الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نهاية غير متوقّعة-قصة قصيرة

نزهة أبو غوش
روائيّ وكاتبة، وناقدة

2020 / 4 / 9
الادب والفن


يبدو أنّ الصّدمة قد ابتلعت نصف صوته، وظهر الفزع متراقصا على وجهه. لقد حمل ذاكرة وطن بأسره خلال أعوامه التّسعين.
لأوّل مرّة في حياته يدخل المستشفى، بعكس زوجته نداء الّتي كانت تدخلها كل عام مرة ّ أو مرّتين. راوغتها نفسها أن تهدهد حزنه، وتواسيه، وتقول له:
" أنت يا حاجّ تاج فوق راسنا وحبيبنا، صدّقني يا حاجّ مرضك بسيط، لا تقلق، كلها يومين، وراح ترجع عالبيت".
لكنّها تراجعت حين رأت عينيه معلّقتين بالزجاجة الّتي تتساقط منها القطرات برتابة، لتتّصل بدمه .
شعرت بأنّ الألم راح يتساقط مطرا رذاذا في أعماقها، كيف ستهدّئ من روع هذا الرّجل، سليمان زوجها ورفيق دربها، وصديقها، وأبي أولادها. هذا الرّجل الّذي لم تسمع منه مرّة كلمة تؤلمها، أو تجرح مشاعرها. مرّا معا كلّ منعطفات الحياة بحلوها ومرّها. هو الّذي ضرب الأرض بفأسه الّتي كانت تئنّ تحت قدميه؛ فامتلأت بأشجار الزّيتون والعنب والتّين، و... دائما أحسّ بأنّ الأرض كانت تزهو به، وتنبسط أمامه، وتضحك له. كان في كلّ مرّة تلامس قدماه التّراب، يبسط صدره للهواء النّقيّ، يشهق منه حتّى يرضى، ثمّ يطلق زفيرا طويلا.
دخلت الممرّضة وهي تضع القناع على وجهها الّذي لم يظهر منه إِلا عيناها السّوداوان، لكنّها لم ترفع عينيها عن زوجته.
قالت لها بنبرة حازمة:
" سيّدتي، أرجو أن تخرجي من هنا بالحال، سوف نأخذك إِلى الحجر الصّحي، إِنّ زوجك، السّيّد سليمان مصاب بمرض الكورونا"
تبدّدت أمامها كلّ الأحلام، تبدّد دعاؤها اليومي" اللهم أحسن ختامنا" ما عساها أن تفعل الآن؟ استسلمت للقضاء والقدر:
"دائما تفاجئنا الحياة بما هو جديد وغريب، وهذا قدرنا"
لم تشبع عيناها من وداعه، أراد أن يناديها، لكنّ صوته خرج مجروحا. أحسّت بزغللة في عينيها، وذبذبات غريبة في أُذنيها، ثمّ غابت عن عينيه نهائيّا.
شعر بانقباض شديد في صدره، وألم مفرط في رأسه. أغمض عينيه، أراد أن يحلم بالهواء النّقي الّذي كان يعبئ به صدره ربّما يتحسّن! تخيّل نفسه جالسا تحت شجرة الزّيتون الكبيرة هناك فوق الجبل، يغمّس سلطة البندورة بالبصل والزّيت، ثمّ يلحقها بحبّة زيتون. رائحة التّراب حين كانت تتسرّب إليه المياه، كانت كلّ الدّنيا تنتعش، فتغسل هذا الفلّاح من الدّاخل، تغسل روحه وقلبه. ما أسعدها من أوقات!
فتح عينيه المنهكتين رأى عالما كبيرا خلف الزّجاج، رأى الأبناء والأحفاد الّذين كانوا يلوّحون له بأيديهم، ويرسلون على أطراف أصابعهم قبلاتهم بالهواء، وقد اغرورقت عيونهم بالدّموع.
يا إلهي العظيم، كيف يمكن للإنسان أن يستشفّ الجديد الغريب في هذه الحياة!
امتلأ سليمان بالأُنس، وتملّكته غبطة عجيبة لا يشوبها الا قلّة هواء الأرض النقيّ.
" ما أسعدني بأبنائي وأحفادي! لو يرزقني الله فقط، بحبّة هواء طبيعيّة تشبه هواء الجبل هناك، لكانت نهايتي كما تمنيّت، تُستلّ روحي وسط عائلتي فوق وسادة ناعمة، مع أحلام مطمئنّة!"
فتح عينيه مرّة أُخرى على مجموعة من الأطبّاء والممرّضات بلباس أهل الفضاء يقتربون منه، أمسكت به الممرّضة، رئيسة القسم، وبصوت ناعم لا يخلو من العطف:
" سيّد سليمان، سوف نعطيك تنفّسا اصطناعيّا عبر الجهاز الخاصّ؛ كي يساعدك على التّنفّس".
داهمته دهشة عجيبة، فانتفضت كلّ خليّة في جسمه، وصار يشبه ورقة خريف صّفراء تتطاير في الهواء قبل وقوعها على الأرض.
" ماذا قالت؟ "
راحت الكلمة تقفز داخل رأسه، ثمّ ترتطم بأُذنيه تماما مثل كرة قدم تدور في ساحة الملعب، ثمّ ترتطم بالشّبكة " اص... اص... ط...نا...عي..يا.......
احترقت رهافة حسّه ولم يقدر أن يتلقّف دموعه كما كان يفعل في كلّ مرّة. استطاع أخيرا أن يرفع يده نحو الطّبيب، لوّح بها بإصرار عجيب: " لا...لا...لا أُريد" .
لم يعرف الطّاقم الطّبي بأسره حتّى الآن سبب رفض المريض سليمان للجهاز الصّناعي.
9-4-2020



ِِ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة