الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بينَ حُلمٍ ومصيرٍ: خلخلةٌ وتنوعٌ في المشهد الشعريّ العربيّ

حكمت الحاج

2020 / 4 / 12
الادب والفن


يقول الشاعر الانكلوأمريكي "ت. س. أليوت"، إنه على الناقد حين يبرّر وجوده أن يعمل ويسعى لضبط نفسه من أية أهواء قد نتعرض لها كلنا كبشر، وأن يحل خلافاته مع أكبر عدد ممكن من زملائه حتى يصلوا في البحث المشترك إلى الحكم العادل الصحيح.
لقد كانت مسيرة الشعر العربي منذ عصر الجاهلية، تمشي كقافلة وئيدة، وبين الفينة والأخرى، يتخلف البعض ويتساقط البعض ويخرج عن خط السير البعض الآخر، ولكن القافلة كانت تسير، وكانت التحولات والتبدلات تصيب القصيدة، خاصة في متنها ومضمونها. ولذا فإنه ليس من الصحيح القول أبدا أنّ القصيدة العربية هي حال واحدة من الجاهلية حتى الثورة الشعرية عند منتصف هذا القرن، بل كانت التغيرات تطالها وتنالها.
وبالاحتكام إلى مقولة ت. س. أليوت الواردة أعلاه، فقد كانت تلك المسيرة الشعرية، شئنا أم أبينا، في أحيان كثيرة تستجيب إلى روح العصر وتقدم مساهمات جـمة فيما يخصّ إشكاليات الـمُساءلة والجواب كثنائية ذات تحقق فلسفي واجتماعي في الحاضنة الحضارية الكبرى للأمة. فمثلا قصيدة لجميل صدقي الزهاوي لا علاقة لها بأخرى لابن هاني الأندلسي، كما هذه بالنسبة لشاعر مثل ذي الرمة، إلاّ من حيث أن جميعها تنتظم في بناء عروضي وأسلوبي واحد، وليعذرنا علماء العروض فلربما لا يكون حتى هذا البناء واحدا. ولكن تلك مسألة أخرى.
وبإطلالة العرب على العصر الحديث، وبانفتاح طبيعي على معطيات الحداثة والتحديث والتحضّر والتمدن في البلاد الأوروبية، أخذ الشعر العربي يتحول باضطراد، وأيضا، بالطريقة السلمية والسليمة إياها، من حيث أن التبدل والتحول كان يطال المتن دوما، عبر تبدل الرؤية والموقف من العالم، وزاوية النظر إلى الأشياء، والعلاقة بين اللغة والتراث والعصر. وبدأت القصيدة العربية تتنوع وتسير باتجاهات واضحة من جهة الدلالة والموقف، فنشأت حركات التجديد في المهجر، وتكونت جماعة "أبوللو" في مصر وتمحورت أنشطتها حول مجلتها الرائدة بالاسم نفسه، ثمّ جماعة "الديوان"، وظهر الاتجاه الرومنطيقي في الشعر العربي إلى جانب الاتجاه الرمزي والبرناسي، وظهرت أسماء لامعة مثل "صلاح لبكي" و"بشر فارس" و"خليل مطران" و"سعيد عقل" و"أبو القاسم الشابي "و"بدوي الجبل" و"محمد مهدي الجواهري"، وغيرهم.
إذن، فقد كان الشعر العربي يسير متأبطا تاريخه باتجاه التقدم نحو العصر ومركزه الحضاري بشكل تتابعي منطقي. ولكن ما الذي حدث في هذه الفترة بالتحديد، أقصد نهاية الأربعينات، الأمر الذي أدى إلى حصول انحراف في مسيرة القافلة؟
والآن، وقبل الإجابة على هذا السؤال، لننظر إلى القصيدة من جانب آخر نعتمد فيه التاريخ الاجتماعي هذه المرة. إذ أننا سنستطيع أن نلاحظ أنّ ذلك "القطع" أو الانحراف الذي حصل في البنية الشعرية، له ما يناظره تماما، على مستوى البنيتين الاجتماعية والسياسية. ففي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية العربية تضع اللبنات الأساسية لليبراليتها وبرنامجها الاقتصادي متمثلا ذلك في التجربة البرلمانية والتعددية الحزبية والانفتاح على الغرب ونقل الخبرات العلمية المطلوبة في مجال الصناعة والتجارة والإدارة والمال، وفي الوقت الذي كانت فيه البورجوازية العربية تقود حركة إحياء التراث والنهضة، و"طلعت حرب" الذي أنشأ "بنك مصر" يبني دارا للأوبرا ومعهدا للتمثيل ويعضد مشاريع تتعلق ببعثات إلى أوروبا لدراسة الفنون والآداب، فإذا بكل هذا يجهض دفعة واحدة وينتهي الدور التاريخي للبورجوازية العربية كطبقة مستنيرة لها دورها الفاعل في بناء النهضة وفي التمهيد للتحول الاجتماعي المقبل متمثلا بالثورة.
لقد كان التحول مفاجئا، والثورة جاءت في غير أوانها، مما يبيح لنا أن نسمي ما حصل "كسرا" أو "قطعا" في المسيرة، إذ أنّه قد منع حصول أي تطور لاحق يمتلك سمة الإيجاب، وعمد إلى إظهار كل ما يغذي سمة السلب. وهذا "القطع" إنما تَمَثـَّلَ في صعود قوى جديدة إلى واجهة الصراع جاءت في مجملها لكي تجهض دور الليبرالية العربية ولكي توقف مشروع النهضة، وكان شعار هذه القوى الجديدة الرئيسي هو "الأصالة والمعاصرة"، وكان هذا في بنيته التاريخية اللاواعية تتويجا لمسيرة التوفيق/التلفيق" التي بدأت مع المعلم الثاني الفيلسوف أبي نصر الفارابي في كتابه "الجمع بين رأي الحكيمين أفلاطون وأرسطو" ومفتتحا لمسيرة "توفيق/ تلفيق" جديدة ابتدأت بهذه الثنائية التي تجمع بين الغرب من جهة، وبين العروبة والإسلام من جهة أخرى.
أمّا على صعيد الشعر، فقد حدث فيه ما كان يكافئ هذا تماما. إذ صعد رهط من الشعراء ذوي الجذور الريفية ليأخذوا أماكن جديدة لهم على خارطة الصراع في حركة تشبه الانقلاب العسكري إن صحّ التشبيه، وكان من نتائجه المباشرة الإجهاز على معظم المنجزات الشعرية العربية وتطوراتها المضمونية والعودة بالقصيدة العربية إلى نظامها العمودي في المتن والمضمون، على أن يتخذوا لها لبوسا مستعارا من الغرب هو الشكل العنقودي الذي رتبوا على وفق وعائه أسطرهم الشعرية. ونعلم أنّ هذا الشكل العنقودي الذي رأوا فيه ثورة في الهندسة البنائية للقصيدة العربية لم يكن سوى "عمود" الشعر الإنكليزي وتقليديته السائدة البائدة. وهكذا تمت بعثرة الكلمات على بياض الورقة، وكان هذا بحد ذاته أيضا توفيقا/ تلفيقا بين العرب والغرب تحت شعار الأصالة والمعاصرة.
وفي غمرة هذا الاحتفال على الخرائط، وباعتماد المقترب السياسي كعامل تصنيف، نستطيع أن نؤشر للشعر العربي ثلاثة اتجاهات:
أولا) أصحاب اليمين وهم أصحاب الرؤية الثبوتية واليقينية، كلاسيكيون وإن تحدثوا، سلفيون وإن تقدموا، يجلسون تحت عمود الخيمة إذ لم يعد لهم مكان بعد الآن في الثورة والتغيير.
ثانيا) أهل اليسار وهم أصحاب الرؤية الشكوكية غير المتيقنة، ثوريون رافضون لما سبق، ويقطعون مع كل التراثات، يكتبون تحت لواء الحداثة ما يسمونه شعرا حرا أو قصيدة نثر، يتطاولون على كل شيء ولا يعيرون أهمية تذكر للتاريخ الأدبي.
ثالثا) أهل الوسط وهم الكثرة الغالبة. محافظون إصلاحيون يجلسون في "الـمَابَين". يلفقون أيضا أو يوفقون بين اليمين واليسار. كتبوا شيئا أطلقوا عليه اسم "شعر التفعيلة"، وهو شعر محافظ، يأخذ من اليمين عموديته وقاموسيته وبلاغته وجزالته، ومن اليسار يأخذ قدرة النثر على التركيز، الشك، الابتعاد عن القاموس، كسر المألوف. وباختصار، فإنّ المقترحات والارتيادات التي تأتي من هذا وذاك يأخذها أهل الوسط كشيء ناجز ويهضمونها ويحولونها إلى شعر نصطلح على تسميته الآن ودائما بالشعر العربي الحديث أو الجديد أو المعاصر.
وإذا كان خير من يمثل التيار الأول هو شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ومن لف لفه من شعراء العمود، وإذا كان ممثل التيار الثاني بحق هو أنـسي الحاج، فإنّ التيار الثالث يبتدئ ببدر شاكر السياب ولا ينتهي، لحد هذا اليوم في الأقل، بنزيه أبو عفش أو فوزي كريم، فالقائمة طويلة، والمنضوون تحت اللواء هذا هُمْ كـُـثـر.
والسؤال الفارض نفسه: إلى أين تمضي بنا قافلة الشعر العربي الآن؟
إذا كان الفلاسفة يقولون بأنّ السبب الرئيسي لبقاء هذا العالم هو وجوده، فإنّ هذا ليبدو سببا واهيا لمجرد التفكير في أنّ العالم سيبقى إلى الأبد، ولكن من دون أن يفعل شيئا. وبين العالم هذا، العالم العياني، وبين العالم ذاك، العالم الآخر الذي في الحلم، ربما تتناوس الحقيقة ما بين حقيقة الشعر وحقيقة الشاعر. الشعر حقيقي أكثر من أي شيء آخر، وحقيقته هذه لا تظهر إلاّ في عالم بديل، عالم الهناك، حيث الشاعر يقود مسيرتنا. وما بين الحلم هذا وتحقق المصير تكون تلك المسيرة التي يقودها الشعراء. ولكن هذه المسيرة هي طريق بلا غايات. وأية غاية يرتجيها المرء من الشعر؟ اللصوص وحدهم كما يقول "شارل بودلير" هم الذين يقتنعون بأّنه لا بد من نجاحهم، وإنهم فعلا لينجحون دائما. أمّا الشاعر فإنّه ثمة الكثير من عدم الجدوى في أي بحث عن غاياته.
إنّ أية ثقافة تريد أن تكون إنسانية، عليها أن تضمن للشعر مكانته وسموه في عالم مزحوم بالتوتر والترقب والقلق والامتهان، وبوضع تتعرض فيه كرامة الإنسان وأمنه إلى امتحان قاس، وفي امتحان كهذا لا شيء أكثر مضايقة للشاعر من هؤلاء الذين سيسألونه عن معنى شعره.
إنّ الشاعر هو الإنسان "القَوَّال" أكثر منه الإنسان "العارف" أو الإنسان "الفاعل". هكذا يكتب "رالف والدو إمرسون"، وهو يعرّف الشاعر بأنه ثروة مشتركة. والشاعر الحق يعرف بأنّه يعلن للآخرين ما لم يقله أحد من قبل. فالتكلف أو التصنع لا يميز الشاعر، بل الطبيعة هي التي تحدد للشاعر من يكون. وليس الوزن وليست القافية هما ما يصنعان القصيدة، بل هي "القولة" المموسقة التي تصنع. وهنا الفكرة بالغة الحيوية والإتقان ولها معمار خاص بها، وتزين القصيدة بشيء جديد. والشكل المنظوم هنا ليس شيئا بذي بالٍ في هذا التصوّر.
إنّ العالم مدعو بكل إيمانه لإعادة الاعتبار إلى الشاعر الذي لا يريد سوى أن يعكس صورة هذا الكون الذي قُذف إليه مصادفةً، وذلك عبر كلمات سرية ومبهمة، وأن يجعل هذا الكون حاضرا في الإنسان نفسه كعالم بديل للعالم "الهنا والآن "، ويعطيه وجودا جديدا ذا محتوى إنساني جديد، ومن ثمّ يفرض عليه رؤياه.
-------------------------------------------
* كان هذا المقال قد نشر على صفحة "ثقافة" في جريدة الجمهورية ببغداد عام 1995. وحكايته تتلخص في ان الشاعر عبد الزهرة زكي نشر مقالا تحت عنوان " في الركود الشعري العربي، المصائر والأحلام" على صفحة "ثقافة" بتاريخ 27-5-1995، ثم عقب عليه الناقد حمزة مصطفى بمقال تحت عنوان" أحلام ومصائر مؤجلة" بتاريخ 19-6-1995 على الصفحة نفسها. وجاء مقالنا هذا والذي نشر في 27 -6-1995 بمثابة ردّ على المقال الأول من حيث توضيح واستثمار بعض من قضاياه القابلة للنقاش، وكذلك طال هذا الرد بعضا مما أورده المقال الثاني من أفكار وتصورات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا