الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 1

آرام كربيت

2020 / 4 / 10
الادب والفن


عندما وصلت إلى الأردن في يوم الأثنين، في العاشر من أيلول العام 2001، استقبلني شاب أردني وسيم في الثلاثين من عمره.
طويل القامة، شعره أسود فاحم، أنيق في مظهره وثيابه. وجه صارم، بيد أن نظراته كانت انفعالية كأنها كانت تبحث عن شيء ما. في عينيه قلق. قلت في نفسي:
ـ بالتأكيد أن هذا الشاب يجب أن يكون في هوليود، ملامحه ووسامته وطوله وقسوة نظراته يستحق أن يكون نجمًا سينمائيًا.
قدم نفسه:
الفنان نجيب حداد.
نظرت إليه بخجل، كحالة طبيعية عندما يلتقي المرء بإنسان لأول مرة.
بيت صغير يرزح فوق بناية مؤلفة من خمس طوابق، يطل على جبل عال كما هي عليه جبال عمان. وتحته مدينة عمان، حدائق الملك عبدالله، وحي الشميساني، وعمان الغربية، والرابية.
وضعت حقيبتي الصغيرة في بيته المكون من غرفتين، وجلست على كرسي بلاستيكي.
غرفة بسيطة صغيرة، فيها طاولة بلاستيكية عليها جهاز كومبيوتر، وآلة عود ومسجلة كاسيت.
نظرت إلى جهاز الكومبيوتر باندهاش واستغراب:
ـ ما هذا الجهاز
نظر إلي باستغراب، وعلامات السخرية والتعجب بادية على وجهه
ـ ألم تر من قبل هذا النوع من الأجهزة؟
ـ لا
ـ الا يوجد عندكم في سوريا أجهزة كومبيوتر؟
ـ كنت في السجن، ولم يسبق لي أن رأيته من قبل.
ـ في السجن؟
في المساء، عندما اقتربت الساعة من التاسعة قال لي:
ـ أنا أغني في أشهر مطعم في الأردن، مطعم الفردوس صاحبه، رجل لبناني، هل ترغب أن تأتي معي.
عندما عرض علي نجيب الذهاب معه إلى عمله في مطعم الفردوس ليغني، قلت له:
ـ اليوم لا أستطيع الذهاب معك، ربما في الأيام القادمة، كل الشكر لك على هذه الضيافة القيمة.
كنت في حالة نفسية متوترة، مضطربة، فقد خرجت من سوريا بصمت، وبسرية تامة، مخافة أن يتم إيقافي على الحدود، كما لم أكن أعرف ماذا سيكون عليه مصيري في الزمن القادم.
وعندما غادرت سوريا لم أخبر أقرب الأصدقاء إلي، باستثناء صديقي ضياء الدين نجم السلمان الذي اخبرته بوضعي وبحقيقة ما سأقدم عليه، وسار معي إلى الكراج في مدينة الحسكة، وكان أخر إنسان من لوح لي بيده مودعًا.
لو علم النظام أنني مقدم على الرحيل لتم منعي من السفر، وربما أعادني إلى السجن.
في دمشق التقيت بصديقتي في حديقة الجاحظ، لينا، تبادلنا الحديث، قلت لها أنني راحل، جاء الأمر على عجل لم أخطط له.
بكت كثيرًا، قالت لي:
ـ آرام لا تذهب. أبق هنا. سنتزوج هنا، إذا رحلت لن أذهب معك. أنا لن أغادر سوريا.
قلت لها:
ـ حياتي هنا على كف عفريت، لا عمل ولا استقرار. والمكان في هذا الوطن لم يعد يتسعني. إنه ليس لي. أشعر بغربة قاتلة. لا اشعر أن هذه سوريا التي أعرفها، لهذا أتمنى منك أن ترحلي معي، فالمستقبل في هذا البلد على كف عفريت.
ـ لن أترك سوريا، انتمائي ينتمي إلى هذا الوطن الذي يمتد إلى آلاف السنين. لن أرحل
كانت فتاة جميلة جدًا، طويلة القامة، رشيقة، رقيقة ناعمة.
أضافت قبل أن نودع بعضنا:
ـ عد يا آرام ، أرجوك، فالحياة في هذا البلد أجمل من الغربة. سأنتظرك.
عندما أقرر أمرًا، واقتنع به لا اتراجع، قلت لها:
ـ لن أعود إلى سوريا.
عندما جهز نجيب نفسه للذهاب إلى عمله، سرت معه من بيته باتجاه جنوب عمان إلى أن وصلنا إلى الشارع الرئيسي الذي يأخذه إلى عمله.
كان الانطباع لدي عن الأردن مختلفًا تمامًا عما رأيته، وعلى عكس ما هو عليه، وعما هو على حقيقته على الأرض.
كنت أسمع إلى التلفزيون الأردني في سابق الأيام ولاحقه، عن المساعدات التي تقدمها دول الخليج كل سنة لهذا البلد الفقير جدًا، وكنت اعتقد:
إن بيوت الناس بسيطة جدًا فيها ملامح الفقر والعوز، وأغلب الناس فيه بدو، في ممارسات حياتهم ووجودهم.
دخلت عمان الغربية، ورحت أمشي وحدي في شوارعها النظيفة جدًا، والمتناسقة جدًا والحديثة جدًا وأنا في حالة ذهول مطلق. البيوت قصور حقيقية مشيدة من الحجر الأبيض الصقيل في الكثير من جوانبه، والنافر في الجوانب الأخرى، وصمت مطلق.
لم أر أي كائن في الشارع، سوى أضواء خافتة. وكل قصر بجانبه قصر آخر ومستقل عنه، ويحيط في كل فرنده بللور سميك يمتد على طول الفرنده، وكل قصر فيه كراج. وفي كل كراج سيارة أو سيارتين، تحديدًا مرسيدس أحدث موديل أو بأم دبيلو، كرموز للوجاهة والانتماء إلى الطبقة المخملية التي يمثلها.
كنت أمشي وفمي مفتوح على وسع، قلت لنفسي مرات كثيرة:
ـ هل أنا في العصر العباس الأول، في عصر هارون الرشيد؟ في عصر ألف ليلة وليلة، معقول هذه عمان، البلد الفقير الذي يحتاج إلى المساعدات كما كان في خيالي وعقلي.
مشيت ساعات أدور في هذا الحي الغريب الذي لم أر مثله من قبل، وسألت نفسي:
ـ من يسكن هذه القصور؟ أين سكانه؟ الشوارع كلها صامتة وفارغة. ولا يوجد إنسان فيه إنسان يمشي أو يتجول. أين أنا؟
سرت أبعد قليلًا، لأح لي حارس، واقف في براكته قلت في نفسي:
ـ أكيد هذا البيت لضابط كبير في جهاز المخابرات في هذا الدولة؟ أو مقر للمخابرات.
لم يوقفني هذا الحارس ولم يسألني أي سؤال. ولم ينظر إلي، كما لم يهتم بوجودي. حقيقة استغربت من هذا التصرف.
كنت أمشي وفي ذهني سوريا المملوءة بالعسكر، برجال المخابرت الذين يوقفون كل إنسان يمر من جانبهم، أو بالقرب منهم.
سوريا معسكر، فيه عسكرة للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.
مشيت في شوارع عمان الغربية مدة ساعتين تقريبًا، لم يغادرني الذهول. كنت التفت حولي طوال الوقت، أغرف من هندسة الأبنية الجميلة دهشة. دهشة ملكت حواسي كلها:
ـ هل أنا في الأردن، معقول؟ لمن شيدوا هذه الزينة في بلد شحيح بالموارد الطبيعية. وعدو هذه الدولة على مرمى حجر منه؟
حقيقة لا أعرف كيف يفكر العرب بالرغم من أنني اعتبر نفسي جزء من الثقافة العربية لغة وانتماءًا وحبًا.
عدت إلى البيت وجلست على الشرفة المفتوحة على كل الجوانب، ومضيت أنظر إلى عمان من ذلك العلو الشاهق والصمت المطبق.
جميع البنايات من الحجر الأبيض النحيت، الشوارع نظيفة موزعة على الجبال والتلال والوديان. من النادر أن ترى شارعًا مستقيمًا دون تعرجات طبيعية كمرتفع أو منخفض.
لم يكن في البيت تلفزيونًا، كما لم أكن أفهم أو أعرف أي شيء عن جهاز الكومبيوتر، أنظر إليه مثلما ينظر المرء إلى الصنم الجاثم على مقربة من أنفاسه.
سمعت نجيب يقول لي أن الجهاز لم يربط بالنت:
ـ النت؟ ما هذه الكلمة، هل هو لغز أم إشارة سرية إلى مكان ما؟
لم أفهم ما معنى هذه الكلمة. كما لم أر من قبل أي جهاز للهاتف الخليوي. كلمات متقاطعة ذكرها لي وكأنني كائن قادم من قلب روايات ألف ليلة وليلة، قلت لنفسي:
ـ السنوات التي أمضيتها في المعتقل عزلتني عن هذا العالم بالكامل. وحولتني إلى إنسان بدائي لا يعرف ماذا يدور حوله، إلى إنسان يقظ يريد أن يعرف كل شيء بسرعة، كطفل مملوء بالفضول والدهشة ويبحث عن إجابات كثيرة مركونة في خلد الاسئلة.
وضعت جهاز الراديو إلى جانبي وفتحته، كانت السيدة أم كلثوم تغني أغنية، فات المعاد، اندمجت في الصوت وتهت معها وسرت أدور وأفكر في تناقضات هذه الحياة التائهة.
فالسجن ما زال طازجًا في ذهني، عزلة كاملة عن الحياة. الأعوام الخمسة الأخيرة لم نخرج من المهجع، ولم نر أي حياة في الحياة سوى أحذية العسكر. كنا أصدقاء الجدران المتأكلة بفعل تقادم الزمن. لم يكن هناك ذكريات تستحق أن يعود لها إنسان مثلي.
ماتت صلتي بالأصدقاء، غيرني السجن جذريًا قلب حياتي رأسًا على عقب، لم أبق أنا كما كنت عليه قبل السجن، ولم يبق في ذهني أي شيء يستحق العودة إليه. فسورية اليوم، بالنسبة لي كانت جافة غريبة، ولا جميل فيها سوى براءة الطفولة.
يتبع ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغربية نسرين الراضي:مهرجان مالمو إضافة للسينما العربية وفخ


.. بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ




.. كيف أصبحت المأكولات الأرمنيّة جزءًا من ثقافة المطبخ اللبناني


.. بعد فيديو البصق.. شمس الكويتية ممنوعة من الغناء في العراق




.. صباح العربية | بصوته الرائع.. الفنان الفلسطيني معن رباع يبدع