الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بائع الثلج

سعد محمد موسى

2020 / 4 / 29
الادب والفن


أثناء تجوالي في قرية صغيرة ونائية في أطراف إحدى غابات فكتوريا إستوقفتني حينها عربة خشبية قديمة بعد أن مرت عليها سنوات طوال قبل أن تتوقف رحلة عجلاتها والى الابد في مرآبها الأخير.
أعادت تلك العربة الهرمة المتوقفة تحت شجرة السنديان الضخمة ذكريات تنوء بقصصها وأرتحالاتها كالصدى.
حينها تسللت الى ذاكرتي عربات أخرى عربات بعيدة جداً لمدينة كانت تنام بين تضاريس الملح والغبار جنوباً حيث "الناصرية" فنأت بيّ الاخيلة الى محطات الطفولة ثم قفزت الى حوض عربة الغابة وأغمضت عينيّ متذكراً عربات المدينة.

مثل عربة "زاير رشم" التي كان يجرها حمار هزيل وعربة الدفع اليدوية الخشبية المتهالكة التي كان يدفعها بائع المواد المستهلكة "علي دبة".
أما الحوذي بائع الثلج "وند" كانت عربته تقطع شوارع المدينة في الصباحات الصيفية الباكرة وهي تحمل جبل الجليد المغطى بالجنفاص.
كان وند كل فجر يتزود بتلك القوالب البلورية من معمل الثلج الكائن في أحدى أطراف مدينة الناصرية بعد أن يصفف ويرتب بالقوالب الثلجية على شكل هرم في حوض العربة الخشبية ثم يقودها حيث زبائنه في محلة السراي.
ولدى وصول العربة الى أول زبون يترجل وند من عربته بجسده الضخم وابتسامته الطيبة قابضا على طرف المنشار مع أدوات يدوية أخرى يقطع بها قوالب الثلج التي يصل طولها الى المتر فيقسمها بمهارة وبسرعة فائقة .. أرباع وأنصاف.. ويُخّرِج كل مرة قالباً يسحبه من تحت الجنفاص فيقطّعه أو يحمله بالكامل على كتفه ملفوفاً بقطعة جنفاص مبلولة تقطر من أطرافها قطرات الماء الباردة وفي نهاية كل إسبوع يستلم بائع الثلج من زبائنه رزقه البسيط.

كان حصان عربة الثلج ودوداً يومئ بالتحايا لخيول العربات الاخرى حين تمر على مقربة منه فينفخ زفير من منخريه وأحيانا يصحبها صهيل متقطع أو يضرب بحافر إحدى قوائمه الامامية بالارض ويحرك برأسه وينشر بخصلات شعر رقبته كسعفة تتماوج في مهب الريح تعبيراً عن الترحيب فترد الخيول على تحية الحصان أيضاً.
كان حصان وند يعرف رفاقه الاخرين مثل الحصان الادهم القوي الذي يجر عربة الطابوق المفخور من المعامل في أطراف المدينة وكذلك الفرس البيضاء التي تسحب خزان النفط بينما الزبائن تنتظر مجيء عربة النفط الابيض لمليء براميلهم وكذلك الخيول الاخرى التي تجر عربات تحمل بضائع متنوعة نقل المواد الغذائية وصناديق الفاكهة وهي تطوف ما بين الاسواق والمحال التجارية المنتشرة في المدينة.
وهنالك خيول كان يهتم بها أصحابها فيزينون أسرجتها بالاشرطة الملونة والبالونات والاجراس النحاسية التي تتراقص على رنين خببها حينما تمر بمحاذات العربة بينما حصان الثلج كالعادة يرحب حتى بالخيول العابرة والغريبة التي لم يشاهدها سابقاً.
حصان وند كانت مهنته في الصيف حمل قوالب الثلج أما في الشتاء حين يقل الطلب على الثلج فتتغير مهنته الى مهام أخرى مثل نقل البضائع والاثاث والمواد الاستهلاكية.

ذات صباح صيفي غابت عربة وند الثلجية فاصبحت البيوت دون ثلج وحزنت المحلة وعتبات البيوت التي أعتادت أنتظار العربة فتسائل الاطفال عن غياب قديس الثلج وحصانه البنيّ.

ولكن قبل أن أغادر عربة الغابة الفكتورية: تسألت عن مصير العربات الخشبية في المدينة لا سيما بعد أن مات الحوذيين وماتت خيولهم الصبورة والمتعبة.
أين ؟؟ باتت هياكل العربات هل أحرقتها المعامل والتنانير أم صنع منها الاطفال "عربات چروخ أم الصچم"؟؟!!
أو ربما نبتت على جانبيها أجنحة وحلقت عالياً نحو سماوات الله كي تلتحق بالحوذيين والخيول فعسى أن تستريح من قهر وعذابات إستعبادها !!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي


.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال




.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81


.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد




.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه