الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


داوكنز يخسرُ في - رهان باسكال -

عادل عبدالله

2020 / 4 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


داوكنز يخسر في رهان باسكال

( ربّما كان باسكال يمزح عندما طرح موضوعَ الرهان، تماما كما أمزح أنا الآن في نقضه )
- داوكنز -
( و هل يهزأ هذا من الآخر؟ و من منهما يجب أن يهزأ ؟ و مع ذلك فإن ذاك لا يهزأ من هذا، بل يُشفق عليه...... إنه لفخرٌ للدين أن يكون أعداؤه رجالاً أغبياء بهذا المقدار، و إن مناوأتهم له، فضلا عن كونها ضئيلة الخطر، فهي تساعد على إثبات حقائقه )
- باسكال –

داوكنز مفنّداً رهان باسكال
بجهلٍ كاملٍ لطبيعة الظروف المعرفية و الواقعية التي عاشها عالمُ الرياضيات و الفيلسوف اللاهوتي الفرنسي "بليز باسكال" تلك التي أضطُرته الى وضع رهانه المحكم العجيب، و بمعزل كامل – متعمّد – عن سياق النص الذي ورد الرهانُ فيه، فضلاً عن قراءةٍ خاطئة لمضمونه، أدّتْ على نحو واضح الى تأويلٍ فاسد غايته النيل من صيغة الرهان الحقيقية، يعرضُ داوكنز في كتابه "وهم الإله" رهان باسكال وفقاً للطريقة التالية :
" بحسب عالم الرياضيات الفرنسي الكبير بليز باسكال، فإنه مهما قلّتْ الدلائل على وجود الله، فإنّ العقوبة التي تنتظر الاختيار الخاطئ هي أكبر . أحكمُ الطرق هي الإيمان بالله، لأنّك لو كنتَ مصيباً ستربح النعمة الكبرى، و لو كنتَ مخطئا فلن يكون هناك فرق، بينما إنْ لم تكن مؤمنا بالله و كنتَ مخطئا فأنت محكومٌ بلعنةٍ أبدية، و لو كنتِ مصيباً، فلن يكون هناك أيّ فرقٍ، و على ذلك فالقرار لا يحتاج الى ذكاء، عليك الإيمان بالله "
ربما يكون رهانُ باسكال قريباً من هذا المعنى "المجتزأ" قليلاً، غير أنّه وفق الصيغة العامة الكاملة التي ورد في سياقها، بعيدٌ بلا شكّ.
المهم أنّ عرضَهُ بهذه الطريقة المجتزأة المتعمّدة قد يسمح لأحدٍ بتقديم حججٍ مضادة له، كما تمنّى داوكنز ذلك ، لكن من دون أنْ يبلّغ نفسه ما تمناه . لذا سيشمل البحثُ هذا عرضاً نقدّياً لتصورات داوكنز عن رهان باسكال أولاً، ثم يشمل من بعد عرض النص الذي وضعه باسكال لرهانه بنفسه، متبوعاً بذكر السياق التاريخي لوضع الرهان، سبيلا للرد على داوكنز، ممهدين لذلك بالقول :
أولاً: يبدو لي على نحو مؤكّد أنّ الصيغة التي استحضرها داوكنز لرهان باسكال كانت منقولة على عجل من أحدِ المواقع الإلكترونية المتخصصة بنشر الإلحاد، أقول ذلك لا بالاستناد الى التشابه الكبير بين مضمون صيغة الرهان المعروضة من قبل داوكنز و صيَغِ عرض المواقع الإلكترونية لها حسب، بل لأنّ الحجج التي يسوقها داوكنز ضدّاً على الرهان، هي نفسها تلك التي تحتويها المواقع المتخصصة بنشر الإلحاد أيضا .
ثانياً: إنّ كمية و نوع الشتائم التي خصّ بها داوكنز "رهان باسكال" لا تكاد تساوي أيّ شيء يُذكر، بأزاء ذلك السيل العقلاني العظيم من الحجج الأدلة العقلية البارعة التي وجهها باسكال - خلال تقديمه للرهان – لجميع الملحدين في عصره و في العصور كلّها، و هي نوع حجج مذلّة مهينة ، لا فرار لهم منها أبداً و لا قدرة على دفع حججها الدامغة، الأمر الذي جعلهم موثقين بإحكام الى خيارين لا بدّ لهم من تبني أحدهما، أعني إمّا التصديق بحججه و التخلي عن إلحادهم، و إمّا الهروب منها و التنكّر لها بهذه الذريعة المفضوحة أو تلك الشتيمة العاجزة، لكن من دون أي سبب وجيه يمكن اعتباره دحضاً لحججه .
و لأنّ داوكنز ينتمي الى النوع الثاني من الملحدين المتشددين، فلم يتوانَ عن الدفاع عن إلحاده بالشتيمة و السخرية من الرهان، ربّما ردّأ منه على محاصرة باسكال له في المكان المذلّ المهين الذي عرض فيه رهانه على الملحدين .
ثالثا: أنّ داوكنز كما يبدو، لم يطلع أبداً على كتاب "الخواطر" لباسكال – الكتاب الذي وردت فقرة الرهان فيه - على الأخص أنّ رهان باسكال كان يوحي على الدوام بأنّ داوكنز هو أوّل المخاطبين بمضمونه، المعنيين على نحو دقيق بضرورة الاشتراك فيه، على الرغم من الفارق الزمني بينهما .
دعونا نعرض الآن لحجج داوكنز التي قدّمها ضدّاً على مضمون رهان باسكال، و كما يلي:
أولاُ: يقول داوكنز " الإيمان ليس شيئا تقرره كالسياسة و أنا لا استطيع بإرادتي على الأقل ."
ثانياً: إنّ رهان "باسكال، ليس أكثر من حجةٍ للتظاهر بالإيمان بالله و الأفضل للإله المزعوم أنْ لا يكون عالماً في الصدور و إلاّ لاستطاع كشف هذا التحايل "
ثالثاً: "ما هو السبب الحقيقي وراء أننّا نقبل فكرةَ أنّ الشيء الوحيد الذي يجب أن نفعله لإرضاء الله، هو الإيمان به؟ لماذا هذه الخصوصية للإيمان؟ ألا يجب أنْ يكفي الله الطيبةُ أو الكرم أو التواضع أو الصدق؟ .. ألا يحترم اللهُ برتراند راسل على شكّه الشجاع هذا أكثر من باسكال و رهانه الجبان؟ .. و بما أنّنا لا نعرف موقفَ الله فإننا برأي باسكال، لسنا بحاجة للمعرفة من أجل رهان رابح ؟ "
رابعا: " لنتذكر أنّه رهانٌ، و باسكال نفسه لم يدّعِ أنّ رهانه لا يحوي أكثر من إحتمالات طويلة، فهل تراهن على أنّ الله يفضّل إيمانا مزوّرا أو غير آمن على شيء صادق؟ "
خامسا: " لنفترض أنّ الإله الذي تقابله بعد الموت كان "بعْل" - و هو كبير الآله الكنعانية و الفينيقية – و لنفترض أنّ بعْلأً غيورٌ تماما كما قيل عن "يهوا" أ ليس من الأفضل لباسكال أن يراهن على عدم وجود إلهٍ – بدلاً من المراهنة على الإله الخطأ ؟
سادساً: "بالتأكيد أنّ العدد المطلق للآله و الإلهات، و الذي يمكن الرهان عليه يفسد منطق باسكال بأكمله "
سابعاً: "ربّما كان باسكال يمزح عندما طرح موضوعَ الرهان، تماما كما أمزح أنا الآن في نقضه "
ثامناً: "في النهاية هل من الممكن أنّ نحاجج بمضادات رهان باسكال؟ لنفترض بأننا آمنّا أن هناك احتمالا صغيرا لوجود الله، و على الرغم من ذلك يمكننا القول، بأنك يمكن أنْ تحيا حياةً أفضل لو راهنت على عدم وجوده فيما لو راهنت على وجوده، و الذي يعني ضياع وقت ثمين في عبادته و تقديم الأضاحي و القتال في سبيله و الموت لأجله، لن اتابع نقاش الموضوع هنا و لكني أطالب القارئ الكريم وضع هذا في ذهنه عندما نناقش العواقب الأليمة التي تترب على الإيمان و مراعاة التعاليم الدينية "
هذا هو مضمون النص الكامل الذي سوّغ لداوكنز رفض رهان باسكال و تفنيده و السخرية منه. و لأنّ نصّ الرهان و مضامينه الغنية لا تسمح على الإطلاق بالتعامل معها وفقاً لهذه الطريقة المشوّهة سبيلاً لدحضه من جهة، و لأنه رهانٌ محكم البناء و الحجّة لا يُمكن دحضه أبداً، ساشرع في عرضه وفقاً لتصور باسكال نفسه تارة، و بحسب فهم مجموعة من أساتذة الفلسفة و أعلامها من المفكرين تارة أخرى.
الحياة مع ألله و بدونه
من أجل فهمٍ كاملٍ صحيح لـ "رهان باسكال" لا بدّ لنا من التعرّف على قيمة الحياة الإنسانية من خلال موقفين حياتيين متناقضين، قد يتبنّى الإنسان أحداهما خياريا معرفيا و سلوكياً استنادأ الى إعتقاده بوجود الله مرةّ، أو إقراراً منه بعدم وجود مثل هذا المفهوم في حياتيه المعرفية و السلوكية مرةّ أخرى، لكن مع التأكيد أنّ الموقف الثالث المفترض بين الموقفين، أعني ما يتمثّل بالموقف الحيادي من هذه القضية، موقف ضعيف لا وجود له تارةً، أو أنه مندرجٌ تحت الموقف الثاني من الموقفين تارةً أخرى.
من هنا لا بدّ لنا من معرفة نوع علاقة البشر بالله أولاً، و عن نوع ذلك التأثير المباشر الكبير المترتّب على تبنّي الإنسان أحدَ الخيارين دون الآخر، و هذا ما سنشرع في تفصيله، انطلاقا من خلال عرضين للمسألة، هما تصوّر باسكال نفسه لهذه المسألة تارة، و تصور الفيلسوف الفرنسي " هنري كوهييه" تارة أخرى، لكن مع الإشارة الى أنّ التصوّر الثاني لـ " هنري كوهييه Henri Gouhier " مقامٌ مؤسسٌ على فهم باسكال للمسألة نفسها، انطلاقا من كون الفهم الثاني ورد خلال نقد كوهييه لرهان باسكال.
يقول هنري كوهييه Henri Gouhier – مؤرخ الفلسفة و استاذها الفرنسي - خلال مناقشته لرهان باسكال لتبرير مشروعية التساؤل عن وجود الله:
لا تمْثل قضيةُ السؤال عن (إمكان وجود الله) في حياتنا بوصفها قضيةً عابرةً يمكن للمرء أنْ يتجاوزها بسهولة متذرّعاً بهذا الفهم أو ذاك لطبيعتها التي تسوّغ له مثل هذا التجاوز. فأنْ نوجد، أ أحببنا أم كرهنا، هو أنْ نوجد مع الله أو نوجد من غير الله" )
مضيفا على نحو بالغ الوضوح : ( إنّ وجود الله هو كيفية من كيفيّات وجودنا. فإمّا أنّ وجودنا يصاحبه الله أو هو وجودٌ خالٍ من الله. ولذلك فالبحث في وجود الله هو بحث في كيفية من كيفيات وجودنا، أي أنّنا لا نبحث في موضوع أجنبي غريب عنّا، بل في موضوع من صميم وجودنا ومؤثر على حياتنا. )
فجملة باسكال ( أنت خائض في الميدان، تبيّن أنّ موضوع الله ليس مسألة نظرية غريبة عنّا وإنّما مسألة وجودية مرتبطة بحياتنا اليومية. لا يوجد عاقل على وجه الأرض لم يسمع بكائن اسمه الله. فهو مفروض على أذهاننا.)
و في معرض تحلـيـــــــله لرهان باسكال، يقول كوهييه :
(إنّ الإجابة عن سؤال: هل الله موجود فعلاّ؟ لا تخرج عن إمكانيتن، إمّا أن الله موجود أو أنّه غير موجود. فما هي الإمكانية الصحيحة؟ هل يقدر العقل أن يحسم في الأمر؟ يجيب باسكال " العقل لا يستطيع أنْ يجزم بشيء: فدوننا ودون ذلك فضاء غير متناه، و سببُ هذا العجز هو أنّ هناك هوة سحيقة بين الإنسان المتناهي والمحدود وبين الله ذي الطبيعة اللامحدودة واللامتناهية. وهذه الطبيعة تستحيل على الإدراك الإنساني. إن عنوان الشذرة 233 [ الشذرة التي ورد الرهان فيها ] هو "لامتناهي-لاشيء". والمقصود باللامتناهي هو الله والمقصود باللاشيء هو الإنسان. يقول باسكال "لكنّنا لا ندرك وجود الله ولا ماهيته لأنّه لاإمتداد له ولاحدود)
( لكن العقل وإن كان عاجزاً عن إدراك وجود الله وغير قادر على الخوض في القضايا الميتافيزقية كما بيّن ذلك كانط -1724-1804- لاحقاً، فإنّه لا يترك الإنسان ضائعا فهو يقترح عليه حلولا حتّى في الحالات التي تبدو فيها الحلول مستحيلة. فهو وإنْ لم يكن السبيل المباشر للحلّ أو الإجابة، فإنّه يوجّهنا إلى سبيل آخر يمكن أن يقودنا إلى الحلّ. فما هو السبيل الذي يقترحه علينا العقل؟ إنّه الرّهان (
في فقرة أخرى عنوانها (الرّهان كسبيل للإيمان) يقول كوهييه :
(إنّ العقلَ عاجزٌ على البرهنة على وجود الله، لكن يمكن أنْ نستنير به في ما يتوجّب علينا فعله. أيْ في البحث عن مصلحتنا. قلنا سابقا أن هناك إمكانيتن تجاه معضلة وجود الله: إمّا وجوده أو عدم وجوده. لا يبقى أمامنا إلاّ أن نعرف مع أيّة فرضيّة تكمن مصلحتنا. فإذا كان العقل غير قادرٍ على أن يعرف هل الله موجود أو غير موجود، فهو على الأقلّ يعرف أين تكمن مصلحة الفرد. فهل تكمن مصلحة الفرد في التسليم بأن الله موجود أمْ في التسليم بأنّ الله غير موجود؟)
و هكذا يصبح الرّهان ترجيحاً لفرضية ما:
(يسمّي باسكال ترجيح إحدى الفرضيتين: رهـانـا. فالمراهنة لصالح الدين معناه ترجيح فرضية وجود الله وانتظار ما يترتّب عن ذلك من نتائج، والمراهنة ضدّ الدين هي فرضية ترجيح إنعدام وجود الله مع ما يتبع ذلك من نتائج. فما هو الرّهان الجدير بالإتباع في نظر باسكال؟
ـ إذا سلّمنا بأن الله موجودٌ، وتبيّن أخيرا أنّه موجود فقد ربحنا كلّ شيء، ربحنا رضا الله ونعيم الجنّة...
ـ وإذا سلّمنا بأن الله موجود، وتبيّن أخيرا أنّه غير موجود لم نخسر شيئا.
ـ وإذا سلّمنا بأنّ الله غير موجود وتبيّن أنّه موجود خسرنا كلّ شيء وخُلّدنا في الجحيم.
ـ وإذا سلّمنا بأنّ الله غير موجود وتبيّن أنّه غير موجود، لم نخسر شيئا.
الرّهان الخطير هو في الحالة التي تؤدّي إلى العقاب وهي الحالة التي نرجّح فيها أن الله غير موجود ويظهر موجودا بعد ذلك. أمّا المراهنة على أنّ الله موجود فهي إمّا تؤدّي إلى الثواب أو لا تؤدّي إلى أيّ شيء. والحالة هذه ليس أمام العقل إلاّ اختيار المراهنة على أنّ الله موجود.)
يقول باسكال (إذا ربحتَ فقد ربحتَ كلّ شيء، وإذا خسرت فإنّك لا تخسر شيئا. فراهن إذن على أنّه موجود ولا تتردّد" فالأجدر بالإنسان إذا أنْ يراهن لصالح الدين لكون هذا الرّهان هو الأنفع وجوديا ومصيريا علاوة على أنّه مقبولٌ من حيث المنطق) .
خلاَصة القول إنْ ظهر أنّ الله غير موجود فهناك مساواة في الرّبح والخسارة بين المتراهنين، لكن إذا ثبت أنّ الله موجود، فالمراهن لصالح الدين هو الرّابح الوحيد. واضحٌ أن باسكال استفاد من معرفته بحساب الاحتمالات في وضع الرّهان.
غير أنّ هذا الرهان يتضمن بُعداً آخر يمكنه تسميته: الرّهان هو ترجيح لمصلحة غير مضمونة.
و هكذا نفهم من خلال ما تقدم أنّ الرّهان ليس حجّة على وجود الله. يقول Voltaire فولتير 1694- 1778 في كتابه "رسائل فلسفية" الرّسالة عدد 27 " رهان باسكال ليس حجّة. فالمصلحة التي ألقاها في إعتقاد شيء ما، ليست حجّةً على وجود ذلك الشيء". ما أصدر فولتير هذا الحكم إلاّ لأنّه استشفّ أنّ الرّهان لم يأت لإثبات وجود الله وإنّما جاء للتعبير عن موقف مسبّق وتبريره والدّفاع عنه. لم يضع باسكال الرهان ليقنع نفسه به ولكن ليقنع الآخرين بموقفه هو. وتبعا لذلك يمكن القول إنّ الرّهان لا يتنزّل في سجلّ التفكير الفلسفي وإنّما في سجلّ الخطاب الديني الدعوي. فباسكال وظّف مصلحة الفرد للدعوة إلى الدين. يريد أن يجرّ الملحدين والمتشكّكين إلى الدين بالتركيز على ما يبحثون عنه وهو المصلحة.
لكن هل الرهان ضروري؟ و هل أنّ إقترانه بالمصلحة والشكّ وبالتالي عدم اتخاذه كحجّة على وجود الله يقلّل من قيمته ويجعله غير ضروري؟
يجيب كوهييه: ( لو سألنا باسكال عن ضرورة هذا الرّهان لأجاب كالتالي: إن الرّهان ضروري ومن يرى غير ذلك عليه، إمّا أنْ يجيب عن سؤال هل الله موجود أم لا؟ أو عليه أن يلغي مشروعية هذا السؤال ويخرجه من أذهاننا. وهكذا نتوقّف عن السّؤال والإجابة معا، وعندئذ لن نتحدّث مستقبلا عن مشروعية أو عدم مشروعية. و معنى هذا:
أوّلاً، إنّ الإجابة بشكل يقيني عن السؤال، هل الله موجود أم لا؟ غير ممكنة، وثانيا هذا السؤال تفطّن إليه الذهن ولم يعد بالإمكان إنكاره أو نسيانه أو التخلّص منه. لا نستطيع أن نتصرّف في السؤال ولكن نستطيع أن نتصرّف في الإجابة حسب إمكانياتنا. والرّهان إمكانية من الإمكانيات. وانعدام المراهنة لا يلغي وجود الله إنْ كان موجودا. فإن كان الله موجودا فهو موجود، عرفنا ذلك أم لم نعرفه فأي جدوى في أنْ نسلك سلوك النعامة وندسّ رؤوسنا في الرّمل، وهل بإلغاء محاولة الإجابة المتمثّلة في الرّهان نلغي الفرضيّتين المحتملتين حول وجود الله؟ أليست المحاولة أفضل من الهروب؟ يقول باسكال" المراهنة واجبة وليست إختيارية لأنّك خائض في الميدان". وقد نعارض الإثبات، لكن لا نستطيع أن نعارض مشروع الفحص قبل الفحص. وإذا شرعنا في الفحص فقد نكون قد أعلنا مساندتنا لمشروعية القضيّة.)
هذا هو واحدٌ من أفضل الشروح التي قرأتها للمضمون الكامل لرهان باسكال، وقد وضعه مؤرخ الفلسفة الفرنسية بروح حيادية عالية على الرغم من أنّه سيذهب الى تفنيده من خلال مجموعة من الاعتراضات سناتي على ذكرها و تفنيدها بدورنا .
مقاربة كولينز لرهان باسكال
يقول المفكر جيمس كولينز في كتابه " الله في الفلسفة الحديثة "
يحتوي كتاب ( الخواطر ) لباسكال على مجموعة من الشذرات قُصد منها الدفاع عن المسيحية وكان معظمها ( موجّها الى المتحررين الفرنسيين الذين كان باسكال على صلةٍ وثيقة بهم دائما ... و لقد كان الأفراد الذين وجّه اليهم الدفاع مفكرين أجرارا كصديقيه ميريه و ميتون و أعضاء أذكياء في المجتمع الباريسي، و لكنهم لا يعبؤون بالدين ) .
كان باسكال يعتقد أنّ ( الأدلّة الميتافيزيقية على وجود الله بعيدة عن نطاق العقل الإنساني بحيث لا يستطيع ادراكها ) و كان باسكال (يدمج مسألتي معرفة ألله و معرفته بطريقة مستقيمة أخلاقيا و دينية)
جدير بالذكر ان باسكال لم يضع بنفسه هذا العنوان ( رهان باسكال ) لفكرته إذْ أنّ ما وضعه من عنوان لها هو ( العدم - اللّا متناهي ) .
و لحجّة الرهان – يقول كولينز – ( تاريخ طويل ... غير أنّ ما يجعل مساهمة باسكال فريدة، هو اجتماعُ أربعةِ عوامل يحدّدها سياق الدفاع عن ألدين جمهور ألنظارة و العمل ألتمهيدي والعرض الدقيق للحجة و استخدام نظرية رياضية في حساب الاحتمال ) .
أمّا توقيت المناقشة ( فهو حاسم، لأنّ قوّة الحجة بأكملها تتوقف على اقتراحها عند نقطة معينة من تسلسل الأفكار... و لا يتصدى باسكال للموضوع إلاّ بعد أن يبيّن لأصحابه ألمتحررين أنّ الإنسان خارقة من خوارق ألكون و أنّه اتحادٌ غير مفهوم و لكنه حقيقي للامتناهي و العدم، للعظمة و ألوضاعة و لم يكن باسكال حريصا على اثبات وجود الله بقدر حرصه على إثبات معقولية التصرف على أساس افتراض وجوده، و على الإشارة الى أفضل طريقة عملية يفتح بها الإنسان عقله و قلبه للاعتقاد الفعلي في الله ... و يلاحظ باسكال مبتدئا من افتراضات صديقه ألمسبقة أننا نعرف وجود الأشياء المتناهية الممتدة و طبيعتها لأننا نحن متناهون و ممتدون، و نحن نعلم أنْ هناك لا متناهيا رياضيا دون أنْ نعرف طبيعته، لأنّه يشترك معنا في الامتداد و لا يشترك في ألحدود و من هذا الخط الفكري ينتهي باسكال الى النتيجة التالية: نحن لا نعرف وجود الله و لا طبيعته، لأنه لا يتّصف بالامتداد و ليس له حدّ... ولو أنّ هناك إلهاً، فإنه غير قابل للفهم بصورة لا متناهية، إذْ لمّا لم تكن له أجزاء أو حدود، فليست له علاقة بنا، و من ثمّ فإننا عاجزون عن معرفته أو معرفة ما إذا كان موجوداً أم لا، و إذا كانت المسألة على هذا النحو فمن يجرؤ على حلّ المشكلة ؟ لسنا نحن الذين لا تربطنا به أيةُ علاقة )
و يفحص باسكال الظروف التي تحيط بالرهان ( فالعقل البشري لا يستطيع أنْ يجيب بطريقة برْهانية على السؤال، و الفرد الإنساني قد أبحر فعلاً في خضم الوجود و عليه أنْ يفسّر حياته تفسيرا ما، و كلّ من الرهان على السعادة الزمنية و عدد احتمالات خسارة الحياة الأبدية متناهٍ، و الربح نفسه عبارة عن امتلاك لا متناهٍ للحياة الأبدية )

مقاربة وليم جيمس :
في مقدمة يسوقها الفيلسوف الأميركي ( وليم جيمس ) باتجاه خوض رهان باسكال لجهة ربحه العظيم في كتابه ( إرادة الاعتقاد ) يقول وليم جيمس: ( إن العلم يتحدثُ عن الأشياء الموجودة، و تتحدث الأخلاق عن أنّ بعض الأشياء أفضل من الأشياء الأخرى، أمّا الدين فيتحدث عن أمرين أساسين فيقول الدينُ أولاً : إنّ أفضل الأشياء هو أكثرها كمالاً و بقاءً، و الكمال الأبدي وهذه قضية لا يمكن التحقق منها تجريبياً على الاطلاق. و يقول لنا ثانياً : إنً من الأفضل لنا في هذه الحياة أنْ نؤمن بقضية الدين الأولى و نعدها صادقة )
يضيف وليم جيمس ( لا شكّ أنّ الدين يقدّم نفسه لنا أولاً على أنّه خيارٌ حاسم، فنحن سنجني من وراء إيماننا خيراً كثيرا و نفقد بعدم إيماننا خيراً حيويا أكيداً، و يقدّم الدين نفسه على أنه ثانياً، خيارٌ ملزم، طالما كان ذلك الخير متساوقا معه – أي لا يمكن الأخذ بأحدهما، خياري الدين و الخير دون الآخر – يمكننا بالطبع الهروب من هذه المشكلة و ذلك بأن نبقى في حالة من الشكّ، و من الانتظار لدليل واضح، و لكن على الرغم من أننا نتجنب الخطأ في حال أنْ يكون الدين ليس بحقّ، إلاّ أن تلك الحالة تفقدنا ذلك الخير الحيوي، كما لو كنّا قد حكمنا بالأمر و قررنا عدم الاعتقاد، و يكون مَثلنا في هذه الحالة مثلَ رجلٍ تردد في خطبة امرأة لأنه لم يكن متأكدا مطلقا أنّ لديه دليلاً مقنعاً على أنها ستكون إمرأة مثالية إذا ما تزوّجها. إنّ رجلا كهذا لا يحجم عن الزواج بإمراة اخرى لنفس السبب الذي جعله يبعد نفسه عن الزواج بتلك المرأة التي من المحتمل أنْ تكون زوجة مثالية )
في حقيقة الأمر أنّ هذا الرهان الحياتي لا يقلّ أهمية عن الرهان المعلن أيْ الرهان على الله، بل هو الرهان الحقيقي كما أعتقد، تضيع فرصتي في الحياة، والحياة بأجمعها هي الفرصة .
لكن هل كان الرهان متضمنا معنى الشك، كما يتّخذ أغلب المعترضين عليه هذا المعنى ذريعة للوقوف ضدّاً عليه ؟ يجيب وليم جيمس: ( الشكّ ليس تجنّب الاختيار، بل هو اختيارٌ مصحوبٌ بنوعٍ معين خاص من المخاطرة بفقدان الحقيقة، أفضل من التمسك بخطا محتمل، و هذه مخاطرة ايجابية لا تقلّ عن مخاطرة المؤمن نفسه . إنّ الباحث عن الحقيقة، يتمسّك بالمخاطرة ضدّ التسليم بالفرض الديني، مثلما أنّ المؤمن يتمسّك بالفروض الدينية على حساب ارتكاب المخاطرة )
و معنى هذا بحسب وليم جيمس ( فالتأكيد على أنْ نشكّ بالفروض الدينية الى أنْ نجد دليلا كافيا ليثبت صحتها هو بمثابة التأكيد على أنّ الاستجابة لمخاوفنا من خطأ الفروض الدينية هو أفضل و أكثر حكمةً مما نعلّقه من آمالٍ على صحتها . فليست المسألة إذن مسألة تضادّ بين العقل و مجمل الميول، و إنما هي وقوف ُ العقل مع أحد الميول و انصياع الأخير لقانونه . فأيّ دليل يثبت أنّ أحد ميلين أكثر حكمة؟ إنّه غشٌ مقابل غش، فهل هناك من دليلٍ على أنّ الغش الصادر عن الأول أسوأ بكثير من الغش الصادر عن ألخوف إنني لا أرى دليلا لهذا دون ذاك، كما انني ببساطة أرفض الخضوع لأوامر العلماء في أنْ أقلّد نوعَ خياراتهم و بخاصة في حال أنْ يكون رهاني الخاص غاية في الأهمية، بحيث يعطيني الحقّ في أنْ أختار نوع مخاطرتي . فإذا كان الدين حقاً، و الدليل على صدقه ما زال غير كافٍ بعد، فأنا لا أرغب أنْ أضيع فرصتي الأخيرة في الحياة، في أنْ أكون في الجانب المنتصر مهما حاولنا إطفاء طبيعتي المتوهجة التي تشعرني بأن لدي ما أعمله بهذا ألخصوص و فرصتي تلك إنّما تعتمد بطبيعة الحال على إرادتي في أنْ أدخل في مغامرة كما لو أنّ من المحتمل أنْ تكون حاجتي العاطفية في أنْ أنظر الى العالم نظرة دينية، حاجة ملهمة و حقّ )
( فإذا كانت الفروض الدينية حقاً بكلّ أجزائها، بما في ذلك الجزء الذي ذكرنا، فإن العقلانية الخالصة ستكون برفضها اتجاه ميولنا، ضرباً من اللامعقول، و حينئذ سيكون تدخّل طبيعتنا الوجدانية أمراً مطلوبا منطقياً . لذلك فإنني لا أرى البتة سبيلا لقبول الشك في جدوى البحث عن الحقيقة أو أوافق طواعية على إبقاء إرادتي بعيدة عن البتّ في هذا الموضوع، كلّا، لا أستطيع أنْ أفعلَ ذلك، لهذا السبب الواضح و هو : إنّ أية قاعدة فكرية تمنعني منعاً باتاً من الاعتراف ببعض أنواع الحقيقة، في حين أن هذا البعض من أنواع الحقيقة يوجد في الواقع بالفعل، ستكون هذه القاعدة غير معقولة )
في تعليق لـ ( سولمون ) على مقاربة وليم جيمس لفهم رهان باسكال، يقول: ( هذا هو الدليل العملي للإعتقاد بوجود الله، الدليل الذي هيمن على الفلسفة منذ كانط حتى القرن الحالي، الدليل الذي يجد أصوله في حجة موجزة، إنّما ذكية للفيلسوف الفرنسي بليز باسكال ) مضيفاً : ( لقد عرض باسكال دليلا على وجود الله أسماه ( الرهان ) و يعني حرفياً الرهان على الله، إن هذا الدليل ليس برهاناً على وجود الله بأيّ معنى، فهو يتضمن في الواقع، القول: إننا لا نستطيع أنْ نعرف فيما إذا كان الله موجودا أم لا، و بالتالي، يقول باسكال :
إذا كان الله موجودا و نؤمن بوجوده فإننا مقبلون على نعيم لا متناهٍ .
إذا كان الله موجوداً و نحن لا نؤمن بوجوده، فإننا سنكون حقاً قي عذاب أبدي .
أما إذا كان الله غير موجود، فمن الأفضل أن نؤمن بوجوده لأنّ من طبيعة الإيمان أنْ يجدد الحياة فينا. و في دفاعه عن قرار الإيمان هذا يسأل باسكال أيُّ ضرر سيصيبك و انت تتخذ هذا الطريق – أي الإيمان بالله – لا غيره؟ ستكون مؤمنا شريفا متواضعا شكورا شهما صديقا مخلصا و صدوقا )
و ( الآن لو نظرنا الى شخض يدخل هذا الرهان لأتضح لنا أيّ خيار يتوجب عليه اختياره إنّ المخاطرة بالعذاب الأبدي من شأنها أنْ تقصي الوعد بلذائذ آثمة قليلة، و الوعد بثواب أبدي جدير بالمخاطرة الى حدّ لا يضاهيه إمكان أنْ نكون مخطئين فيها، واضعين في إعتبارنا أنّ ما نجنيه منها حتى في هذه الحياة، و الخلاصة هي: يجب علينا لدواعٍ عملية الإيمان بوجود الله )
إن هذه الأدلة بمجملها – عند كانط و جيمس و باسكال، تقوم على إعتقاد في غاية الأهمية، هو: إنّ الله عادل، و يؤكد هؤلاء الفلاسفة، استناداً الى هذا الاعتقاد، على أنّ الإيمان بوجود الله أمرٌ معقول، حتى و إنْ لم يكن من الممكن أنْ نتثبت – بدليل عقلي – أنّ الله موجود، فإذا كان الاعتقاد بوجود الله مسألة إيمانٍ، فإن هذا الإيمان يمكن أنْ يُؤكد و يُبرر على أنّه إعتقاد عقلاني، على أساس أنّه إيمانٌ و ليس معرفة فقط . على أنّ ذلك لا يعني أنّه إيمان أعمى، لا عقلاني أو إيمان كيفي يتخطى الدليل العقلي، لهذا فإن التأكيد على أنّ الاعتقاد بوجود الله مسألة إيمان، لا يعني تجاوزاً لإهمية الفلسفة و التفكير العقلي ) .
الرهان على وجود الله أم على الحياة؟
ثمة ملاحظتان لم يشر لهما احدٌ من الفلاسفة الثلاثة – كانط و جيمس و باسكال – أو حتى من قبل سولمون نفسه، على الرغم من أهميتهما القصوى كونهما تتعلقان بصلب موضوع رهان باسكال، مفاد الأولى منهما:
حين نقول بأنّ طبيعة هذا الدليل على وجود الله هي طبيعة ( عمليّة ) تماما، كما كان دليل كانط من قبل عمليّا أيضا، فإنّ هذا المعنى لا يتعلّق بعدم إمكانية العقل على إثبات وجود الله، و نتيجة لهذا العجز العقلي يتعين علينا اللجوء الى الإيمان لإثبات هذا المطلب من خلاله حصرا – كما فعل كانط و باسكال – إنّما معناه أيضاً – أنّ في عجز العقل غاية ما، أو طريق يريد إحالتنا الى الإيمان لنعرف الله من خلاله، بعبارة أخرى، إنّ عجز العقل عن معرفة الله، هو في حقيقته إشارة معرفية غنية للقول الى أنّ الإيمان هو الطريق الوحيد لمعرفة الله، و بهذا المعنى يكون العقل قد أسهم إسهامة كبرى تمثلت بإعلان عجزه كمقدمة تؤدي الى نوع آخر من المعرفة المتعلقة بالله حصرا، هي الإيمان .
قدر تعلق الأمر برهان باسكال حصراً – و هذه هي الملاحظة الثانية - إنّ رهان باسكال لم يكن في حقيقته رهاناّ (على الله) كما فهم سولمون ذلك، لأنّ الرهان (على الله) يحيلنا وفق صيغته الى نوع رهانٍ ميتافيزيقي قد يوحي بحاجته الى إقرار عقلي عاجز عن ذلك، لذا أرى أنّ القول الصحيح هو، إنّ هذا الرهان في حقيقته ليس رهانا (على الله ) بل هو رهان ( على الحياة ) أعني حياة الانسان بسبب من علاقته الوثيقة بأخلاق الإنسان أولاً، و من جريانه على صيغة مفادها: أنّ نوع الحياة هنا هو الذي يقرر نوع الحياة هناك في الآخرة، أعني مع الله، إنْ كنّا مؤمنين به، أو الى سواه إنْ لم نكن مؤمنين. مع التذكير أنّ هاتين الحالتين معا مرتبطتان بفرضية وجود الله تعالى، أمّا في حال عدم وجوده، فإن الحياتين معاً سيؤولان الى موتٍ لا حياة بعده. لكل ذلك يمكن القول، بوضع رهان باسكال في صيغةٍ حياتية محض تتحرك وفق فرضية وجود الله او عدم وجوده و كالتالي :
إذا كان الله موجودا – مفترضين ذلك فقط – و كنتُ مؤمنا به، فإني سأحيا حياة طيبة مؤقتة هنا و ستمتد بي الى نوع حياة آخرة أبدية سعيدة، و معنى هذا – بعبارة أخرى – أنني أراهن على امتداد حياتي الى حياة أخرى .
أمّا في حالة عدم وجود الله و كنت مؤمنا به أيضا، فإنني سأعيش حياة طيبة مطمئنة أخترتها بإرادتي و ستنتهي بي الى الموت الأبدي، تماما كما ستنتهي حياة من لم يكن مؤمنا بالله، بهذا الموت الأبدي نفسه. الفرق الوحيد هو انني أعيش الآن حياتي كما أردتها لكن مع أملٍ كبيرٍ بوجود حياة أخرى ( قد ) تكون موجودة، أمّا منْ لا يؤمن بالله، فليس لديه مثل هذا الأمل الذي أسعى اليه، بل هناك فرصة بنسبة 50 % بان يخلد في النار و هي الفرصة التي لا تكون من نصيبي بكل تأكيد .

باسكال معرّفا برهانه
(حتميّةُ الرهان) هو عنوان القسم الثالث من كتاب ( الخواطر ) لباسكال، و هو القسم الذي وردتْ فيه فقرةُ الرهان تحت عنوانٍ فرعي هو ( اللامتناهي و العدم )، الأمر الذي يعني – بالنسبة لي – أنّ هذا الفصل بأجمعه، أيْ ابتداءً من عنوانه حتى نهايته – هو فصلُ رهان باسكال و ليس الفقرة القصيرة التي ورد الرهان فيها بصيغته المباشرة التي تداولتها كتبُ النقد الفلسفي و شروحاتها .
ذلك لأنّ عنوان الفصل ( حتمية الرهان ) يؤلّف في حقيقته واحداً من أهم مفاصل فهم الرهان بأجمعه، فضلا عن القول المؤكد، أنّ جميع الشذرات التي وردت في الفصل هذا و التي سبقت في الترتيب تلك الفقرة التي عرضت الرهان على نحو مباشر، لم تكن في حقيقتها سوى مقدمات ضرورية جداً لجعل صيغة الرهان كاملة أولاً، و لإسقاط جميع الذرائع الممكنة للإفلات منه و تجنّب الخوض فيه من بعد، ثمّ لجعله رهانا لا بدّ للمؤمن من الفوز فيه استنادا الى مجموعة الحجج الفلسفية التي قدّمها باسكال قبل طرحه بصيغته الكاملة، الأمر الذي يدعونا بالتأكيد الى الخوض في مضامين المقدمات هذه، ضماناً لفهم أكمل لطبيعة الرهان .
مقدماتُ رهان باسكال كثيرة و متنوعة، غير أنّ أهمها جميعا هي المقدمة التي تجعل من الرهان (أمرا حتميّا ) لا مناص لأحدٍ و لا حجة له بعدم الدخول فيه، لا لأيّ سبب آخر مضاف يمكن لنا أن نفهم من خلاله اننا مكرهون على الدخول في لحظة الرهان، بل لسببٍ قاهرٍ و مفاجئ و حقيقي على نحو مطلق، مفاده :
أننا موجودون أصلا في لحظة الرهان هذه، لكن دون أنْ ننتبه لذلك !!
الأمر الذي يعني هنا، أنّ باسكال يدعونا الى التنبّه الى هذه اللحظة التي نوجد خلالها في الرهان، و أنّه يحثّنا على وعيها و أدراكها سبيلا لاتخاذ طبيعة القرار من خلال وعينا لها، أيْ الوعي الذي نكون معه و به مختارين لقرارنا مدركين لنوعه بملء إرادتنا .
حتمية الرهان إذن، لا تشير الى زمن ما ( يسبق ) الرهان و يدعو أحدنا الى ضرورة الخوض فيه، إنما هي بالأحرى إعلانٌ عن بدئه منذ زمن طويل، و دعوةٌ الى الانتقال من حالة خوضه و نحن غافلون عنه الى حالة خوضه و نحن مدركون له.
لهذا الرهان كما قلت، مقدمات عديدة و حجج و براهين تلتقي كلّها على نقطة مفادها ضرورة خوضه مدركين أولاً، لأننا موجودون في ميدانه، و الى اختيار أحد سبيليه استنادا الى وعينا طبيعة الرهان نفسه، من بعد .
لكن ما هي المقدمات هذه، و كيف تقنعنا أننا موجودن حقا في لحظة الرهان منذ زمن طويل؟ يقول باسكال : ( إنها رسالة تدعو الى البحث عن الله ) . أما طرائق البحث عن الله، فهما طريقان يمرّان عبر العقل و الدين، من حيث أنّ الله ( في تدبيره ينظّم الأمور برفق فيضعُ الدين في العقل عن طريق التعليل، وفي القلب عن طريق النعمة ) .
و لأنّ الناس في كلّ زمان و مكان منقسمون في شأن قبول الدين أو رفضه، يقول باسكال ( في الناس احتقار للدين و كراهية، و خوفٌ من أن يكون صحيحا، و لتلافي ذلك يجب الشروع في البيان: أنّ الدين لا يناقض العقل البتة و أنّه جديرٌ بالاحترام، لأنه يعد بالخير الحقيقي ) .
و من الواضح القول، إنّ مهمة البيان تلك هي مهمة تقع على عاتق المؤمنين، لا مهمة الملحدين الذين سنتعرف بعد قليل على موقفهم من الدين و المتدينين، أولئك الذين يحتقرون الدين و يكرهونه و يخافون منه، لذا يخاطبهم باسكال ( يجب أولاً أن يُرثى لحال الملحدين لأنّ في حالهم من الشقاء ما فيه الكفاية، و لا تجوز إهانتهم إلاّ إذا افادهم ذلك، و لكنه يؤذيهم )
ثمة ملاحظة مهمة هنا، مفادها: أنّ وجود مضمون الرهان بهذه الصيغة أو تلك في أديان قديمة – سماوية أو وثنية أو بدائية – ليعني بلا شكّ إيمان تلك الشعوب بحياة أخرى و إله عادل سيثيبهم بحياة أخرى جزاء ايمانهم به، الأمر الذي يعني بدوره فساد حجة داوكنز و بطلانها بافتراضه أنْ يكون الإله شريرا يكافئ الملحدين .
اما أولئك الذين يجاهرون بالإلحاد و يتباهون به، فيقول لهم باسكال: ( يجب أن يُرثى لحال الكفرة الباحثين، ألا يكفيهم ما هم عليه من شقاءٍ ؟ ) و المقصود هنا بالباحثين، هم أولئك الذين يبحثون عن مبرر عقلي لإلحادهم، و لأنهم لن يجدوا دليلا يثبتُ لهم أنّ الله غير موجود، فإن باسكال يذكّرهم بأنّ ( الشقاء الذي هم فيه، كافٍ عليهم فلمَ يبحثون عن دليلٍ آخر على شقائهم، وهي عملية شاقة أيضا )
أمّا المستهزئون من الدين فيقول لهم: ( و هل يهزأ هذا من الآخر ؟ و من منهما يجب أن يهزأ ؟ و مع ذلك فإن ذاك لا يهزأ من هذا، بل يُشفق عليه ) .
إن باسكال يدعو الملحدين الى البحث في الدين ليعلموا ( على الأقل ما هي الديانة التي يحاربونها قبل أنْ يحاربوها، فلو كانت هذه الديانة تزعم أنها ترى الله رؤية واضحة و أنه منكشفٌ لها دونما حجاب، لكفى أنْ يحاربوها بقولهم إننا لا نرى في الكون شيئاً يظهره بمثل هذا اليقين، و لكن بما أنها تقول بالعكس، أنّ البشر في الظلمات و في بُعدٍ عن الله، و أنه دقّ عن مداركهم ... و أنّه مع ذلك ستر تلك الدلائل حتى لا يراه إلاّ من يبحث عنه بصفاء قلب ) .
إنّه البحث عن الله إذن، و هي دعوة للملحد و المؤمن على حدّ سواء، أمّا الذين يتقاعسون عن مهمة البحث هذه، فإن غيابها في ذواتهم له أثرُهُ، يقول باسكال: ( فما كان الأمر هنا متعلّقا بمصلحة سطحية تعني غريبا من الناس، بل هو متعلقٌ بنا نحن و بذاتنا الكلّية، فخلود النفس مسألة من الأهمية لنا و من العلاقة العميقة بنا بحيث يجب أنْ نكون قد فقدنا كل شعور كي لا نكترث بماهيتها . و يجب أنْ تكون أعمالنا و أفكارنا مختلفة الإتجاه بحسب ما نكون مؤمنين أو غير مؤمنين بخيرات أبدية، حتّى ليستحيل علينا أنْ نسلك مسلكا عن تعقّل و تبصّر ما لم نهتدِ اليه على وضح هذه النقطة التي يجب أنْ تكون غرضنا الأخير . إنّ مصلحتنا الأولى أنْ نتلمّس الاستنارة من هذا الموضوع الذي يتعلق به سلوكنا جميعا، و إني من أجل ذلك أجد في من يعوزهم اليقين فرقاً عظيماً بين الذين يبذلون كلّ جهودهم في تحرّيه و بين الذين يعيشون دونما سعي اليه و لا تفكير فيه ) .
و هذا معناه أنّ ثمة أثراً حياتيا بالغَا و فرقا سلوكيا ظاهرا بين الباحثين عن الله و الخلود، و بين من ليسوا كذلك . يضيف باسكال: ( إنّ هذا الإهمال في قضيةٍ تتعلق بهم أنفسهم و بأبديتهم و بكلّيتهم، لمما يهيّج فيّ السخط أكثر مما يهيّج فيّ الرفض، إنّه لإهمال يدهشني و يهولني، و هو عندي لموحشٌ مخيف، لا أقول هذا عن غير تقوى روحية، بل أفهم بالعكس، إنّ هذا الشعور يجب أنْ ينشأ فينا بمقتضى مبدأ من مبادئ المصلحة البشرية و المصلحة الذاتية ) .
يعود باسكال لنقد الحياة داعياً الى ضرورة البحث فيها ( ليس على النفس أنْ تكون فائقة السمو لتدرك أنْ ليس في الأرض مسرّةٌ حقيقية ثابتة، و أنّ جميع ملذاتنا إنْ هي إلاّ أباطيل و أنّ آلامنا لا نهاية لها، و أخيرا أنّ الموت الذي يتهددنا في كلّ ثانية يضعنا حتما بعد سنوات قلائل أمام الضرورة المرعبة التي تقضي بأن نكون الى الآباد متلاشين و تعساء )
( لا شيئ يضاهي ذلك في حقيقته و رهبته، فلنتدرّع البطولة ما شئنا، إنها النهاية التي تنتظر أجمل حياةٍ في العالم، فلنتبصرن في هذا و لنقل، أثمة مفرٌ من الجزم بأنْ لا خير في هذه الحياة إلاّ على رجاء حياة أخرى لا نكون سعداء إلاّ بمقدار ما نقترب منها، وإنه كما أنّ الذين أيقنوا بالأبدية كلّ اليقين يُمسون و لا شقاء، فإن الذين ما نفذ اليهم نورٌ من أنوارها يصبحون و لا نعيم ) .
لكن هل كان باسكال ( شاكّاً ) في أمر الآخرة بحسب ما يقول بعضُ نقّاد رهانه – و داوكنز بينهم - ؟ لنقرا هذا النص لباسكل ففيه ما يكفي لنفي الشك عنه: ( لاشكّ إذن في أنّ التخبط في الشك شرّ كبير، بيد أنّ البحث هو أيسرُ ما يُفرض على المتشككين، و المتشكك القاعد عن البحث تعسٌ و جائر في وقتٍ معا . فإذا كان على حالته تلك، مطمئنا راضياً و أعلن ذلك و تباهى به، و إذا كان يجعل من تلك الحال موضوعَ سروره و مباهاته، فإني لا أجد تعبيراً أصفُ به مخلوقا على هذا الجانب من العَتَه... أيُّ موضوع للمباهاة في أنْ يرى نفسه في الظلمات الكثيفة، و كيف يجوز للرجل العاقل أنْ يتعلل بمثل هذا التعليل ؟ ) .
و في تفريقه بين الشكّ و الجهل، يقول باسكال : ( لا أدري من قذفني الى العالم، و ما هو العالم، و لا من أنا ؟ جميع هذه الأشياء مجهولي المخيف، لا أدري ما هو جسدي، و ما هي حواسي و نفسي و لا ما هو هذا الجزء مني، الجزء الذي يعقل ما أقول، الذي يتأمل كلّ شيء و يتأمل ذاته فلا يعرف من أمره و من أمر غيره شيئا .. أرى رحائب الكون المخيفة التي تحتضنني و أراني لاصقا بزاوية من هذا الامتداد الفسيح فما أعرف سبباً لوجودي في هذا المكان دون ذاك، أو سبباً لأنْ يكون هذا الأجل القصير من الحياة قد خُصص لي في هذه النقطة لا في نقطة أخرى من الأزل السابق و من الأبد اللاحق، لا أرى من كل جانب إلاّ النهايات تشتمل عليّ كذرة و كظلٍ يستمر لحظة و لا يفنى . كل ما أدري أني لا محالة مائتٌ، ولكن أكثر ما أجهله إنمّا هو ذلك الموت عينه الذي لا أستطيع تلافيه ) .
من الواضح القول، أنّ أسئلة باسكال في نصه لا يمكن حملها، لا على معنى الشك و لا الجهل، و لا اللا أدرية أيضا، إذْ أنّ قراءة عميقة للنص تسفر عن القول، بأن تلك الإسئلة كلّها هي عبارة عن حقائق تطرح بهيئة مقدمات لا بدّ من أن تؤدي بنا الى معرفة ما، هي معرفة السبب في كل هذا الجهل المحيط بنا، الجهل الذي يمثل أمامنا بوصفه واقع حال الوضع الإنساني، لا خلال حياته فقط، بل بما تنتهي به تلك الحياة أيضا، الأمر الذي يعني أنّ ثمة قصديةً في الجهل تشير الى معرفة ما من بعده، إنه نوع من الإعتراف و الشهادة بغربة الإنسان و عدم انتمائه الحقيقي لهذه الحياة التي لا يكاد يعرف أي شيء حقيقي ثابت يعبّر عن جوهرها، هذا الجوهر الذي نمتلك تصورا ما وحيدا عنه وفّرته الأديان لنا، مفاده : أن ثمة حياة أخرى حقيقية ثابتة و سعيدة يهنأ من آمن بها بعد أن يمضي حياته معتقدا بصحة هذا التصور الديني .
هذا هو التصور الذي يسعى باسكال الى عقد الرهان عليه، يقول باسكال في سؤالٍ موجّه للملحد و المؤمن على حدّ سواء: ( و إذا كنتُ لا أعرفُ منشئي، كذلك لستُ أعرف مصيري، و كل ما أعلم هو أنني بخروجي من هذا العالم سأقع الى الأبد، إمّا في العدم و إمّا في قبضة إله ساخط، دون أن أعلم أيُ المصيرين سيكون قسمتي الأبدية، هذه هي حالي الملأى بالضعف و الارتياب ... فاستخلصُ من كل هذا أنه يجب عليّ أن أقضي كل ايامي دون ان افكر في البحث عمّا سيحدث بي، و قد اهتدي الى بعض النور الذي يفرّج شكوكي، و لكني لا أريد أن اتكلّف ذلك و لا أن أخطو للسعي اليه خطوة واحدة، و إنني إذْ أضمرُ الاحتقار لمن يعنون بهذا، أريد أنْ أذهب دون ما إحتراس و لا خشية لأقتحم هذا الحادث الجلل، و أُساق مستسلما الى الموت و أنا في غير ريبة من الأبد و من مصيري ) .
في نص آخر، يقول باسكال لأولئك الملحدين المتشددين: ( إنه لفخرٌ للدين أن يكون له أعداؤه رجالا أغبياء بهذا المقدار، و إن مناوأتهم له، فضلا عن كونها ضئيلة الخطر، فهي تساعد على إثبات حقائقه ) .
إنها أسئلة كبرى هذه التي تُعرض علينا، و لابدّ لنا من البحث عن إجابة لها، يقول باسكال: ( ليس ما هو أعظم شأنا للانسان من شأن نفسه، و لا أرهب له من الأبد، فوجود بشر لا يأبهون للهلاك و الخطر و الشقاء الأبدي ليس بالأمر الطبيعي... لا بدّ أن يكون في طبيعة الإنسان اختلال غريب، يتباهى هو بوجوده على هذه الحال التي يصعب التصديق أن يطيقها انسان ) .
( و في الواقع سلْهم أن يجادلوك في عواطفهم و في الأسباب التي تجعلهم في شكّ من الدين، يجيبوك بأمورٍ واهيةٍ سافلة الى حدّ أنهم يجعلوك على يقين من عكس ما يزعمون و هذا ما دفع أحدَ الناس الى ان يقول لهم الصواب: إذا استمررتم على هذا النحو من الكلام، فإنكم تردّوني الى الهدى . و لقد كان على حقّ، إذْ من ذا الذي لا يكرّه ان تكون له أميال يشاركه فيها أناس محتقرون الى هذا الحد ... و ليس أدلّ على السخافة المتناهية من أن يجهل المرء مقدار تعاسته بدون الله ) .
أمّا عن العلاقة الضرورية المطلقة بين الله و الإنسان من حيث وحدة موضوع الإهتمام بينهما، يقول باسكال: ( أمّا الذين يعيشون دون أنْ يعرفوه و يبحثوا عنه فهم يرون أنهم غير جديرين بأن يهتموا بأنفسهم فهل يكونون جديرين باهتمام الغير ) .
أمّا لماذا كل هذا البحث و هذا الرهان؟ يجيب باسكال: ( إن من الثابت أنّ أمد هذه الحياة إنْ هو إلاّ لحظة، و أنّ حالة الموت سرمدية أيّا كان نوعها، و أنّ جميع أعمالنا و أفكارنا و الحالة هذه يجب أنْ تكون مختلفة الإتجاه بحسب ماهية هذه الأبدية، بحيث يستحيل أن نسلكَ مسلكا عن تعقّل و تبصّر ما لمْ تهتدِ اليه على وضْح هذه النقطة التي يجب ان تكون غرضنا الأخير ) .
يعود باسكال لنقد الشك فيقول: ( إنّه لشكٌ رهيب العاقبة، أنهم تجاه خطر أبدية من الشقاء، و هم مع ذلك كأن المسألة لا تستحق العناء ... و هكذا لا يدرون أ حقيقة هو الأمر أم ضلال، أ واهيةٌ الحجج أم قويّة، إنها نصب أعينهم و هم يرفضون التطلّع اليها ) .
مضيفاً ( إنّ الراحة في تلك الجهالة لأمرٌ عظيمُ الغرابة، و الذين يصرفون العمر فيها يجب أن نشعرهم بمبلغ شذوذها و بلادتها إذ نمثّلها لهم حتى نفحمهم بمرآى ما هم عليه من جنون .. أنْ يشعر الإنسان بصغائر الأمور، و أنْ لا يشعر بكبائرها، ذلك دليل على اختلال غريب ) .
و هنا يضرب باسكال مثالين رائعين لحال أولئك الذين وسمهم بالجهل من أجل ايضاح الصورة لهم: ( فلنتمثل عدداً من الناس في السلاسل، مقضيّا عليهم بالموت جميعا، يُنحر بعضهم على مرآى بعضهم الآخر، المتأخرون منهم يرون حالهم في حال أشباههم السابقين، ينظر بعضهم الى البعض الآخر بألمٍ و دون ما رجاء و ينتظرون، تلك صورة حال البشرية ) .
أما مثاله الآخر، و هو أقرب الى منطق و صيغة الرهان: ( رجلٌ في سجن، لا يعرف هل صدر الحكم عليه، و ما هي إلاّ ساعة حتّى يعرف ذلك، فإذا كانت هذه الساعة كافية للعمل على إبطال الحُكم، لو عرف إنه صدر، فإنه لأمر مضاد للطبيعة أن يصرف هذه الساعة في لعب الورق، عوضا عن أنْ يصرفها في الاستعلام عن صدور الحُكم ... إنه لأمر هائل أن نشعر بزوال كل ما نملك ) .
ثم يطلق باسكال هذه الصرخة المدوّية الموجعة: ( لا يقوم بيننا و بين الجحيم أو السماء، إلاّ الحياة و هي أوهى ما في العالم ) .
و لذا فإن مهمتنا في الحياة هي ( كل ما يهم الحياة هو أن يُعرف أخالدة النفس أم غير خالدة ؟ )
في فقرة أخرى يخاطب الملحدين بمضمونها: ( يجب أنْ يقول الملحدون أشياء تامة الوضوح، و الحال أنه ليس في تمام الوضوح أبدا، أن تكون النفس مادّية ) .
يقول باسكال، نقلا عن " لابرويار " : إني ( لأفرض على الذين يناهضون المذهب و القواعد الكبرى ان تكون معرفتهم أوسع من معرفة الآخرين، و أن تكون لديهم الأسباب الواضحة و الحجج القاطعة التي تحمل الإقتاع ) عملاً بمضمون هذا النص يتوجّه باسكال الى الملحدين بالسؤال: ( الملحدون ما حججهم على استحالة البعث ؟ أيّهما أصعب الولادة أم البعث؟ أ كينونة ما لم يكن قطّ، أم استمرار كينونة ما قد كان ؟ هل مجيئ الكائن أصعب من عودته كائنا ؟ العادة تجعل أحدهما سهلا و عدمها يجعل الآخر مستحيلا ... الملحدون الذين يعلنون أنهم يتبعون العقل، يجب أن تتوافر لهم قوة فيه عجيبة، فما عساهم قائلين ؟ يقولون : ألا نرى البهائم تحيا و تموت كالبشر ؟ .. فإذا لم أرَ ما يدلّني على ألوهية، أنكرتها، و إذا رأيتُ في كل مكان دلائل على خالق، فقد أرتحت في الإيمان بسلام، و لكن الذي أراه هو أكثر من أن استطيع معه الإنكار، و أقل من أنْ أستطيع معه التيقّن ) .
هكذا و بعد هذه المقدمات كلّها يصلُ باسكال الى لحظة الرهان الكبير، حيث في فقرة عنوانها: ( لا نهائي، لا شيء ) في إشارة الى الله في ( اللانهائي ) و الى الإنسان في ( لا شيء ) ، يقول باسكال في رهانه الصريح :
- أنفسنا ملقاة في الجسد حيثُ تجد العدد و الوقت و المقاييس، تفكّر في ذلك و تسمّه طبيعةً و ضرورة، وليس في وسعها أن تصدّق غيره .
- المنتهي يتلاشى أمام اللانهاية و يصبح عدماً محضاً، كذلك عقلنا تجاه الله، و عدلنا أمام العدل الإلهي .
- نعرف أنّ ثمة لا نهاية و نجهل ماهيتها، و بما أننا نعرف خطأً القول أنّ للأعداد نهاية، فمن الصحيح إذن وجود عدد لا نهائي، ولكننا لا نعرف ما هو .. و على هذا فبالإمكان أنْ نعرف أنّ ثمة إلهاً دون أنْ نعرف ما هو ... نحن ندرك إذن وجود المنتهي و ماهيته لأننا مثله نهايةً و امتداداً . و نحن ندرك وجود اللانهاية و نجهل ماهيتها لأنّ لها امتداداً مثلنا و ليس لها حدود مثلنا، و لكننا لا ندرك وجود الله و لا ماهيته، لأنه لا امتداد له و لا حدود . .
و معنى هذا و بأزاء وضعنا من الله في حالة كهذه :
( إذا كان ثمة إله، فإنه في بُعد عن المدارك لا نهاية له، لأنّه إذا كان لا أجزاء له و لا حدود ، فلا مقايسة لنا به أبداً .. فنحن عاجزون إذن عن إدراك ماهيته و وجوده، وعلى هذا فمَن ذا الذي يجرؤ على محاولة لهذه القضية ؟ ليس نحن الذين لا مقايسة لنا به .
فالنبحث إذن في هذه النقطة، و لنقل :
1 – ( الله إمّا أن يكون موجودا و إمّا لا يكون ... و لكن إلى أية جهة نميل؟ العقل لا يستطيع أنْ يجزم بشيء، فدوننا و دون ذلك فضاءٌ غير متناه ٍ )
2- ( في أقصى هذه المسافة اللاّمتناهية تُلعبُ لعبةٌ لا ندري ما نتيجتها، و نهاية اللعبة هذه، إذْ تشير الى موت الكائن، تشير في الوقت نفسه، الى موت سرمدي أو الى حياة سرمدية ) .
3- ( علامَ تراهن ؟ إنك بحسب العقل لا تستطيع أنْ تدافع عن كليهما . فلا تتهمنَ بالضلال الذين قد اختاروا، لأنك لا تعرف مِن اختيارهم شيئا . )
و هنا يطرح باسكال إجابة مفترضة، من قائلٍ، له وجهةُ نظرٍ أخرى مفادها :
4- ( لا، و لكني لائمهم ليس لأنّهم اختاروا هذا، بل لمجرد أنهم اختاروا، لأنّه و إنْ يكن الذي راهن على هذا في خطأ الذي راهن على ذاك، فكلاهما مخطئ، و الصواب في عدم المراهنة ) فيجيبه باسكال :
5- ( نعم، و لكن المراهنة واجبةٌ و ليست إختيارية، لأنك خائضٌ في الميدان، فأي الأمرين تتخير؟ و بما أنّ الاختيار محتوم، فلنرَ الأمر الذي يعنيك أقلّ من الآخر )
6- ( لك أنْ تخسر شيئين : الحقيقة و الخير، [ إن كنتَ ملحدأً ] إنّ عقلك لا يؤذيه أنّ اختيار هذا أكثر من ذاك، مادام الاختيار محتوما . هذه نقطة فرغنا منها .)
7- ( و لكن سعادتك ؟ فلنوازن بين الربح و الخسران، مراهنين أنّ الله موجود، و لنعتبر هذين الواقعين :
أ : إذا ربحتَ، فقد ربحتَ كلّ شيء .
ب- إذا خسرتَ، فإنك لا تخسر شيئا .
فراهن إذن على أنه موجود و لا تتردد )
8- مرة أخرى يطرح باسكال سؤالا مفترضا من قبل أحدٍ ما على نفسه : ( ما أعجب هذا الكلام، و لكن قد أكون مجازفا في الرهان؟ ) يجيب باسكال عن السؤال المفترض .
9- ( لعمري، بما أنّ حظّ الربح يعادل حظ الخسران، إذا لم يكن لك أنْ تربح إلاّ حياتين مقابل حياة واحدة، فبوسعك أنْ تراهن، و لكن إذا كان لك أنْ تربح الحياة ثلاثا فيجب أنْ تقامر . و إنه لمن الغباوة إذا كنتَ مجبرا على اللعب، ألاّ تحاط بحياتك لتربح منها ثلاثا في لعبة يتعادل فيها حظ الربح و الخسارة)
و هكذا يمضي باسكال في تفصيل احتمالات رهانه بدقة رياضية بارعة، رأينا ايجازها على النحو التالي :
و الله غير موجود و الله موجود
- نفقد التقوى و إنْ كان من المحتمل - ثواب أبدي إذا كنّا نؤمن بالله .
أنْ نكون أفضل الناس .
- لا ثواب و لا عقاب . عقاب أبدي إذا كنّا لا نؤمن بالله .

باسكال مُسقِطعاً ذرائع داوكنز
ما تبقّى لنا من رهان باسكال مجموعة من الملاحظات المهمة، يمكن عدّها و النظر اليها على أنها بعض من أساليب دفاع باسكال عن رهانه ضدّ أولئك المتبجّحين بهذا العذر أو ذاك، سبيلاً لرفضه، وهي كالتالي :
الملاحظة الأولى: حين أراد باسكال أنْ يسقط ذرائع الممتنعين عن خوض الرهان كلّها، أفترض أنّ أحدها هو القول: بأن حياة المؤمن شاقةٌ، لا سعادة فيها و لا مُتع حياتية، فضلا عن كونها تفترض التزامات قاسية على من يختارها، فيجيب باسكال مفنّداً هذا الزعم : ( و أيّ ضرر يصيبك من ذلك؟ إنك ستصبح أمينا، صالحا، وديعا، وفيّا، بارّا، و صديقا صدوقا حقيقيا . في الواقع أنه لن تكون لك اللذّات النتنة، و المجد و النعيم، و لكن ألا يكون لك غيرها؟ أقول لك، إنّه سيصيبك من ذلك مربح في هذه الحياة و أنك في كل خطوة تخطوها تجد من اليقين في الربح و من العدم في كل ما تخاطر به، ما تعترف معه في النهاية بأنك راهنتَ على أمرٍ أكيد غير متناه لم تعطِ بمقابله شيئ )
الملاحظة الثانية: هي ما يخص من يتذرّع بعدم خوض الرهان، استنادا الى عدم وجود يقين ما في الربح، حيث يقول باسكال له: ( لو كان ينبغي أنْ لا نعمل شيئا إلاّ في سبيل المحُقّق، لما وجب أنْ نعمل شيئا في سبيل الدين، لأنّ الدين غير محقق . و لكننا كم نعمل في سبيل غير المحقق، كالأسفار في البحار و المعارك؟ أقول إذن أنه لا ينبغي أن نعمل شيئا البتة، لأنه ما من شيء محقّق، و أنّ في الدين من المحقق ما يفوق تحققنا من أنْ نرى النهار غداً، لأنّه ليس في المحقق أنْ نرى الغد، و لكن من الممكن حقا أن لا نراه . لا يصح مثلُ هذا القول في الدين . ليس من المحقق أنْ يكون . و لكن من يجرؤ على القول إنّه من الممكن حقاً أنْ لا يكون ؟) .
الملاحظة الثالثة: مفرّقا بين أنماط عيش الحياة في العالم وفقا لافتراضين مختلفين، هما ( إذا كان بإمكاننا البقاء فيه أبداً ) أو ( إذا كان من الثابت أنْ لا نبقى فيه طويلا ) يقول باسكال: ( من غير المحقق أن نبقى فيه ساعة واحدة، إنّ هذا الافتراض الأخير، هو افتراضنا ) .
الملاحظة الرابعة: على سبيل حثّ الناس على خوض الرهان و هم مدركون لطبيعته، يطرح باسكال مجموعة الافكار الذكية هذه :
أولاً: ( من هو أكثر تخوّفاً من جهنم، أ ذلك الذي يجهلُ وجودها، بينما هو موقنٌ بالهلاك الأبدي – هذا إذا كانت جهنم موجودة – أم ذلك الذي يوقن بوجودها بعض اليقين بينما هو آملٌ أنْ يخلص إذا كانت موجودة ؟ ) . ذلك لأن اليقين من وجودها قد يسبب خلاصه منها .
ثانياً: إنّ خشيتي من أنْ أخطئ، ثمّ أجدُ أنّ الدين حقيقي، لتفوق خشيتي من أنْ أخطئ باعتقادي انه حقّ ) .
ثالثا: عن نوع ملذّات الحياة مع الإيمان بالله، إنّ لها سعادتها التي لم يجرّبها الملحد، لسبب وحيد هو: أنّ الحصول على نوع سعادة المؤمن رهينٌ بأن يحيا المرء نوعها بالفعل، يقول باسكال ( و لكن في وسعكم أنْ تهجروا الملذات و تختبروا حقيقة ما أقول ) .
الآن و بعد هذا التفصيل كلّه، دعوني أذكّركم بالفقرة الأولى من الفصل هذا، أعني تحديدا بمضمون رفض داوكنز لرهان باسكال من خلال الذرائع التي استخدمها لهذا الغرض، متسائلاً معكم: أ يمكنُ لمتعلّمٍ عاقلٍ قرأ رهان باسكال وفق السياق الذي عرضته عليكم، أنْ ينظر الى تلك الذرائع التي تقدّم بها داوكنز بوصفها أسبابا مقنعة لرفض الرهان و السخرية منه؟
يبدو لي أن العقل الملحد وحده، و هو نوعُ عقلٍ أشار باسكال بدقّة متناهية الى نوع الحقائق التي يؤمن بها، فضلاً عن إشارته الى نوع تعامله مع الله و مع نفسه و الآخرين على حدّ سواء، من خلال قناعات خاصة لا دليل عقلي و لا تجريبي عليها، هو العقل الوحيد الذي يرفض ما يعرض عليه من حقائق مقابلةٍ لاعتقاده، لا لسبب مقنعٍ أبدأً، بل لسبب غريب، ربّما أجد في قول باسكال التعبير الأفضل عنه (ليس ما هو أعظم شأنا للانسان من شأن نفسه، و لا أرهب له من الأبد، فوجود بشر لا يأبهون للهلاك و الخطر و الشقاء الأبدي ليس بالأمر الطبيعي... لا بدّ أن يكون في طبيعة الإنسان اختلال غريب، يتباهى هو بوجوده على هذه الحال التي يصعب التصديق أن يطيقها انسان )



الهوامش
- داوكنز: وهم الإله، ص 106 .
- داوكنز: وهم الإله، ص 106 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 107 .
- المصدر نفسه، ص 108 .
- ينظر: شبكة الملحدين العرب، رهان باسكال http://www.il7ad.org/vb/showthread.php?p=48554
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.

- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه.
-- المصدر نفسه.
- جيمس كولنيز : الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة مصطفى كامل، ص458.
- – المصدر نفسه 462.
- المصدر نفسه.
- – المصدر نفسه ، ص 462 .
- المصدر نفسه، ص 468.
- المصدر نفسه، ص 470 .
- – المصدر نفسه، ص 471 .
- وليم جيمس : إرادة الاعتقاد، و النص ضمن كتاب ( الدين من منظور فلسفي، تاليف روبرت. س. سولمزن، ترجمة د . حسون السراي، ص 96 .
المصدر نفسه، ص 96-97 .-
- المصدر نفسه، ص 97.
- المصدر نفسه، ص 97 – 98 .
- المصدر نفسه، ص 99 .
- المصدر نفسه، ص 100 .
- المصدر نفسه.
- المصدر نفسه، ص 101.
- بليز باسكال: الخواطر، ترجمة أدوار البستناني، ص 67 .
- المصدر نفسه، ص 67 .
- المصدر نفسه، ص 67 .
- المصدر نفسه، ص 68 .
- المصدر نفسه، ص 68 .
- المصدر نفسه، ص 68 .
المصدر نفسه، ص 68 . - 4
- المصدر نفسه، ص 69 .
- المصدر نفسه، ص 70 .
- المصدر نغسه، ص 70 .
- المصدر نفسه، ص 70 .
- المصدر نفسه، ص 70 .
- المصدر نفسه، ص 71
- المصدر نفسه، ص 71 .
- المصدر نفسه، ص 71 .
- المصدر نفسه، ص 72 .
- المصدر نفسه، ص 73 .
- المصدر نفسه، ص 74 .
- المصدر نفسه، ص ص 74- 75 .
- المصدر نفسه، ص 75 .
- المصدر نفسه، ص 76 .
- المصدر نفسه، ص 76 .
- المصدر نفسه، ص 76 .
- المصدر نفسه، ص 78 .
- المصدر نفسه، ص 78 .
- المصدر نفسه، ص 78 .
- المصدر نفسه، ص 80 .
- ينظر، المصدر نفسه، ص . ص 81- 85 .
- المصدر نفسه، ص 86 .
- المصدر نفسه، ص 87 .
- المصدر نفسه، ص 87 .
- المصدر نفسه، ص 88 .
- المصدر نفسه، ص 88 .
- المصدر نفسه، ص 88 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح