الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصدمات والثقافةالنفسية

محمد طه حسين
أكاديمي وكاتب

(Mohammad Taha Hussein)

2020 / 4 / 17
العولمة وتطورات العالم المعاصر


الصدمات والثقافة النفسية
الصدمة هي ما يقع فيها الفرد أو الجماعة بغتةً دون سابق إنذار، أو دون إستعداد لمواجهتها وإيجاد سبل التخلص منها وتجاوزها، فهي تؤثر على التوازن النفسي وتضع آثاراً على البنية النفسية للفرد وكذلك الجماعة لفترة طويلة قد تستمر طول العمر أو لفترة ليست بقليلة.
تختلف الصدمات عن بعضها، فهي إمّا أن تكون إنسانية المصدر أو طبيعية المنطلق. في الكيفية الإنسانية هنالك أشكال منها، من الحروب الى الأحداث المبرمجة أو غير المبرمجة كحوادث السير، والموت المفاجيء للأعزاء والأقرباء، والإنهيارات في العمارات السكنية نتيجة سوء التخطيط والهندسة والبناء، وحوادث القتل، وقضايا الإغتصاب والإعتداءات العدوانية التي يقوم بها البشر بين حين وآخر. أما الصدمات الطبيعية المصدر كالإنهيارات الأرضية والزلازل والأوبئة والأمراض والتقلبات المناخية المفاجئة والكثير من الظواهر الاخرى تضع على التوازن النفسي الإنساني ومجتمعاته آثار صدمية كثيرة قد تبقى الى الأبد إن لم يتداركها الأفراد ويبدون تجاهها مواقف علاجية للتخلص منها أو على الأقل تجنب مخاطرها.
يقول سيجموند فرويد في كتاب"مافوق مبدأ اللذة": نحن نعرف أن الصدمة هي ما يتأتى من مثيرات العالم الخارجي التي تبلغ من القوة حدّاً يؤدي بها الى إختراق الدرع الواقي. فإنها لابد أن يثير إضطراباً واسعاً في عمل الطاقة التي ينطوي عليها الكائن الحي، وأن يحرّك كافة أشكال الدفاع الممكنة، ولابد في عين الوقت، أن يتعطل فعل مبدأ اللذة تعطلاً مؤقتاً، فإذا الجهاز النفسي وقد غمرته مقادير ضخمة من المثيرات لا قبل له بمنعها، وإذا هو يواجه مشكلة أخرى- هي مشكلة السيطرة على هذا الفيض من المؤثرات التي تدهمه والعمل على تقييدها، بالمعنى النفسي، حتى يمكن التخفف منها بعد ذلك.
المثيرات التي تأتي وتخترق الدرع الواقي للفرد الإنساني هي مثيرات هجومية تستهدف الكيان النفسجسمي للإنسان، فالفرد لم يكن منتبهاً وعلى إستعداد لهذه المواجهة غير المتكافأة، ولهذا تحدث اضراراً بالغة في الجهاز النفسي بصورة واضحة وتبقى آثارها في بعض أنواع الصدمات الى فترات طويلة، إن لم يضعها (الفرد نفسه) أو المحيطين به أو المؤسسات المسؤولة موضع الإهتمام. الإنسان كائن واعي والوعي هو المعطى أو المقوِّم الاساسي بل الوحيد لوجوده، فلابد أن يتسلح بهذا الوعي ويطوره بإستمرار ويبني جهازاً وقائياً للمخاطر التي تواجهه، التكاسل في بناء الدفاعات والتأخر من إيجاده والإفادة منها يرجع الى التنصل من أثقال الوعي وعدم تحمل دوافعه البنائية للحياة القوية والمصانة. فالفرد الكسول أو المجتمع السلحفاتي الصفات توقظه الصدمات فقط، وعند وقوعه فيها يضطرب التفكير ويشل الوعي، وبهذا ليس بمقدوره الحفاظ على التوازن النفسي وإدارة تفاعلات الجسد، حيث تظهر مشاكل نفسية عويصة تقتحم الوجود والكيان النفسي للفرد وتسبب أمراضاً كالفوبيا والفصام والكآبة و إضطرابات نفسية، والإدمان على المخدرات والكحول وكذلك النزوات العدمية والعدوانية كإضطرابات تصيب الشخصية باسرها. والإختلالات التي قد يُشَخّصها الأطباء النفسانيين أو المؤسسات الطبية فيما بعد.
ما يقصده فرويد في تأجيل اللذة وقت الصدمات، هو العمل بوعي لأجل تجاوز قوة الصدمة والوقوف قويماً متصلباً أمام إرتداداتها بغية السيطرة على ما تُحدِثها في النفس وفي الحياة بصورة عامة. إذا لم تتحول اللذة وفق المبدأ الإستثماري الى السعادة والهناء البشري المستدام، فإنها تستلب في الفرد وعيه ولا تَدَعه التفكير للتحوّط والتهيّؤ لما يأتي وما يواجهها من حوادث وكوارث. فقط الواعي بمقدوره تأجيل اللذة، أو بالأحرى تغيير وجهتها صوب موضوع آخر وذلك لإستجماع القوة لهدف أكبر آخر وهو بناء الجهاز الوقائي المناعي ضد التهديدات الخارجية أو الأحداث المفاجئة غير المحسوبة.
الصدمة تصدم الفرد وتفاجئه حيث تسلب الشخص عنصر الإختيار في الموقف وتفقده قوة المبادرة والبداهة وإتخاذ القرار المناسب. تختلف قوة الصدمات والمواقف التي يواجهها فيها الفرد، وكذلك الآثار التي تخلفها بعد مرور الموقف الصدمي. على الرغم من أن الإنسان لديه إستعدادات وراثية للتعقل وتوعية ذاته، الى أن ترجمة هذه الإستعدادات وتوفير أرضية نموها وتنشئتها تقف على مستويات الوعي لدى الأفراد أو بالأحرى المجتمعات، ومستويات الوعي أيضاً للمؤسسات السياسية الدولتية التي بيدها دفة السلطة.
فالإنسان يمتلك إرادة الحياة غريزياً، والحياة العاقلة تتأسس على ترجمة الوعي الإنساني الى معطيات ملموسة مادية أو مجردة، فتربية النفس تدخل ضمن الإستراتيجيات التي بها يَقدِر على تهيئة الذات لكل المواقف الحياتية بما فيها المواقف الصعبة والصدمية. يفرض الواقع المتحضر المتشابك السائد الآن في العالم، على الإنسان ومؤسساته المختلفة مناهج تربوية وإرشادية أكثر واقعية وأكثر عملية، بحيث تتضمن مباديء وستراتيجيات حول بناء إنسان توقّعي وتنبؤي على غرار الإنسان الذي نادى بتأسيسه(جورج كيلي) العالم النفسي المعرفي، حيث إعتبره عالماً بنفسه وبما يحيط به إذا ما تمكننا أن نزرع فيه مقومات معرفية تشجعه على العمل لحاضره وكذلك تنمية قوة التوقع لديه بالمستقبل.
المشاكل الرئيسية للإنسان الحالي في أغلبية المجتمعات والثقافات تتمظهر في البُنِيّات المعرفية لديه، فالظاهرات السلوكية والموقفية لهم تتمثل في الفقر المعرفي بدرجة كبيرة وضعف قدرتهم على قراءة المستقبل، وهذه يعزوها علماء النفس الى عدم كفاية الخبرات اللازمة السابقة الضرورية لبناء التصورات والقراءات المستقبلية.
يقول مارتن سليجمان في كتابه"علم الأمراض النفسية": الى القرن الأخير كان الألم أو الأمراض النفسية هي جزء من الظروف غير القابلة للإصلاح في الحياة البشرية، صاحبت حياة البشر مجموعة من الأمراض والآلام وأحداث كارثية قد تعود وتتكرر الى الآن. ولكن نحن لدينا إستعدادات المواجهة للكثير من الصدمات أو الى حد ما لدينا سبل تخفيفها. تظهر بعض الأحيان وتحدث حوادث كارثية فضيعة قد تتجاوز حدود المرض العادي أو الحادثة الإعتيادية، حيث الفنون والتكنيكات الطبنفسية وتطور مفهوم الشعور بالعدالة الإجتماعية في العالم الحديث تكفل بأساليب لمواجهتها وكيفية التعامل معها، فلا يمكن تجنب الأضرار التي تحدثها وكذلك لا يمكن للبشر القفز على النتائج السيئة لها. فعلم النفس تمكن من إيجاد مناهج وأساليب خاصة للتخفيف من عبء الصدمات والتقليل من حدة الآلام التي تُحدِثها لدى الشخص أو الأشخاص المصابين، حتى لو لم يتمكن من التخلص منها نهائياً.
فيما سبق، ذَكَرَ لنا سليجمان الأساليب والمناهج الضرورية لمواجهة الأحداث المتوقعة التي قد تكون كارثية على الحياة الفيزيكية والنفسية للبشر، وأشار الى أن علم النفس تطور الى هذا الحد حيث بإمكانه تقديم حلول مقترحة علاجية للأوقات الصعبة التي نمضيها مع الزمن الصدمي، ولكن يبدو إن الخلل لا يكمن في العلم المذكور بقدر ما يظهر في السلطات الثقافية والتربوية والتعليمية وكذلك السياسية التي تسيطر على الأمور في أي بلد كان، عندما لا يمكن السيطرة على التداعيات التي تحصل والمترتبات التابعة للضربات الأولى للكوارث والصدمات.
فالحياة لا يمكن أن تمضي وفق ما يشاء البشر ومجموعاتهم ومؤسساتهم، ما ينقص الكائن البشري غير المهيّء، هو أسلوب التعامل مع الخبرات المتراكمة السابقة لديه وكيفية توظيفها في بناء التصورات لأشكال الحياة في الحاضر وكذلك في المستقبل، حيث البشر لم يعد منتمياً فقط للمكان الضيّق ما قبل المدني، إذ إنه توسع تخيلاته وتوسعت طموحاته بحيث تأثر فيه المنظومة السلوكية الى حد القلع الإجباري في المحل التقليدي له الى دنيا تضم خيالاته.
فالطب النفسي والثقافة النفسية أنتجت الكثير من الرأسمال الفكري والمعرفي لمعالجة الآلام والمصائب التي تصيب البشر وتهدف النيل منه، ولكن عدم السماح لهذه السلطة المعرفية في ممارسة هيمنتها على السلوك السياسي والإقتصادي والإجتماعي وحتى الديني، جعلت منه منكمشاً فقط في الجامعات والعيادات والردهات العلاجية المتواضعة في المستشفيات، والإفادة منها في بعض المنظمات غير الرسمية المنادية لحقوق الإنسان وحماية حقوقه. فتنمية الشعور بالعدالة الإجتماعية لم يكن واسعة وسعة الطموحات السياسية التي نجدها وندركها في الحضور الإقتصادي والعسكري في جميع أنحاء العالم. دمقرطة العدالة حتى في الدولة الواحدة لم يكن منصفة، فالأقوى له تأثير على التطبيق المنهجي سواءً شعورياً أو لاشعورياً للنظرية الداروينية"البقاء للأقوى والأصلح"، حيث يعرف أهل العلم بأن النظرية تلك هي عمومية ولا تشمل البشر فقط، بقدر ما تنطبق على عموم الكائنات الحية، ولكن ما يميز البشر هو قد يكون بمقدوره بواسطة الوعي والإستعداد الوراثي لتنمية هذه النظرية وأن يجري عليها تعديلات عقلانية وذلك بهدف تنظيم الحياة وتعديلها ودمقرطتها بالشكل الذي تلائم وتتوافق مع إدراكه للعدالة الإنسانية التي طالما ينادي بها أهل الأنسنة الحقة.
_________________________








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وسام قطب بيعمل مقلب في مهاوش ????


.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأمريكية: رئيس مجلس ا




.. مكافحة الملاريا: أمل جديد مع اللقاح • فرانس 24 / FRANCE 24


.. رحلة -من العمر- على متن قطار الشرق السريع في تركيا




.. إسرائيل تستعد لشن عمليتها العسكرية في رفح.. وضع إنساني كارثي