الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمل

جميلة شحادة

2020 / 5 / 2
الادب والفن


جلسَتْ على كرسيِّ أمامي تقُص عليَّ ما رأتْه في منامها. كانتْ تُؤرجح رجليْها الى الأمام تارة، والى الخلف تارة أخرى، وقد اتجهتْ بنظرها نحو نافذة الغرفة ذات الستائر التي تسمح لجزء لا بأس به من أشعة شمس نيسان الدافئة، بأن تتسلل الى داخل الغرفة فتزيدها ضوءا وحرارة. لم تكن الغرفة بحاجة للضوء أصلا؛ فالضوء المنبعث من مصابيحها، من نوع الفلوريسنت كان كافيا؛ ولم تكن كذلك بحاجة الى الحرارة؛ إذ كان يكفي الاستماع لبوحِ أمل، حتى يشعر مَن يسمعه بنار تستعر في داخله فتأتي على عظمه قبل لحمه، وتحرق أعصابه، فروحه. يا إلهي! كيف لطفلة بهيئة الملاك أن تعيش مناماتٍ كهذه؟ كيف للبراءة أن تغشاها كوابيس مزعجة فتسلبها لونها الوردي؟
أمل؛ التي أرسلت بها معلمتها منى إليَّ لتقص عليَّ كابوسا كانت قد رأته في منامها وقد أخبرته لمعلمتها منى، هي طفلة في الصف الثاني، تجاوزت ربيعها السابع ببضع شهور. أمل؛ طفلة تفيض البراءة من روحها وتتمتع بجمالٍ خلاّب؛ يسحرك عسل عينيها، ويبعث في نفسك الراحة والهدوء ياسمين خديها. لقد لفت انتباهي وأنا استمع لحديثها، شريطٌ أزرق اللون يلم خصلات شعرها الذهبية ويكوّن منها ضفيرة جميلة تنسدل على ظهرها بحنو افتقدته في حياتها التي ما زالت تدرج سلالمها الأولى.
عندما كانت أمل في الصف الأول، لم يكن بالإمكان أن تمر جلسة الهيئة التدريسية الدورية دون أن يكون اسمها حاضرا على طاولة النقاش؛ فقد كانت تأتي به مربية صفها ويعينها على ذلك بعض المعلمات اللاتي يعلِّمن أمل. كان التذمر من سلوكيات أمل مسيطرا على حديث مربيتها؛ وكانت شكواها والتصريح بعجزها وعدم جدوى الطرق التي اتبعتها في التعامل مع أمل، كفيلٌ لأن يتضامن معظم الموجودين معها ومع معاناتها في غياب تجاوب الأهل معها.
يا الهي! كم ظُلمتْ أمل! كيف لطفلة بعمر الورد تجلس الآن أمامي، وتقص عليَّ منامها بعباراتٍ مفهومةٍ لنا، نحن الكبار، وغير مفهومةٍ لملاكٍ مثلها؛ كيف لها أن تحتمل كل هذه المعاناة دون أن يكون لجانبها معين او نصير؟
عندما أصبحت أمل في الصف الثاني، اهتمت مربية صفها، منى، أن تصحبها معها الى غرفة المكتبة في حصة المكوث*خاصتها، بحيث كانت تعطيها في كل مرة حرية اختيار قصة من رفوف المكتبة لتقرأها لها، ثم تدير معها نقاشا حولها. ولم تمر بضعة أشهر، حتى شعرت المربية منى أنها أصبحت أكثر قربا من تلميذتها، وأنها قد استطاعت أن تبني معها علاقة ثقة؛ فأدى ذلك الى أن تشعر أمل بارتياح لمربيتها والى الحديث معها.
وفي يومٍ من أيام نيسان المشمسة، دخلت المربية منى غرفتي وكان دوام اليوم قد قارب على الانتهاء، وقد بدت مضطربة، مخطوف لون وجهها، وفي صوتها مرارة، ولربما غضب كذلك، يشعر بهما المستمع لحديثها وهي تتكلم يجملٍ غير مترابطة.
سمعت من منى، وفهمت بعد أن جمّعتُ جملها المبعثرة، أنها ومنذ مدة تزيد عن الشهر، تشك بأن تلميذتها "أمل" تتعرض لسوءٍ؛ وقد تكشَّف لها ذلك من خلال الأحاديث التي كانت تدور بينها وبين أمل، وبالذات عند مناقشة القصص معها أو ترك الحرية لها لتعبِّر عما قرأته بالرسم والألوان. كذلك؛ من مراقبتها لسلوكيات أمل في الكثير من المواقف والأحداث. لكن منى، كما قالت، لم ترغب بالتحدث عن شكوكها هذه الا بعد أن تتيقن مَن هو الشيطان. وها هي اليوم، قد ثبتت شكوكها باليقين، بعد ان زارت بيت أمل وبعد الذي أخبرتها إياه أمل.
لقد طلبت مني المعلمة منى أن أتدخل لأتخذ الإجراءات اللازمة، وأن أشاركها المسؤولية؛ فهي غير مستعدة لأن تتحمل المسؤولية وحدها، كما قالت لي، ولا ان تتحالف مع الشيطان ضد أمل. ثم طلبت ان استمع لأمل وهي تتحدث بنفسها عن كابوسها الليلة الفائتة.
لقد حكت لي أمل ما رأته في وسنها، ووصفت بمفردات طفلة، ماردا يزورها في نومها كلما سنحت له الفرصة، فيستبيح جسدها ويغتال براءتها ويقتل طفولتها؛ مارد يُفترض به ان يكون ملاكا حارسا لأمل، يحميها ويغدق عليها العطف، لتكون احلامها وردية مزينة بالفراشات الملونة لا كوابيس مخيفة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في