الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوارث وتصحيح مسار الإنسانية

أمل سالم

2020 / 4 / 27
العولمة وتطورات العالم المعاصر


صباح يوم عيد جميع القديسين الكاثوليك (La Toussaint) ، الموافق الأول من نوفمبر لعام 1755م، حيث كان البرتغاليون في الكنائس، حدث زلزال لشبونة الكبير!

وحسبما أوردت التقارير المعاصرة آنذاك: "استمر الزلزال ما بين ثلاث دقائق إلى ست دقائق". على أثر الزلزال تخلف أخدود عميق بعرض خمسة أمتار شطر لشبونة المدينة البرتغالية إلى نصفين، هرع سكان المدينة إلى رصيف الميناء؛ باعتباره المكان المفتوح بحثًا عن النجاة. في البداية انحسرت المياه كاشفة عن قاع البحر، دقائق قليلة وطغت مياه التسونامي ووصلت لقلب المدينة. أعقب التسونامي حرائق اندلعت في المناطق التي لم تطلها المياه واستمرت النيران خمسة أيام.

دمرت مدينة لشبونة؛ فُقدت قصورها الشهيرة ومكتباتها الملكية، تهدمت أروع مبانيها- وأروع مباني أوروبا- في القرن السادس عشر، التهمت النيران دار الأوبرا والقصر الملكي الذي كان على ضفاف نهر تاخو(Tajo)، اختفى الأرشيف الملكي الثمين والسجلات التاريخية الهامة الخاصة باستكشافات فاسكو دي جاما ورحالة آخرين سابقين عليه.

لم تكن لشبونة هي المدينة الوحيدة التي أضيرت بهذا الزلزال، فقد حدث التدمير الشامل للدار البيضاء أيضًا، واهتزت مدن أوربية كثيرة، ووصل تأثيره إلى فنلندا وسواحل إنجلترا، وفي الشمال الإفريقي ارتفعت المياه إلى 20 مترًا واكتسحت الشواطئ. وعلى حسب التقديرات-غير الدقيقة- فقد خلف الزلزال ما بين ستين ألفًا إلى مئة ألف قتيل. تبع الزلزال مباشرة توترات سياسية في البرتغال أدت إلى انحسار أطماعها الاستعمارية في القرن الثامن عشر.

كان زلزال لشبونة أول زلزال تدرس آثاره علميا على منطقة شاسعة؛ فقد كان بداية المعرفة بعلم الزلازل الحديث. يقدر الجيولوجيون-اليوم- زلزال لشبونة بـ 9 درجات تقريبًا على مقياس ريختر.

ويذكر أن ماركيز دي بومبال (Marquis de Pombal) الذي كان يشغل منصب وزير الدولة لدى الملك البرتغالي جوزيف الأول ( Joseph I of Portugal ) لعب دورًا كبيرًا في مرحلة ما بعد الزلزال؛ إليه تنسب مقولة : "ادفنوا الموتى واطعموا الاحياء. " ولقد حكم بومبال البرتغال باسم الملك لعقدين كاملين. وتحتفظ أرشيفات البرتغال، إلى يومنا هذا، بوثائق من نماذج استطلاعية، حول الزلزال، وزعها بومبال على العامة من أجل ملئها، وقد تضمنت هذه النماذج أسئلة، كالتالي:
-كم هزة ارتدادية شعرت بها؟
-هل ارتفع البحر أم انخفض قبل موجة التسونامي؟
-أي أقسام المدينة تدمرت بفعل الحرائق، وإلى أي مدى لحق بها الضرر؟
وكان لبومبال دور في دفع عجلة العلمنة بعد الزلزال؛ فقد قدم بومبال العديد من الإصلاحات الإدارية الأساسية، والتعليمية، والاقتصادية، والكنسية...؛ مبررًا إياها باسم "العقل". وقد نفذ بومبال سياسات اقتصادية شاملة في البرتغال؛ لتنظيم النشاط التجاري وتوحيد الجودة في جميع أنحاء البلاد.

كما كان لبومبال دور فعال في إضعاف قبضة محاكم التفتيش. ولايستخدم مصطلح بومبالي (Pombaline) لوصف فترة حكمه فحسب ولكن للدلالة أيضًا على الطراز المعماري الذي تشكل بعد وقوع الزلزال الكبير؛ ذلك أن مساهمات بومبال لم تساعد في الوقاية من الزلازل، لكنه وضع قاعدة تعتمد على أن التحضير الجيد لاستقبال الزلازل قد يساهم في تقليل الخسائر، فعندما أمر بإعادة بناء لشبونة من جديد، قام بإنشاء العديد من الأحياء السكنية على نظام شبكات منطقية في نمط هندسة معمارية أصبحت من أوائل نماذج الهندسة المعمارية الحديثة، وتلك التي تضمنت خصائص أمنية مضادة للزلازل، مثل استعمال الهياكل الخشبية التي قد تنحني دون أن تنكسر. وقد بنيت المباني باعتماد هياكل شبكات خشبية؛ بهدف توزيع قوة الزلزال، وجُعلت الأبواب والنوافذ والجدران فيها بأحجام معيارية، ثم أمر بومبال الجنود بالمشي فوقها بقوة شديدة لاختبار شدة تحملها.
ولا يمكن اعتبار أن بومبال هو أحد تنويريين هذا العصر؛ فأعماله في المقام الأول تعتبر آلية لتعزيز الأوتوقراطية على حساب الحرية الفردية، وجهازًا لسحق المعارضة والنقد وقمعها، وتعزيز الاستغلال الاقتصادي الاستعماري.

أما الفلكي الإنجليزي، المعاصر لزلزال لشبونة، جون ميشال (John Michell) صاحب فكرة الثقوب السوداء وبشكل مستقل عن الفلكي الفرنسي لابلاس (Pierre-Simon Laplace)، فقد وضع نظرية تتضمن فرضية تسبب موجة من القوة في إحداث الزلزال، وهذه الموجة تشبه موجات الصوت، وافترض أن بركانًا سخّن طبقات من الصخور بشكل كبير، تحت سطح الأرض، تسبب في إحداثها.

أما الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (Immanuel Kant)، فقد اعتمد على نظريات وضعها أرسطو(Aristotle) لتفسير الزلازل. كان أرسطو يعتقد بأن الزلازل سببتها الرياح التي تمر عبر كهوف تحت الأرض، ومن ثم اقترح كانط بأن الزلازل ترجع إلى انفجارات وقعت في كهوف تحت الأرض. وقد نشر ثلاثة نصوص عن الكارثة؛ ناقش فيها الدروس الاخلاقية والفلسفية المستفادة من ذلك الدرس الطبيعي.

قدر الكثيرون من الفلاسفة والمفكرين أهمية كبرى لزلزال لشبونة، وأعتبره الكثيرون أيضًا أحد الظواهر التي مهدت لظهور عصر التنوير الأوروبي؛ فالفيلسوف الفرنسي فولتير (Voltaire)‏ مثلًا وضع قصيدة بعنوان "كارثة لشبونة" (le désastre de Lisbonne). وقد اعتبر فولتير الزلزال بأنه المحرقة الكارثية متسعة التأثير على الثقافة والفلسفة الاوروبيتين.

يقول فولتير:
-dir-ez-vous : « C’est l’effet des éternelles lois
Qui d’un Dieu libre et bon nécessitent le choix ? »
-dir-ez-vous, en voyant cet amas de victimes :
« Dieu s’est vengé, leur mort est le prix de leurs crimes ? »
Quel crime, quelle faute ont commis ces enfants
Sur le sein maternel écrasés et sanglants ?

هل تقول: "هو فعل الناموس الأزليّ
مَنَ الإله المطلق والخيّر بالضرورة في مشيئته؟"
هل تقول، عند رؤية هذه الكومة من الضحايا:
"انتقام الله، موتهم ثمنًا لجرائمهم؟"
يا لها من جريمة؛ أيّ خطأ ارتكبه هؤلاء الأطفال
على أثداءالأمهات المسحوقة والملطخة بالدم؟

أعاد زلزال لشبونة إلى الحوار فكرة الشر والألم، وفتح باب المناقشة والجدل بين المتدينين والعلمانيين في علاقة الميتافيزيقا بالظواهر الطبيعية، علاقة الإله الطيب بالنوازل التي تحيق بالبشر.

تفاؤل الفيلسوف الألماني لايبنيتز (Leibnitz) عندما نشر كتابه (Monadology) وهو رسالة منطقية طويلة تنتهي بحكمته: "ولهذا فتلك هي أفضل العوالم الممكنة"، وكان لايبنيتز هو صاحب نظرية (theodicy) التي تأسس عليها مذهب التفاؤل والتي تنص على: " كل شيء سيسير إلى الأفضل في أفضل العوالم الممكنة لأن الله إله محب للخير." وبالفرنسية بالتحديد :
""Tout est pour le mieux dans le meilleur des mondes,Dieu est un bon amant

وانحياز روسو (Rousseau)‏ إليه في معركته الفكرية مع فولتير، فما كان من فولتير إلا أن أصدر روايته الفلسفية الخيالية الشهيرة (صريح أو التفائل) (Candide ou l Optimisme)‏ التي سخر فيها- ضمنيًّا- من أفكارهما، أو بمعنى أدق أعاد النظر في مفاهيمه وخاصة تلك التي تثق بعناية الإله بالإنسان، وتبنيه المذهب الربوبي (Deism). تدور أحداث الرواية حول شاب بريء، تربى في منزل خاله الذي أسند تعليمه إلى أحد المعلمين، قام المعلم بترسيخ فكرة التفاؤل وحسن النية داخل الشاب، أدى ذلك إلى عزله عن العالم الخارجي، أهله لتوسم الخير في الجميع، نشأ على فرط الثقة في الناس.

باختصار فإن أثر زلزال لشبونة على أوروبا- بالتحديد- لم يقتصر على ما حدث للشبونة وسكانها، بل تعدى ذلك كثيرًا؛ فقد غير من منظومة الفكر الأوروبي وبدل في اليقينيات والمعتقدات، ومن ثم أثر بشكل غير مباشر على طريقة التفكير الإنسانية عمومًا.

بقي أن مناطق ما من العالم لم تتأثر بذلك كثيرًا، فهل يحدث ذلك في عالم ما بعد الكورونا؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة