الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


«الإرهاب الإسلامي» السلفي وتحطيم العدل والاعتدال

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 4 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


إذا كانت المفارقة التاريخية للحنبلية في العصر الحديث تقوم في استثارتها، من خلال الوهابية، رصيد التحدي الأول للنفس، فان فضيلتها هذه لم تكن سوى الصيغة العرضية لمحاولتها إعادة ترسيخ قيم «الإسلام الأول»، أي الإسلام المتحرر من قيم الثقافة وإبداعها المتنوع. وهي مفارقة كانت تحتوي في أعماقها على تناقض حاد بين مظاهر الدعوة العملية للتمسك بالأصول (القرآن والسنة) ورفض «البدع». بمعنى الإبقاء على حالة السيادة المطلقة لإسلام العبادات. الأمر الذي كان يحوي في أعماقه على طاقة الإثارة القوية لقيمة النصوص وتقديسها العملي. مع ما يترتب عليه من احتقار وتكفير لحرية العقل والاجتهاد العقلاني. من هنا انغلاقها السياسي في الجزيرة (المملكة السعودية) وإعادة إنتاجها خارجها.
وليس اعتباطا أن تكون معظم الحركات الأصولية الإسلامية والمتعصبة منها والإرهابية هي مجرد نماذج متنوعة للحنبلية (الوهابية). وهي ظاهرة يمكن تحسسها الملموس من خلال رؤية الارتباط العلني والمستتر بين الحركات الأصولية المتطرفة والأنظمة التقليدية. فقد كان تاريخ السلفيات المتطرفة وما زال في اغلبه على وئام سياسي مع القوى الملكية التي تقدم نفسها حامية للدين والدنيا. كما انه ليس اعتباطا أن تظهر اعنف واشد الحركات الإرهابية الإسلامية في البلدان الملكية التقليدية كالسعودية والأردنية والمغربية، أو على الأقل اغلب قادتها العمليين («الجهاديين») المشهورين. ففي كليهما تسود وحدة القيم المشتركة عن «الوحدة» و«الصراط المستقيم» ومحاربة الحرية الفردية والاجتماعية والسياسية والدفاع «عن القيم الإسلامية»، أي كل ما يمثل تقاليد الاستبداد والثقافة الأصولية. وفي هذا أيضا يكمن سر الالتقاء التاريخي بين «الأنظمة التيوقراطية» و«الأنظمة العلمانية» في دعم السلفيات أو محاربتها.
فقد كانت هذه الممارسة المتناقضة ظاهريا للتيوقراطية الإسلامية والعلمانية القومية ذات طبيعة واحدة من حيث وظيفتها. وذلك لأن هدفها الحقيقي كان يرمي إلى تذليل كل منافس «أصولي» لها. وليس اعتباطا أن يصل الصراع بينهما إلى حد الاقتتال العنيف حينا والائتلاف التام حينا آخر، أو أن تجري تحولات راديكالية المظهر كما نراه على سبيل المثال في ظاهرة تحول جميع الدكتاتوريات «العلمانية» إلى حليف لعتاة القوى الأصولية. بحيث نرى السادات يتحول إلى «الرئيس المؤمن»، والنميري إلى مطبق الشريعة الإسلامية، وصدام إلى قائد «الصحوة الإيمانية»، والقذافي إلى «مفكر الإسلام الأخضر». أو أن تتحول العائلات المالكة إلى «قائدة الإصلاح الديمقراطي» و«النظام الشرعي».
إن اضمحلال وتلاشي الفرق والخلاف بين «الأنظمة العلمانية» و«الأنظمة التيوقراطية»، ومن ثم تلاشي الخلاف الجوهري بين فكرة التيوقراطية والعلمانية في «النخب السياسية» العربية، يعبر أساسا عن واقع استفحال القيم التقليدية واندماجها «الطبيعي» في منظومة الاستبداد التي وجدت في التوتاليتارية الدينية والدنيوية ملاذها الأخير. وهي توتاليتارية جعلت من الإرهاب الشامل للسلطة وسحق المجتمع المدني وفكرة الشرعية المرتع الفعلي للأصوليات الجديدة وإرهابها «المقدس». إذ لم يكن هناك من مقدس للاستبداد السلطوي غير السلطة. من هنا تسابقها مع السلفيات الإسلامية المعاصرة في الدفاع عن «المقدس». ومن ثم إعادة إنتاج الحنبلية الجديدة التي تجعل من الإرهاب حربها المقدسة الجديدة ضد كل بديل يهدف إلى بناء الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي السياسي والمجتمع المدني والثقافة العقلانية.
إن هذا التضافر التاريخي بين مكونات ومقومات متضادة في الفكر والممارسة السياسية يشير إلى عمق الخلل البنيوي في طبيعة الدولة والنظام السياسي والثقافة. وهو خلل يتناغم مع خلل الأوزان الداخلية في كل شيء. وبالمحصلة هو تعبير عن انحطاط فعلي شامل. وفي ظل ظروف كهذه يصبح الإرهاب ثمرة حلوة كما كانت الحرية هي الثمرة الحلوة لصعود القوى الاجتماعية الحية والفكرة التنويرية والعقل الحر. ذلك يعني، إن تحول الإرهاب إلى «عقيدة مقدسة» هو بحد ذاته مؤشر على نوعية الهبوط الشامل في الوعي النظري والعملي، أي في الفكر والأخلاق. وهو هبوط يشير بدوره إلى طبيعة الأزمة البنيوية التي يعاني منها المجتمع والدولة والثقافة. وفي الحصيلة ليست هذه الأزمة سوى الصيغة الأكثر تجريدا للانحطاط الثقافي.
فالانحطاط الثقافي هو الحاضنة الفعلية للتطرف والغلو. والقضية هنا ليست فقط في أنه يمد الوعي السطحي بكل الصيغ والرموز السهلة للهضم السريع للعوام، بل ولما فيه من «طاقة» على شحذ أوهام الحثالة الاجتماعية وأنصاف المتعلمين بروح العنف والتخريب. وفي هذا يكمن سر القدرة الفائقة والاستعداد الأكبر من جانب السلفيات الإسلامية المعاصرة على ابتذال قيم الاعتدال العقلانية. ويكشف هذا الابتذال عن ضعف الثقافة العقلانية واضمحلال أو غياب الذهنية النقدية، أي كل ما تشترك به وتتسابق الأنظمة السياسية العربية والأصوليات الإسلامية المتطرفة. ومن فعل هذين المصدرين تتراكم قيم الحنبليات الجديدة بوصفها التجسيد العملي لجنون «الإرهاب المقدس». وهو جنون اتخذ صفة «العالمية» بحيث تحول إلى مصدر ما يسمى «بالإرهاب العالمي».
لكن ظاهرة «الإرهاب العالمي» الآخذة في الانتشار والتوسع تشير إلى بروز الأبعاد الدفينة فيما يمكن دعوته بمنظومة الخلل العالمي المتراكم في مجرى المسار التاريخي المعاصر. ويرافق هذا «الخلل» التاريخ العالمي ككل، إلا انه يبرز بهيئة قوى متشنجة وعصابية في مراحل الانعطاف الحادة المرافقة لسقوط الإمبراطوريات أو صعود الجديد منها. أما نماذجها المحلية فهي الصورة المحلية للظاهرة. بمعنى أننا نعثر عليها أيضا في مراحل الانعطاف الحاد لصعود الأمم أو هبوطها. ذلك يعني أن ظهور القوى المتشنجة، التي عادة ما تخضع كل شيء بما في ذلك قوى العقل والعلم لعبودية الانسياق التام للوجدان والإيمان، هو النتاج المرافق لانعدام الاستقرار السياسي والديناميكية الثقافية. وهي ظاهرة تكشف عن عنفوان الوجدان الذي عادة ما يقيد العقل النقدي بقيود وقواعد الإيمان المغلق والتعصب العقائدي والغلو المذهبي. وهو السبب الذي يفسر سر اجتذابها الشديد للصبيان والمراهقين والشبان وأنصاف المتعلمين والحثالة الاجتماعية.
فعندما ننظر إلى ظاهرة الإرهاب المتنامية في العالم العربي المعاصر، فإننا نرى تراكم ثلاث طبقات تاريخية أدت، على خلفية الأزمة الشاملة للدولة العربية الحديثة وفشل مشروعها التنموي والتحديثي، إلى «تكامل» السلفية الإسلامية الإرهابية بوصفها الرد المشوه على إرهاب الاستبداد «العلماني» و«التيوقراطي».
فقد كانت الصيرورة العربية الجديدة بمختلف قواها الاجتماعية والسياسية والفكرية مرتبطة ومحكومة في الوقت نفسه بثلاث ظواهر كبرى في التاريخ الحديث. وهي ظاهرة الغزو الاستعماري والحرب الباردة وصعود الفكرة الليبرالية. وهي بأجمعها ظواهر «غربية» (أوروأمريكية) المنشأ، عالمية التأثير والأبعاد. من هنا إشراكها الجميع، بما في ذلك العالم العربي، في عملية جديدة أخرجته من تقوقعه الذاتي وانغلاقه العميق في السلطنة العثمانية المتهرئة. ومن ثم إدراجه في فلك الحركة التاريخية الجديدة التي استطاعت أن تستثير فيه تيارات متقطعة من النهضة الأدبية والإصلاح الديني - السياسي والانبعاث القومي. وهي عملية تاريخية معقدة لم تتكامل في الوجود والوعي العربي المعاصر. من هنا استمرار الخلل البنيوي في الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة.
وهو خلل يكشف عن عدم تكامل بنية الوعي الذاتي العربي، والذي برز بوضوح في ثلاثة أشكال مختلفة يكمل أحدها الأخر في مجرى تاريخه الحديث. الأول وهو صعوبة بناء الدولة العصرية والتحديث، والثاني في سهولة انجراره وراء صراع المصالح والعقائد الذي ميز اغلب تاريخ الحرب الباردة (اغلب القرن العشرين)، وأخيرا انقباضه الذاتي واستعصاء قدرته على التحول صوب الديمقراطية والإصلاح البنيوي الشامل بعد انهيار المواجهة التاريخية للمعسكرين (الاشتراكي والرأسمالي).
فقد بقى العالم العربي من بين المناطق القليلة في العالم التي تتلذذ بنفسية وروحية المعسكر. وهي حالة تشير إلى بقاء وتعايش المراحل التاريخية الثلاث في وجوده ووعيه المعاصر كما لو أنها مكونات لا يمكن المزج بينهما. وهو واقع يشير بدوره إلى بقاء المشاكل والإشكاليات الكبرى في تاريخه الحديث دون حلول، أي انه لم يتطور من الناحية النوعية. من هنا بقاء اغلب مكونات تاريخه التقليدي في الوعي والممارسة، بما في ذلك السياسية. وهو واقع شكل من الناحية المادية والمعنوية مرتعا للثقافة التوتاليتارية. وليس اعتباطا أن يكون تاريخ العالم العربي السياسي في مجرى القرن العشرين ولحد الآن هو تاريخ الراديكاليات الدنيوية والدينية. وهو الأمر الذي يعطي لنا إمكانية الحكم على أن النمو المفرط للتدين المفتعل من «الصحوة الدينية» و«الانبعاث الإسلامي» وأمثالها ما هو إلا الوجه الآخر للمزاج اللاعقلاني الذي صنعته التوتاليتاريات الدنيوية، بمعنى فشل المشاريع «العلمانية» في تنفيذ شعاراتها المعلنة في الوحدة والتحديث والعصرنة. وفي هذا يكمن سر «الانبعاث» و«الصحوة» التقليدية. بمعنى استثارة الإرث المتراكم في نفسية وذهنية العقائد السلفية بشكل عام والحنبلية الوهابية بشكل خاص.
فالوهابية من حيث بنيتها العقائدية وذهنيتها الثقافية ومزاجها النفسي هي الصيغة الأكثر تمثلا لتاريخ الانحطاط الفكري والروحي والعقلي للإسلام. ومن ثم لا يعني صعودها المعاصر سوى عصرنة الانحطاط بأحد أقسى وأتعس وأرذل نماذجه النظرية والعملية. فهي ليست حاملة العقيدة السلفية التوتاليتارية، بل وداعم الإرهاب الفعلي من خلال رفع فكرة وممارسة «الجهاد» النجدي للقرن الثامن إلى مصاف «الإرهاب المقدس» ضد «الكفرة»! أما «الكفرة» فانه الوعاء الذي يمكن إدخال كل من تعتقد فيه «عدوا» لها. لهذا نرى تغير وتبدل الأشخاص والنماذج والدول والقوميات والأديان والمذاهب بما في ذلك الإسلامية. بعبارة أخرى، إنها تعيد إنتاج نفس العناصر الجوهرية المميزة للفكرة التوتاليتارية، التي لا ثبات فيها لغير الثبات اللاعقلاني. الأمر الذي يؤدي، كما هو الحال بالنسبة لكل النماذج التوتاليتارية، إلى استفحال نفسية الكراهية والانغلاق الذاتي، ومن ثم استفحال نفسية وذهنية الإرهاب بمختلف أشكاله وأصنافه ومستوياته. وهي الذروة التي بلغتها الأصولية الإسلامية المعاصرة من خلال استقطاب كل التيارات الراديكالية الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي وبالأخص منذ خمسينيات القرن العشرين ولحد الآن في تيار «القاعدة».
إن صعود «القاعدة» الوهابية يشير من الناحية الرمزية إلى صعود قاعدة واحدة في التفكير والعمل، أي إلى توتاليتارية إسلامية جديدة على النطاق العالمي. وليس مصادفة أن تكون القاعدة في «القاعدة» هو سيادة اللاعقلانية وتوحيدها المتميز في جعل الإرهاب العشوائي والمنظم «جهادا مقدسا» ضد الجميع!
إن هذا التمركز «الروحي» للتوتاليتارية الإسلامية الجديدة هو الاستعادة العصرية لروح الوهابية الميت. وفيه يمكن رؤية واقع العالم العربي وفاعلية الإرث التقليدي للحنبلية. فقد عاش العالم العربي قرنا من الزمن فقط. أي زمن بلا تاريخ منذ أن ظهر للمرة الأولى بهيئته الجديدة من تحت أنقاض السلطنة العثمانية. إذ نراه يقف في بداية القرن الحادي والعشرين أمام نفس الحالة التي واجهها في بداية القرن العشرين: مسلوب الإرادة، ضعيف المناعة وفاقدا لمشروعه الخاص في التنمية والتحديث والعصرنة والوحدة. من هنا قسوة الضغوط الخارجية (الأمريكية بالأساس بوصفها قوة عالمية) والداخلية (من جانب السلفيات الجديدة بوصفها النتاج الطبيعي لغياب الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والثقافة العقلانية والمجتمع المدني). وتجعل هذه الحالة من العالم العربي كيانا مشوها ومعقدا في الوقت نفسه. بمعنى انه يقف أمام مفترق طرق من جهة، ولكنه مغلق من الداخل من جهة أخرى. من هنا مراوحته الذاتية وتفسخه الدائم.
إن الواقع المذكور أعلاه هو المرتع الذي يجعل من السلفيات الإسلامية الإرهابية القوة الأكثر عنفا ونشاطا وحيوية فيه. كما انه السبب الذي جعل ويجعل من الصعود السهل للتوتاليتارية الحنبلية وذروتها في الوهابية أمرا مقبولا في الوسط الجماهيري «الإسلامي». وذلك لفقدان الدولة والسلطة والمجتمع مقومات وأسس وجودهم الذاتي ووعيهم القومي التاريخي. فالسلفية التوتاليتارية الإسلامية الوهابية لا أسس ومقومات ذاتية فيها لغير العبودية التامة للنصوص الميتة، ولا مجال للقومية فيها لأنها تفعل وتنشط وتعيش بمعايير ومقاييس الرؤية المذهبية الضيقة، ولا وعيا تاريخا فيها لأنها لا تحس ولا تفهم ولا تتذوق ولا تعترف بقيمة التاريخ، لأنها خارجه. من هنا سيادة الأوهام والأصنام المقدسة فيها. الأمر الذي يجعلها قبلة وكعبة القوى الهامشية بالمعنى الاجتماعي، والمهمشة بالمعنى الثقافي. وفي هذا يكمن سر قدرتها على اجتذاب رؤوس بلا عقول، وأجساد بلا أرواح. ومنهما يمكن صنع سبيكة «المجاهدين» المستعدة لتفجير نفسها في كل مكان بوصفها الشهادة الحية للإيمان! بينما تفترض الشهادة الجسدية شهادة اليقين الروحي والعقلي، بمعنى القدرة على رؤية حقائق الأمور كما هي. أما حالما يصبح الموت رديف الشهادة، فان الشهادة تصبح إجازة للقتل والتخريب والتدمير. وهو واقع نعثر على نموذجه الملموس في ما يجري من أحداث في العراق.
إن بلوغ الحركات الإسلامية الراديكالية ذروتها في السلفية الوهابية الجديدة هو مؤشر على ما يمكن دعوته بختم الولاية الإرهابية في التاريخ العربي المعاصر. بمعنى تراكم الذهنية والنفسية الراديكالية في نموذج ديني سلفي توتاليتاري جمع في ذاته كل النتاج اللاعقلاني للقرن العشرين في العالم العربي. وبما انه قرن التفريغ الشامل للبدائل العقلانية، من هنا فراغ البدائل السلفية الإسلامية بشكل عام والوهابية بشكل خاص من أية رؤية إستراتيجية باستثناء إستراتيجية الإرهاب بوصفه أسلوب «الشهادة الحية» للأموات. وهي حالة لا يمكنها أن تصنع في نهاية المطاف غير ترميم جزئي لسلفية توتاليتارية إرهابية ميتة. وهي خاتمة الإرهاب الديني السلفي المعاصر.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصادر: مقتل مسؤول في منظومة الدفاع الجوي لحزب الله بغارة إسر


.. قبيل عيد الفصح.. إسرائيل بحالة تأهب قصوى على جميع الجبهات| #




.. مؤتمر صحفي لوزيري خارجية مصر وإيرلندا| #عاجل


.. محمود يزبك: نتنياهو يفهم بأن إنهاء الحرب بشروط حماس فشل شخصي




.. لقاء الأسير المحرر مفيد العباسي بطفله وعائلته ببلدة سلوان جن