الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشهد من الحياة اليومية فى ظل الموت اليومى

جيهان خليفة
كاتبة صحفية

(Gehan Khalifa)

2020 / 4 / 13
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


يقول جيوفانى كاتشيو فى كتابة (( الأيام العشرة )) أن من الإنسانى التفكير فى الكوارث الطبيعية الماضية عندما نتأمل فى الحاضرغير المستقر والمستقبل الغامض ، فليس مصادفة أن تظهر النزعة الإنسانية فى عصر النهضة ومعاييرها المرتفعة لتسجيل تاريخ البشر والتأمل فيه بتأثير مباشر من (( الموت الأسود ))
ولعل كتاب جوزيف بيرن ، (( الموت الأسود )) جاء ليرصد لنا تفاصيل دقيقة بل ومأساوية للحياه اليومية للبشر فى ظل جائحة الطاعون الذى حصد أرواح الملايين دون أدنى رحمة ففى رائعة جوزيف يقول : لقد كنا نخشى أمراض القلب ، السكرى ، السرطان , ولكن مع ظهور سلالات جديدة من الفيروسات عاد بنا الزمن للوراء كثيرا كى نتلقى آلاف الصدمات الطبيعية التى تصيب الجسد كما قال شكسبير فى رائعته هاملت ، فالحياه اليومية هى قدر من الحالة السوية والرتابة والإستقرار ولكن هذه الحياه اليومية كثيرا ما يصيبها الجمود فى أزمنة الأوبئة التى تعنى للبعض التخلى عن كل شىء والهرب إلى مكان آمن ، ولآخرين عزل أنفسهم فى بيوتهم وإنتظار الوباء , تحل أنظمة غذائية خاصة وأدوية تعد بالعافية محل الطعام المعتاد على المائدة ، تحد من السفر ، بل إنها تحد من التسوق البسيط ، تفرغ المدارس ، تغلق الكنائس ، يرحل الجيران ، يتوقف البناء ، تخلو الشوارع من الحشود ، والمسارح من الجمهور ، ويبدو الأمر كأنه عطلة طويلة مرعبة .
يستطرد جوزيف قائلا : أخذ الموت اليومى يوازن الحياه اليومية إختفى المعارف بدءت تظهر علامات على الأبواب الأمامية تحذر الزوار وتبعدهم ، وحلت النداءات الموحشة (( أخرجوا الموتى ))محل أصوات البائعين المتجولين فى الشوارع ، صرير العربات المحملة بجثث الموتى والمحتضرين على طول الشوارع بدلا من العربات المليئة بالمواد الغذائية الطازجة ، لم تعد النيران توقد للطهى إنما لحرق أمتعة الضحايا ، أو إستدخان الجو المسموم ((التعقيم بالدخان )) هذا العرض السوداوى لتفاصيل الحياه فى ظل الجائحة لم يمنع جوزيف من الأمل حيث يشير : مع كل هذه المآسى إستمرت الحياه رغم سيادة الموت الأسود ، فقد عدل الناس عاداتهم ، وإهتماماتهم , إجراءاتهم المتبعة للتكيف مع الأوقات الإستثنائية ،وحافظت الكنائس ، المنازل ،الشوارع، الطرقات ، الأديرة ، ومبانى البلديات ، المستشفيات ، ومشاهد الحياة اليومية على قدر من حيويتها على الرغم من التحولات التى طرأت عليها بفعل الجثث ، وحاملى الجثث ، والمستدخنين ،وأطباء الطاعون ، وحفارى القبور .
قد وصف شهود عيان مدى تطور المرض بين الناس ومعاناة الضحايا والناجين على حد سواء والخراب الإقتصادى والإجتماعى الرهيب الذى خلفه الطاعون بعد إنحسارة حاصدا نحو 35 مليون نسمة سقط معظمهم فى غضون عامين على حد قول جوزيف .
إنتقد الأساقفة خطايا البشر التى أغضبت الرب وأنزل سخطه عليهم لذلك بعد إنحسارة تاب أعداد من الناس ، بينما أستغل أخرون الضعفاء أسوأ إستغلال .
تعامل الطب مع الوباء
يرى جوزيف : أن مهنة الطب حاولت التعامل مع المرض ولكن نظرياتها ومعالجتها كانت قديمة وعديمة الجدوى ، ومع ذلك واصل كل جيل ثقته فى الأطباء وانظمتهم وأدويتهم ،وعلى الرغم من فشل رجال الدين فى درء غضب الرب فقد واصل الناس ثقتهم فى المسيحية والإسلام .
فى نفس الوقت كانت الجيوش الدولية التى تفشى فيها الطاعون تعبر أوروبا الوسطى بكثرة وتنشر الوباء مثلما تنشر السلب والنهب والدمار بل إن الطرق التجارية ظلت حتى فى زمن السلم فى تسهيل نشره ووجد المهربون الذين وجدوا وسائل فى تجنب الحواجز التى وضعتها السلطات فلا عجب أن تكون أخر المدن الأوربية التى تعانى هى الموانئ التجارية مثل أمستردام ، لندن ، نابولى ، مرسيليا ، وأن يستمر المرض فى التردد على الموانىء العثمانية بعد مدة طويلة من إختفاءه فى أوروبا .
برى جوزيف : أن التفشى الأول للطاعون كان فى ثلاثنيات القرن الرابع عشر من موطنه المعزول فى آراضى آسيا الوسطى ، ومع أنه ربما يكون إنتشر شرقا فى الصين وجنوبا فى شبه القارة الهندية الا أن السجلات الواردة من هذه الأماكن لم تخبرنا إلا بالقليل ، المرض إنتشر شرقا وظهر فى المناطق الشرقية من العالم الإسلامى فى أواسط أربعنيات القرن الرابع عشر وامتد الى الجنوب الغربى حول البحر الأسود وضرب القسطنطينية والأطراف الغربية للمتوسط وفى أواخر عام 1447 إنتقل الوباء مع التجار ،القوافل ،الجيوش ، الحجاج ، البعثات الدبلوماسية ،على السفن المحملة بالبضائع ،المسافرين .
وعندما ضرب الطاعون أوروبا الغربية فى عام 1720 لم يكن الطب أكثر قدرة على التعامل معه مما كان عليه عام 1350على الرغم من النهضة العلمية فقد ظلت ممارسات الطبيبين اليونانيين أبقراط وجالينوس تشوب الطب والممارسة الطبية وظل إجراء الحجامة وعمل هذه الجلسات وفقا للخرائط التنجمية ممارسات شائعة حتى نهاية الجائحة الثانية ، ولايوجد أى اختراق واحد فى المعرفة أو العلاج رغم أن هذا العصر شهد رجال ألمعيين واجهوه ما لايقل عن ثلاثة قرون ففى انجلترا نصح إسحاق نيوتن الأطباء بقدر ما نصح رجال الدين بالصلاة والتوبة قبل أى وقاية أو معالجة للطاعون !
وعندما بدأ الأطباء المسلمون يستوردون الطب الأوروبى الذى يفترضأنه تفوق فى القرن السادس عشر وجدوا أنهم لم يحصلوا على شىء .
يقول جوزيف : إستمر الطاعون فى التفشى بين الحين والأخر لكن مع بداية العصر الحديث لاحظ الناس أن المرض أصبح محدود فى المناطق الحضرية بسبب الإجراءات التى إتخذها المسؤولون والحكام فقد أنشئت حكومات المدن والمجالس الصحية والهيئات القضائية للإشراف
على أنظمة الإصحاح والحجر الصحى وحولت مستشفيات الطاعون ومصحات الأوبئة لعزل المرضى ، وأغلقت الموانىء والأنهار ، ووضعت السياسات والآليات لعزل المرضى بل حبسهم وعائلاتهم فى بيوتهم ، وكانت الأماكن الفقيرة تغلق مع أول بادرة لظهور المرض وتحكم على قاطنيها بملازمتها بكل صرامة ، فى حين تحمى المدينة على العموم وبدأت الحكومات الصغيرة والكبيرة تتبادل الأفكار وتعلمت من بعضها البعض .
فى البيت مع الطاعون
يقول بيرن : العادات كانت تملى على الأفراد الوظائف والمهام وتحدد الآداب والسلوك الإنفعالى والمظاهر العاطفية ، كانت مشاركة الجميع للمصاب من فراش الموت الى الجنازة وطقوسها كل هذه المظاهر إنهارت فى زمن الطاعون ببطء فى البداية ولكن مع تسارع الأمور سقطت هذه المظاهر الطقوسية ولم يتبقى إلا حامل الجثث الذى كان يأتى لنقل الضحية لقبر مجهول وفى حالة المنازل التى عزلت فيها الأسر بأمر السلطات بسبب إصابة أحد أفرادها بالطاعون غالبا ما كان أحد أفراد الأسرة يلقون الجثث من الطابق الثانى على العربات المحملة أصلا بالجثث ولم يكن من بقى على قيد الحياه يتأثر كثيرا بوفاه أحد أفراد الأسرة مهما كانت العلافة بل كان عليه أن يفكر فى أنه قد يكون التالى .
ويشير بيرن :نتيجة لهول الجائحة ظل مؤلفو الحوليات التاريخية عن زمن الطاعون يكتبون لمدة تزيد عن الثلاثمائة عام عن أهوال الموت والموتى فى الشوارع .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. توقيف مساعد نائب ألماني بالبرلمان الأوروبي بشبهة التجسس لصال


.. الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين تهز عددا متزايدا من الجامعات




.. مسلحون يستهدفون قواعد أميركية من داخل العراق وبغداد تصفهم با


.. الجيش الإسرائيلي يعلن حشد لواءين احتياطيين -للقيام بمهام دفا




.. مخاوف من تصعيد كبير في الجنوب اللبناني على وقع ارتفاع حدة ال