الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغلو الديني والعقائدي - هاوية الإرهاب والفساد(1-2)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 4 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


إن ظاهرة «الإرهاب الإسلامي» هي المظهر الأكثر تعقيدا وتخلفا للانحطاط الفعلي في تاريخ الدولة العربية الحديثة. بمعنى أنها ظاهرة تحتوي بقدر واحد على إدراك مشوه لطبيعة الأزمة البنيوية للدولة العربية المعاصرة، كما أنها الوجه المشوه لخراب العقل الثقافي العربي. ومن ثم ليست الظاهرة الإرهابية «الإسلامية» الحالية سوى النتاج الأكثر تخريبا لخراب النزوع التوتاليتاري والراديكالي، الدنيوي والديني على السواء. فالسلفية الغالية هي الوجه الآخر للتوتاليتارية الدنيوية. وكل منهما يكمل الآخر في «مسار» الانحطاط الفعلي الشامل للدولة والمجتمع والثقافة والنخب العامة والأحزاب السياسية بشكل خاص. إذ لا يعني صعود السلفيات الجهادية (حنبلية العوام) إلى سطح «المواجهة» و«الصراع» و«المقاومة» و«التحدي» للغرب سوى الوجه الفعلي لفقدان العالم العربي حقيقة المواجهة والتحدي والصراع العقلاني ضد مقدمات ومعالم التخلف والانحطاط الفعلي. وهي ظاهرة أكثر من يمثلها ويتمثلها التطرف الديني والغلو السلفي في العراق الحالي، بوصفه الصورة «النموذجية» عن حالة الانحطاط الديني والسياسي.
وإذا كان «الانحطاط الديني» شأن كل انحطاط له خصوصيته، فإننا نستطيع بالتالي الكلام عن انحطاط ديني بذاته، وآخر مقرون وملازم للانحطاط الاجتماعي العام. والأول هو جزء من تاريخ الدين والأديان، والثاني هو جزء من زمن التحلل والفساد أو الأزمة البنيوية الشاملة للدولة والمجتمع والثقافة. لكنها أوجه مترابطة. بمعنى أن الانحطاط الديني هو الوجه الآخر للانحطاط الاجتماعي، كما أن الانحطاط الاجتماعي يستتبع مختلف أشكال الانحطاط بما في ذلك الديني. وهو حكم اقرب إلى البديهية، مع انه يشكل في ظروف العراق الحالية أحد أكثر مفارقات وجوده التاريخي المعاصر.
إننا نقف الآن أمام ظاهرة الانتشار الواسع للدين والتدين والحركات الدينية الاجتماعية والسياسية. وهو انتشار يكشف عن طبيعة ومستوى الخلل المادي والمعنوي، لأنه لم يكن جزء مكونا من أجزاء الصيرورة الروحية المعاصرة للعراق، كما لم يكن عنصرا من عناصر التركيبة الروحية للمجتمع المدني. على العكس! لقد كان من حيث مقدماته ونوعه وأساليب فعله ردا على الانحطاط الشامل الذي أحدثته «دنيوية» التوتاليتارية العراقية. وجسدت هذه «الدنيوية» في ذروة انحطاطها الصيغة الأكثر غلوا للتدين المفتعل، كما هو جلي في بناء المساجد الفارعة الفارغة و«الصحوة الإيمانية» وكتابة القرآن بدم صدام وما شابه ذلك. وتعبّر هذه المكونات عن عمق الخلل في الفكرة الدنيوية البعثية في العراق. من هنا خصوصية الانتشار الديني الجديد فيه. وبغضّ النظر عن تاريخه العريق، بما في ذلك بالنسبة لتشكيل الحركات الإسلامية السياسية (الشيعية خصوصا)، إلا انه أصبح جزء من تقاليد التوتاليتارية نفسها بسبب تراكم مكوناته الاجتماعية والنفسية ضمن معايير ومقاييس ونفسية الدكتاتورية الصدامية. بحيث جعلت من الإسلام والتدين وجهين لمعالم الانحطاط الشامل. من هنا لم يكن هذا التدين في الواقع أكثر من شعائر زائفة لنفوس خربة. وحالما جرى حشره بدهاليز اللعبة السياسة، فانه لم يكن قادرا، بعد سقوط الدكتاتورية،على إنتاج شيء غير الطائفية السياسية. وهو إنتاج يعيد بعث الصدامية بغلاف إسلامي، كما نراه بوضوح في جعل الطائفية السياسية أساسا للسلوك السياسي، وفي تحويل الطائفية السياسية إلى أحد العناصر الجوهرية في «بناء» الدولة والمجتمع والثقافة.
وقد ورث التدين العراقي الجديد في مواقفه من كل مكونات وإشكاليات العراق المعاصر هذا الخلل الأكبر، الذي مصدره الأكبر في ضعف البنية الاجتماعية وتخلفها المريع. فالحالة العراقية المعاصرة تتصف بنوع من التخلف المادي والمعنوي الذي يصعب أحيانا وصفه بمعايير العلم وذلك بسبب تداخل مكونات يصعب فرزها وتصنيفها. إلا أنها تشكل بمجموعها حالة الانحطاط الشامل.
فالانحطاط لا يعرف التمييز والتصنيف، لأنه يجر الأشياء جميعا إلى مستوى واحد من الهمجية. ونعثر على هذه الحالة في نوعية وكمية الإرهاصات الهائلة التي يعاني منها المجتمع والدولة في مجرى محاولاته تذليل عوائق الانتقال من التوتاليتارية إلى الديمقراطية. فهي حالة مزدوجة ومركبة ومعقدة. وذلك لأنها تفترض في آن واحد تذليل الماضي وتأسيس الحاضر واستشراف المستقبل. بينما تمثل القوى السياسية والاجتماعية السائد وتتمثل رحيق الانحطاط التوتاليتاري والدكتاتورية السابق. ولا يمكن فصل هذا الانحطاط عن طبيعة الخلل الهائل الذي حصل في كل من بنية الدولة والشرعية والديمقراطية والدنيوية (العلمانية). ووجد هذه الخلل انعكاسه المباشر وغير المباشر في تدمير خلايا المجتمع المدني. أما نتائجه الأولى فقد ظهرت بصورة جلية في فوز الحركات الدينية السياسية والقومية العرقية في الانتخابات الأولى والثانية لعام (2005).
فقد كانت تلك الانتخابات من الناحية التاريخية خطوة هائلة إلى الأمام في ميدان الحرية (السياسية والاجتماعية) ولكنها كانت خطوة هائلة أيضا إلى الخلف في ميدان العقلانية. وهو تناقض يعكس «مآثر» التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية، التي جعلت من العراق رمادا لا يؤدي نثره إلا إلى إعماء العيون وإعاقة التنفس. وميزت هذه الحالة نوعية وكيفية «الانتخاب» السياسي. أما النتائج الأولية له فأنها تشير إلى هزيمة القوى الديمقراطية والدنيوية والعقلانية. وهي هزيمة تشير إلى عمق الانحطاط. أما من الناحية الفعلية، فإنها تشير إلى انغلاق الأفق الديمقراطي الاجتماعي والدنيوي في ظل سيادة القوى الدينية السياسية والعرقية القومية. فكلاهما يصبان من حيث الجوهر في إعادة إنتاج الانحطاط التوتاليتاري.
إن سيادة الحركات الدينية السياسية هو بحد ذاته مؤشر على التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع. إذ نعثر فيه على ست مؤشرات عامة وهي:
1. انتشار النزعة التقليدية،
2. وسيطرة الذهنية الأسطورية،
3. والجمود العقائدي،
4. وانحطاط الحرية الفردية والاجتماعية،
5. سيادة نفسية العوام،
6. الاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.
وهي صفات عامة، إلا أن ما يميزها في ظروف العراق الحالية هو ارتباطها بطبيعة النظام التوتاليتاري البعثي والدكتاتورية الصدامية، وكيفية سقوطه، وحالة الانتقال إلى الديمقراطية.
فقد كانت التوتاليتارية البعثية الصدامية تجسيداً لفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي الأخلاقي، وخلل التوازن الداخلي، الذي وجد انعكاسه في سيادة الغلو والتطرف العملي. أما النتيجة فهي «تنظيم» دكتاتورية بلا حدود ولا قيود، «نظامها» الوحيد هو تقنين العنف والإرهاب. أنها أدت إلى واحدية عقائدية سياسية بلا روح ثقافي. وبالتالي إنتاج مستمر للرخوية والرخويات في كل مكونات الدولة والمجتمع. مع ما ترتب عليه من بعث دائم للأشباح وتخريب شامل الأرواح. بحيث جرى إفراغ التاريخ من محتواه الواقعي. وبما أن جهلها بالتاريخ هو شرط وجودها التاريخي، لهذا عادة ما كانت تجعل من تغييب وعي الذات التاريخي سلاحها الفعال في مواجهة الحاضر والمستقبل. وفي هذه المواجهة جربت كل الصيغة الممكنة للجهل الذاتي لكي تقف في نهاية المطاف أمام نفس هاوية الانحطاط والسقوط المميز للتوتاليتاريات جميعا.
وهو سقوط فاضح بكافة المعاني. لكنه يكشف بخصوصيته أيضا عن ظاهرة قذرة وقاسية في نفس الوقت، وهي أن التوتاليتارية البعثية الصدامية كانت أيضا مسخا متميز في تاريخ العراق القديم والحديث. ولعل المفارقة الكبرى لهذه الظاهرة تقوم في أنها استطاعت أن تجرّد وجود الأشياء والناس والأفعال من تاريخها، وأن تصنع بالتالي زمنا بلا تاريخ. وفي هذا يكمن سر انهيارها السريع وهروبها المريع، أي كل ما كشف عن حقيقتها بوصفها زمنا بلا تاريخ. من هنا اندثارها الخاطف وبقاياها الخربة في كل مكان. وتقوم «مآثر» هذه البقايا في تجفيف المجتمع من مصادر نموه الحية، وجعل التاريخ زمنا ضائعا مع ما يترتب عليه من اضمحلال وضمور وعي الذات التاريخي. وكذلك انتشار وسيادة الرخويات، وفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وفقدان الاعتدال العقلي الأخلاقي، وخلل التوازن الداخلي. وأدت هذه المكونات في نهاية المطاف إلى سيادة الغلو والتطرف العملي. ومن ثم رفض كل احتمال تشعر منه بخوف المواجهة والتحدي. ومنها تركبت نفسية التجريم والتحريم. أما الحصيلة النهائية لهذا الانحراف عن منطق الدولة العصرية فهو استفحال لا عقلاني للرؤية العقائدية التي لا علاقة لها بالمضمون الاجتماعي للسياسة. بحيث شكلت بحد ذاتها "صرحا" خاصا لثقافة التخريب الشامل والانحطاط التام، والتي لا يمكنها أن تصنع قوى عقلانية. من هنا تعقيد الحالة المادية والمعنوية لمرحلة الانتقال إلى الديمقراطية.
ويتمثل هذا التعقيد بالنسبة لصعود الحركات الدينية السياسية في خصوصية ما أسميته بالمؤشرات الست التي تشير إلى طبيعة ومستوى التخلف الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع. والمقصود بذلك كل من انتشار النزعة التقليدية، وسيطرة الذهنية الأسطورية، والجمود العقائدي، وانحطاط الحرية الفردية والاجتماعية، سيادة نفسية العوام، الاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.
إننا نقف أمام انتشار واسع وعريض للنزعة التقليدية التي تمد الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة برصيد اجتماعي ومعنوي. والقضية هنا ليست فقط في تحجر العلاقات الاجتماعية وضمور ديناميكيتها الفعلية، بل وبهيمنة الرؤية التقليدية في كل شيء. وتميز هذه الحالة رؤية وطبيعة الحركات الإسلامية السياسية المعاصرة في العراق من حيث غياب الإبداع في الفكر، واستفحال الجمود في الرؤية، ومحاربة التجديد ومناهضة المعاصرة. وهي مواقف تجد «تنظيرها» الفكري في سيطرة الذهنية الأسطورية، وبالأخص عند الحركات الشيعية، التي لا يتعدى «اجتهادها» نصوص القدماء و«اختلافاتهم» فلا تتعدى في الواقع أمورا غاية في التفاهة الجسدية والخذلان المعنوي. من هنا سيادة النص المقدس في الفكر، والعبودية المذهبية للكلمة، والاستنطاق المتبجح والفارغ للعبارة الميتة. وهي حالة تؤدي بالضرورة إلى اضمحلال الرؤية العقلانية والنقدية تجاه النفس والتاريخ والحاضر والمستقبل. أما النتيجة فهي «العمل المنظم» لاستكمال تلاشي الحرية الفردية والاجتماعية، كما جرت وتجري في أحداث عديدة تفعل على تعميق الإرهاب المنظم ضد الحرية الفردية باسم الدين والأخلاق مع انتشار ظاهرة الفساد المرعب في مؤسسات الدولة و«الرؤساء» الجدد. وتعبر هذه النتائج وتتمثل في الوقت نفسه سيادة نفسية العوام المميزة للحركات الإسلامية السياسية المعاصرة. فهي حركات لم ترتق فيها حتى النخبة إلى مصاف الحد الوسط المقبول والمميز لهذه الكلمة.
إننا نقف أمام ظاهرة الانتشار الفاقع للحثالة الاجتماعية وتجييشها المستعر في خطاب لا عقلاني مهمته إعادة إنتاج العبودية المغلفة بقدسية الماضي، أي إعادة استعباد الفئات المهمشة (والعراق في اغلبه مهمش) بالشكل الذي يستعيض عن دكتاتورية البعث الصدامية بتسلط ديني مذهبي طائفي. أما الحصيلة النهائية لذلك فهو الاستعداد الدائم للتجزئة المذهبية والفرق المنغلقة مع ما يترتب عليه من إمكانية الغلو والتطرف المذهبي في بداية الأمر ثم الطائفي لاحقا.
وبهذا يصبح الانحطاط الديني والتدين المفتعل حلقات إضافية مكملة لحالة الانحطاط الشامل بوصفه الإرث المرئي والمستتر لبقايا التوتاليتارية والدكتاتورية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار تاريخ الانحطاط العريق للإسلام، فان «تكاملهما» في ظروف الانتقال إلى الديمقراطية يقوم فيما أسميته بالاستعداد الذاتي للنزوع صوب الطائفية. ولا يؤدي هذا النزوع في النتيجة إلا إلى التطرف والغلو. ويتخذ هذا التطرف والغلو في ظروف العراق الحالية منحى التصلب الطائفي السياسي ومنحى الإرهاب الدموي. والأول مميز للتيار الشيعي والثاني للتيار السني. لكنهما يلتقيان في نهاية المطاف في تيار واحد ألا وهو تيار الانحطاط المادي والمعنوي للعراق، وإخلاء الفكرة العربية من مضمونها التاريخي والثقافي والقومي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اضطرابات في حركة الطيران بفرنسا مع إلغاء نحو 60 بالمئة من ال


.. -قصة غريبة-.. مدمن يشتكي للشرطة في الكويت، ما السبب؟




.. الذكرى 109 للإبادة الأرمينية: أرمن لبنان.. بين الحفاظ على ال


.. ماذا حدث مع طالبة لبنانية شاركت في مظاهرات بجامعة كولومبيا ا




.. الاتحاد الأوروبي يطالب بتحقيق بشأن المقابر الجماعية في مستشف