الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محمد مهدي البصير.. الشاعر الثائر الذي غادر الشعر والسياسة

شكيب كاظم

2020 / 4 / 10
الادب والفن


عصر الخميس الثامن والعشرون من شهر تشرين الثاني 1974، حضرت حفل التأبين الذي أقامته كلية الآداب بجامعة بغداد، على قاعة ساطع الحصري، لمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الأديب والباحث والشاعر الدكتور محمد مهدي البصير، تحدث فيه عدد من تلامذة الفقيد، أساتذة كلية الآداب وهم الدكاترة: إبراهيم السامرائي، ورزوق فرج رزوق، وعلي الزبيدي، وباقر سماكة، وصلاح خالص، وعلي جواد الطاهر، وجواد علوش، وعناد غزوان، وقصيدة رثاء للدكتورة عاتكة وهبي الخزرجي، فضلا عن كلمة العميد الدكتور خليل حماش، ولقد دأب فقيدنا البصير، قبل وفاته بشهور على تقديم حديث ثقافي عن طريق التلفاز، وكأن هذه الأحاديث كانت الصحوة التي تسبق الموت، إذ ما لبث أن طواه الردى، صبيحة السبت الرابع من شوال 1394هـ- التاسع عشر من تشرين الأول 1974.
لقد عاش البصير نحو ثمانين سنة، هو الذي تصادف شبابه مع ثورة حزيران سنة 1920، ضد الاحتلال البريطاني للعراق، بعد أربعة قرون عجاف من السيطرة العثمانية، فأبلى الشيخ البصير بلاء حسنا في الثورة العراقية بخطبه وأشعاره، حيث كان جامع الحيدر خانة ببغداد مثابة للثوار ومنطلقا للثورة، لكن ما لبث أن غادر الشعر والسياسة، بعد أن انطوت سنوات الحماسة والشباب، لينشغل بالدرس والبحث، ومن ثم بالتدريس في دار المعلمين العالية، بعد نيله الدكتوراه من جامعة مونبلييه بفرنسة.
لقد حباه الله بذاكرة عجيبة، وهذه تدبيرات العناية الإلهية كي تستوي الحياة وتستمر، فإذ سلبته نعمة النظر، فقد عوضت غالب المبصرين بذاكرة حية وقادة، هذه الذاكرة أحرجت بعضهم، حدث أن كان البصير في زيارة لأحد أصدقائه، وهو حبيب بك بن محمد باشا، وتصادف أن كان رجلاً من أسرة الشاوي في زيارة لحبيب هذا، فقال للبصير: يا شيخ لقد وردت الي قصيدة من الأستانة، وأود أن تسمعها مع الحضور، وما أن فرغ الرجل الشاوي من قراءتها، حتى قال له البصير: أرجو أن لا تغضب مني إذا قلت إن هذه القصيدة من نظمي، وإن شئت قرأتها لك، فقرأها، وأردف قائلا: وزيادة في التأكيد والحجة، فإن لهذه القصيدة تتمة، فأنشدها مرتجلا، وكانت على القافية والوزن ذاتهما، فسكت الرجل الشاوي محرجا ولم يحر جوابا، ولكي يداري البصير حيرة صاحبه، صارحه بالحقيقة ممازحا، قائلا له أنا كنت امازحك، فالقصيدة لخالك حقا، وأنا حفظتها حين كنت تقرؤها علينا وزدت عليها هذه الأبيات ارتجالا!
مهما وردت الروايات، ومنها رواية أستاذي الدكتور علي جواد الطاهر، عن حافظته العجيبة، والطاهر ابن مدينته الحلة، ولعل الأخبار كانت متواترة في هذا الأمر وهي أقرب إلى الحقيقة، أو هي الحقيقة ذاتها، لكن يجب أن نقف من هذه المرويات موقفا نقديا، مع أنه وردت إلينا مقولة أبي العلاء المعري: ما سمعت شيئا إلا وحفظته، وما سمعت شيئا ونسيته! إذ أن هناك من يقدح في ظاهرة الارتجال لدى شاعرنا عبد المحسن الكاظمي، عازيا القول إلى سليم سركيس، في الحفل الذي أقيم في القاهرة، وما كان في منهاج الحفل أن يلقي الكاظمي قصيدة، لكن ما أن بدأ الحفل، والقى بعض الشعراء قصائدهم، أذيع اسم الكاظمي، فقابل الإحراج بالتحدي، فدخن أربع لفافات مردفات على الرغم من مرضه، والقى ارتجالا قصيدة طويلة، مستغلا قراءة البيت ثانية كي يهيئ البيت التالي وهكذا- مما هو معروف للدارسين- لكن بعض الحساد الشانئين الكارهين لوجود الكاظمي في مصر ومنهم أحمد شوقي، يتهمون سليم سركيس بأنه قد اسر له بالأمر، فتهيأ الكاظمي له، ناسبين القول والوشاية لسركيس، وتلك مسألة قد تنسحب على ارتجال البصير للشعر.
لقد حاول بعض غلاة المستشرقين، سلب العرب بعض مزاياهم، ومنها الشعر، متذرعين بالعلمية، ونزع القداسة، ولقد قاد هذه الحملة المستشرق البريطاني ديفيد مركليوث، فضلا عن الفرنسي لويس ماسنيون، وغيرهما عادين الكثير من الشعر الجاهلي منحولا مكذوبا، وإنه قد كتب في وقت متأخر، وقد تلقف الدكتور طه حسين هذه الفرية، وكتب سنة1926 -كتابه الصادم (في الشعر الجاهلي)، وكان البصير في محاضراته على طلابه في ( جامعة أهل البيت) في الأعظمية، يرد على آراء طه حسين، حتى إذا شخص نحو جامعة مونلبييه لغرض الدراسة، وعرض الأمر أمام ماسنيون، رفض ماسنيون العرض، مما دفعه إلى درس الشاعر كورنييه، وهذه الدراسة لم تترجم للعربية، كما لم تترجم أطروحة دكتوراه مصطفى جواد، التي اختلف حتى في عنوانها، لا بل وصل الخلاف، هل كتبها بالفرنسية؟ إذ أن ثمة من يقول إنه كتبها بالعربية، وهكذا تضيع الحقائق، لأن أصحابها لم يبتوا في أمرها.
مسألة تدخل الأساتذة في آراء طلابهم، مسألة توجب الوقوف عندها، فهذا مقترح البصير يرفضه ماسنيون، والمستشرق البريطاني آرثر جون اربري، يحاول ثني الفيلسوف العراقي مدني صالح عن بعض توصلاته، الأمر الذي يدفع بالأستاذ مدني إلى ترك بحثه في الدكتوراه، والأمر ينسحب على البحث الذي كتبه الدكاترة المصري زكي مبارك، وعنوانه ( النثر الفني في القرن الرابع)، الذي كتبه بالفرنسية وتقدم به إلى جامعة باريس، ونوقش أمام الجمهور في 25 من نيسان سنة 1931 ، ونال به المؤلف درجة الدكتوراه بدرجة مشرف جداً، وأراه من أروع ما كتب زكي مبارك، إذ حاول أستاذه المشرف (المسيو مرسيه) حذف فصلين من البحث الذي يناقش فيه مبارك آراء أستاذه بل ينقضها، بحجة أنها لون من ألوان الاستطراد لا يوائم الروح الفرنسي في البحث، لكن باحثنا يصمم على إبقاء الفصلين، لأنهما كما يرى العماد الذي تنهض عليه نظريته في نشأة النثر الفني، وإذ أنكر طه حسين الشعر الجاهلي، أو بالحري ارتاب في الكثير منه، فإن زكي مبارك عد القرآن نثرا جاهليا، أما لماذا؟ فلأن العرب وقتذاك فهموه وتذوقوه وتفاعلوا معه، ولو لم يكن امتدادا لأدبهم ونثرهم الجاهلي ونتاج عقولهم لما تذوقوه. وتلك مسألة أخرى.
الشيخ الدكتور محمد مهدي البصير، شأنه شأن عديد الباحثين الجامعيين، انشغل بالتدريس وما كتب مذكراته، خلا كتابه (تاريخ القضية العراقية) الذي طبع طبعة واحدة سنة 1923، وما فكر في إعادة طبعه، كما لم يهتم بطبع ما كتب، وحتى هذا الذي طبع، كان قليلاً، وبعضه نشر بعد وفاته، إذ طبعت وزارة الإعلام العراقية الجزء الثاني من كتابه (سوانح) وجمعت ديوانيه (البركان) و(زبد الأمواج) في ديوان واحد، وبعد وفاته، وما هكذا تورد الإبل، ولعل له عذرا وأنا الوم!
حاشية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر


.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة




.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي


.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة




.. فيلم -شقو- بطولة عمرو يوسف يحصد 916 ألف جنيه آخر ليلة عرض با