الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبق حيث الغناء 2

آرام كربيت

2020 / 4 / 25
الادب والفن


في السجن، يتعلم الإنسان قتل الشوق والحنين الجارف لأمه وأبيه وأخوته وأهله وأصدقائه، وذكرياته على مراحل طويلة إلى أن يصل إلى الجفاف، إلى ما تحت القاع.
إنه تمرين مؤلم على قتل الحياة والجمال والحب والكره والمشاعر الخضراء والصفراء واليابسة في النفس الإنسانية.
السجن صورة مصغرة عن السجان، على مقاس بشاعته وأمراضه وعقده ودونيته.
ومن يؤيد السجان هو وحش كريه مغلف بالحراشف السميكة لم تقصقصه الحضارة والعلم.
عندما خرجت من السجن كانت مياه كثيرة قد مرت في شروش الأرض وعلى أغصان الشجر. وكنت غريبًا مشوشًا تائهًا، يحملني الماضي في جنباته ويعيدني إلى الحاضر بعد مسافة زمنية قاسية، وطويلة تمتد إلى ثلاثة عشرة عامًا.
رفاقي وأصدقائي ومعارفي القدامى كانوا في واد وكنت لوحدي في واد أخر. كانوا قد أسسوا بيوتًا وأسر، وتغيرت اهتماماتهم بالكامل، فبدلًا من التحدث عن فتاة المستقبل، كان حديثهم عن زوجاتهم وأولادهم، وكنت غريبًا وسط هؤلاء الغرباء.
جاء نجيب من العمل في الثانية والنصف صباحًا. آلة العود في يده، مبتسمًا:
ـ ألم تنم إلى الأن؟ مستيقظ أنت؟
ـ نعم، ما زلت مستيقظًا، والليل كائن حنون، شريك الصمت والوحدة والجمال. إنه منعش ولذيذ، منحني طاقة انفعالية إيجابية.وجعلني أعيد علاقتي بنفسي وعالمي.
تحدثنا طويلًا قبل أن ننام، قلت له:
ـ كنت في السجن مدة طويلة يا نجيب، وأريد السفر إلى الخارج.
ـ ثلاثة عشرة عامًا، معقول، لماذا؟
ـ هذا هو الواقع.
ـ كيف قضيتها، كيف أنك ما زلت على قيد الحياة؟
ـ الإنسان كائن قوي جدًا، يتحمل أكبر خازوق في الحياة، ويكمل طريقه دون التفاف إلى الوراء.
ـ ثلاثة عشرة عامًا؟ معقول؟ والله أنت جبار.
لم يضف نجيب المزيد من الاسئلة، كان ينظر إلي مذهولًا، مستغربًا من قدرة الإنسان على التحمل. لم يسأل لماذا جئت إلى عمان، وما الهدف أو الغاية؟ وهل الهدف هو للسفر فقط أم أن هناك حكاية أخرى؟ ولم يسأل ما هي المدة التي سأبقى فيه في الأردن؟
قلت له:
ـ هل تخاف من وجود سجين سياسي في بيتك يا نجيب، إذا كنت تخاف أو خائفًا، يمكنني مغادرة البيت غدًا؟
ـ لا يا رجل. أنا لست سياسيًا ولا اهتم في السياسة. أنا فنان، أعزف وأغني، وأبحث عن فرصتي في الحياة، وأرغب في قرارة نفسي أن أغرز قدمي في قاع الأرض لأكون أنا كما أريده أنا من نفسي. ثم في الأردن لا يوجد من يدق الباب عليك لأنك كنت سجينًا في سوريا. اعتقد أن الأردن مختلف عن سوريا.
قلت:
نجيب، تلقيت إشارات تطالبني بالسفر إلى عمان، والبقاء فيها عدة أيام لا أكثر ثم السفر إلى الخارج. لست من الناس الذين يحبون المغامرة أو أخذ القرارات بشكل ارتجالي، وبشكل سريع، بيد أنها الحياة التي تعاكس المرء ولا تترك له أي خيار سوى المر أو الأمر. ليس لدي أي شيء أخسره في حال فشلت، بيد أن الرجعة إلى سوريا تعني فتح تحقيق جديد والسجن مرة ثانية.
ـ هل انت خائف من العودة للسجن؟
ـ لست خائفًا، ولن أكون خائفًا، بيد أني قررت أن أودع سوريا نهائيًا. عندما أخذت قرار الرحيل، قلت لنفسي، سأرحل ولن أعود مهما كلف الأمر.
كنت أنفر من مدن محافظة الحسكة، من الناس، من الرتابة والتكرار. في سجن عدرا كنت أتجدد أو أجدد نفسي عبر القراءة و الحوار مع السجناء من أمثالي، نتبادل الشأن العام أو القضايا السياسية أو الفكرية وندخل ممرات الأدب كالشعر أو الرواية أو القصة القصيرة، أو التاريخ، ننفتح على عوالم متنوعة ومتعددة، لكن الحياة خارج السجن جفاف ثقافي وفكري.
إن انطواء الناس على نفسها، خاصة عندما كنت أربط الحاضر، حاضري مع الماضي اشعر بالخواء يستولي على كياني، أشعر أنهم في واد وأنا في واد. لم يعد بيني وبينهم أي شيء مشترك، إلا من بعض الأصدقاء الذين وقفوا إلى جانبي قلبًا وقالبًا. وكانوا سندًا عاطفيًا وإنسانيًا لي، ومهما طال الزمن لن أنسى هذا في حياتي كلها، ومهما حدث.
في مثل هذه الظروف يحتاج المرء إلى الناس الذين يمدوه بالطاقة الإيجابية.
الخواء والفراغ كانا عاملان فرضا شروطهما علي، واسأل:
ـ كيف يعيش سكان هذه المدن، ويمارسون حياتهم بهذا الشكل الباهت؟
في اليوم السابع لخروجي من السجن استدعاني الأمن السياسي عبر الاتصال بأهلي بالهاتف.
كنت قد قررت أن لا أذهب إليهم مهما حدث، ليأتوا إلى البيت ويعتقلوني مرة ثانية. كنت ممتلًأ قوة وشجاعة. عشت السجن ولم يعد هناك ما يخيفني، خاصة بعد تدمر وتجربته القاسية.
قال لي والدي:
أرجوك أن تذهب إليهم، لقد تعبنا أنا وأمك من سجنك الطويل. لم يعد لدينا القوة والشجاعة على التحمل، أنظر إلى والدتك والأمراض الذي يأكل جسدها وعقلها وروحها. أذهب وأنظر إليهم وماذا يريدون منك؟
ـ قلت له هذه الأسطوانة أعرفها جيدًا، هذا نظام أمني ولا يعرف التعامل مع الناس إلا من الموقع الأمني. يريدوني أن أصبح مخبرًا لديهم. هل ترضى أن أكون هكذا؟
تأفف المسكين، ونظر إلي باكيًا:
ـ وهل لديك خيار آخر؟
ذهبت إلى المقر العام للأمن السياسي، المبنى الكبير في المحافظة، مضافة الهزائم والانكسارات، يركض إليها زوارها الكثر، رجالها الصغار، زبائنها. وكل طائفة أو عشيرة أو ملة أو مذهب تحولوا إلى مجرد زبائن لهذا المكان، الماخور الذي يأكل من كرامتهم وإنسانيتهم ويحولهم إلى كائنات قزمة ضعيفة مهانة، يأخذون المباركة منها، من رئيسها.
ما فعله نظام حافظ الأسد أنه حول العلاقات الاجتماعية في سوريا إلى علاقات زبونية، علاقة تحت مدنية، بين المجتمع بأديانه وملله وطوائفه والمخابرات، ليخرج من هذا المبنى الذليل كل من يدخله ذليلًا أكثر فأكثر، أو مشبعًا بالذل الصارخ.
تحولت العلاقة بين المواطن ووطنه إلى علاقة تجاريه بحتة، وحولت الموظف في المخابرات إلى كائن فوق المجتمع. ألغى حافظ الأسد المؤسسة القانونية وحول الدولة إلى لا مكان للقانون في مؤسسات الدولة في هذه الدولة.
أصبحت الدولة ومؤسساتها مجرد شاهد زور لهذا النظام الأمني الذي طمر سوريا كلها تحت قدمه، وقدمها لقمة سائغة لمن يريد النيل من سوريا. لسان حال رأس النظام يقول:
ـ الإنسان في سوريا يجب أن يبقى ذليلًا مكسورًا أمام نظامنا، اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وأن ينفذ شروطنا وهو تحت حذاءنا
جلست منتظرًا في مكتب المساعد أول، المسؤول عن زيارة زوار العميد علي محسن.
دخل رجال كثر، كل واحد بموعد. مع دخول كل واحد كنت أقول في نفسي، هؤلاء الزبائن جاؤوا إلى هذا المبغى لأخذ المباركة في الخضوع، والذهاب إلى سرير المتعة لأخذ حقنة في مؤخرته.
بقيت أكثر من ساعة منتظرًا، قلت في نفسي:
ـ أغلب مدراء الدوائر ورؤوساء العشائر والأديان لديهم مراجعة من أجل تعزيز مكانتهم وتفاهتهم وذلهم.
رأيت الكثير من الذين أعرفهم، بيد أني كنت حزينًا جدًا لسقوطهم. إن مجرد رؤية هؤلاء الرجال البوساء التافهين، وهم يخرون سجودًا لهذا النظام الوثني المريض يشعرني بالعار.
قلت في نفسي:
ـ ولماذا أشعر بالعار لسقوط هؤلاء الحثالة العار؟ إنهم مستمتعون بالمحن، باللعب فيهم. إنهم يحبون مص القضيب الواقف.
وقلت لنفسي:
يبدو أن العميد علي محسن لديه زيارات كثيرة كل يوم، وليس في وارده أن يستقبل سجينًا سياسيًا سابقًا.
كل رجل من هؤلاء، زواره لديه حزمة أعمال ومشاريع تدر عليه مالًا وفيرًا. أما أنا بالنسبة له مجرد إنسان عابر، أما إعادته إلى السجن او التعامل مع نظامه.
عدت إلى البيت، قلت في نفسي:
ـ هذا العميد، بدوي جبل، منفوخ إلى درجة الانفجار الكوني، لن يتذكرني. وساستغل هذا النسيان إلى أقصى درجة وليأت الطوفان بعد ذلك.
جاءت أختي سيلفا وصونيا من السويد، وقضينا وقتًا جميلًا بصحبتهم طوال شهر، وزارني الكثير من الأصدقاء والمعارف. وفي هذه الفترة كنت مشوشًا مغيبًا عن الوعي. موجودًا وغير موجود. الكثير من الأصدقاء وغيرهم اتصلوا بي من المحافظة ومن داخل القطر وخارجه.
بعد عشرة أيام عادوا للاتصال بالبيت. ذهبت في اليوم الثاني صباحًا، والتقيت بالملازم أول سمير وإلى جواره المساعد أول، كنت أتحدث معهم وأنقلهم إلى السياسة العالمية وأحلق، اتركهم ينظرون إلي كما ينظر الطفل الصغير إلى والده. كانوا يريدوني أن أتكلم عن نظامهم السياسي في فترة بشار الأسد والتغيير في النهج والممارسة، وأن استوعب المرحلة الحالية والقادمة وأن أقف إلى جانب سياساته الجديدة.
أنا أبعدهم عن مرماهم لأني أعرف غاياتهم، وأخذتهم إلى الطبري ومهدي عامل وسمير أمين وعلي بن أبي طالب ومحمد علي كلاي، والسياسة الأمريكية، أذكر لهم أسماء لم يسمعوا بها من قبل. أضحك عليهم وألعب بهم. بصراحة كانوا صبورين جدًا معي، بل كانوا يبتسمون. وكل كلمة والثانية، يقول أحدهم:
ـ أنت مثقف، ثقافتك عالية جدًا، هذا الوطن يحتاجك أنت. أنت بالذات. نحن بحاجة لأمثالك.
قلت لنجيب:
ـ كل الشكر لك على استضافتي. سأبقى عدة أيام، وأسافر.
ـ البيت بيتك ولا يهمك. أنا قادم من عجلون إلى عمان، ليس لدي الكثير من الأصدقاء في هذه المدينة.
ـ معقول؟ ما هذا الكلام الثقيل؟ هل تبقى وحيدًا طوال النهار؟ كيف تقضي وقتك؟
ـ عندما أعود من العمل بعد منتصف الليل ، أنام، وعندما أستيقظ اتدرب على العزف طوال النهار على العود.
ـ هل تعزف على النوتة؟
ـ أعزف دون نوتة. اتعامل مع الغناء والموسيقة العربية سماعيًا. أعرف أن النوتة غنى للفنان، وسأعمل جاهدًا في قادم الأيام على التغيير الجذري على عملي الفني.
ـ هل تدري يا نجيب أنني قرأت التراث الموسيقي العربي والغربي والعالمي؟ قرأت عن حياة وموسيقا زرياب، و بيتهوفن وباخ وفيفالدي وموتسارت وخجادوريان، وغيرهم كثر؟
ـ الوقت لا يساعدني على القراءة، طوال الليل في العمل، وعندما أعود أكون متعبًا، أنام مباشرة إلى ما بعد منتصف النهار
علمت أن نجيب شاب خلوق في منتهى الطيبة والوداعة والرقة، وأنه إنسان رائع ونبيل، وأن وجودنا معًا في الغربة يحتاج منّا أن نطوره في الجوانب الثقافية والإنسانية، ويدفعنا إلى التعاون لقلب الملل والفراغ إلى عمل ونشاط خلاق. وإن نحول بيته إلى مركز ثقافي وفني في مختلف جوانب الحياة .
وإن وجودي في حياته، ووجوده في حياتي في الأردن، فرضته الظروف، سيقلبنا رأسًا على عقب. نظرات نجيب إلي حفزتني في الذهاب بعيدًا إلى الأمام.
قبل أن يذهب نجيب إلى فراشه، جلب لي هاتف نوكيا أسود اللون ووضعه على فراشي:
ـ خذ هذا التلفون وفيه شريحة تستطيع من خلاله الاتصال بأهلك في السويد أو يتصلون بك من هناك. هذا ضروري لإنسان مثلك في هذا البلد، فيما إذا ضعت أو حدث معك أي شيء طارئ يمكنك الاتصال بي مباشرة، وسأكون عندك.
في اليوم التالي عصرًا بعد وصولي، سرت مع نجيب في الشارع القريب من بيته، وقفنا أمام مكان فيه هاتف أرضي، وضعت فيه مبلغًا ماليًا، ثم اتصلت منه مع أختي صونيا في السويد. عندما سمعت صوتي بكت بحرقة وحرارة، طلبت مني مباشرة رقم هاتف نجيب، قالت:
ـ أغلق التلفون الذي عندك، أنا سأتكلم معك.
ثم تكلمت عبر هاتفها:
ـ هل أنت بخير، هل وصلت بالسلامة؟ هل تعرضت لأي مشاكل على الحدود، ألم يزعجوك. كنت خائفة عليك وبالي كان مشغولًا عليك. سنكون إلى جانبك أنا وزوجي. لن يهدأ لنا البال إلا بوصولك بالسلامة إلى السويد.
في صباح اليوم الثاني استيقظت باكرًا، وحددت المنطقة التي سأزورها، أن أضع نقط علام في كل مكان أسير فيه، أو كلما سرت خطوة إلى الأمام.
في الحادي عشر من أيلول، يوم الثلاثاء نزلت إلى الشارع وسرت نازلًا الجبل باتجاه حدائق الملك عبد الله.
الشوارع فارغة، عمان قليلة الضجيج، منظمة جدًا لا مكان للسكن العشوائي فيها. وكل بناء أو مسكن يجب أن يتم وفق مواصفات فنية غاية في الدقة. بمعنى، لا توجد مخالفات بناء في هذه الدولة.
الشوارع واسعة، ونظيفة. والشمس مشرقة والهدوء مخيمًا على كل مكان.
اقتربت من الحدائق وتفرجت على مدينة الألعاب التي فيها، ثم سرت باتجاه الشمساني، دون أن أعرف أسماء الضواحي أو مكانة ودرجة تموضع المكان على خارطة عمان.
وكان نجيب نائمًا غارقًا في ملكوت الصمت والسكون، وأنا غارق في القلق أبحث عن موطأ قدم لي في هذه الحياة المفتوحة الأفاق على الحياة الغامضة.
يتبع ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة


.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد




.. الفنانة السودانية هند الطاهر في ضيافة برنامج كافيه شو


.. صباح العربية | على الهواء.. الفنان يزن رزق يرسم صورة باستخدا




.. صباح العربية | من العالم العربي إلى هوليوود.. كوميديا عربية