الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روائح عنبرية

آرام كربيت

2020 / 5 / 3
الادب والفن


رواية تعج بالسخرية من أقدار الناس في سوريا" يعقبونها بأغان يؤديها فريق من لاعبي الطرنيب والتركس حسبوا الصراخ من أصناف الغناء، ودبكات سعى إليها حرفيون من الحدادين والنجارين والخياطين، يدقون الأرض بأحذية مهيبة، استخرج قاعها من مطاط دواليب الشاحنات".
وبالرغم من هذا، يكتنف الرواية، للروائي السوري، عزيز تبسي، حنين خفي، لا شعوري إلى ما هو قائم، بيد أنه في طريقه إلى الزوال فرضته الظروف القاهرة للتغيرات الهائلة فيه.
رواية واقعية، تلتصق بالواقع المجروح، تحكه بالمخالب والأنياب الحادة، تهرشه، تستخرج منه الترسبات والعيوب القائمة.
إذا كان الإنسان لا يستطيع القبض على زمانه ومكانه، وحياته كلها حيازة مؤقته، لماذا هذا الجنون في محاولة القبض على الذات، ذاته الهاربة من يديه؟
جميع الناس في مهب الريح، تحركها أشياء كثيرة من خارجهم، بالرغم من أنهم الفاعلين فيها.
عائلة هاربة، تدفعهم الظروف القاهرة، تاريخ متأرجح بين ماردين، الجزيرة السورية، ثم حلب، من الاضطهاد العثماني تبحث عن موطئ قدم، لقمة العيش وتحسين الظروف، يصطدمون بالمدن السورية الأخرى، تسخر من لهجتهم، يشعرون بالإحراج والخجل:
ـ تدفعهم هذه الأمكنة الجديدة، مدينة حلب في خمسينيات القرن العشرين، لإعادة توضيح أسماؤهم وألقابهم، ونفي الصفة القرباطية عنهم، وأنهم من أعيان مدينة ماردين، لهم فيها قصرًا ومحلات تجارية، وأرض زراعية في أرياف.
دائمًا يحاول الغريب، شعوره بالصدمة في الأمكنة الجديدة، يبحث عن أقصر الطرق ليسوق نفسه، ليتم قبوله والرضى عنه، الخجل من كونه، هو هو، في المكان المستقر المتحرك، يعج بالتراتبية الاجتماعية.
ينغمس الروائي عزيز تبسي في حارات حلب، ناسها، واقعها دون زخرفة أو مراعاة لمشاعرها كمدينة تاريخية وناس، وكأنه حامل السكين أو المشرط في يده، يشرح الواقع الاجتماعي السياسي المجروح أصلًا، عندما يحتاج إلى التهكم فإنه يتهكم، وأحيانًا يسخر، يلذعها بسخريته، ويبكي عليها عندما يحتاج إلى البكاء.
يتعامل مع الخرائط القابعة في وجدان المدينة بدقة شديدة، البيوت العربية، الأحياء التي شيدت في الأحياء الجديدة، العزيزية، وتلتها الجميلية بعد بضعة سنوات
وتجول الرواية في العلاقات الاجتماعية، نتاج التحولات السياسية القاهرة، الانتقال إلى المدن الكبيرة، حلب، طلبًا للمؤانسة والإحساس بوجود أقرباء إلى جانبهم، خاصة أنهم جاؤوا بعد رحليهم وهروبهم من الإبادة والقتل والموت الذي تعرضوا له على يد الدولة العثمانية في ماردين:
تكيف الباقون على قيد الحياة مع حال الخنوع والإبتزاز الدائم، كما تكيف من قبلهم أباءهم وأجدادهم. مدمنين الأوجاع، التي تتسبب بها، العودة الدائمة للبداية إلى نقطة الصفر أو من المرتبة التي تليه، الإلتفات الدائم لدفن القتلى ومسامحة القتلة، والغفران لجرائمهم، لنسيان أباءهم وأمهاتهم وإخواتهم المقتلوين، وتعب أعمارهم المسروق.
نصوص الرواية واخزة، صادمة ساخرة من أقدار البشر" مسامحة القتلة"، هذا الشعور بالعجز من مقاومة السلطة المدججة بالأيديولوجية الدينية التي تبيح لنفسها أن تفعل برعايها كل فنون التعذيب والقتل وتسليط قطاع الطرق عليهم.
الرواية، روائح عنبرية، فيها روح ودم الشخصيات وأنفاسهم وأوجاعهم، أنهم يصرخون يستغيثون بنا أن ننصفهم، ونحن عحزة مثل هؤلاء الأجداد العجزة. وتدخل ممرات التاريخ، تقومه، تعاتبه، وكأن مسارها هو هو ومستمر:
كأن حالهم امتداد للصراع الممتد في أعماق التاريخ، بين أهل العمل والخبرة والمعرفة، وأهل السيف، بين المزارع الراسخ قرب بيته الحجري وأشجاره ومزارعه، والراعي العابر دون المكوث في مكانه.. بين الدولة وزبانيتها المسلحين والجماعات العزلاء، بين الكثبان المركونة بطمأنينة، وغدر عواصف الرياح الموسمية.
عزيز تبسي، الجراح، في مشرحته، يشرح بذاءة الإنسان وقسوته، يدخل في ممراته بلغة لا هوادة فيه في كشف المستور.
لغة الرواية بسيطة وبكلمات واضحة، ينقلنا من مكان إلى أخر، من موقع إلى أخر، في بلدنا سوريا. الرواية، كما قلت مرارًا هي الأكثر قدرة على معرفة التاريخ، لأنها لا تتقيد إلا بالفن الروائي والنصوص التي تدخل إلى الأمكان الأكثر قلقًا في الوجود. إنها مصدر تاريخي أحيانًا كثيرة أكثر من الحقيقي، ويمكن أن تكون مرجعًا لمعرفة التاريخ السياسي والاجتماعي لدولة ما. صحيح أن الكم الكبير فيها سياسي، بيد أنها تتوارى خلف الفن والجمال لتجعلنا نعرف الحقائق دون مواربة.
إن الأسرة الواحدة، خلية سياسية بآلامها، وانتقالاتها، وهذا الانتقال كاشف لحيوات الناس والعلاقات، نوعية العمل، أدوات العمل، الثياب وسائل النقل، التراتبية الاجتماعية، نوعية الحكم وأسلوب الحكم كلها كواشف تمنحنا القدرة على التفاعل مع حياة الناس، واينما ينتقلون تنتقل معهم ثقافتهم، علاقاتهم، الروابط التي تتماسك في زمن ما، وتتفكك في زمن أخر تبعًا للظروف:
"يحتاج العيش في المدن الكبيرة إلى أقرباء، أي إلى حزمة من الروابط الاجتماعية التقليدية، وشائج من دم وأعصاب وعواطف، وهدهدات مؤنسة أثناء إعياءات المرض، زغاريد تزيد صخب الأفراح صخبًا، عبورات حنونة في الأعياد، جس متواصل لحرارة العاطفة، في غليانها الناري، وبرودتها الصقيعية".
الرواية تدخل المناطق العاطفية لعالمنا المعاصر، الأقرباء، زيف العلاقات، أو العلاقات التي بدأت تتفكك مع دخول الحداثة إلى البلدان المتأخرة، ويحل محلها محاولة كل فرد في تحسين ظروفه على حساب ما كان قائمًا خاصة أن ما فعله الأتراك ما زال طازجًا في وجدان الناس وعروقهم.
الرواية مقسمة إلى مقاطع أو أجزاء، في الجزء الثاني يرحل الحارث، أحد الأخوة إلى فنزويلا نتيجة الاضطرابات السياسية في سوريا، الانقلابات العسكرية، باع كل شيء، وحمل نفسه وثقافته وأسرته وهاجر وقطع أوصال الأسرة وتشتت أبناءها في المدن المدارية.
" في تلك البلاد لم يمارسوا الحرف التي توارثوها عن أجدادهم" انطلقوا لمزاولة أعمال جديدة، البروليتاريا الرثة! تحولوا إلى باعي الأقمشة للقرويين في القرى البعيدة، مستخدمين مكانتهم،" مستثمرين القيمة الدينية لبلدهم، بلاد الشام أرض المسيح" ليبيعوا القطعة بخمسة أضعاف ثمنها الأصلي.
وتتم انتقالات الأسر بين المحافظات، روابط الزواج" الأب للعائلة الثالثة من مجموع ست عائلات، محامي من مدينة أدلب، والأم مدرسة اللغة الانكليزية من مدينة اللأذقية، أوجاع كل عائلة
" بحثت فردوسة وبناتها عن إبرة العائلات التي تركت أرض الجزيرة، داخل إهراءات قش البيادر المبعثرة في المدينة"
إنه التشتت والضياع بفعل ثقل الحداثة والتغييرات التي فرضتها الانتقالات السياسية والأقليمية والمحلية الكبيرة جدًا على الناس وظروفهم القاهرة.
ففي غياب الاستقرار يغيب الإنسان ويضيع، بله يتوه
لا يمكن لمقال صغير أن يلم بهذه الرواية، حكاية آلام سورية عميقة، دخلت كل بيت وهزته ومزقته من الداخل.
ولا منداح من قراءة الرواية، لأنها تسلط الضوء علينا جميعًا، وتشرحنا وتعيد إنتاجنا كل دقيقة وثانية.
تقع الرواية في مئة وستون صفحة، نشرت عن دار الخيال، الغلاف من تصميم ورسم الفنان العالمي يوسف عبدلكي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و