الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشفاهية والكتابة

سيف الدولة عطا الشيخ

2020 / 4 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الثقافة بين الشفاهية والكتابية
قراءة مجاورة في كتاب "الشفاهية والكتابية"
د. والتر . ج أونج
مقدمة :
كثيراً ما نردد أننا ننتمي إلي الثقافة الشفاهية , وأن تاريخنا الشعبي مأخوذ من مصادر شفهية أي نقل عن السابق إلى اللاحق , نقلاً من نصوص غير مكتوبة ,...... حكايات متناقلة بين الأفراد, وفي الغالب لا ترتبط بزمنية الحدث,إنه سرد في غاية السيولة وقابل للحذف والإضافة, ولهذا فهو نقل غير موثوق تماماً, ومع ذلك تحيطه قدسية اجتماعية طالما أن ناقله شخص موثوق فيه وقد أخذ عن آخر أكثر صدقاً وموثوقية ؛ وغالباً ما يكون المعيار الوحيد لصحة النقل تباعد ذاك الزمن الماضي وتباينه مع هذا الحاضر الخالي من روح إبداع الأجداد, فكل ما كان هناك فهو حسن, وما يليه يشوبه التلفيق وعدم الصدق , فقد انتهى العهد الذهبي ولم يتبقى منه سوى هذه الذاكرة, ولأن الذهن الحالي لا يمتلك روح إبداع ذاك الزمن الغابر فليس أمامه غير التراجع بواسطة هذا النقل إلى تلك المرحلة الأولى صاحبة الامتياز ألشفاهي؛ وبهذا يكتمل التحكم وإغلاق الدائرة التقليدية.
في هذا السياج المُحكم يتشكل الأفراد في أصوات متداخلة , تكون وبعد تكرار ممل مسطحاً ثقافياً يسمح بانبعاث مفاهيم تصبح فيما بعد سلطة فوقية تحكم وتتحكم في كامل السلوك الاجتماعي, فالكل يقلد بعضه في تماسك وانسجام ؛ وإذا حدث أن ظهر التعليم, فإنه لا يبعد كثير عن نفس التلقين فقط يكون الاختلاف في المواد التعليمية, فهناك سرد لحكايات وحكم وأمثال وبعض البطولات , وهنا مواد خالية من الشحنات العاطفية تحاول الوصول إلى العقل لتدريبه على البناء المنطقي للمفاهيم وتصنيف الموجودات على حسب طبيعة وظيفتها للطبيعة وللإنسان, إذ بالتعليم يحاول هذا الإنسان السيطرة على البيئة والتوازن مع تجلياتها غير الواضحة له عندما كان في فترة التعلم ؛ غير أن إنسان هذا الانغلاق ألشفاهي, وفي الغالب لا يكاد يخرج من التعلم إلى التعليم حتى يسقط مرة أخرى في دائرة الطفولة التلقينية, ذلك أن هذه الطرق لا زالت تدور داخل أسوار تلك القلعة وتحت حراسة معلمها الأشد صرامة في النقل والتقليد؛ ولهذه يصبح تعليم القراءة والكتابة وظيفة للمعلم وترويض تلقيني للتلميذ؛ ومفردة إبداع دائماً ما تنبعث منها رائحة البدعة ؛ وهنا تكمن أسباب المحافظة .
إن مجرد القراءة والكتابة لا يعني الانتقال من الشفاهية إلى الكتابية,فالكتابية نمط ثقافي ومرحلة وعي مرتبطة بتجليات حرية العقل المتنقل مابين العبارات لإبداع الجملة التي تعكسها العبارة نفسها دون أدنى تدخل تلقيني سلطوي؛ فهنا لا تجد الوصايا المدرسية مجال سلطة الإرشاد وتحديد طرق الغوص في ثنايا المتن. ولا يعني كل هذا أن الشفاهية خالية من التوثيق الكتابي؛ فإن كان ذلك كذلك لما وجدنا تلك النصوص الراقية والتي بسببها خرجت محاولات العثور على نظرية في أنماط التعبيرات الثقافية؛ ففي ثقافتنا الشفاهية هنا – السودان - نجد كتاب " طبقات الأولياء " لمؤلفه " ود ضيف الله" كتاب شفاهي منقول شفاهياً تنطلق فيه الذاكرة بلا حدود ومنه استطعنا الوصول إلى مبادئ الخبرة الغيبية والتي لاحقاً أصبحت ذاكرة ثقافة الوسط الصوفي" الطرائقية"؛ إنه نص يتمثل الإبداع ألشفاهي , وفيه إمكانية سرد توحي بتكشف الآفاق عن أشعة ثقافة كتابية معاصرة ؛ وبالطبع يحتاج هذا الكشف إلى تحول في لغة القاموس من سطحها الوضعي إلى لغة الذهن الحر غير المدنس بلغة التعليم التلقيني, ذلك أن لغة هذا التعليم الحالي تتسبب في حجب الإمكانيات الإبداعية, وهذا ما نجده في كثير من إصدارات أساتذتنا الأجلاء سواء في كتبهم أو في مذكرات المقررات الجامعية التي تساعد على خمول التحصيل العلمي. وهكذا سقط التعليم في براثين الشفاهية غير الإبداعية . وبكل أسف امتد السقوط إلى كامل المؤسسات؛ وهاهي مكاتب الخدمة تبتكر امتحانات القبول للخدمة علها تجد ما يناسب الوظيفة ؛ إنها بالفعل أزمة ولكنها ليست سياسية أو اقتصادي....الخ إنها أزمة في كلية الثقافة المنتجة لهذه المؤسسات, وللخروج يتوجب البحث في العناصر المكونة للحركة الذهنية والتي على أساسها يتم الإنتاج , ولكن , وقبل الدخول في هذا الحقل المعقّد , سنحاول الكشف عن بعض ملامح ما نعنيه بالثقافة الشفاهية, مستصحبين في هذه المسيرة السريعة دراسة } د. والتر . ج . أُونج{ في سلسلة عالم المعرفة العدد "182" فبراير1992م والصادرة تحت عنوان " الشفاهية والكتابية " والتي قدم لها وترجمها " د. حسن البنا عز الدين ".
في شكل أفقي يتحرك (أونج) عبر الاتجاهات المختلفة لنوعيات هاتين الثقافتين, ثم يعدّل طرق السير تصاعدياً وتنازلياً؛ أي أنه وبعد أن يميِّز ما بين النمطين يعود ليضع الشفاهية سنداً للكتابية ومن ثم ينفُذ إلى( " الشفاهية الثانوية" التي تتميز بها الثقافات ذات التكنولوجيا العالية في الوقت الحاضر, حيث تحافظ شفاهية جديدة على وجودها واستمرارها في وظيفتها من خلال التلفون والراديو والتلفاز والوسائل الإلكترونية الأخرى والتي يعتمد وجودها وأداؤها لوظيفتها على الكتابة والطباعة)ص59.
يشير د. حسن ألبنا عز الدين , مترجم الكتاب,إلى أن أصل الدراسة هو البحث داخل النظرية الشفاهية والتي خرجت بعد استقصاءات بحثية مكثفة في المشكلة الهومرية والسؤال حول هوميروس وشفاهية الإلياذة والادويسة ,( فقد برهن بعض الباحثين على أن الثقافات الشفاهية الخالصة , يمكن أن تولّد أشكالاً فنية للقول فيها حذق ومهارة)18 وقد شككت نتائج البحث المقارن في انتماء الإلياذة والأوديسة للشعر اليوناني , فقد ظهر غموض في الأصول ؛ إضافة إلى ذلك فقد وصل البحث إلى أن هوميروس نفسه لم يكن كتابياً , ولكنه كان يمتلك ذاكرةً مكّنته من إبداع هذا الشعر؛ وهنا يشير "يونج" إلى أن الذاكرة (قامت بدور متميز تماماً في الثقافة الشفاهية عن ذلك الذي قامت به في الثقافة الكتابية)ص20 , أما "جان جاك روسو" فقد ذهب إلى احتمال أن هوميروس ومعاصريه من بعض الإغريق لم يعرفوا الكتابة.
في مواقع الأدب العربي يذكر د. ألبنا ,أن " جيمس منرو"قد جادل في أن النقاش الطويل حول أصاّلة الشعر الجاهلي , يمكن أن يصل إلى نهاية , من خلال التعرف على تقاليد هذا الشعر بوصفها تقاليد شفاهية. هذا , وقد أستند " منرو " في تفسيره إلى تناول دقيق للكثافة القائمة على الصيغة , والفروق بين الصيغة الخالصة والنظام القائم على الصيغة, والصيغة البنيوية واللغة المتحولة إلى لغة تقليدية؛ وهو يؤكد على أن القصيدة من حيث احتفاظها بمفردات بعينها تجد مواضعها في البيت عروضياً, كانت محافظة؛ ومن جهة أخرى , كانت القصيدة دينامية في قدرتها على التغيير عبر الزمن, الأمر الذي ساعد على استيعاب عناصر إسلامية؛ وقد انتهى " جيمس منرو" إلى (أن القصيدة تأسست على الصيغة إلى حد أن الأوزان العربية المعقدة لا تعد نتاجاً للشعر لكن النظام القائم على الصيغة هو الذي يعد نتاجاً للأوزان)ص42 . وأخيراً يختتم د. حسن ألبنا, مؤكداً (أن الدراسات جميعها قد أكدت انتماء الأدب العربي بشكليه الفصيح والشعبي إلى دائرة الأدب ألشفاهي المتحول في بعض أحواله إلى الكتابية)ص44.
بخاتمة هذه المقدمة نكون قد وصلنا إلى شي من المعالم التي تظهر أن الشفاهية ليست مجرد نمط نقل شفهي وإنما هي ثقافة قائمة على حرية استخدام المهارة الفنية واللغوية من أجل التواصل الكاشف لنوعية الوجود الممارس . وهذه هي نفسها وحدات الثقافة الكتابية . بمعني أن الشفاهية والكتابية تمثلان الثقافة الكلية لا في ثنائية متوا جهة وإنما تبادلية متداولة في ما بينها .وهذا ما أراد "أونج" إثباته. فكما سبق التنويه, أنه يتحرك تطورياً من الشفاهية إلى الكتابية ثم يعود ليضع الشفاهية سنداً لها؛ ,أما في هذه القراءة والتي كان حافزها هذا الواقع الثقافي الذي ندور فيه , فلن يكون الأمر متابعة النظرية بقدر محاولة تبيئتها والدخول بها إلى متاهات الشفاهية الكتابية؛ ذلك أن هذا الواقع الثقافي في ما نعتقد بعيد كل البعد عن الشفاهية المبدعة أي شفاهية " هوميروس" أو تلك التي أنتجت الشعر العربي القديم؛ أو شفاهية " ود ضيف الله"؛ أو شعر " البطانة والشعبي والحقيبة" ؛ وبنفس القدر لا يمكن أن نصفه بالواقع الكتابي المتحكم في مقولاته العقلانية والموثقة في القواميس والموسوعات ؛ والدليل على ذلك هذا الفشل الفكري والفلسفي والعلمي في معظم المؤسسات المعرفية التي لم تخرج عن تلقينية ما قبل الكلام ,وعليه أصبح النتاج هذه القضايا الوطنية المعلقة والمتماثلة مع تدهور التعليم ومعظم نواحي الحياة الإنسانية, سواء هنا أو على كافة الرقعة العربية؛ ففي هذه الرقعة لم يظهر الإنتاج الذي يضاهي إنتاج النسب العرقي النابع من أنماط السرد ألشفاهي, والذي يشطح في سلسلة الانتماء حتى تصل إلى مشارف النقاء والصفاء؛ وفي الغالب يمتد هذا التسلسل إلى مؤسسات الدولة متحولاً إلى جماعات إستراتيجية ذات مصالح لا تختلف كثيراً عن المصالح القبلية التي تتأسس على السيادة المطلقة المدعومة بنمط تواصل السرد ألشفاهي المبعثر .
جدل ألشفاهية والكتابية:
الشفاهية لا يحكمها منطق المتن وإنما قول الرجال .وقد تسبب هذا التوجه في اختزال جغرافية الثقافة , وكانت النتيجة أزمة في الهوية واضطراب في حقيقة الوجود الثقافي نفسه, وعلى هذا يمكن القول بطريقة تمهيدية أن كل ما يحدث أمامنا من إخفاقات يعود إلى هذا الوضع المتداخل بين النمطين تداخل قدسية سردية تحاول الهيمنة والتسلط على الآخر , ولأن هذه الهيمنة مؤسسة علي اضمحلال شفاهي داخل حقل الكتابة المدرسية,فإن الثقافة في كليتها لا ترقي إلى مستوى الإبداع الأدبي والفكري , فكل ما هو موجود لا يخرج عن ممارسات نوازع فردية أخذت معظم مكتسباتها من روح السلطة القبلية ومع فرص التعليم المدرسي, تكاملت نخبوية هذا الفرد ومن ثم نصّب نفسه وصياً على كامل مناحي الثقافة والمعرفة الفكرية والعلمية. وعند عتبات هذا الوصي تتحرك الأشياء ومسمياتها. وفوق كل ذلك فإن أي إبداع لا يعرفه هذا الوصي يخرج عن دائرة التحكم ألشفاهي ويكون بدعة. وتلقائياً يؤدي هذا الوضع إلى غياب مسطحات الإنتاج الثقافي ويتراجع ما هو قائم إلى مرحلة ما قبل الثقافة, ومن هنا يظهر التوحش ألغابي. ذلك أن الحكر الثقافي ومحاولة فرضه على الآخر, هو واحد من أهم أسباب الصراع, فبتجميد لغة التداول السلمي وكبت حرية الإبداع الفني , تتولد مهارات التمرد على المركزية الثقافية ؛ وغالباً ما تكون الغلبة للهامش على المركز ؛ فهي حرب بين الثقافة الطبيعية في جمعيتها وتلك المصطنعة سواء فردية أو في جماعة خصوصية خارج الإطار الجماعي الكلي. فجوهرياً تتولد الثقافة الطبيعية من واقع التداول الشفهي. وهو تداول تدفعه الحرية في طبيعتها الأولية وعندما تتكاثف الأفكار المبعثرة داخل شعارات الرفض تظهر معالم المسطح المنتج لمفهوم الاندفاع الثوري؛ فإن انبعثت من هذا الصراع نواة الثقافة الكتابية تصبح الثورة بالفعل تحولية كاملة , وأما إن كان الانبعاث من نصيب الكتابية المدرسية , فإنها لا تصبح ثورة تحولية وإنما مجرد انتفاضة سرعان ما يستحوذ عليها الوصي المتربص دائماً لمنع التغير والخروج عن سلطته الشفاهية.
إن الشفاهية والكتابية _ غير المدرسية _ نمطان لا ينفصلان ,وفي استنادهما على بعضهما البعض يشكلان وحدة الثقافة الكلية ,تدفعهما إلى الوجود عناصر الثقافة المتداخلة ما بين اللغة والفن ونوعية الحرية التي تسمح بها السلطة المهيمنة على سير الإدراك الذهني, وبهذا فإن البحث في طبيعة هذين النمطية يقودنا إلى الأبعاد الذهنية المتعلقة بالمخزون وتصورات اللغة الحاملة للمفاهيم, ذلك أن هذه الأبعاد الذهنية هي التي تعطي الكلمة دلالتها وتماسكها كي تصل وتتواصل مع الآخر؛ فاللغة منتوج ثقافي ومتزامنة مع كونها المعبّر عن الثقافة ذاتها, بمعنى أنها هي التي تٌظهر الإنسان من إظهارهِ هو لها.
في الثقافة الشفاهية الأولية, أي التي لم تمسها أي معرفة بالكتابة أو الطباعة, تأتي الكلمات مباشرةً وتنفذ محركة الإنسان بشكل يماثل حركة أجزاء الطبيعة ,وكائن هذه الثقافة يتعامل مع الأشياء معاملته لنفسه , فهو يسقط عليها قوته الروحية حتى تصبح حيّة قبالته, وبتكثيف ممارسة هذا الإسقاط تتفاعل صورة الشيء داخل الذهن ومن ثم يكون الخروج الصوتي المعبر عن طبيعة ما تم إدراكه. هذا الالتحام الروحي هو ما يعطي قوة المعنى للغة الثقافة الشفاهية. ولأن الذهن في طبيعته الحرة لا يتوقف عن الانسياب المتواصل , تجد الخبرات العامة فرصة التداخل في رسم الشكل غير النهائي للتعبير.
أما في الثقافة الكتابية , ولأنها تأتي بعد الصوت دون فاصل , بمعنى أنها نتاج له,فإن الخروج يكون صوتاً داخل الفضاء الذهني دون أدنى تأثير خارج وحدة النص , وعلى عكس الشفاهية يتوقف التفاعل حول الخبرات المحددة بظاهرة الشيء المراد كشف طبيعته وبنية وجوده ,وعند الخروج إلى الفضاء ألحروفي لا يكون صوتاً شفهياً وإنما رمز دال على الصوت ودلالة الشيء نفسه؛ وهذا هو سبب أن العلم المُحكم يظهر مع الثقافة الكتابية. إذ بهذا الإحكام تظهر قوانين اللغة المتولدة أيضاً من ذاك الصوت ألشفاهي ولهذا الالتقاء يتيسر فهم القراءة للمنتمي لذات الصياغة اللغوية؛ وحتى في حالة الترجمة فإن شخصية النص هي التي تتحكم في اختيار مفردات اللغة المترجم إليها, مما يعني أن هناك وجود ما لصوت اللغة الأولى متداخل مع الصوت الثاني في محاولة لإخراج ثالث أكثر انتشاراً . وهذا الخروج الكتابي هو الذي يعطي فرصة ظهور إبداع الذات الشفاهية في تشكيل الخبرات المتكاملة ما بين الكتابية والشفاهية,وبالتحام التعبيرات الشفاهية بالحركة العضوية التي تدفعها حرية الانطلاق الروحي, وانفصالها في الكتابية داخل اللغة المنطوقة لإنتاج الأداة والتي يمكن من خلالها التحكم في سير التعبيرات المؤسسة على المهارة الفردية المتحررة من رحم السلطة الجمعية الشفاهية المرتبطة ببيئة الإنتاج الثقافي, تتم عملية الإبداع الأدبي والفكري والعلمي , والذي لا ينحصر تأثيره في تلك الدائر الشفاهية الضيقة , وإنما يكون الخروج إلى كامل البشرية, وهذا ما نعنيه بالحضارة, ذلك أن للكتابية إمكانيات التفاعل خارج أسوار السلطة؛ إنها الوعي الموضوعي المتواصل مع الوعي ألشفاهي الذاتي, ولهذا كانت الثقافة الكتابية هي المصدر الأساسي لمبادئ الحرية والإعتاق من سلطة الكهنوت في القرون الأوسطي الأوروبية؛ فقد كانت كتابات " جان جاك روسو وفولتير وغيرهم, هي الملهم لتلك الثورات التي حولت أوروبا من الإقطاع الملوكي الديني إلى حرية الاختيار الديمقراطي , وعلى سنن هذه الحرية تتطور العلم وأصبح الإنسان يشعر بوجوده ككائن له الحق في العيش الكريم . بهذا يمكن القول أن تلاحم موضوعية الكتابية مع ذاتية الشفاهية هو ما يمكن أن يحدث نقلة التحول من الانغلاق والتخلف إلى الانفتاح والتقدم نحو الرسالة الإنسانية التي تؤكد على امتياز هذا الكائن المثقف العقلاني.
بالوصول إلى ذاتية الثقافة الشفاهية وموضوعية الكتابية نكون قد اقتربنا إلى حقول الجدل ما بين النمطين,ولكي نجتاز عقبات الثنائية سنحاول في هذه القراءة حصر التفاعل في أهم العناصر , ذلك أن رأس الأمر هنا محدد بأنماط معينة وليس الثقافة في ماهيتها الكلية , ولا يعني ذلك الاختزال أو الخروج, فقط هنا نود أن نكشف عن بعض آثار الثقافة الشفاهية على واقعنا الثقافي والفكري ومؤسسات الهيمنة على الوعي . ففي هذه المحاولة التمهيدية سنركز على اللغة في كونها الأصل والأساس في كامل حركة الثقافة ,ثم الذاكرة التي تجمع الخبرة الثقافية المتوارثة ومعايير قياس المكتسب اللاحق؛ وبحرية جدل اللغة داخل حقول الذاكرة ,يظهر الفكر النوعي المرتبط بنوعية الحرية نفسها, وعلى سنن هذه الكيفية يتشكل الوعي الثقافي .
اللغة:
ما أن نشير إلى الثقافة الشفاهية إلاّ ويتبادر إلى أذهاننا صوت المنطوق ألشفاهي, ومباشرةً تأخذ حاسة السمع مكانها لالتقاط المتاح من التموجات الصوتية وإرسالها إلى مواقع اللغة في المخ , وبالجدل مع مكونات الذاكرة تظهر الصورة المناسبة للتطابق مابين الكلمة والدلالة وباكتمال الجملة يتأسس إدراك وفهم العبارة وعلى هذا الأساس يكون التداول والحوار ألشفاهي المباشر من غير وسيط غير الصوت وإيماءات الجسد , ففي الثقافة الشفاهية لا تكون الكلمات سوى أصوات , وليس هناك أي نص يُدرك بصرياً خالصاً, بل ليس هناك وعي بوجود هذا النص, ولهذا يلج الصوت بعمق إلى داخل شعور الكائنات البشرية؛هذا الصوت_ جرس الكلمة المنطوقة _ له تأثير مهم للغاية في الحياة النفسية, فالكلمة المنطوقة تنطلق في تكوينها الفيزيائي بصفتها صوتاً من الداخلية الإنسانية, وتظهر الكائنات البشرية لبعضها البعض بوصفها دخائل واعية بما هم أشخاص, ولذلك تشكل تلك الكلمات المتبادلة, هذه الكائنات في مجموعة ذات وشائج موحدة, فالأصوات تسجل البنيات الداخلية لأي شيء ينتجها ؛ وهكذا يكون الصوت تجميعي يُوحد العلاقات في صورة متبادلة في وحدة لهجة صوتية تتميز في بعض تفاصيلها عن الوحدات الأخرى المنتمية لنفس اللغة , وبالكشف عن دلالات الرموز يمكن واعتمادا على الوحدة اللغوية أن يحدث الفهم الذي يتيح مبدأ التداول , ومع ذلك تحتفظ الخبرة البيئية بخصوصية الفهم الكلي؛ مما يعني, أنه ومها كان الانفتاح في الثقافة الشفاهية فإن الذاكرة والتي هي المصدر الوحيد للتمحيص والفرز والموثوقية , لا يمكنها الخروج إلى أبعد من المشاركين في بناء الخبرات سواء من الماضي أو الحاضر, (فالمرء لا يعرف إلاّ ما يمكنه تذكره)ص92 أما إذا تحولت الكلمات من الأثير إلى معمل الكتابة, فإن الصوت يترك المجال للبصر ويظهر مبدأ المشابهة بين الكلمة والشيء , وبغياب مادة الشيء تصبح الكلمة هي الدالة أو العلامة المرئية والتي بقراءتها يحدث الفهم للذي يمتلك خلفيتها وبالربط العقلي المنطقي والتواصلي بين الكلمة وما تدل عليه بموجب الاستحواذ علي المرجعية, يصبح القاري مشاركاً في تأسيس النص وبالتالي داخل حقل الثقافة الكتابية .
تزخر الكتابية بأرشيف من " الكلمات " المنقوشة في نصوص وكتب ورموز وعلامات الخ..... وكل هذا يشكل الذاكرة الموضوعية التي تلتف حولها الذوات المشاركة في التأسيس؛ أما التقليد الشفاهية وللسلوك الصوتي التواصلي المباشر, فإنها لا تمتلك بقايا ترسبات من هذا النوع؛ فالشفاهية دائماً وأبداً تعتمد على الذاكرة واستعادة الصوت ؛ كما نجد أنه وبنفس هذه الوظيفة الصوتية, وبالرغم من صمت وسكونية الكلمات في الثقافة الكتابية , فإنها مضطرة بطريقة ما, مباشرة أو غير مباشرة إلى الارتباط بهذا العالم الصوتي -- الموطن الأصلي – للغة, كي تعطي معانيها, فقراءة النص تعني تحويله إلى صوت جهورياً كان أو في الخاطر , مقطعاً في القراءة البطيئة أو اختزالاً في القراءة السريعة . إضافة إلى ذلك, وإذا كان النبر الصوتي في الشفاهية يمثل وحدة التجميع الوجودي في الانفعالية المتشابه إلى درجة ما, فإن الكتابية ولافتقارها إلى تلك السياقات الوجودية, فإنها تهتم بالتركيب النحوي حتى تتمكن من نقل المعنى على البنية اللغوية ؛ ولهذا إفترعت الكتابية قواميس ومراجع لتجميع المعاني المختلفة واشتقاقاتها كما ترد في نصوص يمكن تحديد تواريخها, وهكذا تكون للكلمات طبقات من المعاني لم يعد كثير منها له أي صلة بالمعاني العادية الحاضرة, ذلك أن القواميس تعرض الاختلافات الدلالية؛ أما الشفاهية فليس لديها هذه المراجع , هناك فقط قليل من المتعارضات الدلالية , ففيها يتم التحكم في معنى كل كلمة من خلال " التصديق الدلالي المباشر" أي من خلال مواقف الحياة الواقعية التي تستخدم فيها الكلمة معتمدةً على ذاكرتها في الإرسال والاستقبال ؛ وبما أن الصوت والسمع بنيات حفظ وتكرار وتناغم داخل مركز الصوت نفسه, فإن الثقافة الشفاهية لا تتحمل أي فكرة جديدة مخالفة لما درجت عليه وتعودته, وبعكس ذلك , فإن الثقافة الكتابية وفي اعتمادها على الرؤيا البصرية وإعمال العقل في المقارنة المرجعية , فإنها دائماً ما تكون متخارجة ومنطلقة نحو الأفق المحيط بالنص والبحث عن الجديد , فهنا تجد الآخر, وباستعادة الصوت النصي يتشكل الحوار الحر غير المقيد بسلطات مركزية الصوت في الثقافة الشفاهية, بل وخارج مرجعية تلك الذاكرة المرتبطة بالنقل المتوارث وغير القابل للنقد والتمحيص؛ فذاكرة الشفاهية جامدة ساكنة اكتمل بناءها عند الأسلاف, وليس أمام اللاحق غير التكرار والإجترار, تلبية لقدسية هذه السلطة.

الذاكرة:
تختلف الذاكرة الشفاهية اختلافاً مهماً عن الذاكرة الكتابية. في الشفاهية يكون الجسد هو المصدر الأساسي في التعبير ؛ فقد لاحظ الانثروبلوجيون أن الإنشاد التقليدي في كل أنحاء العالم وفي كل مراحل الزمن يرتبط بنشاط اليد ؛ كما تتضمن معظم أوصاف شعراء الملاحم ألآت وترية وطبول, ثم هناك الإشارة باليد والتي كثيراً ما تكون معقدة التفاصيل ولها أنماطها الخاصة بها, مثلها مثل الأنشطة الجسدية الأخرى والتي غالباً ما نجدها في التأرجح إلى الأمام وإلى الخلف, أو الرقص؛ فقراءة " القرآن الكريم" بصوت مرتفع تصاحبها الانحناءات والتمايل وهناك في حلقات " الذكر" عنف الحركة الجسدية؛ وكل هذا الانفعال مرتبط بالكلمة وهي نابعة من الداخل ؛ وفي حالة السمع الاستقبالي يتحرك الجسد أيضاً متناغماً مع الصوت يجذبه المخزون المرتبط بمواقف الصوت المسموع.في هذا الانسجام يتوحد ذهن الجماعة فتصبح قوة متميزة بمفرداتها وتصوراتها الذهنية التي تشكل الحكاية التراثية . وعلى هذا التكوين تتأسس طرق الدفاع عن النفس والتي لا تخرج عن المكون الجسدي نفسه .
إن المكون الجسدي للذاكرة الشفاهية يُعد واحداً من أهم أسباب العنف الذي يصاحب التعبيرات في الثقافة الشفاهية, فمعظم الصراعات تبدأ بكلمة وسرعان ما يندفع " السبابة" ومن ثم تلحق به اليد وأخيراً يشكل الجسد جملة المواجهة, وفي الجانب الإيجابي تكون الإشارة إتفاق وموافقة , أما التثني والتمايل فهو انعكاس للنشوة ومتعة التواصل مع الذوات الأخرى, وفي بعض الأحيان نوع من الغنج, وفي هذا المنحى أثبت "مالينوفسكي" أن بين الشعوب الشفاهية , تصبح اللغة بشكل عام أسلوبا للفعل وليس مجرد علامة مقابلة للفكر؛ فلا يمكن أن يصدر صوت دونما استخدام للقوة. في داخل هذه الذاكرة لا مجال للتصنيف والتعديل فكل شي موروث ومعد للاستخدام , وفي معظمه لا يخرج عن أنماط الدفاع والهجوم وذلك من أجل التوازن مع الجماعة وما اختارته من علاقات مع الطبيعة وكيفية التأمل خارج محيط الواقعية .
الذاكرة الشفاهية ذاكرة تجسيدية, وهي تعمل بفعالية عندما يتصل الأمر بشخصيات ذات أعمال بارزة لا تُنسى ومعروفة للجميع؛ وربما يزيد هذا الأمر في الجهد الذهني , فتتولد شخصيات غير مألوفة, أي شخصيات بطولية خارقة؛ وهذه واحدةً من ركائز الإنتاج الأسطوري والخرافي النابع من نمط عبادة الموتى والإسقاطات الروحانية على الشيوخ والأولياء وكبار الزعماء؛ ومن الإيديولوجيين من يوظف هذا المكون لترسيخ سلطة العقائد القومية, وحتى لا يفلت الزمام يتم تكثيف التعليم التلقيني ومنع المقررات التي تؤكد حرية الاكتساب العلمي المتحرر من سلطة التلقين, فكل ما هو منقول من تلك الذاكرة غير قابل للنقد, وبهذا المنع المُحكم تتوقف حركة الوعي, وبالتكرار الثابت المستقر غير المختلف يكتمل إقصاء الوعي العقلاني ولا يبقى غير الجسد في رقصته المملة .
لا تظهر الثقافة الكتابية من عدم, فهي مثل الشفاهية إبداع بشري يتم اكتسابها من داخل الحقل ألشفاهي نفسه , غير أنها _ أي الكتابية_ تحاول الخروج إلى أبعد من التفاعل الذاتي , وفي ذات الوقت ترتبط بذلك الصوت ألشفاهي وعلى أساسه ترسم حروف الكتابة لتشكيل النص وبعد اللذة الذاتية يتم الإرسال إلى كافة الحقول المستخدمة لنفس اللغة, بل وعند ترجمته يصل إلى لغات أُخر. وبهذا الانطلاق تكون الثقافة الكتابية هي الأساس لمبادئ الانطلاق والتحرر الثقافي؛ مما يعني أن الذاكرة هنا صارت موضوعية لا تهم فئة معينة وليست قابعة في ذهن فردي وإنما عبارة عن جدل لخبرات متعددة ومتنوعة يتصارع فيها المنطق العقلي مع الشطحات الذهنية لإبداع ما يصلح فهماً للعموم البشري ؛ فكل فكرة أو معلومة أو حدث يخضع للتوثيق والنقد والتصنيف الموضوعي المبني علي الخبرة العامة والتي تحتوي في مكوناتها بذرة الثقافة الشفاهية ذاتها. ذلك أن في جدل النمطين تتشكل الثقافة الكلية؛ وعلى سنن هذا الجدل يتكون ما يمكن أن نصفه بالفكر , فهنا يكتمل التضامن ما بين العقل الكتابي وروح الجسد ألشفاهي , مما يعني , أن غياب أحدهما هو غياب الوعي الحر والذي على أساسه تظهر الرؤية الممتدة من مادية التجسيد إلى التجريد العقلاني المبدع .
الفكر:
طالما أن ليس هناك توثيق كتابي, فلا شي موجود خارج المفكر؛ ليس هناك نص يتيح لهذا المفكر إنتاج خط للتفكير, أو حتى إثبات ما إذا كان هو الذي فعل ذلك أو لم يفعله؛ ففي الخطاب ألشفاهي ليس ثمة شيء تستدره خارج هذا العقل المؤقت, ذلك أن المنطوق ألشفاهي يكون قد تلاشى بمجرد النطق به, وعليه لا يكون أمام العقل إلاّ أن يتحرك بشكل بطيء في استنتاجاته واستخراج مفهوم المسطح, وهو مشدود دائماّ إلى البؤرة التي سبق أن زودته بها التراكمات الثقافية بوسائل النقل التلقيني. ولهذا فإن الإطناب , أي تكرار ما قد قيل تواً , يجعل كلاً من المتكلم والسامع على الخط نفسه وبشكل مؤكد",ص101.
في هذا السكون المنغلق( تحتاج الثقافة الشفاهية إلى توظيف طاقة عظيمة في قول ما قد حصّلته من معرفة على مرّ الأجيال وفي إعادة قوله, وهذه الحاجة هي التي تؤسس الحالة العقلية التقليدية أو المحافظة جداً على نحوٍ يحُول منطقياً دون التجريب الذهني) ص103. فالفكر ألشفاهي يعتمد على الصيغ والعبارات الجاهزة والمستخدمة بمهارة عالية ,يتمثل ذلك في طريقة إنفاذ الوصايا وتطبيق القوانين, فهنا تكون " الأمثال" والحكم المأثورة هي الوسيط , إضافة إلى ذلك يحاول وسطاء الإصلاح إقحام العبرة من الماضي, وحتى وإن تخلل القول بعض التلفيق لا يعد ذلك خارج النص , فالمهم إحكام حلقة التقليد ووضع الحواجز أمام الحرية الكتابية التي لا تقف عند القول أو عبارات النص المكتوبة. فهي تقوم بالاستعادة الذهنية في مُحاولة للفهم الذاتي ومن ثم يكون صاحب هذه الثقافة الكتابية حراً في القبول أو الرفض؛ وبالطبع لا يُقبل هذا في التقليد ألشفاهي. فالحركة الذهنية هنا لا تكاد تخرج عن إطارها الجمعي , فهي دائماً في سير نمطي يقلد بعضه البعض, وما يأتي من الخارج فإنها _ الشفاهية _ تمتنع عنه في البداية ومع كثافة وجوده ترتخي التقليدية. وعندها يكون التعاطي في اضطراب ما بين الخبرة الذهنية الموروثة وما هو واقع آني. وفي هذه الأزمة التحولية تنشطر الشعارات ما بين القيد الصارم والحرية المرتبطة بقوانين تلك الصرامة ذاتها. ولأن السلوك التعليمي في أساسه في غاية الشفاهية التلقينية فإن السياج المحكم يزيد في عنف الهيمنة على كامل حقول الوعي. وبهذا الوضع يكون التواصل مع الثقافة الكتابية مجرد تواصل استهلاكي وفي غاية الحذر عند البعض وإلى حد الإفراط الذي ينسخ الشخصية الثقافية عند البعض الآخر. ولهذا التجاذب الانغلاقي بين القبول والرفض غير المبرر عقلياً, تتوقف حركة الإبداع الثقافي. وعلى إثر ذلك تنفد عناصر الاجترار للموروث وتضعف الذاكرة التقليدية لتظهر أُخرى غير منتمية لأي واقع متماسك وإنما ذاكرة فردية وقتية خالية من أي خبرة. فليس هناك ما يتطلب شحذاً للذهن من أجل إنتاج ما , إنها حالة استهلاكية تستحوذ على كل ما يقع أمامها, وهكذا يدخل الإنسان حقول ما قبل الثقافة نفسها. وفي هذه الحالة يكون من الطبيعي أن تصبح الثقافة الكتابية هي الوصي الشرعي على هذا الكائن الذي لا يملك إلاّ بعض من القيم الشفاهية المبعثرة, ومن أستطاع الإفلات من هذه الأزمة الشفاهية , ومن ما عثر عليه في الكتابية الأجنبية تظهر كتابات التراث في محاولة لإرجاع ما يُظن صالحاً لأن يكون سنداً دفاعياً لمواجهة هذه الوصايا الثقافية الوافدة؛ وفي مقابل هذه الجماعة تظهر فئة لتوظيف هذا الاكتشاف الأجنبي لنقد ما اعتمدته الجماعة التراثية الأولى. وهكذا تتحول أزمة الدائرة الشفاهية إلى الدوائر الأكاديمية التلقينية الصارمة ؛ وبتكثيف هذا النوع من الفكر يغيب الحاضر , وبالطبع لا معالم تشير إلى المستقبل. فهي كتابات تنتمي في معظمها إلى حقل الاستهلاك الثقافي. وهكذا, وبخروج الشفاهية عن أنماط الإبداع الفني تخرج الكتابية أيضاً عن صلابة المنطق المعرفي ونتيجة لذلك تتلاشى الموضوعية التداولية وبالتالي تسقط الكلية الثقافية شفاهية كانت أم كتابية داخل متاهات الأزمة. وهو ما نجده ظاهراً في إصداراتنا التراثية التي أصبحت حاجزاً أما أي إبداع فكري أو علمي. فهي كتابات لا زالت تبحث عن صوت الوجود لهذا التراث, لكن...... ولأنها داخل السياج والوصايا, فمعظم ما تم إصداره لم يكن أكثر من رموز بلا معنى.


الخاتمة:
ربما لم تكن الرؤية قد تحددت بصورة كاملة, ويرجع ذلك إلى عدم الوقوف بصورة مباشرة عند تعريف الثقافة وتوضيح ماهيتها والتي على ضوءها تشكلت هذه الثنائية - الشفاهية والكتابية -؛ إضافة إلى ذلك, كان التركيز على الشفاهية ولم تظهر الكتابية إلاّ في لحظة المقارنة والتي بواسطتها تتميز التفاعلات الشفاهية متمايزة مع سلوك المجتمع الحامل لها؛ ومع كل ذلك لم نبتعد عن أهم العناصر المكوّنة للثقافة في عمومها ؛ فاللغة وهي الأساس في انكشاف حقيقة الوجود البشري كانت حاضرة في الحراك الصوتي المترابط ما بين النمطين. وما بين الصوت الظاهر في الصخب ألشفاهي وذاك الخفي داخل حقول الخبرات التي تحملها الذاكرة وبنوعية الحرية الممارسة اجتماعيا وما يتجرد عنها تأملياً , يتشكل الإبداع ألشفاهي داخل حروف ورموز اللغة إلى درجة ذاك الصخب الأولي, مما يؤكد تساند النمطين في الإنتاج الكلي.
لم نشأ تحليل هذا التحول الإبداعي لأنه حتماً سيخرجنا عن هذه القراءة المحددة , فقد آثرنا هذه القراءة المجاورة لا للوقوف على كامل النظرية وإنما مدخل لكشف الواقع ألشفاهي المهيمن على السلوك المعرفي العام وأبعاد مركزية الشفاهية المهيمنة على المحيط الثقافي. وفي اعتقادي, ولهذه الشفاهية المنغلقة والمرتبطة بسلوك إنتاج النسب الأبوي الممتد في تحوله الإستراتيجي إلى مؤسسات الدولة ,وارتباطه بالتعالي النخبوي المتولِّد من التعليم التلقيني, ظهرت هذه الصراعات الموروثة من تلك الشفاهية القادمة من فترات ما قبل التركيب "التراثي" ولا زالت في إنتاج المزيد من الأزمات. ومهما كانت محاولات التوازن ,فإن نسبة النجاح لن تكون مناسبة للاستقرار طالما أن التعليم ألشفاهي التلقيني هو المهيمن, وطالما أن العقل داخل الحجر المعرفي , وطالما أن هناك ومن داخل هذه الأزمة الثقافية ,ينبعث من يظن نفسه أنه الوصي وما على الغير إلاّ الإتباع والتقليد . فمتى وكيف يكون التحرر......؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لماذا خصّ الرئيس السنغالي موريتانيا بأول زيارة خارجية له؟


.. الجزائر تقدم 15 مليون دولار مساهمة استثنائية للأونروا




.. تونس: كيف كان رد فعل الصحفي محمد بوغلاّب على الحكم بسجنه ؟


.. تونس: إفراج وشيك عن الموقوفين في قضية التآمر على أمن الدولة؟




.. ما هي العقوبات الأميركية المفروضة على إيران؟ وكيف يمكن فرض ا