الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة والثورة المضادة - تشيرنيشيفسكى ، لينين ، تروتسكى

سعيد العليمى

2024 / 2 / 16
الارشيف الماركسي


رسائل بلاعنوان - الرسالة الاولى - تشيرنيشيفسكى
من مقدمة النشرة الصادرة عام 1986 بقلم إيجور كونداكوف:
عنوان هذه المادة الصحفية مثل عناوين سائر مقالات تشيرنيشيفسكي المخصصة للنشر
في الصحافة العلنية ينطوي على عدة معان خفية. والمعنى المباشر هو أن المرسل إليه
شخص ما غير مسمى يقول له تشيرنيشيفسكي (سيدي المحترم) وهي صيغة مألوفة
للمخاطبة في رسائل ذلك العصر. والمعنى الثاني مستتر ويتبين من السطور الأولى هو أن
المقالات موجهة إلى خصم سياسي لا ينتظر المؤلف ردا صريحا منه بل وقد لا يحتاج إلى
أي حوار معه، وبذلك تكون "الرسائل بدون عنوان" نوعا من الرسائل الموجهة إلى الفراغ أو نوعا من الخطاب المفتوح المناشد للرأي العام أو الموجه "إلى الجميع". أما المعنى الثالث وهو الأكثر احتواء على روح التمرد والمتلخص في أن المرسل إليه هو القيصر الروسي نفسه وهذا ما يصبح واضحا تماما – إذا قرأنا الرسائل بإمعان – في سياق كل المقارنات والمقابلات السياسية التي يمارسها المؤلف.
__________________________
سيدي المحترم،
سيادتك غير راض عنا فليكن الأمر كما تشاء إذ أن الإنسان غير قادر على مراقبة مشاعره ونحن لا نسعى إلى نيل استحسانك. إن هدفنا مختلف وقد ينطبق على هدفك ويتلخص في أن نكون مفيدين للشعب الروسي. وبالتالي فالامتنان المتوقع مقابل أعمالكم وأعمالنا لن يكون صادرا منا أو منكم إنما الذي يحكم في هذا الجهد ويقوم بتقييمه موجود خارج دائرتكم القليلة الأفراد جدا بل وخارج دائرتنا التي أفرادها أكثر تعدادا بكثير ومع ذلك ليست إلا جسيما تافها ضمن عشرات الملايين من الذين نرغب نحن وأنتم في العمل من أجل خيرهم. ولو استطاع ذلك الحاكم المفترض أن يعطي تقديرا واعيا لأعمالكم وأعمالنا لكان أي إفصاح متبادل بينك وبيننا زائدا عن اللزوم. مع الأسف الأمر ليس كذلك. إنه يعرف اسمك إلا أن دائرة التصورات والأوضاع الخاصة بك غريبة عليه إطلاقا وبذلك ليس عنده أدنى إدراك لأفكارك أو الأسباب الحافزة لأعمالك. أما نحن فلا يعرف حتى أسماءنا. وأرجو أن توافقني يا سيدي المحترم في أن هذا الوضع غير طبيعي فالعمل من أجل أناس لا يتفاهمون مع الذي يقوم به إنما شيء غير مريح إطلاقا بالنسبة للعاملين وغير نافع لإنجاح العمل. هناك مثلا قضية ما تعتقد أنها ستأتي بفائدة ثم تجد أنها بقيت غير منجزة لعدم وجود التعاطف في هؤلاء الذين كانت ستنجز من أجلهم. وقد ذقتها سيادتك يا سيدي المحترم عند كل عمل خير قمت به كما ذقناها مرات كثيرة نحن الآخرين. إنه لشيء محزن ومغضب ويجعل المرء متريبا ومضطربا لا يجرأ على تعليل الفشل بسببه الحقيقي المتلخص في عدم التماثل والتفاهم بينه وبين الناس الذين يبذل الجهود من أجلهم. ويكون الاعتراف بهذا السبب صعبا بمكان لأنه يضيع كل أمل في نجاح الطريقة التي تتبعها مما يجعلك ترفض الاعتراف بهذا السبب الحقيقي وتحاول أن تجد تبريرا تافها للفشل في أوضاع عرضية قليلة الشأن يبدو القيام بتغييرها أسهل من اختيار طريقة مختلفة للعمل. وبهذا الأسلوب تقومون بإلقاء المسئولية عن فشلكم علينا في حين يعتقد بعض منا أنكم تمثلون السبب في فشلهم. حبذا لو كان الحق معكم أو مع تلك الجماعة من زملائنا فيما يخص تعليل أسباب الفشل، وعندئذ تحل المشكلة بسهولة تامة عن طريق إزالة العقبة الخارجية التي تعيق نجاح القضية. ولكن من المؤسف فعلا أن أي نشاط موجه ضدكم من طرفنا وأي نشاط موجه ضدنا من طرفكم لا يمكن أن يأتي بشيء مفيد. يبقى الشعب خاملا غير مبال فما فائدة عنايتكم أو اهتمامنا بخيره حتى لو انفردنا نحن أو أنتم في حقل العمل؟
إنكم تقولون للشعب: عليك أن تسير في الاتجاه الفلاني.. ونحن نقول له: عليك أن تسير في الاتجاه الفلاني. ولكن أفراد الشعب كلهم تقريبا يسودهم النعاس.. أما هؤلاء القلائل الذين قد استيقظوا فيجيبون قائلين: إن هناك نداءات إلى الشعب تدوي منذ مدة طويلة بأن يسير في طريق أو آخر.. وقد حاول الشعب مرات عديدة الإصغاء إلى هذه النداءات ولم يحصل على فائدة. لقد دعوا الشعب لتخليص موسكو من البولنديين فنهض الشعب وخلصها فمكث بحالة أسوأ من السابقة ولا يمكن أن تكون أسوأ لو بقي تحت البولنديين. ثم قالوا له: اذهب لتخليص مالوروسيا (روسيا الصغرى) فقام بتخليصها دون أن تتحسن حالته أو حالة مالوروسويا نفلسها. قالوا له: عليك أن تحارب من أجل علاقتك مع أوروبا فذهب لينتصر على السويد وكانت غنيمته – إلى جانب موانئ البلطيق – هي فقط الحصول على نظام التجنيد وتوكيد القنانة. وبعد ذلك وفي مطاوعة لنداءات جديدة تغلّب مرارا على الأتراك واستولى على ليتوانيا ودمر بولندا ولم يحصل أيضا على أية فائدة لنفسه. ثم قاموا بتحريكه ضد نابوليون فأحرز لدولته على المكانة الأولى في أوروبا وتُرك في نفس حالته السابقة. وبمثل هذا الشكل كانت استفادته من النداءات الأخرى المتتالية على نفس المنوالإذن فمن يتحمل المسئولية عن عدم الثقة الشعبية .. أنتم أم نحن القوم المعاصر؟
إن النمط الراهن لأفكار الشعب لم يتبلور إلا بعد مسار طويل من الأحداث التي سبقتكم وسبقتنا. فلنحاول أن نفهم هذه الواقعة.
الحقيقة مرة بالنسبة لكم وبالنسبة لنا على حد السواء فالشعب لا يظن أن العناية به من أي طرف كان قد يسفر عن شيء يستفيد به. إننا جميعا – نحن الذين نفصل أنفسنا عن الشعب بأي اسم كان – باسم السلطة أو باسم فئة اجتماعية ذات امتياز – نحن الذين نؤمن بوجود مصالح لنا مختلفة عن مواضيع الرغبة الشعبية – وقد تكون مصالح الجبروت الدبلوماسي والعسكري أو مصالح التصرف بالشئون الداخلية أو مصالح ثروتنا الشخصية أو مصالح التوعية – إننا جميعا نشعر في حدس غامض بالنهاية التي يقترب منها الأمر نتيجة النمط المذكور للتفكير الشعبي . وعندما يتوصل الناس إلى الفكرة المتلخصة في "أنني لا يمكن أن أتوقع من أي طرف أن يأتي بفائدة في أموري" فلا بد من أنهم يستنتجون سريعا أن عليهم أن يقدموا على ترتيب أمورهم بأنفسهم. وكل الأشخاص وكافة الطبقات الاجتماعية المنفصلة عن الشعب يرتعشون أمام هذه النهاية المرتقبة*.
________________________________________
* النهاية المرتقبة: يقصد بها الثورة الفلاحية الشعبية التي كان تشيرنيشيفسكي وشركاؤه في الرأي يوقتون لها أن لا تحدث قبل ربيع 1863 . وكان تشيرنيشيفسكي يعتقد في لحظة تأليفه (الرسائل بلا عنوان) – وهي أوائل 1862 – أن الشعب ليس مستعدا للثورة من حيث الوعي ولا من الناحية العملية. من هنا نجد العتاب على الخمول والجهل والخرافات الوحشية والحقد الأعمى وهي في رأيه صفات الشعب الذي لم يقم الثوريون المحترفون بتنظيمه وتوعيته حتى ينتفض للصراع الواعي الهادف إلى الإبداع لا تدمير الحضارة (ملاحظة إيجور كونداكوف).
______________________________________
ونحن مثلكم نفضل تجنب هذه النهاية ونتبنى الرأي القائل بأن مصالحنا نحن الآخرين ستتضرر منها .. حتى تلك المصلحة التي نحب أن نظهرها وكأنها المقصد الوحيد لرغباتنا وذلك لأنها صافية نزيهة .. إلا وهي مصلحة التوعية . ونرى أن الشعب جاهل وطافح باعتقادات كريهة وحقد أعمى على كل من يرفض عاداته الوحشية. ولا يفرق بين الأفراد الذين يلبسون ملابس إفرنجية فمعاملته واحدة لهم جميعا. ولن يرحم بعلومنا ولا بشعرنا وفنوننا وسيستهل بتدمير حضارتنا برمتها.
.. فكيف نتوقع أن يستثير الآن بنداءات جديدة مهما كانت؟ إنه لا ينتظر منها أن تعود له بأية فائدة كما في السابق. ______________________________ لهذا السبب نعارض أيضا محاولة الشعب المرتقبة للتخلص من كافة أنواع الحماية والقيام بتدبير أموره بنفسه. ويشلّنا الخوف على أنفسنا وعلى مصالحنا لدرجة أننا نرفض حتى مناقشة اتجاه سير الأحداث الذي قد يكون مفيدا للشعب نفسه .. وبغية استبعاد النهاية التي تخيفنا فإننا مستعدون أن ننسى الكل .. ننسى حبنا للحرية وحبنا للشعب*. ____________________________ * هذه المعضلة ليس فيها مجرد أسلوب التحايل على الرقابة .. ومع أن تشيرنيشيفسكي وشركاءه في الأفكار لم يكونوا (مشلولين) بآفاق الثورة الشعبية الوشيكة الحدوث إلا أن الثوريين الديمقراطيين كانوا يخافون فعلا من إمكانية نشوب انتفاضة شعبية عشوائية خارجة عن السيطرة وعديمة العقيدة وبالتالي عمياء في قوتها المدمرة بلا جدوى .. وبحيث لم يسبق لها أي إعداد أو تخطيط فإنها قد تنقلب ضد المثل العليا التقدمية لتنظيم المجتمع التي يؤمن بها الثوريون الديمقراطيون وستنتهي بهزيمة محتمة (ملاحظة إيجور كونداكوف). ____________________________ وتحت تأثير هذه المشاعر أتوجه إليك يا سيدي المحترم بسرد أفكاري حول الوسائل التي تسمح بتجنب النهاية الخطرة بالنسبة لنا ولكم على حد سواء. وإنني إذ أقوم بذلك أدرك جيدا ما أفعله. إنني أخون الشعب*. __________________________ * الخيانة طبعا تخيلية .. مع أن مقصد المؤلف يكمن في أنها يجب أن تبدو للمرسل إليه المفترض وللرقابة بل ولمعظم قراء (الرسائل) نوعا من الحل التوفيقي بين الثوريين والإصلاحيين وهو حل اضطراري بمقتضى الظروف التاريخية الناشئة ___________________________ أخونه لأنني أسترشد بتخوفاتي الشخصية على شيء ذي قيمة أغلى بالنسبة لي منه بالنسبة للشعب ألا وهو التنوير.. ولم أعد أفكر فيما إذا كان الشعب يستفيد من العناية بحل تعقيدات وضع الأمة الروسية بجهودكم وجهودنا .. إنما بالعكس .. ألا يربح الشعب وهو مستقل عنا في تدبير شئونه القومية أكثر مما في حالة استمرار عنايتنا به . وهنا ولمصلحتي الشخصية أقوم بكبت عقيدتي القائلة بأن الناس لا يستفيدون من أي عناية خارجية بقدر ما يستفيدون من نشاطهم المستقل في ممارسة أمورهم. أجل .. إنني أخون عقيدتي وأخون شعبي وهذا لشيء دنيء . ولكننا قد اضطررنا قبل ذلك إلى القيام بأعمال دنيئة بعدد لا يهم معه إضافة واحد آخر. وأستشعر بأن هذا العمل سيكون زائدا عن اللزوم ولن يتم بلوغ الغرض الحقير الذي أخون الشعب من أجله. ولا أحد يستطيع تغيير سير الأحداث .. ويريد بعضهم أن يقوموا بذلك ولكنهم لا يملكون الوسائل المطلوبة .. بينما هناك بعض آخر عندهم وسائل ولكن لا يمكن أن تنشأ عندهم الرغبة. لماذا إذن أخون شعبي وأنا على يقين من أنني لن أساعدكم ولا أساعد نفسي؟ ألا يحبذ أن أستمر في التزام السكوت؟ بلى .. يكون أحسن .. ولكن الكاتب اعتاد أن يأمل في قوة الكلمة .. وهذه العادة الملعونة تخدر عقلي وتجعلني عاجزا عن التمسك بالحصافة الطبيعية التي تقنعني بأن أي توضيحات – مهما كانت – ليس لها جدوى .. وكلما حاولت أن أتمسك بوجهة النظر تلك تضللني الفكرة الاعتيادية بالنسبة للكتّاب والقائلة: آه لو كان من الممكن توضيح الأمر لكان قد ترتب من تلقاء نفسه! هذا الظرف بالذات جعلني أبقى ساكتا أكثر من سنتين* لمجرد انعدام الإمكانية لشق العنان بالكلمات .. وها أنا أعود إلى هذا العمل التافه من أول دقيقة تهيأ لي فيها أنني أستطيع العودة إليه. _____________________________ * في ظروف الحظر الرقابي لم يمارس تشيرنيشيفسكي خلال عامي 1860 – 1861 كتابة مقالات مكرسة خصيصا للمسألة الفلاحية. وفي عام 1862 صدر أمر رسمي يسمح للصحافة بمناقشة العلاقات الناجمة عن الإصلاح الزراعي وكذلك مناقشة الإصلاحات السياسية والمدنية (ملاحظة إيجور كونداكوف). _____________________________ لماذا تهيأ لي ذلك؟ كلما تصفحت مجلة أو جريدة تقع بين يدي أجد فيها ما يدل على احتمال وجود الحاجة إلى توضيحاتنا. قد تكون هذه الدلائل خادعة* .. ولكن الميل إلى إحراز نتائج جيدة بواسطة التوضيحات شديد جدا لدى الكتّاب ولذلك فأنا مولع به. _____________________________ * يقصد المؤلف الدلائل على تكريس الديمقراطية في الحياة الاجتماعية وتوسيع حرية الصحافة وتخفيف الضغط الرقابي وما إلى ذلك (ملاحظة إيجور كونداكوف). ____________________________ إن هذا الولع لا عذر له بعد مرورنا بذلك العدد الكبير من التجارب .. لكنني أبذل جهدي لأغض نظري عن تفاهته وأردد لنفسي الوقائع التي طبيعتها قد تجعلك يا سيدي المحترم تشرع فعلا في البحث عن التوضيحات. سأسرد لك بعض هذه الوقائع: إن أقنان الأرض سابقا الذين يطلق عليهم حاليا فلاحو التعهد المؤقت لا يقبلون وثيقة تعيين الحصة .. تبين أن الاستمرار المفترض للعمل الإلزامي مستحيل .. تبين أن التوفيق الطوعي المفترض بين الإقطاعي وبين من يقطن على أرضه من فلاحي التعهد المؤقت مستحيل .. في هذه الظروف التي لا تعد بإيجاد الحل فإن الإقطاعيين يتذمرون ويقدمون مطالب لم يتجرؤوا على ذكرها منذ فترة لا تزيد عن سنة .. لقد نشأ في الدولة ولا يزال يزداد العجز النقدي العام .. السعر ما زال في الانخفاض بمعنى أن قيمة العملة المعدنية ترتفع وقيمة الروبل الورقي تنخفض .. إن هذه الوقائع المذكورة أعلاه والخاصة بحياة الشعب الروسي الداخلية كافية تماما ولا حاجة إلى أن أتطرق إلى بقية الوقائع الهامة العديدة من تلك الحياة الداخلية* ولا إلى وقائع أخرى لا تقل أهمية وتخص علاقات الشعب الروسي بحياة شعوب أخرى تدخل معه الآن في قوام واحد**. __________________________ * تلميح إلى الحركة الفلاحية والطلابية سنة 1861 والتي قمعتها القوات القيصرية. ** يقصد هنا حركة التحرير الوطني البولندية وهي تعتبر من أكثر المعضلات إلحاحا في العلاقات بين القوميات في روسيا. __________________________ وتفضلوا يا سيدي المحترم بقبول التأكيد على إخلاص مشاعر خادمكم المطيع التي جعلته يباشر هذه التوضيحات .. وأتشرف.. إلخ.

*********************************************************************************************************************************************************************
البورجوازية والثورة المضادة - ف إ . لينين
كانت روسيا فى عام 1905 فى ذروة مدها الثورى . فقد كنست البروليتاريا دوما بوليجين وجذبت الجماهير لصراع مكشوف ضد الاوتوقراطية . والان ونحن فى اكتوبر 1907 فإننا فى ادنى نقطة جزر من الصراع الجماهيرى المكشوف . ولكن فترة الهبوط التى اعقبت هزيمة ديسمبر 1905 جلبت معها ليس فقط ازدهارا للاوهام الدستورية ، وانما تبديدا كاملا لهذه الاوهام . فبعد حل مجلسي الدوما وانقلاب 3 يونيو ، فإن الدوما الثالث ، الذى سوف ينعقد ، يضع بوضوح نهاية لفترة الاعتقاد فى امكان قيام تعايش سلمى بين الاوتوقراطية والتمثيل الشعبى ويشير لحقبة جديدة فى تطور الثورة .
تفرض المقارنة نفسها فى لحظة كهذه ، بين الثورة والثورة المضادة فى روسيا ، بين فترة الهجوم الثورى ( 1905 ) وبين فترة لعب الثورة المضادة بالدستور ( 1906 – 1907 ) كنتيجة منطقية . وهذه المقارنة متضمنة فى اى محاولة لتحديد خط سياسي للمستقبل القريب . معارضة " اخطاء الثورة "او " الاوهام الثورية " ب " العمل الدستورى الايجابى " هى الفكرة الاساسية فى الادب السياسي هذه الايام . يصرخ الكاديت بذلك فى اجتماعاتهم ماقبل الانتخابية . وتنشد الصحافة الليبرالية ، وتنوح ، وتتبجح بها . ولدينا هنا السيد ستروفه ، الذى يصب جام غضبه بعنف واحتقار على الثوريين لأن آماله فى اجراء " مساومة " قد تبددت كليا . ولدينا هنا ميليوكوف ، رغم مسلكه الجزويتى المتصنع ، فقد اضطره مجرى الاحداث الى ان ينطق بهذا التصريح الواضح ، الدقيق ، وقبل كل شئ الصادق بأن " الأعداء على اليسار " . لدينا هنا ناشرون من نفس لون جريدة تافاريش ، مثل كاسكوفا ، سميرنوف ، بليخانوف ، جورن ، يوردانسكى ، شيريفانين وآخرون الذين يستنكرون نضالات اكتوبر – ديسمبر بوصفها حماقة ، ويروجون بدرجة او بأخرى من العلنية لإئتلاف " ديموقراطى " مع الكاديت . تعبر العناصر الكاديتية الحقيقية فى هذا التيار العكر عن المصالح البورجوازية المضادة للثورة والخنوع الذى لاحد له لابتذال المثقفين . اما بالنسبة للعناصر التى لم تغرق بعد لنفس المستوى الذى بلغه السيد ستروفه ، فإن سمتهم الاساسية هى اخفاقهم فى فهم الارتباط بين الثورة والثورة المضادة فى روسيا ، وعدم قدرتهم على رؤية كل شئ خبرناه بوصفه حركة اجتماعية متكاملة تتطور بالتوافق مع منطق تطورها الداخلى .
لقد اظهرت فترة الهجوم الثورى فى العمل التركيب الطبقى لسكان روسيا وموقف مختلف الطبقات ازاء الاوتوقراطية القديمة . لقد علمت الاحداث الجميع الان ، بمن فيهم هؤلاء الغرباء كلية عن الماركسية ، ان يعتدوا بحوليات الثورة منذ 9 يناير 1905 ، اى ، من الحركة السياسية الاولى الواعية للجماهير التى تنتمى الى طبقة محددة بمفردها . حينما استنبط الاشتراكيون الديموقراطيون من تحليل وقائع روسيا الاقتصادية ، الدور القيادى ، وهيمنة البروليتاريا فى ثورتنا ، بدا ذلك وكأنه غواية نظريين غارقين فى الكتب . وقد صادقت الثورة على نظريتنا ، لانها النظرية الثورية الوحيدة حقا . تسنمت البروليتاريا موضع القيادة كل الوقت . وقد برهن الاشتراكيون الديموقراطيون بالفعل انهم طليعة البروليتاريا . لقد تطور الصراع الجماهيرى تحت قيادة البروليتاريا بسرعة ملحوظة ، اسرع مما توقع عديد من الثوريين بكثير . وفى مجرى عام واحد بلغ اكثر اشكال الهجوم الثورى حسما عرفها التاريخ وصولا الى – الاضرابات الجماهيرية والانتفاضات المسلحة . ومضى تنظيم الجماهير البروليتارية الى الامام بسرعة مدهشة فى مجرى الصراع نفسه . اتبعت اقسام اخرى من السكان تضم المراتب المقاتلة للشعب الثورى ، قيادة البروليتاريا وبدأت فى ان تنظم نفسها . وبدأت كتلة اشباه البروليتاريين من انواع مختلفة من العمال غير اليدويين فى ان تنظم ، وتبعتها الديموقراطية الفلاحية ، والانتليجنسيا المهنية ، وما الى ذلك . كانت فترة الانتصارات البروليتارية هى فترة نمو للتنظيم الجماهيرى بشكل لاسابق له فى التاريخ الروسي بل وواسع حتى بالمعايير الاوروبية . لقد كسبت البروليتاريا لنفسها فى تلك الآونة بضع تحسينات فى ظروف عملها . ونال جمهور الفلاحين " حدا " للسطة التحكمية لملاك الارض ومبالغ اقل لايجارات وبيع الارض . ونالت روسيا كلها درجة معتبرة من حرية الاجتماع ، والكلام وتكوين الجمعيات ، ودفعت الاوتوقراطية لأن تشجب ممارساتها القديمة وتعترف بالدستور .
ان كل ماكسبته حركة التحرر فى روسيا حتى الآن انما كسبته كلية وحصريا من خلال النضال الثورى الجماهيرى بقيادة البروليتاريا .
بدأت نقطة التحول فى النضال مع هزيمة انتفاضة ديسمبر ، واتجهت الثورة المضادة خطوة فخطوة الى الهجوم حيث ضعف النضال الجماهيرى . كان هذا النضال فى فترة الدوما الاولى مازال ظاهرا لحد هائل فى تعاظم الحركة الفلاحية ، وفى الهجمات المنتشرة على اعشاش ملاك الارض شبه الاقطاعيين ، وفى بضع تمردات فى اوساط الجنود .
هاجمت الرجعية ببطء فى هذا الوقت ، ولم تجرؤ على ان تقوم بانقلاب فورى . تصرفت بشكل اكثر جرأة بعد قمع انتفاضتى سفيبورج وكرونشتادت فقط فى يوليو 1906 ، حينما ادخلت نظام المحاكم العسكرية ، بدأت تدريجيا فى حرمان السكان من حق الانتخاب ( تفسيرات مجلس الشيوخ ) ( 1 ) ، واخيرا طوقت الدوما الثانى تماما بحصار بوليسي واطاحت بكامل الدستور الشهير . استبدلت كل التنظيمات الجماهيرية الحرة المؤسسة ذاتيا فى هذا الوقت ب " النضال القانونى " ضمن اطار الدستور البوليسي كما يفسره اتباع دوباسوف وستوليبين . وحلت قوة الكاديت محل جبروت الاشتراكيين الديموقراطيين ، الذين هيمنوا على مجلسي الدوما . لقد كانت فترة هبوط الحركة الجماهيرية هى فترة ذروة تطور حزب الكاديت . وقد استغل هذا الهبوط بتصدره المقدمة بوصفه " بطل " الدستور . لقد عزز الايمان بالدستور وسط الشعب بكل قوته وبشر بالحاجة بالالتزام بدقة بالنضال " البرلمانى " .
ان افلاس " دستور الكاديت " هو افلاس تاكتيكات الكاديت وهيمنة الكاديت فى النضال التحريرى . يصبح الطابع الطبقى الانانى لكل حديث ليبراليينا عن " اوهام الثورة " و " اخطاء الثورة " واضحا بجلاء حينما نقارن بين فترتي الثورة . لقد حقق النضال البروليتارى الجماهيرى مكاسب لكل الشعب . ولم تحقق القيادة الليبرالية شيئا سوى الهزائم . لقد رفع هجوم البروليتاريا بثبات الوعى السياسي لللجماهير وكذلك درجة تنظيمها . وقد وضع بشكل متزايد اهدافا اعلى امامها ، ودفعها للمشاركة المستقلة فى الحياة السياسية ، كما علمها القتال . ان هيمنة الليبراليين خلال فترتى مجلسي الدوما قد خفضت الوعى السياسي للجماهير ، ودهورت تنظيمهم الثورى ، وعتمت ادراكهم للاغراض الديموقراطية .
لقد قدم الليبراليون فى الدوما الاولى والثانية عرضا فخما ل " النضال " القانونى الذليل ، الذى كانت نتيجته ان كنس مروجوا القنانة الاوتوقراطيون الجنة الدستورية لثرثارى الليبرالية بجرة قلم وهزأوا بالدبلوماسية الماكرة لزوار الغرف الخلفية الوزارية . ليس لدى الليبراليين مكسب واحد يعرضوه ، طوال مسار الثورة الروسية ، ولانجاح واحد ، ولامحاولة ديموقراطية واحدة ، لتنظيم قوى الشعب فى النضال من اجل الحرية .
حافظ الليبراليون حتى اكتوبر 1905 ، احيانا على حياد خيرى ازاء نضال الجماهيرالثورى ، ولكنهم كانوا قد بدأوا فى هذا الوقت فى معارضته بالفعل ، مرسلين وفدا للقيصر مصحوبا بخطابات ذليلة تدعم دوما بوليجين ولم يكن ذلك بسبب طيش او عدم تفكير ، وانما بسبب عداوة محضة للثورة . كان كل مافعله الليبراليون بعد اكتوبر 1905 هو الخيانة الشائنة لقضية حرية الشعب .
ارسلوا السيد ستروفه فى نوفمبر 1905 ، ليجرى حديثا وديا مع السيد ويتى . وفى ربيع 1900 قوضوا المقاطعة الثورية ، وبرفضهم التعبير بصراحة عن رفضهم للقرض حتى تسمع اوروبا ، ساعدوا الحكومة فى ان تحصل على ملايين الروبلات لغزو روسيا . وفى صيف 1900 واصلوا المساومات الخفية مع تريبوف ( 2 ) حول المناصب الوزارية وحاربوا "اليسار" اى الثورة فى الدوما الاول . وشهدهم يناير 1907 يركضون مرة اخرى نحو السلطات البوليسية ( دعوة ميليوكوف لستوليبين ) . فى ربيع 1907 ساندوا الحكومة فى الدوما الثانى . فضحت الثورة الليبراليين بغاية السرعة واظهرتهم فى الوانهم الحقيقية المعادية للثورة .
وفى هذا الصدد خدمت فترة الامال الدستورية غرضا غاية فى الفائدة بقدر مايتعلق الامر بالشعب . ان تجربة الدوما الاول والثانى لم تجعله يدرك فقط مدى حقارة الدور الذى تلعبه الليبرالية فى الثورة تماما فى ثورتنا . بل انها قمعت ، فى الواقع الفعلى ، محاولة قيادة الحركة الديموقراطية من قبل حزب لايمكن ان يعتبر الا من قبل اطفال او شيوخ مخرفين " ديموقراطيا " دستوريا بالفعل .
لم يكن التركيب الطبقى للديموقراطيين البورجوازيين واضحا بعد لكل واحد عام 1905 وبدايات 1906. الامال فى ان الاتوقراطية يمكن ان تقترن بتمثيل حقيقى بهذه الدرجة او تلك للجماهير العريضة من الشعب لم تراود الجهلة وسكان المناطق السفلى من العشوائيات فقط . فلم تكن مثل هذه الآمال غائبة حتى فى دوائر الاوتوقراطية . لماذا يمنح القانون الانتخابى فى كل من دوما بوليجين وويتى درجة معتبرة من التمثيل للفلاحين ؟ لأن الاعتقاد فى المشاعر الملكية فى الريف مازال طاغيا . " سوف يساعدنا الموجيك " – هذا الهتاف لصحيفة رسمية فى ربيع 1906 عبر عن اعتماد الحكومة على محافظة الكتلة الفلاحية . لم يكن الكاديت فى هذه الايام مدركين للتناحر بين ديموقراطية الفلاحين والبورجوازية الليبرالية ، بل انهم خشوا حتى من تخلف الفلاحين ورغبوا فى شئ واحد فقط – هوان يساعد الدوما على تحويل الفلاح المحافظ او اللامبالى الى ليبرالى . وفى ربيع 1906 ، عبر السيد ستروفه عن رغبة طموحة حينما كتب ، " سوف يتحول الفلاح فى الدوما الى كاديت " . فى صيف 1907 ، رفع السيد ستروفه نفسه راية الصراع ضد الترودوفيك او الاحزاب اليسارية ، التى اعتبرها العقبة الاساسية فى طريق الوصول لاتفاق بين الليبرالية البورجوازية والاوتوقراطية . وفى مجرى ثمانى عشر شهرا غير الليبراليون شعار النضال من اجل التنوير السياسي للفلاحين الى شعار النضال ضد " المغالاة " فى تربية الفلاحين سياسيا ومتطلباتهم !
يعبر هذا التغيير فى الشعارات بوضوح مابعده وضوح عن الافلاس الكامل لليبرالية فى الثورة الروسية . لقد ثبت ان العداوة الطبقية بين جمهور السكان الديموقراطى الريفى وملاك الارض شبه الاقطاعيين اعمق بما لايقاس مما تخيله بجبن الكاديت معدومى الذكاء . ولهذا السبب اخفقت محاولتهم فى ان ينتزعوا قيادة النضال من اجل الديموقراطية سريعا وبلا رجعة . ولذا آل الى فشل تام هدف كل " خطهم " لمصالحة كتلة البورجوازية الصغيرة الديموقراطية من الشعب مع ملاك الارض من الاوكتوبريين والمائة السود . لقد تمخضت فترة الثورة المضادة لمجلسي الدوما عن مكسب عظيم ، وان كان سلبيا ، وهو افلاس " ابطال " " حرية الشعب " الخونة . لقد اطاح الصراع الطبقى الجارى من اسفل بابطال الغرف الوزارية الخلفية هؤلاء ، وحولهم من مطالبين بالقيادة الى خدم عاديين للنزعة الاوكتوبرية وقد طليت قليلا بطلاء دستورى .
ان من يظل يخفق فى الا يرى افلاس الليبراليين ، رغم انه عاين اختبارا عمليا لجدارتهم كأبطال للديموقراطية ، او على الاقل كمقاتلين فى الصفوف الديموقراطية ، لم يفهم شيئا مطلقا عن التاريخ السياسي لمجلسى الدوما . ومن ضمن هؤلاء الناس من يكررون بشكل ممل الصيغة المحفوظة عن دعم الديموقراطية البورجوازية التى تصبح عويلا معاديا للثورة . لايجب على الاشتراكيين الديموقراطيين ان يأسفوا على تبدد الاوهام الدستورية . وعليهم ان يقولوا ماقاله ماركس عن الثورة المضادة فى المانيا : لقد كسب الشعب حين خسر اوهامه . ( 3 ) كما كسبت الاشتراكية الديموقراطية فى روسيا بخسارة القادة الذين لاقيمة لهم والحلفاء المنهارين . وهذا افضل للغاية للتطور السياسي لهذه الديموقراطية .
ويبقى ان على حزب البروليتاريا ان يحرص على ان تتمعن الجماهير العريضة بعمق اكبر فى الدروس السياسية القيمة لثورتنا والثورة المضادة وأن تستوعب جوهرها . لقد شهدت فترة الهجوم على الاوتوقراطية انتشار قوى البروليتاريا وعلمتها اساسيات التكتيكات الثورية ، كما بينت شروط نجاح النضال المباشر للجماهير ، الذى تمكن وحده من ان يحقق تحسينات لها قدر من الاهمية . ان الفترة الطويلة التى استعدت فيها البروليتاريا ، وتدربت ، وتنظمت ، سبقت اعمال مئات الالاف من العمال التى وجهت ضربة مميتة للاوتوقراطية فى روسيا . ان العمل المستديم التدريجى فى قيادة كل مظاهر الصراع الطبقى البروليتارى ، عمل بناء حزب قوى ومتمرس سبق انفجار النضال الجماهيرى الحقيقى وقدم الشرط الضرورى لتحويل هذا الغضب الى ثورة . والآن على البروليتاريا بوصفها طليعة الشعب المقاتلة ان تقوى تنظيمها ، وأن تزيل كل العفن الاخضر لانتهازية المثقفين ، وتستجمع قوتها لجهود مستديمة عنيدة مماثلة . ان المهام التى طرحها التاريخ والمركز الموضوعى للجماهير العريضة على الثورة الروسية لم تحل بعد . كما لم يقض على عناصر من الازمة القومية السياسية ، وانما ، على النقيض فقد تفاقمت على نحو اعمق واشد اتساعا . سوف يضع مقدم هذه الازمة البروليتاريا على رأس حركة كل الشعب مرة اخرى . وعلى حزب العمال الاشتراكى الديموقراطى ان يكون مستعدا لهذا الدور . والتربة التى خصبتها احداث 1905 والاعوام التالية سوف تثمر حصادا اغنى بعشر مرات . اذا كان بمقدور حزب يضم عدة الاف من الاعضاء الواعين طبقيا من اعضاء الطبقة العاملة ان يحشدوا مليون بروليتارى خلفهم فى نهاية عام 1905 ، اذن ، اليوم حينما يكون لدى الاشتراكيين الديموقراطيين عشرات الالاف ممن جربوا واختبروا فى الثورة ، الذين اصبحوا ومازالوا اكثر ارتباطا بوثوق مع جمهور العمال خلال النضال ذاته ، سوف يحشدوا عشرات الملايين خلفه ويسحقوا العدو .
لقد تبلورت المهام الديموقراطية والاشتراكية لحركة الطبقة العاملة فى روسيا بشكل اكثر حدة وطرحت فى الصدارة بشكل اكثر الحاحا تحت تأثير الاحداث الثورية . و يتزايد الصراع ضد البورجوازية لدرجات اعلى . يتحد الرأسماليون فى جمعيات قومية ، ويتوحدون بشكل اكثر وثوقا مع الحكومة ، ويلجأون فى الاغلب لوسائل متطرفة فى النضال الاقتصادى ، بما فيها الاغلاقات التعجيزية على نطاق واسع حتى " يلجموا " البروليتاريا . ولكن الطبقات التى تمر بطور السبات فقط هى من تخشى الاضطهاد . كلما حقق الراسماليون نجاحات بمنتهى السرعة كلما نمت البروليتاريا فى العدد والوحدة . ان التطور الاقتصادى لروسيا ولكل العالم هو ضمان لعدم قابلية البروليتاريا للهزيمة . لقد بدأت البورجوازية اولا فى التشكل كطبقة ، بوصفها قوة متحدة سياسية واعية خلال ثورتنا . وبدرجة اكبر سوف يتنظم العمال بفعالية فى طبقة متحدة فى روسيا كلها . وكلما اتسعت الفجوة بين عالم راس المال وعالم العمل ، سوف يتجلى اكثر الوعى الاشتراكى للعمال . وسوف يصبح التحريض الاشتراكى وسط البروليتاريا ، الذى اغنته تجربة الثورة ، اكثر تعينا وتحددا . ان التنظيم السياسي للبورجوازية هو افضل حافز للتشكل المحدد لحزب العمال الاشتراكى .
ان اهداف هذا الحزب فى النضال من اجل الديموقراطية يمكن ان تعتبر قابلة للجدل فقط من قبل المثقفين المتعاطفين ، الذين يبدون استعدادهم للتوجه نحو الليبراليين . غير ان هذه الاهداف بالنسبة لجمهور العمال قد باتت ملموسة بوضوح فى لهيب الثورة . تعلم البروليتاريا من التجربة ان الفلاحين هم الاساس والاساس الوحيد للديموقراطية البورجوازية كقوة تاريخية فى روسيا . وقد تصرفت البروليتاريا على النطاق القومى بالفعل بوصفها قائد هذا الجمهور فى النضال ضد ملاك الارض شبه الاقطاعيين والاوتوقراطية ، ولايمكن لقوة الان ان تحرف حزب العمال عن طريقه القويم . ان دور حزب الكاديت الليبرالى ، الذى قاد الفلاحين تحت راية الديموقراطية تحت جناح النزعة الاوكتوبرية قد انتهى ، وسوف يواصل الاشتراكيون الديموقراطيون برغم العويل الفردى ، عملهم فى شرح ان الديموقراطيين البورجوازيين لايمكن ان يفعلوا مايريدون ان يفعلوا مالم ينفصلوا مرة والى الابد عن اتباع النزعة الاوكتوبرية .
لايمكن لأحد ان يخبرنا فى هذه المرحلة عن اى الاشكال يمكن ان تتخذها الديموقراطية البورجوازية فى روسيا فى المستقبل . يحتمل ان يقود افلاس الكاديت لتشكيل حزب ديموقراطى فلاحى ، حزب جماهيرى حقيقى ، وليس تنظيما للارهابيين مثلما كان الحال بشأن الاشتراكيين الثوريين وماهم عليه الان . ومن الممكن ايضا ان تعوق الصعوبات الموضوعية تحقيق الوحدة السياسية داخل البورجوازية الصغيرة من تشكيل مثل هذا الحزب ، وربما لوقت طويل فى المستقبل ، سوف تبقى الديموقراطية الفلاحية فى حالتها الحالية مرتخية ، هلامية لاشكل لها مثل جمهور الترودوفيك . وفى الحالتين فخطنا واحد وهو ان نضرب القوى الديموقراطية بنقد لايرحم لكل الترددات ، بنضال لايساوم ضد االديموقراطيين الذين يلتحقون بالليبراليين الذين برهنوا على مناهضتهم للثورة .
كلما تتوغل الرجعية ، كلما يصبح المائة السود وملاك الارض اكثر عنفا ، وكلما سيطروا على الاوتوقراطية ، كلما تباطأ التقدم الاقتصادى لروسيا وتحررها من بقايا القنانة . وهذا يعنى انه ، كلما بقى الوعى الطبقى اقوى واوسع وتطورت الديموقراطية المناضلة داخل الجماهير الحضرية والريفية البورجوازية الصغيرة . كلما قويت اكثر المقاومة الجماهيرية للمجاعات ، والطغيان ، والانتهاكات التى يتعرض لها الفلاحين من قبل الاكتوبريين . وسوف يراعى الاشتراكيون الديموقراطيون انه حينما ينفجر حتما النضال الديموقراطى بقوة جديدة ، ان عصبة المهنيين الليبراليين المسماة حزب الكاديت لن تقسم مرة اخرى الصفوف الديموقراطية وتنشرالتنافر بينهم . اما مع الشعب او ضد الشعب ، هذا هو البديل الذى وضعه الاشتراكيون الديموقراطيون لكل من يدعون القيام بدور القادة " الديموقراطيين " فى الثورة .
وحتى الان لم يكن كل الا شتراكيين الديموقراطيين قادرين على ان يتابعوا هذا الخط باتساق وثبات ، بل ان بعضهم قد وثقوا فى وعود الليبراليين ، واغمض الاخرون عيونهم عن مغازلة الليبراليين للثورة المضادة . والان لدينا الخبرة التربوية لتجربتى مجلسى الدوما الاولين .
لقد علمت الثورة البروليتاريا ان تشن نضالا جماهيريا . لقد بينت الثورة ان البروليتاريا قادرة على ان تقود الجماهير الفلاحية فى النضال من اجل الديموقراطية . لقد وحدت الثورة الحزب البروليتارى الخالص وبشكل اوثق بعد طرح العناصر البورجوازية الصغيرة منه . وعلمت الثورة المضادة ديموقراطيى البورجوازية الصغيرة ان يكفوا عن البحث عن القادة والحلفاء فى صفوف الليبراليين الذين يخشون لحد الموت النضال الجماهيرى . ويمكننا ان نقول بجرأة لحكومة المائة السود من ملاك الارض تأسيسا على دروس التاريخ هذه : واصلوا نفس النهج ، ايها السادة ستوليبين وشركاه ! فسوف نحصد ثمار ماتبذرونه !
هوامش
(1 ) تفسيرات مجلس الشيوخ – هى تفسيرات لقانون 24 ديسمبر 1905 الذى يحكم الانتخابات الى الدوما وقد اصدره مجلس الشيوخ عشية الانتخابات للدوما الثانى . وبهذه التفسيرات حرم المجلس طوائف اخرى من السكان من حق الانتخاب العام .
(2 ) تريبوف ، د . ف . – الحاكم العام لسانت بطرسبورج ، مشهور بكونه ملهم انتهاكات المائة السود وبقمعه الوحشى لثورة 1905 .
(3 ) انظر كارل ماركس ، "الثورة المضادة البروسية والفئة القضائية البروسية " ( كارل ماركس ، فريدريك انجلز ، الاعمال الكاملة ، الجزء السادس ، ص 138 ، برلين ، ديتز فيرلاج ، 1959 . بالالمانية .
المصدر : ف . ا . لينين ، الاعمال الكاملة ، المجلد 13 ، ص ص 114 – 122 ، دار التقدم ، موسكو ، 1972 .


*****اطروحات حول الثورة والثورة المضادة - ليون تروتسكى
(1926 )
1 – دائما مااعقب الثورات فى التاريخ الثورات المضادة . ودائما مااعادت الثورات المضادة المجتمع الى الخلف ، لكنها لم تعده ابدا الى الخلف قبل نقطة انطلاق الثورة . ان تعاقب الثورة والثورة المضادة هو نتاج لخصائص جوهرية معينة لآليات المجتمع الطبقى ، وهو المجتمع الوحيد الذى تكون فيه الثورات والثورات المضادة ممكنة .
2 – الثورة مستحيلة بدون مشاركة الجماهير . وهذه المشاركة ممكنة بدورها حينما تربط الجماهير المقهورة آمالها فى مستقبل افضل بفكرة الثورة . وبمعنى معين فإن الامال التى تولدها الثورة يبالغ فيها . ويرجع ذلك لآليات المجتمع الطبقى ، حيث المأزق الفظيع للأغلبية الساحقة من جمهور السكان ، والحاجة الموضوعية لتركيز اعظم الامال والجهود من اجل تأمين حتى اشد درجات التقدم تواضعا ، وماالى ذلك .
3 – ولكن تتمخض عن هذه الاوضاع نفسها واحدة من اشد عناصر الثورة المضادة اهمية – واشدها شيوعا . وهى انه لاتتطابق الانتصارات التى تحققت فى النضال ، وفى طبيعة الاشياء لايمكن ان تتطابق مباشرة ، مع توقعات الجماهير المتخلفة العريضة التى استيقظت للمرة الاولى فى مجرى الثورة . ان خيبة امل هذه الجماهير ، وعودتها الى الروتين والعادية ، يمثل جزءا لايتجزأ من الفترة مابعد الثورية مثله مثل الدخول فى معسكر " القانون والنظام " بالنسبة للطبقات او شرائح الطبقات " الراضية " التى شاركت فى الثورة .
4 – يرتبط بتلك السيرورات بشكل وثيق ، سيرورات موازية ، ذات طبيعة مختلفة ، ولدرجة كبيرة ، لها طابع مضاد فى معسكر الطبقات الحاكمة . يخل استيقاظ الجماهير المتخلفة العريضة بالتوازن المعتاد للطبقات الحاكمة ، ويحرمها من الدعم المباشر وكذلك من الثقة ، ومن ثم يمكن الثورة من ان تستولى على ماهو اكبر من ان تستطيع فيما بعد ان تسيطر عليه .
5 - ان خيبة امل قسم معتبر من الجماهير المضطهدة فى الانتصارات المباشرة للثورة و – يرتبط بذلك مباشرة - تدهور الطاقة السياسية ، ونشاط الطبقة الثورية يعيد احياء الثقة وسط الطبقات المعادية للثورة – بين كل من هذه التى اطاحت بها الثورة لكنها لم تتحطم تماما ، وكذلك وسط تلك التى ساعدت الثورة فى مرحلة معينة ، لكنها طرحت خلفا فى معسكر الرجعية بمقتضى التطور اللاحق للثورة (...)
6 – سوف يكون من الخطأ تجاهل حقيقة ان البروليتاريا اليوم ( 1926 ) هى اقل استقبالا لحد بعيد للمنظورات الثورية وللتعميمات العريضة مقارنة بما كانته خلال ثورة اكتوبر اوالسنوات القليلة اللاحقة .
لايمكن للحزب الثورى ان يكيف نفسه بسلبية لكل تحول فى مزاج الجماهير . لكن عليه من ناحية اخرى الا يتجاهل التغيرات التى تنتجها الاسباب التاريخية العميقة .
7 – ان ثورة اكتوبر ، ولمدى ابعد من اى ثورة فى التاريخ ، قد اثارت اعظم الامال والعواطف لدى الجماهير الشعبية ، وقبل اى شئ ، لدى الجماهير البروليتارية .
بعد المعاناة الشديدة لفترة 1917 – 21 ، حسنت الجماهير البروليتارية اوضاعها لحد بعيد . وهم يقدرون هذا التحسن ، آملين فى تطوره اللاحق . ولكن اظهرت تجربتهم فى نفس الوقت التدرج الشديد لهذا التحسن الذى اعادهم الان فقط لمستوى معيشة ماقبل الحرب . وهذه التجربة لها دلالة لاتقدر لدى الجماهير ، وخاصة لدى الجيل الاقدم . لقد باتوا اكثر حذرا ، اكثر شكا ، اقل استجابة مباشرة للشعارات الثورية ، واقل استجابة للتعميمات الكبرى . هذه الامزجة التى تكشفت بعد محن الحرب الاهلية وبعد نجاحات الاحياء الاقتصادى والتى لم تنجز بعد بالتحولات الجديدة للقوى الطبقية – تؤلف هذه الامزجة الخلفية السياسية الاساسية لحياة الحزب . هذه هى الامزجة التى تستند اليها البيروقراطية – بوصفها عاملا ل " النظام والقانون " و " الهدوء " . ان محاولة المعارضة طرح مسائل جديدة امام الحزب تضادت معها هذه الامزجة تحديدا .
8 – ان الجيل الاقدم من الطبقة العاملة ، الذى قام بثورتين ، اوقام بالاخيرة ، بدءا بعام 1917 ، هو الآن متوتر ، ومجهد ، ويخشى الى حد بعيد ، من كل الانفجارات المرتبطة بمنظورات الحرب ، والخراب ، والمجاعة ، والاوبئة ، وماالى ذلك .
لقد اصطنعوا غولا من نظرية الثورة الدائمة وتحديدابهدف استغلال سيكولوجية قسم معتبر من العمال ، الذين ليسوا محترفين على الاطلاق ، بعد ان فقدوا لياقتهم وباتوا اصحاب عائلات . ان طبعة النظرية التى توظف من اجل هذا ، ليست بالطبع بأى حال ذات صلة بالجدالات القديمة التى احيلت منذ زمن طويل للارشيف ، وانما ترفع ببساطة شبح انفجارات جديدة – " غزوات " بطولية ، انتهاكات ل" القانون والنظام " ، تهديد لانجازات فترة اعادة البناء ، فترة جديدة من الجهود والتضحيات العظيمة . ان اصطناع غول من نظرية الثورة الدائمة هو ، فى الجوهر ، مضاربة على مزاج البعض فى الطبقة العاملة ، بمن فيهم اعضاء الحزب ، الذين اصبحوا ، بدناء انيقين وشبه محافظين .
9 – ان الجيل الجديد ، الذى يكبر الآن ، يفتقر لتجربة الصراع الطبقى والمزاج الثورى الضرورى . وهو لايبحث ويكتشف بنفسه ، كما فعل الجيل الاسبق ، وانما يسقط مباشرة فى محيط اشد الاحزاب والمؤسسات الحكومية قوة ، التقليد الحزبى ، السلطة ، الانضباط ، الخ ويجعل هذا فى الوقت الحالى الامر اشد صعوبة بالنسبة لجيل الشباب فى الحزب حتى يلعب دورا مستقلا . وتكتسب مسألة التوجه الصائب للجيل الشاب فى الحزب وفى الطبقة العاملة اهمية قصوى .
10 – بموازاة السيرورات السابقة التى اشرنا اليها ، فقد كان هناك نمو متطرف فى الدور الذى لعبته داخل الحزب وجهاز الدولة فئة خاصة من البلاشفة القدامى ، الذين كانوا اعضاء او عملوا بنشاط فى الحزب خلال فترة 1905 ، والذين تركوا الحزب بعدئذ فى فترة الرجعية ، وتكيفوا مع النظام البورجوازى ، وشغلوا مناصب بارزة فيه الى هذا الحد او ذاك ، الذين كانوا من انصار النزعة الدفاعية ، مثل كل الانتليجنسيا البورجوازية ، والذين دفعوا مع الاخيرين الى الامام فى ثورة فبراير ( التى لم يحلموا بها حتى فى بداية الحرب ) ، والذين كانوا خصوما عنيدين للبرنامج اللينينى ولثورة اكتوبر ، غير انهم عادوا الى الحزب بعد ان تأمن الانتصار ، او بعد استقرار النظام الجديد ، حوالى الوقت الذى اوقفت فيه الانتليجنسيا البورجوازية تخريبها . هذه العناصر ... هى بالطبع عناصر من طراز محافظ . وهم بصفة عامة مع الاستقرار ، وبصفة عامة ضد اى معارضة . وتربية شباب الحزب فى ايديهم لحد بعيد .
هذه هى تركيبة الظروف التى حددت فى الفترة الراهنة من تطور الحزب تغير قيادة الحزب وتحول سياسة الحزب الى اليمين .
11 – يدل التبنى الرسمى لنظرية " الاشتراكية فى بلد واحد " على المصادقة النظرية على هذه التحولات التى جرت بالفعل ، وعلى اول خروج علنى على التراث الماركسي .
12 – تكمن عناصر العودة البورجوازية فى : ا) وضع الفلاحين ، الذين لايريدون عودة كبار ملاك الارض ولكنهم مايزالوا غير مهتمين بالاشتراكية )، ب ) امزجة فئات عديدة داخل الطبقة العاملة ، فى تدنى الطاقة الثورية ، وفى تعب الجيل الاقدم ، وفى الوزن النوعى المتزايد للعناصر المحافظة .
مصدر المقال : الاممية الرابعة ، المجلد الثانى ، اكتوبر 1941 ،ص ص 251 – 252 . – ليون تروتسكى – انترنت ارشيف .
ملاحظة : الترقيم من 1 – 5 يساير النص الاصلى الذى عاد فرقم البنود 2-0 حتى 2 – 7 – وفضلت الاستمرار فى الترقيم العادى 6 ومابعدها – المترجم العربى .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة الأرمينية تطرد المتظاهرين وسياراتهم من الطريق بعد حصا


.. كلمة مشعان البراق عضو المكتب السياسي للحركة التقدمية الكويتي




.. لماذا استدعت الشرطة الفرنسية رئيسة الكتلة النيابية لحزب -فرن


.. فى الاحتفال بيوم الأرض.. بابا الفاتيكان يحذر: الكوكب يتجه نح




.. Israeli Weapons - To Your Left: Palestine | السلاح الإسرائيل