الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بأي حال عاد الدخول الثقافي العربي؟

محمد الداهي

2020 / 4 / 20
الادب والفن


الدخول الثقافي طقسٌ من طقوس المرور التي يعبُرها الكِتاب حتى يستوفي دورته على الوجه المطلوب. وهو تقليد راكمته فرنسا منذ عام 1880 محافظة على رونق الكتاب وهيبته، ومكرسة مكانته الرمزية داخل المجتمع. وتتدخل أطراف متعددة لتعزيز هذا الطقس إسهاما في التعريف بالإصدارات الجديدة، وضمانا لإشعاعها الثقافي لتكوين الإنسان، وتبادل الخبرات، واقتراح بدائل للعيش الكريم. ومن ضمن هذه الأطراف نذكر الملاحق الثقافية العتيدة، والبرامج الثقافية المذاعة والمتلفزة، والمكتبات، وفروع "لافناك La fnac" المتخصصة في توزيع المنتجات الثقافية. فأينما ولينا وجهنا بباريس- مثلا - نعاين أن الاحتفاء بالإصدارات الجديدة يتجلى في مظاهر متعددة، ومنها – على وجه الخصوص- تخصيص حيز خاص بها في مداخل المكتبات أو على واجهاتها، وفي مختلف نقاط البيع التي يرتادها الناس يوميا ( الميترو، والساحات العمومية، والمطار، والأكشاك) ، وهو ما يحفزهم على تعرُّف ما جد في عالم الكتب، وتصفح الكتب التي تناسب ذوقهم، وقراءة مقاطع منها لأخذ فكرة عن محتوياتها (ما يصطلح عليه بالفرنسية بجمع الرحيق وجَرَسه Butinage). وفي هذا الصدد، دأبت مكتبة جوزيف جبيرJoseph Gibert بشارع سانت ميشيل في الحي اللاتيني على إرفاق الكتب المعروضة بمسوَّدة مكتوبة بخط يد أصحابها سعيا إلى خلق الحميمية المتوقعة بينه وبين قارئ مفترض، ودفعه إلى اقتناء الكتاب بعد التأكد من ملاءمته وقيمته. وتزدان- بهذه المناسبة- واجهات المكتبات بإعلانات لدعوة المهتمين، بدءا من منتصف شهر شتنبر، إلى حضور لقاءات منتظمة مع الكتاب للتعريف بإصدارتهم وتوقيعها.
ولا يتوقف الدخول الثقافي على الإصدارات الجديدة وإنما يلتفت أحيانا إلى إصدارات كلاسيكية بالنظر إلى مناسبات بعينها كالاحتفاء بمئوية كاتب، أو اكتشاف أحد مخطوطاته أو مسوداته ، أو إعادة المؤسسة الأدبية الاعتبار له أو عنايتها بسير العظماء (Grandes Biographies). وهو ما تجلى مؤخرا في اهتمام المجلات المتخصصة بالكاتب التشيكي ستيفان زفايغ Stefan Zweig، واضطلاع بعض المكتبات بتخصيص حيز لعرض كل مؤلفاته والتعريف بها.
جهود جبارة
وفي السياق نفسه قامت مكتبة جوزيف جبير بالتفاتة خاصة للشاعر والناقد والمترجم إيف بونفواYves Bonnefoy عارضة كل مؤلفاته بطريقة تليق بمكانته وسمعته. وهي مناسبة يستفيد منها الباحثون لاقتناء كتب أضحت نادرة أو نفِدت مع مر الوقت، كما تسعف الشباب على تعرُّف ما بذله أسلافهم من جهود جبارة لإنماء بلدهم والنهوض بمستواه الثقافي والعلمي.
وتضطر مكتبة (atout livre) بشارع دومنيل إلى إعادة ترتيب واجهتها الزجاجية سعيا إلى إطلاع المارة على الكتب الجديدة، أو على موضوع معين ( روايات حول باريس، روايات رايمون كونو(Raymond Queneau, ) وفليب روت (Philip Roth) وغيرهما، مؤلفات حول فن الترسل).
و ما يثير الانتباه أن زمن الكتاب مستمر حتى في عز الصيف والعطل من العاشرة صباحا إلى السابعة مساء. وفي أي وقت ولجت مكتبة تجدها غاصة بالزوار، وقد تضطر إلى الاطصفاف في طابور من الطوابير لدفع الأداء.
وفي المقابل تعرض بعض المكتبات كتبا بثمن كأس قهوة أو أقل(2أورو أو أورو). وقد يجد فيها القارئ ضالته بالعثور على كتاب نادر نفدت طبعته منذ زمان أو على عينات من الرواية الكلاسيكية في طبعات جديدة.
وعندما تكون في المترو ( الأنفاق) أو في فضاء عمومي تلاحظ أن أشخاصا – على تفاوت أعمارهم- منغمسون في قراءة رواية أو صحيفة. وهو ما يفند كساد الكتاب أو عزوف الناس على القراءة. قد تكون نسبة القراءة قد تراجعت عما كانت عليه من قبل، لكنها لم تصل إلى الحضيض- الذي وصلت إليه في العالم العربي- بفضل جهود أصحاب المكتبات والإعلام الثقافي وحلقات القراءة ووجود موقع مشترك لتوجيه القراء إلى نقاط البيع.
نفاد إصدارات
هذا ما عاينته عندما بحثت عن روايات سيرج دبروفسكي، فلم أجدها، وعندما استفسرت المكلفة بالرواق أخبرتني أنها نفدت.وبمجرد صدور مؤلفات من قبيل ( إعداد الرواية ، محاضرات في كوليج دوفرانس لرولاند بارث، أو الهويات والثقافات، سياسة الدراسات الثقافية لستوارت هال) يتهافت القراء على اقتنائها غير مكترثين بثمنها في حين يتأفف الشباب العربي من غلائها في حين يسترخصون العلامات التجارية للمفاخرة والمباهاة. لا يتأثر الطقس بالدخول المدرسي أو السياسي . فكل الطقوس تتم بسلاسة وليونة بالنظر إلى المستوى المعيشي للمواطن، وتقديم مساعدات للتلاميذ المعوزين أو المنتمين إلى المناطق الهامشية، وتيسير ولوج الثقافة لفائدة الفئات والأجيال المختلفة، وتوفُّر دور النشر والمكتبات على تراكمات للنهوض بالكتاب، وتحسين الخدمات لترويجه على نطاق واسع.
كما تحتفي نقاط البيع بالإصدارات الجديدة، وخاصة التي أحرزت على جائزة "الغونكور" أو "فمنينا" أو "الأكاديمية الفرنسية"، أو أثارت ضجة إعلامية (إسقاط رواية " أورليانOrléans " ليان موا Yann Moix من قائمة الروايات المرشحة لجائزة "الغونكور" لدورة 2019). ويخصص لها رواق خاص لجلب أنظار الزوار، وحفزهم على اقتنائها. وغالبا ما يحمل القراء فكرة مسبقة عنها بفضل ما نشرته الصحف السيارة أو المواقع الالكترونية المتخصصة أو مواقع التواصل الاجتماعي عن محتوياتها.

مبادرات حسنة
ويقوم المجتمع البدني بمبادرات حسنة لتشجيع الناس على قراءة الكتب. بينما كنت أتجول بشارع دومنيل، على مقربة من محطة الميترو "ميشيل بيزو" لفت انتباهي حشد من الناس يتصفحون الكتب في معرض تنظمه جمعية " ترويج الكتاب Circul’livre" بالمجان. يأخذ بعضهم كتابا أو كتابين حسب ميوله ورغباته ثم ينصرف. وللجمعية موقع تعرف فيه بأنشطتها وبرامجها ومبادراتها محيلة إلى الأمكنة والمواقيت التي ستعرض فيها مزيدا من الكتب المُتبرَّع بها. لو قامت جمعية ما بمثل هذه المبادرة في بلدي لوقعت حوادث مؤسفة لجشع الزوار وتدافعهم للظفر بكميات من الكتب دون التحري في عناوينها أو في مجالات اختصاصها حرصا على بيعها أو إتلافها، وهو ما سيحرم من يستحقها للاستمتاع بقراءتها والاستفادة منها.فشتان بين زمنهم وزمننا، وبين طقوسهم وطقوسنا.
ينعدم الدخول الثقافي في العالم العربي، ويشغل مكانه الدخول المدرسي المرهق والمكلف. تضطر دور النشر تأخيرَ إصداراتها الثقافية إلى ما بعد شهر نوفمبر، وتدأب -قبل شهر شتنبر بشهور- على طبع الكتب المدرسية.
وتضطلع المكتبات بترويج هذا الكتب وبيعها في حين لا تولي أدنى اهتمام في هذا الوقت للكتاب الثقافي. ولا يدور حديث الناس إلا على الدخول المدرسي وما يستتبعه من التزامات وتعهدات، وما يستدعيه من مصاريف لشراء ما يحتاجه فذات أكبادهم من معدات مدرسية.
أعطاب كثيرة
وما زاد الطين بلة أن الدخول المدرسي الحالي جاء بعد عيد الأضحى، واقترن بعودة المصطافين إلى منازلهم، وبتقلب الأوضاع السياسية. وهو ما جعل "الشأن الثقافي" يتوارى خلف الهموم الطارئة التي تشغل بال الناس، وترهق جيوبهم، وتقلق راحتهم. وعوض أن تسهم الفضاءات العمومية في إثارة" النقاش العمومي" والرفع من وتيرته لتنوير الرأي العام وإقناعه " بالبرهان الحجاجي" ، ارتدت عن وظيفتها باعتماد " أسلوب دعائي منحط"، ينهض على " الكذب المنظم"، والتنابز بالألقاب، ولوك أعراض الناس، وترويج أشرطة الفرجة والتسلية ( ما يروج -عموما- بالوتساب).. وهو ما يبين أن المسار الديمقراطي في بلادنا ما زال يعاني من أعطاب كثيرة، وفي مقدمتها تفاقم الأميتيْن الثقافية والرقمية، مما يحتم تبوئ الثقافة المكانة المستحقة للرقي بوعي الناس وحسهم، وتطوير مؤهلاتهم وقدراتهم حتى يكونوا فاعلين في المجتمع ومشاركين في بنائه وتقدمه. وفي السياق نفسه، يجب أن تبادر وزارة الثقافة بدسْترة ولوج الثقافة (accès à la culture) لإشراك الفئات التي تعاني من الهشاشة الاجتماعية ( السجناء، والمرضى، وذوو الحاجات الخاصة، والعاطلون) وإدماجها في الحياة العامة، وتوفير الخدمات الثقافية والفنية الضرورية في الأحياء الهامشية والمناطق النائية.
غالبا ما يبدأ الحديث شاحبا عن الدخول الثقافي مع اقتراب الموعد السنوي للمعرض الدولي للنشر والكتاب الذي ينظم- بالتناوب- في مختلف العواصم العربية.
وعوض أن يكرس تقاليد جديدة بما تستتبعه من طقوس ثقافية وأجواء احتفالية للنهوض بالكتاب والرقي به إلى المستويات المنشودة، يطغى عليه الجانب النفعي لمراهنة كل ناشر أو كتبي على جني الأرباح من الكتب التي صدرت حديثا أو مرت عليها عقود. وهذا ما يقتضي تعبئة كل الفاعلين والمتدخلين للتفكير في صيغ ناجعة لترسيخ تقليد الدخول الثقافي، وتوفير كل ما يسعف على تداول الكتاب ورواجه وقراءته، وإدماجه ضمن خطة وطنية شاملة لتيسير ولوج الثقافة.
عن مجلة العربي،العدد732، نفمير( تشرين الثاني)2019/ص-ص24-27.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق