الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات مضيق الرّمال (2)

طارق حربي

2020 / 5 / 3
الادب والفن


حجر صحي
كان عليَّ أن أستقلَّ القطار إلى بلدة مضيق الرمال، مروراً بالعاصمة أوسلو وتبعد عنها مسافة 121 كم.
لا طائرات حديثة بل غربان البَيْنِ تنعق على مدرج المطار وفي داخله، وكان الطابق الأرضي خالياً وموحشاً، نُصِبتْ في الطرف الغربي منه مكائن الكترونية لشراء تذاكر القطار، أُوقِفَ عليها موظفٌ لا يوحي وجهُهُ المُصْفرُّ إلا بمرض خبيث! حتى خُيّلَ إِليَّ في أول انطباع، بعد سنوات من السياحة في العشرات من البلدان، أن النرويج كلّها أصيبتْ بالكورونا والوضع خطير جداً، فسألتُ نفسي ..
- إلى أين المفرُّ بعد النرويج؟!
- إلى السفينة التائهة في البحر العَرَمْرَمْ؟ بحر الفساد والميليشيات والطائفية والدولة العميقة وأزمة الحكم؟
- أم إلى أين بحق الجحيم؟!
ابتعتُ التذكرة وصعدتُ في القطار الخالي من المسافرين، وكان في السابق يزدحم بهم جلوساً ووقوفاً، وتكاد الابتسامة المرسومة على شفاه محبي الحياة لا تفارقهم، عشاقٌ متعانقون يقَبّلُونَ بعضهم بعضاً، بعد رحلة إلى باريس أو لندن وغيرهما!

طقس بارد وسماء رماديّة ملبَّدة بالغيوم، لا تزيد المشهد إلّا كآبة ممدودة، أجلس وحيداً ومُغتمَّاً، فيما أجنحة غربان البَيْنِ تصفقُ نوافذ القاطرة الحديثة التي تنهب سكة الحديد نهباً. ثمَّ اخترق إحدى النوافذ جناح أسود وصفقَ الشاشة الصغيرة المعلقة، وكانتْ تُعرض فيها قبل الجائحة الأغاني وإعلانات شركات الثياب والعطور وحالة الطقس، تخلتْ عن كل هذا الجمال والرفاهية وأصبحتْ تعرض آخر أخبار الموت بكورونا! وبعد قليل أقبلَ قاطع التذاكر، وبدا ببزته الرسميّة وغطاء الرأس كأنه جندي في الحرب العالمية الثانية! اجتاز بي كئيباً مُشيحاً بوجهه عني كما لو كنتُ مصاباً بالجَرب! ولم يطالبني بالتذكرة ليؤشر عليها، فالتعليمات الجديدة تقضي بعدم مطالبة الرُّكاب بها، خوفاً من انتقال العدوى إلى قاطع التذاكر! ما يعني أن النقل أصبح مجاناً في النرويج، لأول مرة في تاريخها!

بعد حوالي نصف ساعة توقف القطار في المحطة المركزية في أوسلو، وكانت خالية تَصْفُرُ فيها الريح.
- أين الحسناوات الرّافلات بأبهى الحُلَلِ؟
- متضاحكات مع العشاق الشُّبّان؟
- أين المسافرون الأنيقون الذين لا يذكّروني إلا بأمثالهم في محطة قطار تشيودا في طوكيو، وكان الكثيرون منهم يرتدون البدلات الرسميّة وأربطة العنق الأنيقة ويحملون حقائب رجال الأعمال. كم كانت كئيبة محطة أوسلو فلم يصعد في القطار الحديث المكيّف أحد أو ينزل، سوى مساعد السائق الذي عادة ما يقف بجانب آخر قاطرة ويعطي الإشارة للسائق بالإنطلاق ومواصلة السير.

اجتاز القطار السريع المزود بكل وسائل الراحة ببلدات صغيرة وتلال وغابات، وحقول محروثة تتهيأ للبذار في فصل الصيف القادم أي بعد بضعة أسابيع، وسيارات حديثة تمرق كالسّهام في طريق يوازي سكك الحديد أو يبتعد عنها قليلا. وبدتْ صخرة كبيرة بعلو 20 متراً قبل توقف القطار في مضيق الرّمال، كأنها منحوتة عملتْ أزميلها فيها يد جبّارة، ورمتها من سماء الأساطير إلى ما وراء السكة.

قطار حديث بعشر قاطرات لم تنزل منه سوى سيدة واحدة أخذتْ تتلفَّتُ يمنة ويسرة، ولا أعلم في أي قاطرة كانتْ جالسة ومن أي بلدة صعدتْ! نزل قبلها قاطع التذاكر ولم يرسم ابتسامة كعادة الموظفين. وحسبتُ المحصول فتبين أني لم أربح أنا سوى ابتسامة الموظفة في المطار!

إذا فقدنا الابتسامة في النرويج فبماذا سنواجه جليدها وبردها؟! ونظرات العنصريين من بعض أبنائها المرضى؟! الأرجح أن كورونا غيرتِ النرويج وربما تتغير أكثر في الفترة القادمة بعد انجلاء غبرة كورونا، بل قُلْ وجه العالم كله سيتغير من سياسات دولية واقتصادية وقوانين وعلاقات اجتماعية وربما تنشب حرب أو حروب .. من يدري؟
افتقدتُ كذلك حرارة اللقاء مع الصديقين ليث ووسام الذين كانا في انتظاري في المحطة النائية، فلا عناق ولا طبع القبلات على الخدَّين كما يحدث عادة في لقاء العراقيين. وقف الصديقان على مبعدة سبعة أمتار وقلتُ لهما ممازحا
- يمعودين تساهلوا شويه ترا مابيه كورونا!
ضحكنا معاً ووضع ليث كيسين مليئين بالطعام بيننا قائلا
- تفضل سهمك الراحة في مضيق الرمال.
يمكنك الذهاب إلى الفندق وتحجر نفسك فيه 14 يوماً حسب التعليمات!
- نعم أنا قرأت التعليمات التي سلمونا إياها في المطار.
ثم خطا عشرة أمتار نحو الحافلة الواقفة قرب المحطة، وطلب من سائقتها مبتعداً عنها ثلاثة أمتار، أن تنزلني قرب الفندق في ضواحي المضيق!

الجديد في أمر النقل هو أن السلطات الصحيّة أمرتْ بغلق باب الحافلة الأول، فأصبح الصُّعود والنزول من الباب الخلفي حتى لا يحتك الرّكاب بالسّواق! كما يتم شراء التذكرة خلال تطبيق في الهاتف المحمول يدعى (Vips)، يكتب الرّاكب رقماً فيه ويضغط على زرٍّ، فينطلق ثمن التذكرة كالسَّهم، من حسابه البنكي إلى حساب مصلحة نقل الركاب، هكذا ببساطة فلا يحتكُّ الرّاكب بالسائق ولا يتكلم معه، إلّا من وراء شريط عريض أبيض اللون مخطط باللون الأحمر، وضع على مسافة مقعدين وراء السائق ليفصله عن الرّكاب فلا يتجاوزه أحد ويسأله، خوفاً عليه من عدوى الرَّذاذ أثناء الكلام! مع أن زمن ما بعد الحداثة والمعلوماتية في النرويج، جعل المواطنين كافة يستغنون عن السؤال، وذلك لإتاحة أغلب المعلومات على شاشات الهاتف المحمول، من مواعيد انطلاق وسائط النقل إلى مواعيد الأطباء وحالة الطقس والأسعار والدولار، أصبح لكل مؤسسة صفحة الكترونية على الشبكة الدولية يعود إليها المواطن فلا داعي إلى السؤال.

لكن افتقرَ هاتفي إلى ذلك التطبيق لأنه غير مستخدم في تايلند ولا يعرفه التايلنديون أصلاً، حتى أني أردتُ بعد وصولي بأيام أن أرسل شيئاً من المال إلى صديقتي التايلندية، فأخبرتني بأن ذلك التطبيق لا يعمل في بلادها! ولم أشترِ التذكرة، حتى إذا نزلتُ من الحافلة أخرجتُ من جيبي ورقة نقدية من فئة ال200 كرونا لأشتريها، فابتسمتِ السائقة اللطيفة وقالتْ لا داعي لذلك مع السلامة، ثم أغلقتِ الباب الخلفي!

وجدتُ نفسي في عراء العالم البارد على طريق عام موحش يربط البلدات المتباعدة، أسحل حقيبة صغيرة تمشي على أربع عجلات وأحمل كيسين كبيرين مليئين بالطعام، ثم في غرفة صغيرة مطلة على غابة، فتحتْ بابها الموظفة الحسناء وهي ترتدي الكفوف الصحيّة، طالبة مني الابتعاد عنها مترين حسب التعليمات!

قَصَمَ الإله تور حامل المطرقة وحامي البشر في الأساطير النرويجية، الذي جعل أعداءه شَذَرْ مَذَرْ، ظهر كوفيد - 19 وخلَّصّنا منه، وأرجعني إلى أحب البلدان، إلى الشواطىء الذهبية والأرخبيلات والجزر الخلّابة ونهر ميكونغ، والرُّوسيّات حبيبات القلب والروح!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان الراحل صلاح السعدنى.. تاريخ طويل من الإبداع


.. سر اختفاء صلاح السعدني عن الوسط الفني قبل رحيله.. ووصيته الأ




.. ابن عم الفنان الراحل صلاح السعدني يروي كواليس حياة السعدني ف


.. وداعا صلاح السعدنى.. الفنانون فى صدمه وابنه يتلقى العزاء على




.. انهيار ودموع أحمد السعدني ومنى زكى ووفاء عامر فى جنازة الفنا