الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرب كفعل مستقبلي

راتب شعبو

2020 / 4 / 19
مواضيع وابحاث سياسية


في النهاية تنتهي الحروب ويجد المتحاربون سبيلاً ما إلى تسوية خلافاتهم، ثم تُدفن الضحايا في الذاكرة ويُعاد تعمير ما دمرته الحرب، لاستئناف دورة حياة لا يحكمها السلاح أو لايغلب عليها السلاح. غير أن بذور الشر التي تزرعها الصراعات المسلحة، ولاسيما المديدة منها، تواصل نموها في الأطفال وتتظاهر في الزمن التالي للحرب بأشكال تذكّر بالمآسي السالفة كما تذكر الندبة بالجرح. على هذا فإن الصراعات العنيفة هي من زاوية الأطفال فعل مستقبلي يبدأ بعد أن ينتهي الصراع المباشر. الأطفال هم المادة التي تحمل ندوب الحرب الماضية ورائحة شرورها إلى المستقبل، وعبر الأطفال يمكن أن تعبر شرور الحرب من جيل إلى جيل.
معروف جيداً أن حركة طالبان الأفغانية هي من الثمار المرة التالية للحرب التي استمرت عقداً من الزمان بين الجهاديين والسوفييت في أفغانستان. انسحب السوفييت من أفغانستان في أوائل 1989، ثم بعد خمس سنوات ظهرت طالبان. ففي باكستان التي استوعبت أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ أفغاني كان الأطفال الأفغان يخضعون لصياغة "طالبانية"، دفعت أفغانستان ودفع العالم كله فيما بعد ثمناً باهظاً لها ولا يزال.
العالم الذي كان منهمكاً في تأمين متطلبات تلك الحرب أكثر من متطلبات عيش وتعليم وصيانة حياة ملايين الأطفال الأفغان اللاجئين، ساهم في تأمين المادة الأولية للصناعة الطالبانية، أقصد الأطفال المحرومين من الملجأ والغذاء والتعليم. في باكستان، حيث لجأ هؤلاء، بدأت الصناعة الأخطر، صناعة الوعي. اتجه إلى هناك الدعم المالي "الهادف"، ظهرت آلاف المدارس الدينية التي توفر للطفل الملجأ والطعام إلى جانب تعليم ديني محدد، الأمر الذي أنتج في غضون سنوات، جيشاً "عقائدياً" جاهزاً للانضمام إلى حركة طالبان (الاسم نفسه مأخوذ من مجال التعليم) التي قادها الملا محمد عمر والتي استغلت فوضى ما بعد الانسحاب السوفييتي مستفيدة من انضباطها العقائدي الأصولي، كما بات معروفاً. الآلية بسيطة وفعالة بقدر ما هي مدمرة، صراعات مسلحة تشرد الملايين وتحرمهم من موارد عيشهم وتطردهم إلى هامش الحياة وتحيلهم إلى عبء على أنفسهم، وجهات تمتلك قدرات مالية وافرة تستثمر في تخريب من يفترض أنهم مادة المستقبل، أي الأطفال، فتسمم مستقبلهم وتسهم على هذا بقسطها في تسميم مستقبل العالم.
لا يقلّد الحال السوري نظيره الأفغاني تماماً، فاللاجئون السوريون يتوزعون على بلدان عديدة، ولا يبدو أن هناك جهد "تربوي" مركّز وذا وزن لصياغة مشروع كالمشروع الطالباني. غير أن المشروع المنظم والموجه قصداً إلى صناعة وعي الأطفال وتأطيرهم، كشباب لاحقاً، في تنظيمات سلفية، ليس هو الخطر الوحيد الممكن. الأمية والضياع التعليمي وانقطاع الأمل في المستقبل لا يقل خطراً عن زراعة اليقين السلفي الأعمى، في الحالتين تتوفر أرضية العنف العدمي وأسباب تخلخل الهوية الوطنية، هذا فضلاً عن الآثار النفسية على الأطفال وانعكاساتها على المستقبل الفردي والعام.
في تركيا والأردن ولبنان، يوجد ما يزيد عن 1.5 مليون طفل سوري في سن الدراسة، ولكن نصفهم لا يحصل على تعليم رسمي، بحسب هيومن رايتس ووتش. الأموال التي يجري الإعلان عنها في المؤتمرات واجتماعات المانحين تضيع قبل أن تصل إلى مقصدها، أو أن الدول تعد ولا تعطي، كما يبين تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش بعنوان: "تعقب المال: انعدام الشفافية في تمويل المانحين لتعليم اللاجئين السوريين". يجتمع الفساد مع سوء الإدارة وضعف التوثيق وتغليب المصالح السياسية للدول والجماعات، لنحصل على "جيل ضائع". أحد الباحثين في المنظمة يقول: "وعدتْ الدول المانحة والمستضيفة بألا يصبح الأطفال السوريون جيلاً ضائعاً، لكن هذا بالضبط ما يحدث." على سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 90% من اللاجئين السوريين ممن هم بعمر التعليم الثانوي و50% ممن هم في سن التعليم الأساسي في لبنان، لا يحصلون على الدراسة. والعائق الأساسي، بحسب المسؤول الإعلامي في منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) في لبنان، هو العائق المادي الذي يحول بين الأطفال اللاجئين السوريين وبين التعليم. سوف يبقى هذا الجيل الضائع، ليس فقط بمثابة ندبة دائمة تذكر بالماساة السورية، بل أيضاً بمثابة بذرة خلل مستقبلي يصعب علاجه.
تميزت الحالة السورية بوجود قطاعات كبيرة من الأطفال الذين خضعوا ويخضعون مباشرة "لتربية وتعليم" التنظيمات الإسلامية التي تسيطر على مناطقهم لفترات طويلة، وتفرض على الأهالي تفسيرات إسلامية متطرفة في انغلاقها وتخلفها. في ظل داعش صارت المدرسة مكاناً يختار التنظيم منه المقاتلين والزوجات، أكثر من كونه مكاناً للعلم، ما دفع كثير من العائلات إلى تفضيل عدم إرسال أبناءهم إلى المدرسة. فضلاً عن أن التنظيم يهمل المواد العلمية ويركز على مواد الفقه والتربية الإسلامية واللياقة البدنية واللغة العربية. وفوق هذا، فإن التخلف التعليمي ظاهر في هذه المواد، ففي صورة مسربة من إحدى المدارس الواقعة تحت سيطرة التنظيم، يبدو المستوى المتدني لمدرس اللغة العربية الذي يعرب "كَتَبَ" كما يلي: فعل مضارع لأنه يقبل السين وسوف.
التعليم في مناطق سيطرة النظام تراجع أيضاً تحت ضغط كثافة التلاميذ في الصفوف، وتحت ضغط الفقر الشديد الناجم عن الصراع. يتجلى تراجع التعليم في سيادة سبل الغش أكثر مما كان سابقاً. بات الغش مقبولاً على الصعيد الاجتماعي ومسكوت عنه رسمياً، وبات الأهالي يساعدون أبناءهم على الغش في امتحانات الشهادة المتوسطة والبكالوريا، عبر رشوة المراقبين أو شراء "المصغرات" (وهي وسائل للغش الامتحاني) لأبنائهم، أو سواها من الوسائل.
المحصلة أن أطفال سوريا يتعرضون لتخريب واسع وعميق في التعليم وفي شروط الحياة النفسية والمادية الناجمة عن الصراع، وهذا التخريب يعطي ثماره المرة لاحقاً. إنها النتيجة اللاحقة وغير المباشرة للصراعات العنيفة التي ينساها الفاعلون المنشغلون في سحق خصومهم، لكي تعود وتذكر بنفسها بقوة لاحقاً، وربما تسحق من انشغل عنها بسحق الخصوم.
نوفمبر 2017








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بعد هجوم إيران على إسرائيل..مقاطع فيديو مزيفة تحصد ملايين ال


.. إسرائيل تتوعد بالردّ على هجوم إيران وطهران تحذّر




.. هل تستطيع إسرائيل استهداف منشآت إيران النووية؟


.. هل تجر #إسرائيل#أميركا إلى #حرب_نووية؟ الخبير العسكري إلياس




.. المستشار | تفاصيل قرار الحج للسوريين بموسم 2024