها وتغذيتها بصورة دائمة.
*** *** ***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الإنفاق العسكري العالمي يصل لأعلى مستوياته! | الأخبار


.. لاكروا: هكذا عززت الأنظمة العسكرية رقابتها على المعلومة في م




.. ألفارو غونزاليس يعبر عن انبهاره بالأمان بعد استعادته لمحفظته


.. إجراءات إسرائيلية استعدادا لاجتياح رفح رغم التحذيرات




.. توسيع العقوبات الأوروبية على إيران