الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف من الموت والخوف من الضحك والخوف من كورونا

نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)

2021 / 3 / 21
ملف: وباء - فيروس كورونا (كوفيد-19) الاسباب والنتائج، الأبعاد والتداعيات المجتمعية في كافة المجالات


فى طفولتى كنت أرى عزرائيل يتمشى فى الظلام على شكل رجل يشبه الضبع، عيناه من نار، ومخالبه من حديد، يشبه الشيطان. وسمعت جدتى الريفية (أم أبى) تقول إن عزرائيل الموت يأتى فى الليل ليقبض أرواح الناس. أحيانا كنت أراها فى منتصف الليل، جالسة منتصبة فى فراشها، فى حالة تحفز وترقب. أسألها لماذا لا تنام؟ فتقول: «عشان عزرائيل لما ييجى يلاقينى صاحية، يمشى يروح لحد تانى يقبض روحه». ثم أسمعها تضحك بصوت مكتوم، وتخفى فمها بيدها وتقول: «اللهم اجعله خير يا رب». كانت تخاف الضحك كما تخاف الموت، وتعتبره خطرا قادما حتما، فتدعو الله أن يجعله خيرا.

فى المدرسة كان مدرس الدين يقول لنا إن الله لا يحب الفرحين، فما بال البنت التى تضحك بصوت مسموع؟ وما بال البنت التى ترقص فرحة على الموسيقى وتغنى؟!

تربيت فى أسرة تحب المرح والضحك والأدب والشِعر والمسرح، حتى أشعار أبى نواس وبشار بن برد وجدتها فى مكتبة أبى، وأيضا رسالة الغفران لأبى العلاء المعرى، والتى كانت محرمة فى المقررات الدراسية. تربيت فى مناخ يؤمن بأن اختلاط الجنسين، فى المدارس والجامعات وأماكن العمل، يحسن أخلاق النساء والرجال، وضرورة من ضرورات التربية المستقيمة، يبعد المفاسد، ويحقق تكامل الشخصية واتساقها.

بعد أن كبرت ودرست تاريخ الأديان، اكتشفت أن الكنيسة فى أوروبا فى العصور الوسطى حرمت الضحك على النساء، وأيضا حرمت عليهن الكتابة أو الإبداع. وبعد دراستى للطب النفسى، أدركت العلاقة بين شجاعة الإبداع، وكسر الخوف من الموت. وعلاقة السعادة أو اللذة أو الضحك بالإبداع، وأيضا علاقة الضحك بحب الحرية، والرغبة فى الحياة بشكل مختلف عن الآخرين.

أمضيت بعض السنوات فى دراسة وتدريس العلاقة بين الإبداع والثورة. يؤدى الخوف إلى الكبت الفكرى النقدى، ويؤدى الكبت إلى كتمان الرغبة فى الإبداع والفرح والضحك،

وتكون النتيجة هى كبت الرغبة فى مقاومة التمرد، على أى سلطة ظالمة وقاهرة.

هناك مخاوف كثيرة يتربى عليها الأطفال، منها الخوف من عقاب السلطة الحاكمة فى الأسرة والمدرسة والعائلة والدولة. وترتبط هذه المخاوف بالخوف من الموت، ومن العقاب بعد الموت، والحرق فى النار. تحررت من المخاوف الطفولية عبر السنين، أدركت أن الخوف من الموت وهم كبير لأن الموت غير موجود، أو على الأصح حين أموت، لا أكون موجودة لأشعر بالخوف.

من أجل النجاة من غضب السلطة وعقابها، يتعلم الأطفال طاعة الأوامر، فى كل مكان وعلى جميع المستويات. الطاعة هى الفضيلة الأولى والكبرى، التى يتحلى بها العبيد والنساء والفقراء. الطاعة هى السم القاتل للعقل المتمرد المبدع.

سمات الطاعة والخنوع على وجوه الكثيرين والكثيرات، انكسار العين، وربما انحناء الظهر، الصوت المتلعثم، مع العبارة التاريخية الشهيرة، التى تكاد تكون صلاة يومية: «أنا عبد المأمور أو أنا تحت الأمر». تُقال العبارة فى هوان ومذلة، دون خجل، أو أى إحساس بالعار والمهانة.

الموظفون المطيعون المنكسرون أمام رئيسهم الآمر ينقلبون أسودا أو ضباعا كاسرة تجاه مرؤوسيهم، ترتفع العين المنكسرة المكسورة إلى السماء، والصوت المتلعثم يرتفع عاليا إلى جعير الجعارة.

وجوه النساء الموظفات فى الحكومة لا تختلف عن وجوه الموظفين، وإن كانت عيونهن أشد انكسارا، خاصة الزوجات منهن، حيث لهن رئيسان، رئيس العمل، ورئيس البيت الأبوى. وجوه الواقفات فى طوابير الجمعية للحصول على الفراخ

مثلا تشبه وجوه الواقفات فى طوابير التصويت فى الانتخابات، تشبه الواقفات فى طوابير المستشفيات الحكومية. البشرة الشاحبة المتخمة بالشحم المتراكم، بالخوف المتراكم، من المجهول، من الموت، من المرض، من الفصل من الوظيفة، من ورقة الطلاق التى تأتى فجأة بالبريد، من قهر مشاركتها زوجها مع زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة.

ذات مرة سألتنى إحدى الصحفيات: «لماذا لا تنجح النساء فى الانتخابات إلا بنسبة ضئيلة، رغم أن أغلبية الطوابير تكون من النساء؟!».

قلت: «بسبب الخوف من الموت والخوف من الضحك».

ضحكت الصحفية، متسائلة فى دهشة: «وما العلاقة بين هذا وذاك؟».

قلت: «الضحك يشجع على التمرد والثورة ضد المخاوف.. الضحك يعنى أننا نصبح فوق العدو أيا كان الذى يبعث فينا التجهم والكآبة. والتجهم والكآبة يضعفان الثقة بالنفس والمناعة الذاتية والمقاومة.. الضحك يمكنه أن يكشف المتناقضات الخفية التى تقهرنا، ويسخر منها، ويحولها إلى طاقة من الوعى الجديد. لا يمكنك أن تقهر شعبا يضحك،

لكنك تستطيع أن تقهر شعبا متجهما.. الضحك يعنى الإقبال على الحياة، والإقبال على الحياة قوة يمكنها أن تهد الجبال».

ويقول لنا التاريخ إن أعظم الثوار والزعماء والأدباء، كلهم أو أغلبهم، كانوا يتمتعون بحس مرتفع من الفكاهة والمرح والسخرية. هل ننسى جورج برنارد شو، الذى كانت السخرية سمة أساسية لشخصيته وإبداعاته؟ وهل ننسى المهاتما غاندى، الذى اعترف بأنه لولا المرح لما استطاع مواصلة نضاله وكفاحه؟

ولا نغفل كيف تعتمد التيارات الدينية السياسية على تخويف الناس، من جميع أشكال ودرجات العقاب الإلهى، كأداة فعالة فى بث الذعر والهلع، وبالتالى صناعة التجهم والكآبة، والخوف من الضحك والمرح والفكاهة، والخوف الأكبر من الموت. والمذعور هو التربة المثالية للمأمور، الواقع فى مصيدة الخزعبلات والخرافات، ألم يشيعوا أن فيروس «كورونا» هو غضب وعقاب إلهى لأن شرع الله غير مطبق على كوكب الأرض، ولأن النساء غير منتقبات، وغير قابعات فى البيوت؟؟

أعرف أشخاصا كثيرين، نساء ورجالا، يأخذون الاحتياط المعتدل للوقاية من الإصابة بكورونا، دون أن يفقدوا قدرتهم على المرح والضحك والفكاهة والسخرية من هذا العالم

المرتعب المحبوس، الذى يغسل يديه كل خمس دقائق. والأهم أنهم لا يخافون الموت، حتى على يد كورونا.

2020 / 4 / 21








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - أمة الخوف والقهر
عامر سليم ( 2020 / 4 / 21 - 05:23 )
( وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا )! بل شارداً جبان , مكسور الوجدان.
( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)! بل احزن والطم وكن مقهوراً ذليلاً وتذكر الآخره وعذاب القبر وشواء النار حين مثولك امام المنتقم الماكر الجبار يوم القيامه!.
غيض من فيض الأبداعات القرآنيه وتراثه المجيد في كسر الشخصيه وجعلها مأخوذه وأسيره وتائهه وغير مستقره تبحث عن الجواب في كل شئ حتى في طريقة دخول الحمام وقضاء الحاجه!
شخصيه تتلذذ بالمازوخيه حتى في المخاطبه ... سيدي , أغاتي , مولاي , خادمكم ...الخ وكلها تقال (فى هوان ومذلة، دون خجل، أو أى إحساس بالعار والمهانة) وكما تقول الدكتوره نوال.
الشخصيه المقهوره هذه لاتبني ولا تتطور ولاتقدم شيئاً نافعاً ملموساً , بل بالعكس تكون حجرة عثره في طريق الحريه والتقدم, فأنظروا حال اوطان امة لا اله الا الله والى اين وصلت؟


2 - وداعا أيتها المناضلة الكبيرة!
طلال الربيعي ( 2021 / 3 / 21 - 18:51 )
الراحلة الدكتورة نوال السعداوي كانت مناضلة كبيرة من اجل حقوق المرأة وبالضد من القمع ومن اجل حرية الشعوب وإسعاد البشر.
لروحها المجد والسلام ولعائلتها واقربانها تعازينا القلبية ولنا كلنا الصبر والسلوان!


3 - تحية لكي ايتها المناضلة
قاسم علي فنجان ( 2021 / 3 / 21 - 21:12 )
انسانه رائعة جابهت كل الطغاة والذكوريين
ليبقى ذكراك في نفوس كل التحررين والمساواتيين فانت شعلة وهاجة في سماء الظلاميين


4 - أمنا نوال السعداوي
بويعلاوي عبد الرحمان ( 2021 / 3 / 21 - 23:06 )
أمنا نوال السعداوي تودعنا الودا ع الأخير في يوم عيد الأم 21 مارس 2021 ، لكن روحها باقية . تنير طريقنا المظلم ، ضد الظلم والطغيان في كل مكان وفي كل زمان ، وداعا سيدتي الرائعة


5 - وداعــــاً
عامر سليم ( 2021 / 3 / 22 - 01:41 )
من سخرية الأقدار ان تودع نوال الحياة على انتكاسه جديده لأمة لا الله الا الله , فقبل ايام اعلنت تركيا انسحابها من اتفاقية إسطنبول بشأن العنف ضد المرأة، وأكدت أن الهدف من هذه الخطوة حماية نسيجها الاجتماعي!!.
هذا النسيج المتهرئ اصلاً, والذي ناضلت نوال طوال حياتها لفضحه وإصلاحه .
رحلت نوال بلا خوف من الموت , وكانت الى آخر لحظة تتحلى بشجاعة الرأي و الموقف , وما زال وسيبقى الخوف يطارد أعدائها من رجال الدين وآلهتهم الذكوريين.
نوال السعداوي .... وداعــاً


6 - السلام على روح المناضلة الشرسة
صباح شقير ( 2021 / 3 / 22 - 04:45 )
السلام عليك يوم ولدتِ ويوم متّ ويوم تبعثين حيّة، شعلة متوقِّدة لن تنطفئ وستبقى متوهجة في قلوب وعقول الأجيال


7 - سلاما للأم نوال السعداوي
إلسا . س ( 2021 / 3 / 22 - 13:16 )
نوال السعداوي لم تمت ، إنها باقية فينا .. جيلا بعد جيل ، باقية بأفكارها .. فالفكر لا يموت ، باقية برمزية شخصيتها القوية المتمردة الثائرة ، باقية بما تمثله رحلة حياتها من قيم الإنسانية التقدمية و النضال من أجل الحرية و العدالة و المساواة ، و باقية كنموذج سيرة ريادية تحتدي به حركة التحرر النسوي عبر القارات .
سلاما لك نوال السعداوي

اخر الافلام

.. هل ساعدت كوريا الشمالية إيران بهجومها الأخير على إسرائيل؟ |


.. مسلسل يكشف كيفية تورط شاب إسباني في اعتداءات قطارات مدريد في




.. واشنطن تؤكد إرسال صواريخ -أتاكمس- بعيدة المدى لأوكرانيا


.. ماكرون يدعو إلى أوروبا مستقلة أمنيا ودبلوماسيا




.. من غزة| 6 أيام في حصار الشفاء