الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن نجوم أريحا لليانة بدر

محمود شقير

2020 / 5 / 2
الادب والفن


بهذه الرواية الصادرة عن دار الهلال العام 1993، التي تقع في 237 صفحة من القطع المتوسط، تواصل ليانة بدر رحلتها الإبداعية التي ابتدأت ب "بوصلة من أجل عباد الشمس" ثم استمرت عبر مجموعة من الأعمال القصصية والروائية، مؤكدة على اعتناء الكاتبة بمادتها الأدبية، واشتغالها الدؤوب على اللغة المشحونة بالظلال والصور والإيحاءات، التي تجعل الكثير من مشاهدها القصصية والروائية لوحات فنية مرسومة بالكلمات.
والرواية التي بين أيدينا، تتحدث عن الوطن من موقع المنفى، ولا تتحدث عن المنفى إلا بقدر ما يسهم في إثارة الشوق الداهم الى الوطن، بعد أن تعبت بطلة نجوم أريحا "من لعبة التشابه التي يفرضها المنفى"، ومن مقارناته الدائمة بين النباتات والنباتات "وبعد أن صار بودها" استعادة المكان الأصلي" كي تكتشفه" من جديد بعيدا عن لعبة المقارنات" ص42.
وتتخذ الرواية من مدينة أريحا بكل ما تعنيه من جغرافيا وبشر وأنماط سلوك وحياة، ومن طبيعة وطقس ونبات، البؤرة التي تتمحور من حولها رؤى الكاتبة وأشواقها وتطلعاتها وحاجتها الى الوطن، عبر رصدها المتشعب للتفاصيل الحميمة الدالة على عدد كبير من علاقات، تتفاوت في عمقها مع بطلة الرواية التي تميزها ذاكرة متوقدة، تصارع المنفى باستحضار الوطن طازجا، وبإعادة رسم الأمكنة والناس على نحو فيه الكثير من البراعة وحسن الأداء.
وتبدو الرواية كأنها مزيج من النص الحداثي المفتوح القابل لاستيعاب كل ما تعتقد الكاتبة أنه ملائم لتوصيل أطروحتها الفكرية المتخفية في ثنايا النص غالبا، الظاهرة على نحو سافر في بعض الأحيان، ومن السيرة الذاتية التي ترسم أجمل اللوحات، وأكثرها إثارة للأسى، للأم التقدمية ذات الجوارب "الصوفية القصيرة، بلونها الرمادي وشكلها الرجالي" ص50، التي تموت في عز الشباب، وللأب الطبيب، المناضل الذي يتخطفه السجن حينا، ويتخطفه المرض حينا آخر، "مرتميا على الوسادة لا يملك تحريك جسده" ص218، بعد أن كانت له حياة مليئة بالتجارب والخبرات، ولبطلة الرواية، وخصوصا في مرحلة الطفولة المندهشة بالعالم وأشيائه التي تقع تحت حس الطفلة وبصرها واهتماماتها التي لا حدود لها.
لقد وزعت ليانة بدر مادتها الروائية على عشرة فصول، يحمل كل فصل منها عنوانا له صلة بموجودات الطبيعة من حجر ونحاس وذهب وياقوت ولازورد ورصاص وياسمين، بما يسهم، عبر اللعبة اللغوية التي تتقنها الكاتبة، في رفد ما هو يومي وواقعي ببعض ملامح الأسطورة، وبما يساعد على استخراج ما هو أعم وأكثر دلالة، من ثنايا هذا اليومي والواقعي، وبحيث تبدو الأمكنة والناس وعناصر الطبيعة كأنها أقانيم تتبادل التأثير فيما بينها على نحو خفي ودون انقطاع.
وإذا كان تقسيم الرواية إلى فصول متساوية تقريبا، يوحي ظاهريا بحالة من النسج على المثال التقليدي المعروف في كتابة الرواية، فإن مثل هذا الوهم يتبدد حال الشروع في قراءة الرواية، واكتشاف أن فصولها لا تفضي الأحداث فيها الى بعضها بعضاً على نحو متتابع رتيب، بل إن الكاتبة تعمد دوما الى كسر رتابة السرد، عبر تداخل الأزمنة، والذهاب من الحاضر الى الماضي، ومن الماضي الى الحاضر، وعبر استحضار مختلف الشخوص في حالات كثيرة متباينة، والتنقل عبر الذاكرة، من المنفى الى الوطن، ومن الوطن الى المنفى، بحيث نجد أنفسنا في نهاية المطاف أمام حياة كاملة متشعبة متشابكة، عاشها الفلسطينيون قبل نكسة العام 1967 وبعدها.
إن هذه النكسة التي أشارت الكاتبة إليها على نحو بارز في الفصل الثامن من الرواية، ص 173، هي التي قلبت حياة بطلة الرواية، البنت المراهقة الشابة، رأسا على عقب، فإذا غضضنا النظر عن الوصف الفوتوغرافي الخارجي الذي لا يضيف الى الرواية الشيء الكثير، وبالذات في الصفحات الأربع الأولى من هذا الفصل إياه، فإن كل زخم الرواية، وعذابات المنفى التي عاشتها بطلة هذه الرواية، إنما تقع بعد هذه النكسة، بحيث تصبح أريحا، المدينة التي نشأت فيها البطلة وصديقاتها، أيام الدراسة، اللواتي تفرقن بعد ذلك في أرجاء الدنيا كلها، تصبح، المدينة الحلم التي "منذ خرجت (منها) فقدت العناصر معادنها، العلاقات قوة بنائها، الصداقات قدرة تماسكها ص55، وحيث "اين لي ان اعرف من أكون بعيدا عن أريحا؟ من أنا والبيوت التي سكنتها تشبه السفن يتجدد إبحارها بين الأمكنة؟ ص 209.
ولأن الوطن بعيد، والمنفى باهظ على النفس، تلجأ ليانة بدر الى اللغة... لغة الوصف التي برع فيها أنصار الرواية الجديدة في فرنسا وغيرها، والتي تميز بها في ساحة الإبداع العربي، الكاتب المصري إدوار الخراط، ومريدوه من أنصار "الحساسية الجديدة". الذين استعاضوا عن السرد ذي المواصفات الفوتوغرافية الخارجية، بالوصف الذي يجسد الموجودات الخارجية بعد ان تكون قد اصطبغت بالذات التي تعانيها، وبأحاسيس الذات تجاه هذه الموجودات. وإذا كانت اجتهادات بعض أنصار هذا التيار، أو غالبيتهم، قد أوصلتهم الى شكلانية صرفة بسبب اقتصارهم على وصف لا يفضي الى أية دلالة محددة، فإن ليانة بدر لا تجاريهم في مثل هذا الترف، وهي تذهب الى مثل هذا الوصف القادر على التجسيد، لتقديم أطروحتها الفكرية والأيديولوجية التي تشكل لديها هاجسا ملحا، بأبهى صورة ممكنة، وبما يسهم في التأثير على القارئ واجتذابه لما تقترحه عليه من رؤى واجتهادات وأفكار.
إن عودة سريعة الى الرواية، ترينا الى أي حد استطاعت الكاتبة أن تجسد صورة أريحا في الأذهان، وكذلك صورة القدس، بأزقتها وأسواقها وأماكنها المقدسة وشوارعها وبيوتها وأحيائها، مثلما استطاعت أن ترسم شخوص روايتها، سواء منهم من أخذ حيزا كبيرا في الرواية أو من كانت لهم أدوار هامشية محدودة.
غير أن الكاتبة وهي تمعن في تقديم أطروحتها الفكرية في ثنايا الرواية، لم تحترس في بعض الأحيان من الوقوع في شرك المادة الجاهزة، المعطاة من خارج النص الروائي، والمضافة إليه، ليس باعتبارها جزءا لا ينفصم من بنيته، وإنما باعتبارها إضافة كمية قد تسهم في تكثير القضايا التي تتناولها الرواية، ولكنها تفعل ذلك على حساب بنيتها، وعناصر الربط الداخلية بين أجزائها. وللتدليل على ذلك أشير الى التفصيل الزائد المتعلق بالحديث عن تصريحات شامير رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك حول احتمال قصف سفينة العودة بالصواريخ ص5، والى الملاحظات الذهنية حول القراءة الرشيدة ص 116، والى تعديات المستوطنين على المباني القديمة في القدس ص181، والى مشكلة سرحان سرحان ص 197، ورجاء أبو عماشة وكذلك الى كل ما يتعلق بحرب الخليج الثانية والاستنتاجات السياسية المرتبطة بها.
في الوقت نفسه، ينبغي القول إن الرواية حفلت بالكثير من المشاهد الجميلة، واللمحات الذكية التي زادتها رونقا، ثقافة الكاتبة وإلمامها بالكثير من المعارف التي جاءت مبثوثة في الرواية على نحو ملائم ودون تزيّد أو حذلقة، ما جعل الرواية، الى جانب مستواها الفني المتقدم، مشتملة على بعد معرفي غير قليل، يتطلب ممن يقرأها بذل جهد ملموس للوقوف على تفاصيلها، ولتحقيق متعة القراءة على نحو أكيد.
وتحية للكاتبة ليانة بدر على هذا الإبداع الموصول.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج