الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بوكًليب .. نعت وباء وذاكرة ..

عبد السلام انويكًة
باحث

2020 / 5 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


كان الوباء دوماً من أعظم مصادر مأساة الانسان عبر التاريخ، فمهما حصل من تحول وتقدم وتباين بين الشعوب هنا وهناك من بقاع الأرض، كان الوباء الحلقي ولا يزال حاضراً في انتظار فرص انتشار وفتك بضحاياه كلما توفرت شروط ذلك. وعند التأمل فيما ورد حول الأوبئة منذ القدم في كتب التاريخ على اختلاف مضانها، يجد المرء نفسه بدهشة صادمة لِما كانت عليه هذه الآفات الطبيعية من قسوة وشدة سحقت البشرية وألحقت بها عبر قرون من الزمن نزيفاً واسعا شمل ما هو ديمغرافي واجتماعي واقتصادي ونفسي وبيئي..
ويتبين من خلال نصوص اخبارية تاريخية وسيطية أن الانسان تعرض مند زمان لسلسلة أوبئة جمعت بين طاعون وجذري وحمى صفراء وملاريا وزهري وتيفويد وكوليرا وغيرها، رغم أن الاخباريين ومنهم المغاربة على امتداد فترات لم يكونوا يفرقون بينها من خلال وضعهم لها جميعها في خانة الوباء. كلها جوائح ومهالك أتت على ملايين القتلى بعض من هذه الآفات تم الخلاص منه بحكم ما حصل من تطور طبي وقائي وعلاجي، وآخر منها لا يزال منتصبا قائما ممتداً عبر حلقات مرعبة، ومن هنا ما هناك من أسئلة مقلقة حول أمراض معدية وأخرى متوطنة وبين ما يرتب ضمن الأوبئة.
وحول أمس الوباء تحديداُ القرن التاسع عشر، عرف المغرب عدة آفات دورية اشتدت وطأتها من جهة لأخرى ومن فترة لأخرى، مثلما حصل مع "الكوليرا" الذي يعد من أكثر أوبئة تاريخ البشرية الحديث. فالدراسات التاريخية الوبائية تقول هذا الوباء اجتاح العالم ما بين بداية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عدة مرات، بل لا يزال يعيشه في ظل وباء سابع له انطلق في بداية ستينات القرن الماضي من أسيا. وكان هذا الوباء دوما من أخطر الأمراض المعدية ومن الأربعة منها الأكثر فتكا بالإنسان الى جانب الطاعون والحمى الصفراء والجذري، بل تعد الكوليرا من أبشع المصائب بالنظر لأعراضها وأثرها وما يمكن أن تتسب فيه من انهيار جسدي للانسان.
ارتأينا من مساحة ما أصاب المغرب خلال القرن التاسع عشر من وباء، عندما بدأ الاخباريون المغاربة يميزون في نصوصهم بين الطاعون وغيره من الأوبئة، إثارة أزمتين من أزمات الكوليرا التي عصفت بالبلاد وكانت شاملة، الأولى ارتبطت بنهاية ستينات القرن والثانية ما حدث خلال نهاية السبعينات منه بعد عقد من الزمن بينهما. علما أن هذا الوباء خلال هذه الفترة تسبب في هلاك حوالي ستة آلاف من أهل الرباط وحوالي ثلاثة آلاف بتطوان سنة 1855، ومع نهاية نفس القرن وبعد تسربه عبر سفينة حجاج كان بأثر بليغ عام 1896، ولعله الوباء الذي نعته مغاربة هذه الفترة ب"بوكًليب" وقد كانت هناك صعوبات لوضع حد له بسبب ما كان من رفض لإجراء الحجر الصحي على المسافرين بحراً.
فحول كوليرا نهاية ستينات القرن التاسع عشر(1868) قالت نصوص اخبارية مغربية معاصرة أنه بدأ بقيء واسهال مفرطين، وأن تسربه للبلاد حدث عبر طنجة بحراً بسبب حجاج مغاربة وأن سفينة في هذا التاريخ كانت تحمل حجاجاً من مصر منعت من الرسو بالمدينة وعادت أدراجها الى الاسكندرية من جديد. ورغم ما كان من اجراء احترازي تجاه سفن الحجاج تسرب الوباء الى شمال البلاد حيث تطوان وطنجة، مع أهمية الاشارة الى أن محمد الأمين البزاز صاحب مؤلف "الأوبئة والمجاعات في المغب خلال القنين الثامن عشر والتاسع عشر" يذكر أن هذا الوباء تسرب قبل هذا التاريخ عبر حدود البلاد الشرقية التي ظلت مفتوحة، مضيفاً أن ما حصل من انتشار للعدوى بجهات البلاد ساعدت عليه ظروف المغاربة المعيشية، وأن عدد القتلى بسببه في طنجة لوحدها مثلاً كان بمعدل سبعة عشرة ضحية يومياً، قبل أن يقلع عنها في أواسط شهر فبراير من سنة 1868.
واذا كانت المصادر التاريخية تلتقي حول كون شمال البلاد شكل وجهة تسرب الوباء اليها، باعتبار طنجة وتطوان كانتا بوابتان بحريتان هامتان بهذه الجهة، فإن الوثائق هي بنوع من التضارب حول تاريخ تسرب"الكوليرا" اليهما خلال هذه الفترة، مع أن الراجح بحسب تقارير قنصلية هو أن المدينتين أصيبتا به دفعة واحدة عام 1868. وكان الوباء قد تجدد بطنجة صيف نفس السنة وبفتك شديد، قبل انتقاله لفاس التي كان بها حاداً جداً، فقد ورد عنه "وقد بلغنا أن الألم المعروف عند العامة ببوكًليب وصل لفاس، وكثر موت الناس به حتى بلغ الموتى به نحو الثلاثمائة ونصف في اليوم." هذا قبل زحفه الى مكناس ثم سلا والرباط. وكان هذا الوباء قد مكث بتطوان سبعة وثلاثين يوما وبطنجة سبعة وعشرين يوما وبالعرائش تسعة وعشرين يوما مع أطول مدة له سجلت بالصويرة بخمسة وسبعين يوما، وقد كان عدد ضحاياه في تطوان أربعمائة وثلاثة وثلاثين وفي طنجة أربعمائة وواحد وأربعين مع أكبر نسبة كانت في مراكش بألف وثلاثمائة ضحية.
ونظراً لِما كان عليه مغرب النصف الثاني من القرن التاسع عشر من عدم استقرار لأسباب عدة ومتداخلة داخلية وأجنبية، فإن ما اعتمده المخزن من حَرْكَات سلطانية طبعت هذه الفترة كان بأثر كبير في اتساع رقعة الأوبئة. فحَرْكة السلطان محمد بن عبد الرحمن مثلاً الى مراكش عبر بلاد زعير عرفت انتشاراً واسعاً للوباء بين عساكرها، بحيث أتت الكوليرا على ثلاثمائة منهم كمعدل يومي مما تسبب في خسائر بشرية كبيرة.
أما عن وباء "كوليرا" نهاية سبعينات القرن التاسع عشر(1878)، الذي قال عنه عبد الله العروي في "أصوله الاجتماعية" أنه كان ضمن دروة أزمة هذه الفترة التي انتهت الى اندحار كثير، فمن المفيد التأمل فيما ورد حوله في نص معاصر جاء فيه:" دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين وألف فكانت هذه السنة من أشد السنين على المسلمين قد تعددت فيها المصائب والكروب وتلونت فيها النوائب والخطوب.. فكان فيها أولا غلاء الأسعار..ثم عقب ذلك انحباس المطر..وأجيحت الناس وهلكت الدواب والأنعام، وعقب ذلك الجوع ثم الوباء ثلاثة أصناف، كانت أولا بالاسهال والقيء..ثم كان الموت بالجوع في أهل البادية خاصة هلك منهم الجم الغفير،.. وأمر السلطان..أن يرتبوا للناس من الأقوات.. وبعد هذا حدث الوباء بالحمى في أعيان الناس فهلك منهم عدد كبير." وكان وباء الكوليرا هذا خلال هذه السنة قد انطلق من مدينة مكناس في عز أزمة مجاعة طاحنة، وبما أنه أتى على عدد كبير من الناس بها فقد اضطر المجلس الصحي بطنجة لتوجيه طبيب اسباني الى المدينة أكد واقع الحال.
والى فاس من مكناس انتقل الوباء قبل تسربه شرقاً الى تازة بواسطة التجار، ومن هذه الأخيرة بلغ تاوريرت ودبدو وعيون سيدي ملوك ثم بلاد الريف قبل أن يصل الى وجدة. ومن مكناس أيضاً كبؤرة انتقل الوباء جنوبا الى تافيلالت ومراكش التي ورد أن بسبب ما حصل كانت جثث القتلى تملأ طرقات المدينة بحوالي ثلاثمائة قتيل يومياً، ومن مكناس انتقل الوباء الى مدن غرب المغرب الساحلية. وبطنجة في اطار اجراءات وقاية قرر المجلس الصحي انتداب حرس صحي على أبوابها لمنع كل قادم، نفسه الاجراء الذي اتخذ بتطوان التي ورد أنها أدت أفدح ضريبة له بشمال البلاد. وفي دراسة تاريخية قيمة للدكتور العربي كنينح حول قبيلة بني مطير بمنطقة سايس، ورد أنها تعرضت سنة 1878 لوباء رهيب أتى على عدد كبير من الأنفس في وقت كانت القبيلة فيه بصدد حرْكة سلطانية عرفت بحرْكة الوباء.
اطلالة خاطفة فقط حول حلقتين من حلقات جوائح مغرب القرن التاسع عشر وقد تعلق الأمر بوباء "الكوليرا"، تدفع للاشارة الى أن كل تشوف لكل تجديد في الكتابة التاريخية يقتضى جملة نقاط واعتبارات غير خافية على أهل الشأن من باحثين ومؤرخين. نعتقد منها أهمية انفتاح البحث والدراسة على قضايا زمن البلاد الاجتماعي، وما كانت عليه من انعطافات ومحطات وأزمات ديمغرافية. ورش كانت قد طبعته تطورات عدة هامة مع جيل الحوليات الفرنسية الثالث، من خلال ما حصل من ولوج لِما هو نوعي وبناء مفاهيم ونُظم.
وقد بات انفتاح البحث على قضايا فكر فقهاءنا الطبي منذ العصر الوسيط من خلال جمع ما يتعلق بذهنيات وعقليات، وجهة على درجة من الأهمية لإغناء نصوص تاريخية حديثة ومعها خزانة وطنية. فما هي عليه ذاكرة البلاد من أزمات طبيعية واجتماعية، تشكل زمنا وملفات داعمة لرهان دراسات ومقاربات وفق ما ينبغي من تقاطع منهجي ومعرفي، ما قد يسمح بمراجعات عدة حول هذا وذاك من تاريخنا عموماً.
ولا شك أن جوانب كثيرة من تاريخ المغرب الاجتماعي لا تزال بغير ما ينبغي من التفات علمي، رغم ما تراكم في هذا الباب من جهد ونصوص بقيمة مضافة عالية خلال العقود الأخيرة. ذلك أن مصائب البلاد الطبيعية من شدة دوراتها ملأت حيزاً هاما من زمنها بل هي بمحطات فاصلة فيه. وبقدر ما كان القرن التاسع عشر بآفات عدة خلفت أثرا وتدهوراً كبيراً على أكثر من صعيد، بقدر ما يتحدث الباحث والمؤرخ المغربي عما يسجل من عجز للمادة الوثائقية المتوفرة، في اسعاف البحث والدراسة لبلوغ تاريخ اجتماعي أكثر دقة لمغرب ما قبل الاستعمار بل حتى مجرد رصد تطور عام يغطي جهات البلاد.
وفي أفق تاريخ اجتماعي أهم يخص زمن المغرب المعاصر وحتى الراهن منه في سنواته الأولى، يتبين أنه من المفيد الانفتاح أكثر على الأرشيف الأجنبي عموماً ومنه الفرنسي والاسباني. لتأثيث مقاربات تخص مثلاً قضايا الأوبئة والمجاعات التي طبعت هذه الفترة، فالوثيقة الأجنبية قد تكون بمعطيات هامة تخص المجال المحلي من مدن وبوادٍ، وبالتالي امكانية سد ثغرات وبياضات في تاريخ البلاد الاجتماعي، فضلاً عما يمكن تحقيقه لفائدة خزانة تاريخية وطنية من خلال أبحاث ودراسات حديثة بقيمة مضافة أكثر أهمية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل بدأ العد العكسي لعملية رفح؟ | #التاسعة


.. إيران وإسرائيل .. روسيا تدخل على خط التهدئة | #غرفة_الأخبار




.. فيتو أميركي .. وتنديد وخيبة أمل فلسطينية | #غرفة_الأخبار


.. بعد غلقه بسبب الحرب الإسرائيلية.. مخبز العجور إلى العمل في غ




.. تعرف على أصفهان الإيرانية وأهم مواقعها النووية والعسكرية