الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كورونا و الصين و نحن:حدود الطعام، حدود الثقافات

محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)

2020 / 4 / 10
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


يقولون في ألمانيا: Du bist was du isst "أي" أنت ما تأكله ", ولعل هذه المفردة ألهمت دافيد بيل و جيل فالنتين لتضمينها كعنوان فرعي لكتابهما الصادر سنة 1997 بصيغة تغطي معنى مضمون وعنوان الكتاب:" استهلاك الجغرافيا: نحن حيث نأكل Consuming geographies: We Are Where We eat ". حيث تعدّ طرق ومادة التغذي والتعامل معها عند البشر سلوكاً بيولوجياً* بالأساس فضلاً عن اتساق عاداته كنسق " اجتماعي" يقع في صلب التكوين الثقافي, ويميل البنيويون إلى النظر للطعام بما يشبه نظرتهم للغة, أي منظومة دلالات سيميائية. فالطعام- إذن- ليس مجرد منتج اقتصادي تجاري أو حصة إعلامية أو عينة إحصائية, بل هو في الحقيقة, إضافة لما سبق, وسيلة تعبيرية هامة لنقل " المعاني" باعتباره نشاطاً تواصلياً متكرراً, وإذا كانت اللغة" ليس بوصفها ظاهرة صوتية فقط" تقتصر على البشر, فالطعام وتحضيره, يقف كمرحلة وسط بين الطبيعة والثقافة, فالمطبخ بات جزءً أساسياً من الحيز المعماري لبيوتنا, بل هو في الحقيقة ركن أساسي منه لا يضاهيه في هذا السياق إلا " غرف النوم" ربما.

فوبيا الطعام الصيني

الصينيون يأكلون أشياء غريبة و- أو غير مستساغة. نعم هذا صحيح, لا أحد ينكر ذلك, ولا أحد يمكنه أن ينفي وجود أسواق تبيع مثل هذه الأشياء الغريبة في مدنهم, والكثير منا شعر بالتقزز وهو يتابع أشرطة الفيديو للكلاب الحية, في أسواق الحيوانات البرية هناك ( سوف ننسى أثناء المتابعة أن نرى في موضوع الذبح و السلح سلوكاً ذكرياً بالدرجة الأولى, فقتل الحيوانات و تناول لحمها ينظر له من الناحية التطورية الاجتماعية-الأنثروبولوجية كجزء من المؤسسة الذكورية). قد يعترض البعض على عادات الصينيين هذه, لكن يستطيع الصيني أن يرد بسهولة أن لا قانون في بلده يمنعه من تناول لحم الكلاب وهو الأمر الذي يحترمه الصيني في العموم فلا يمارسه خارج حدود بلده. و يشبه الحديث عن "آداب و عادات و طرائق الطعام الصيني" الحديث في قصة فيلم الخيال العلمي "ألعاب الجوع The Hunger Games" (2012) الذي يصور العلاقة بين " العاصمة المتحضرة " و سكان المقاطعات الأقل تحضراً وكيف تقوم السلطات في العاصمة بابتداع آلية إلهاء الشعب الفقير لمنعه من التمرد و الثورة. وحين يتحدث البعض اليوم عن "قذارة" الطعام الصيني يضع نفسه في قائمة أصحاب الطعام غير القذر, أو هكذا يظن، وهذا بالطبع تقويم ذاتي أحادي لا يعتد به و لا يعبّر عن درجة صحيحة إلا بمقدار ما يؤمن به معتنقيه**, و يقوم هذا البعض- أفراداً و- أو مؤسسات- بالترويج لصور نمطية عن طريقة وعادات تغذي الشعوب بأسلوب ينطوي على نوع من التحيز بدرجة ما، بهدف تحصين الذات الجمعية إزاء " الخطر القادم" من هذه الشعوب، وهذا ما يجعلنا نتبنى تفسيرات متعارضة, وربما تنافسية أحياناً, لتأويل عادات الغذاء عند الشعوب, دون الأخذ بعين الاعتبار " الانفتاح " العالمي الحالي و التنوع العشوائي لقواعد استهلاك الطعام من بيئات أخرى بدافع الفضول أو المغامرة أو التجربة أو العمل و الإقامة ... إلخ, ساعد في ذلك تراخي القيود الاجتماعية المرتبطة بأنماط العيش لدى شعوب الأرض كافة, بحيث بات الطعام- من الناحية الأنثروبولوجية- يمتاز بمرونة نستطيع من خلالها أن نتعرف على البنى الثقافية المختلفة و المتنوعة, ولابأس من القول أن بعضنا يتناول عادات الصينيين الغذائية انطلاقاً من موقفه" السياسي" من الحكومة الصينية و سياساتها, دون أن ينتبه هؤلاء أنهم لم يطرحوا مثل هذه الأسئلة قبل عشر سنوات مثلاً حين لم يكن هذا الموضوع يشكل أية دلالة فارقة حينها، فنحن لم نسمع عن أحد اعترض أو تحدث عن وصفة الفئران الحية (رغم أنها محض أسطورة شعبية) و لا عن حساء الخفافيش*** (رغم أنها غير صحيحة، وعادة غير صينية على كل حال)

الطعام و الإنسان: عولمة تطورية

علاقتنا بالطعام هي علاقة بيولوجية معرفية متشابكة, ومرتبطة بوعينا لبنيته الاجتماعية, وعدم الاكتفاء بالتفسير " الموضوعي" أو " العلمي"**** أو حتى التاريخي الوصفي, بل أن الإقرار بـ " الهوية " -كي لا نقول الطبيعة- الاجتماعية للطعام يجعلنا نميل إلى مقاربات- ثقافية و اقتصادية و سياسية- أكثر تفهماً لممارسات " التغذي" الإنساني فالتنوع الفردي و المجتمعي لأساليب الطعام يجعله متحرراً من القيود المتصلة موضوعياً به, مثل: " الجفاف وندرة بعض المحاصيل, الطقوس الاجتماعية والدينية والثقافية, الحواجز الفكرية, التمايز الطبقي, التابوهات, العلاقات الطوطمية, الإعلام و موضة الغذاء الصحي, والذوق الفردي لنكهات معينة دون غيرها, .. إلخ) كل هذا أو جزء منه يسمح للطعام أن يكون سلعة مميزة تختلف عن أي سلعة أخرى وتجعله يحتل مكان الصدارة في سلم الأولويات. في الحقيقة يمثل الطعام بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت بالمعنى الحرفي للكلمة, وهذا ما يجعل المشاركة في العادات الغذائية أن تكون عنصر توحيد للبشر ربما بدرجة أكبر مما كان يطمح له كارل ماركس.
.........................
* يختلف الموقف " البيولوجي" عن سواه من الحقول المعرفية عند الحديث عن الطعام, إذ يقترن الطعام بيولوجياً بآليات الجوع و الشبع, فالجوع كمحفز "هرموني" يمثل احتياج للأكل و يقابله الشبع بطبيعة الحال. وتأتي الرغبة في الأكل عن طريق الشعور بالجوع أولا ثم عن طريق الشهية بوصفها "معطى حسي دماغي واعٍ" كمحفز إضافي" نفسي ربما" يستنفر فينا الرغبة في الأكل حتى في حال عدم الجوع وهذا ما يفسر آلية الانجذاب للطعام و اختلاف الأذواق في استساغة أنواع معينة من الطعام عن غيرها (بعكس بقية أفراد المملكة الحيوانية التي لا تأكل في حالة الشبع لعدم امتلاكها للحس الواعي- النفسي لمعنى الطعام و تعريفه...إلخ). ومثّل الانتقال في الأكل من " النيّء" إلى " المطبوخ" بعداً تطورياً هاماً ساهم في تمايز الإنسان عن باقي أنواع " الرئيسيات", وساعد في تقلّص حجم الجهاز الهضمي لديه وزيادة حجم الدماغ و التقليل من كمية الطاقة اللازمة للهضم مما منحه مزيداً من الوقت و القوة لتطوير مهاراته في سيطرته على ما حوله.
** يذكر الصحفي الإيطالي ستيفانو ديلا كازا ما قاله لوكا زايا، رئيس إقليم فينيسيا( شمال شرق إيطاليا) عن الصينيين: " لقد رأيناهم يأكلون الفئران و هي حية"، وقد تسبب مثل هذا التصريح في مشكلة دبلوماسية جعلته يتراجع عنه و يقدم اعتذار رسمي للسفارة الصينية, زاعماً أنه كان تحت تأثير مقاطع الفيديو المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي و التي كان جزءً لابأس به منها "مزيفاً". وكذلك ما قاله بعد ذلك جيانفرانكو ليبيراندي النائب عن حزب" فورزا إيطاليا [حزب ليبرالي محافظ أسسه سليفيو بيرلسكوني سنة 2007] حين نصح الصينيين بعدم أكل "الحيوانات البرية الحية "و اعتماد طرق الغذاء المتوسطية. [ للمزيد , انظر: https://www.wired.it/lifestyle/food/2020/03/07/coronavirus-leggende-razziste-cibo-cinese ]
*** لطالما كان الطعام الصيني موضع سخرية في الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر في استهداف واضح لهم كأقلية داخل البلاد, فمع بدء انتشار فيروس كورونا بدء الحديث عن "حساء الخفافيش" كموئل للفيروس وفضلاً عن عدم إمكانية التأكيد على صحة هذه التسجيلات و مكان تصويرها, لم يمنع هذا من انتشار العديد منها التي " تؤكد" تناول الصينين لهذا الحساء, حتى أن جون أوليفر ابتدأ إحدى حلقات برنامجه Last Week Tonight على قناة " فوكس نيوز" بمقدمة للاقتصادي دون لوسكين يتحدث فيه عن حساء الخفافيش الذي" يستهلكه الصينيون بكثرة و شراهة" و انتهي بالقول أن الصين تقع في مكان ما من العالم " غير المتحضر", فهم " لا يشبهونا",. [ للمزيد, انظر: https://deadline.com/2020/03/last-week-tonight-with-john-oliver-donald-trump-coronavirus-india-narendra-modi-arnab-goswami-1202877142/], علماً أن شبكة فوكس نيوز دخلت لاحقاً في دعاوى قضائية مع " رابطة واشنطن لزيادة الشفافية" تتهمها هذه الأخيرة ببث معلومات كاذبة و مضللة خلال تغطياتها الأولى للوباء, بما في ذلك وصف الفيروس بأنه خدعة ولا يمثل خطراً على الصحة.
**** يورد ستيفانو ديلا كازا مثالاً رائعاً عن التحيز في التأويل, فيقول : ظهرت مع بداية سبعينيات القرن الماضي مفردة "متلازمة الطعام الصيني" كإشارة إلى وجود "علاقة" ما بين الطعام الصيني و بعض الأمراض أو الحالات المرضية, وابتدأ الأمر سنة 1968 حين نشر الدكتور "روبرت هومان كووك" بحثاً في مجلة "نيوإنغلند" الطبية يصف فيها سلسلة الأعراض التي تنشأ بعد تناول الطعام الصيني مفسراً هذه الأعراض بسبب الاستعمال المفرط لبعض المكملات الغذائية لتحسين النكهة مثل الحمض الأميني "الغلوتامات" ومنذ ذلك الحين يتم تداول هذه المفردة رغم عدم وجود أي أساس " علمي" لصحتها. إذا لم يثبت أي دليل على أن الطعام الصيني يمكن أن يسبب بعض الأعراض المرضية كالتعرق والغثيان والصداع والخفقان .... إلخ, وكذلك الأمر بالنسبة للغلوتامات. و لكن الملفت في الأمر أن موضوع هذه الدراسة ابتدأ كمزحة " طبية" فقد كشف الصحفي الاستقصائي مايكل بليندغ أن لاوجود في الحقيقة لشخص يدعى الدكتور "روبرت هومان كووك", بل هو اسم مستعار استعمله جراح العظام "هوارد ستيل". وقد اعترف ستيل بأن الرسالة كانت مجرد خدعة وكانت بمناسبة رهان بعد أن سخر زميل له لعدم نشره أي بحث علمي في مجلة طبيه هامة، فتراهن ستيل مع زميله هذا على نشر مقال في المجلة المذكور و إن نجح فسوف يحصل على 10 دولارات , وهكذا كان , فاختار اسماً مزيفاً و كتب بحثه بطريقة قصصية مشوّقة مستوحيا مضمونه من مأدبة عشاء في مطعم صيني دعي إليها. ولكن بعد نشر المقال اتصل بمحرر المجلة ليخبره أن القصة كلها مجرد مزحة و رهان لا أكثر و هو غير مستعد لتحمل تبعات القصة, لكن يبدو أن القصة راقت للمحرر "فرانز إنغلفنغر" فلم يقم بتوضيح ذلك للقراء, ورغم أن البعض فهم -لاحقاً- أن الموضوع لم يكن سوى دعابة إلا أنه وصل لوسائل الإعلام الأخرى فانتر و اتخذ صفة التعميم فخرج من نطاق الدعابة ليصبح صورة نمطية. بالتأكيد لم يكن ستيل عنصرياً و لم يكن ينطلق من منطلقات عنصرية تحطّ من قيمة الصينيين , كل ما في الامر أن آخر مطعم زاره قبل أن يكتب مقالته تلك كان صينيا و قد أفرط في الطعام و الشراب لدرجة أن طعمها كان لايزال تحت لسانه حين قبل رهان زميله. [ للمزيد , انظر: https://www.wired.it/lifestyle/food/2020/03/07/coronavirus-leggende-razziste-cibo-cinese]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا زادت الجزائر إنفاقها العسكري بأكثر من 76 في المئة؟


.. لماذا تراجع الإنفاق العسكري المغربي للعام الثاني على التوالي




.. تونس: هل استمرار احتجاز المتهمين بالتآمر على أمن الدولة قانو


.. ليبيا: بعد استقالة باتيلي.. من سيستفيد من الفراغ؟ • فرانس 24




.. بلينكن يبدأ زيارة للصين وملف الدعم العسكري الصيني لروسيا على