الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرجوم

آرام كربيت

2020 / 4 / 24
الادب والفن


الرجوم عنوان مثير للانتباه، رواية إشكالية، للروائي فاهان كيراكوسيان
" عيناه مسمرتان على الجملة الكونية، أنا ندى. أواه من العشق عندما ينفجر في غير أوانه، وراحا يتبادلان العبير الكوني سويّا من الوردة العالقة بين شفاههما "
ربما المقال لا يفي الرواية حقها، إنها تحتاج إلى من يقرأها بعمق، ويكتب عنها بتمحيص، وكان الأجدى على الروائي أن يحرك الشخصيات الفاعلة في الرواية، الشخصيات الرئيسية، أن تكون المحور الاساس، تتحرك بانسيابية، فتحرك الشخصيات الثانوية وتأخذها بيدها، لتعيش وترسم الأحداث كحمولة تفرضها متطلبات الحياة وشؤونها وشجونها، لتعيش في لجج الحياة، تتحرك وفق روابط بينها، وتنتقل من مكان إلى أخر، بفعل الواقع، وليس كأنها نزلت من الفضاء ثم تبخرت.
وفيها الكثير من الانتقالات، الأزمان متحركة، مفتوحة، والأماكن مفتوحة ما بين الفضاء والكواكب والشمس والأرض. كل الشخصيات بما فيها الآلهة تتحرك دون قيود، يحركها الروائي سواء في فضاء، فلك نوح أو آلهة بابل وسومر.
هذا شكل من الكتابة غريب علي، أي أنها ليست رواية عادية، فيها خلط متعمد بين الشخصيات، منها اسطورية ومنها واقعية، يتحركان، وكأنهما متوحدان، منفصلان، بينهما علاقة وشيجة وافتراق.
إن استدعاء الاسطورة ضرورة من ضرورات الرواية، رغبة أو حاجة لربط عالم السومريون بالأغريق، رابط بين زيوس وجلجامش، وخطف أوروب وزواج زيوس في جبل الأولمب، للوصول إلى اليوم.
يذهب الروائي بعيدًا، تسبح روايته في عوالم متعددة، يضفي عليها الكثير من الخيال، والسباحة في الفضاء الكوني المقدس للمرأة، في رحمها، عندما كان طفلًا وعندما أصبح رجلًا، شهوة البقاء هو البقاء، هو الخلود في الجنس، وأثناء الدخول في الرحم والسباحة فيه.
وعندما كان في الخلود، جاءت الحية وسرقت العشبة الخالدة، ليعود إلى التناسل من أجل بقاء الخلود، بعد أن يعطي الأسطورة، الخيال الجامح حقه، يعود إلى مدينته، القامشلي، إلى نهرها الخالد، إلى ملاعب الحياة في تلك المدينة البعيدة
شاب في مقتبل العمر اسمه سارو، برفقة حبيبته، صبية حلوة، يفكر في قراءة الطالع في حضورها، بكامل هيبتها وجمالها وشبابها؟ كأنه بحث عن الضياع في الضياع ذاته. بوجود السحر، يبحث عن الاستدلال للوصول إلى سحر أخر.
رواية، تعانق الخيال، ربط بين الحاضر بالخيال الذي يسرح مع الوجود دون قيود أو حدود.
لا يتقيد الروائي بالزمن الأرضي، فهو مفتوح على عوالم الحياة، فيها الخيال يطير على جناح الخيال:
البيضة في طريقها إلى السماء، وحين تبين ذلك للنسر، فما هي إلا لحظات حتى تبخرت واختفت من المكان. حينذاك سحب العش عبر المخروط، وراح يحتضن البيضة مجددًا نحو السماء.
يربط الروائي هذه الأجواء السوريالية بالعشق الخارق للخيال والوقائع:
ـ حين ضمني، أسر في مسمعي أسفار الكون، بدءً من علقة الحياة في أعماق البحار، وحكاية دودة التراب في الأجداث، إلى فاكهة اللذة في سلة حواء.
لا يملك أي روائي في العالم القدرة على الربط بين الواقع الحقيقي بالخيال بمثل هذا الربط الجامح للروائي فاهان:
ـ "حدثني عن الميزان المعلق على أشجار الغار، سكب الزيت المقدس على رأسي، مسد على شعري، وكأنه يريد أن يصنعني من جديد. كنت أحس بأنامله الناعمة تنزلق في شراييني، يملأ قلبي هدوءً ويغمر روحي الشقية بالورود. أزال زوائدي الرطبة من أعماقي ورمى أجزائي الفاسدة في الجحيم"
لا يمكن للناقد أو المتابع التوقف عن قراءة النص أو يقف عند نقطة أو جملة واحدة، أنها في حالة انتقالات متتابعة ومستمرة، من موضوع إلى أخر. وينتقل إلى غيرها دون أن يأخذ الكتاب كله معه في متابعة القراءة إلى النهاية. فالرواية تأخذنا إلى عوالم ألف ليلة وليلة، حكايات شهرزاد وقدرتها على صياغة الواقع من الخيال وألباسه ثوب الشغف في البحث عن عوالم بعيدة عن أيدينا. ففي عوالم ألف ليلة وليلة، كان لدى الإنسان حلم الطيران كبساط الريح، والمرآة التي كان يرى البعض البعض الأخر عن بعد يصل إلى آلاف الكيلومترات وطاقية الاخفاء، أغلب هذه الأمور تتكشف للواقع المعاصر وتتحقق.
فالفانتازيا ليس فانتازيا إلا لأن لها جذور في الواقع، يبتكرها الخيال، لأن هذا الخيال له علاقة بقدرة الروائي أو صاحب المخيال أن يصعد فوق عوالم الواقع مخترقا العقل المحدود للكثير من البشر، ويضع لهم خرائط أو مجسات ليصلوا إلى ما ما كان في الخيال العابر للحدود والأوطان. وهنا يأتي الأدب بقوته ورشاقته لأختراق الثابت والجامد ويتجاوز الثقل أو الجاذبية الأرضية التي تشد المرء إلى أماكن ثابتة، بينما العقل له عوالمه المحلقة في ما بعد الطبيعة.
تنحو هذه الرواية ما بعد الواقع، فيها رغبات الحالم لتعانق الفانتازيا أو الخيال إلى ما بعد الواقع بثقله وتكراره ورتابته، وملله.
يأخنا معه إلى أحلام ألف ليلة وليلة، القوافل التي تأخذ المغامرين والتجار ورجال المال والطموحات التي لا يقف أمامها أي شيء، إلى أن يصلوا إلى النساء الحسان:
" أخذه تفكيره إلى القافلة التي قادها من مكة إلى يثرب، مجتازًا بها حدود البتراء إلى مذابح اسحق وبلاد الشام. تذكر اللحظات التي، فيها، كانت حواء كيليكيا عارية بجانبه. كان يتأمل لحمها الزهري الطري المثير الذي أطبق عليه زغب ناعم.
تراءى له المشهد المثير أثناء العملية الجنسية بينهما. كانت ممددة، راقدة، وهو بين ساقيها الطويلين الرشيقين، يلمسها برقة، ويهمس لها أجمل العبارات الجنسية المثيرة. أعاد تلك اللحظة التي فيها استوت الكيليكية على صدره عارية، واللحظة التي فيها، داعب نهديها، إلى أن أطبقت بشفتيها على عينيه".
يخلط الروائي الحاضر بالماضي بالفانتازيا، بأسلوب متعمد سواء بالأسماء أو المدن، يربط بين تاريخ اليونان بالجزيرة العربية، بفارس وأرمينيا، أحيانًا يدخل شخصيات الحاضر وكأنهم قادمون من زفرات التاريخ وعمقه، وكأن هذا الأن، هو الماضي الموغل بالقدم:
كان في العشرين من عمره حين قاد قافلة قريش إلى بلاد الشام. وفي العمر نفسه استقر في جزيرة كيفالونيا التي نزل عليها. كان بإمكان المرء الوصول منها بالقارب إلى إيثاكا، موطن الجد التاسع عشر للخال ياني.
وهذا الخال، صياد السمك من مدينة القامشلي، يذهب إلى برك الماء، الكولات، ويصطاد السمك ويوزعه على الأطفال، أو يقليه بالزيت ويأكله مع كاس العرق السوري بوزانت كيوانيان.
ولإنه يعرف اللاتينية والآرامية بحكم كونه تاجرًا، فقد تدبر أمره بين الأهالي لستة أشهر، وقد تدرج اسمه في الجزيرة من ابو داشر الكليبي إلى ابودوكالبيوس.
إن استقدام الماضي بكل حمولته ووضعه في سرير الحاضر، وخلطهما وكأنهما مستمران، وكأن الخال ياني، هو ابو دوشر الكليبي، الذي جامع الصبايا في رحالات التجارة العالمية من الشرق إلى الشرق والجنوب والغرب.
بتقديري، تذهب الرواية إلى ربط العالم في بعضه البعض، أوروبا بآسيا، اليونان بالجزيرة العربية، في بلاد الشام، أي العالم القديم بما فيها أفريقيا عبر تزاوج أو ترابط الجنس بالجنس الأخر، بالأعراق.
النص يغطي مساحة كبيرة بوضع مدينة القامشلي السورية في مركز العالم الروائي للرواية، ويرصد الشخصيات التي هي من لحم ودم، يقدح فيهم الشرارة فتتحول الشخصيات ذاتها إلى شخصيات فوق أرضية، تعبث أو تلعب مع الآلهة في السماء قبل ولادة الأديان السماوية وبعدها.
ياني، صياد السمك، مجده يسترخي فوق نهر الجغجغ، الإنسان البسيط، الغادي والراحل والقادم إلى اليونان، وإلى الجزيرة العربية، وإلى بلاد الشام وكأن هذا الياني، الأمي، عدة شخصيات في شخصية واحدة في عصر مرتبط بعدة عصور، عصر الآلهة الأحرار والآلهة المأسورين المستلبين، ويبقى حرًا في تجربته وسلوكه وحياته ونشاطه:
ـ كان الخال ياني كما الفراشة، يدخل ويخرج من الحارة دون أن نشعر به. كان دخوله وخروجه من الحارة قد ارتبط بالشمس والقمر والنجوم، وأطوال أخيلتنا على الحيطان وأرصفة الشوارع. كان من مفردات حياة الحارة.
ويدخل شخصية أخرى حقيقية في العمل، يدخل ويخرج دون أن يشعر به:
كنّا نترقب مروره بالاعتماد على الطبيعة، إنه أنطو القواق، كان هو الأخر من مفردات الحارة، صانع الجرار الفخارية في مدينة القامشلي، أول صانع الجرار والأباريق الفخارية من الصلصال الأحمر، تعلمها من أبيه وأبيه عن جده، وهذه المهنة مغروزة في هذه العائلة منذ تسعمائة سنة، وتاريخ هذه العائلة مطمورة في قرية قريبة من القامشلي، أنها تحت تل طرطب، وربما تنام تحت مدينة كاملة، إشارات كثيرة يذهب بها السرد في بندول متواصل يربط القديم باليوم، وكانت:
لديهم مهارات ومعرفة بالفلك وعلوم متنوعة، ومنها ساعة الانقلاب الشتوي.
رواية فيها حنين إلى كل حنين مضى.
الروائي ذاته يدخل النيرفانا المنفصلة عن الواقع، الراغب في الطيران فوق الأرضي، إن يدل هذا على شيء أنما يدل على الرغبوية في الانفصال عن عالمنا الضيق، الذي يشدنا إلى الواقع الثقيل، ومحاولة بناء عوالم غير مقيدة بحدود وحواجز.
إن المقدس في الرواية هو فعل رغبوي، تعويض، فعل تعويضي عن هزيمته كإنسان ومكوثه على الأرض، ولإنه يستطيع أن يطير في الحلم والأمل والخيال، خلق المقدس، ليقدس ذاته، لتلاوة الاعترافات عن العجز وطلب المغفرة من إله الحب لإنكسار هذا الأخير وعدم الامتلاء، لحبه لندى هو الدافع، هو العطش المفتقد للالتحام بها، هي الرمز للطاقة الوجودية كلها:
ـ حبيبتي ندى، لا بل، أجرمت بحقك، وأنا منذ ذلك التاريخ اتعرض لعقاب إله الحب. أني أتعذب يا ندى، أتعذب من حرماني من حبك، وأتعذب من أجل دموعك المقدسة التي كنت أنا سببها.
دوافع الحب، هي القوة الحقيقية لتأكيد قدرة الإنسان على تحقيق الحلم، والكتابة هي أقصى أنواع التحققات في الحلم والانتماء إلى الوجود والذات.
يمكننا طرح السؤال:
هل هذا البوح، الوجع العام في الخاص فعل رغبوي كامن في اللاشعور يستحضره الروائي؟ أليس هذا الحب خلق لإبقاء الذات مأسورة، تعذيب للذات وإعادة إنتاج هذه الذات المعذبة؟ لماذا يلجأ الحبيب إلى ذلك الحس السرمدي للحبيب الغائب الذي عشعش في الذات منذ فترة المراهقة، ويتمنى أن يستمر؟ لماذا لا يموت الحبيب الأول؟ هل هو رفض للواقع كله عبر الحبيب الأول؟
هي اسئلة كثيرة. والكتابة عن الرواية لا تعفي القارئ عن قرأتها لمحاولة معرفتها بصورة أفضل.
الرواية نشرت في السويد ـ استوكهولم
عدد الصفحات 342








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق