الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيلم المنصة: أزمة البقاء من منظور طبقي

سربند حبيب
قاص وباحث

(Serbend Habib)

2020 / 5 / 5
الادب والفن


نتساءل أحياناً هل التطور والتقدم الذي حققته البشرية خلال مراحل حياته جرده من روحه الإنسانية وجعل من الإنسان مشكلة على الإنسان نفسه؟
فعند ممارستنا أي عمل مجرد من إنسانيتنا كالعنف والقتل والتنكيل والتعذيب... فإننا بذلك ننكص إلى الحيوانية، أي نتجرد من خصائصنا الإنسانية، ونبقى مجرد حيوان عاقل، فالعقل وحده لا يتجه نحو الخير والحق والجمال بل هناك دائماً وحشٌ في نفس الإنسان.

في هذه الفسحة الافتراضية حيث لا زمان ولا مكان، يقدم لنا المخرج الإسباني "غالدير غاستيلو أوروتيا" نموذجاً حياً على جشع الإنسان وصراعه من أجل البقاء سينمائياً، مجموعة من الناس دخلوا هذا السجن غير الطبيعي في هيكله العمودي بمحض إراداتهم ليختبروا مدى تحملهم لفزعات الإنسان اللإنسانية، نظام السجن يخلق مجتمعاً من الصم تطغى فيه النزعة الفردية، يشبه إلى حد بعيد، النظام الرأسمالي في تقسيمه الطبقي. له قوانين صارمة وقواعد حياتية غريبة، يسكن كل طابق سجينان فقط، وبينهما (حُفرة) تهبط من خلالها مائدة فاخرة للطعام من الأعلى إلى الأسفل تعدها أمهر الطباخين، وهي تكفي لجميع المساجين ولكن الطعام لا يصل إلى المستويات بعد الخمسين، وهنا يبدأ رحلة البحث عن البقاء، بقتل شريك الزنزانة وأكل لحمه، ولا يسمح للسجناء بأن يحتفظوا بشيء من الطعام إذا انتهى وقتهم؛ لأن طقس الزنزانة سيتغير بشكل فوري، إما الحرارة تحرقك أو برودة تجمدك، فقط الأكل خلال دقيقتين ثم تهبط المائدة إلى الأسفل تدريجياً، يتغير موقع السجناء شهرياً بعد تنويمهم بغازٍ ما، فلو كنتَ في المستوى السادس هذا الشهر، من الممكن أن تهبط درجتك في الشهر الذي يليه إلى المستوى المائة وسبعون، ويحق لكل سجين أن يجلب معه شيئاً واحداً فقط من العالم الخارجي داخل الحفرة طوال مدة سجنه.

بطل الفيلم "غورينغ" الذي دخل السجن طوعياً؛ ليحصل على دبلوم دراسي لمدة ستة أشهر ولكونه رجل مثقف وواعي، جلب معه رواية "دونكيشوت" الفارس الذي أراد تغيير العالم بطرق ساذجة ومن وحي خياله، تعكس رمزيتها شخصية البطل، شريك زنزانته الأول هو ذاك العجوز "تريماغاسي" الأناني وإزدواجي الفكر والفعل الذي خير بين المصحّ العقلي وهذا السجن.

ملامح "هرم ماسلو" واضحة في الفيلم، جميع المساجين هنا يعيشون قاعدة الهرم، أي الحالة الفسيولوجية فقط الحاجة للبقاء (التنفس – الماء – الطعام – النوم...)، ويستحيل ارتقاهم في سلم الهرم لعدم إشباع احتياجاتهم الأساسية وحتى عندما يرتقون طبقياً ويمتلئون جسدياً، يبقى الجشع مسيطر ويطغى عليهم الانتقام فيبقون في القاعدة، ونلاحظ ذلك بوضوح من خلال شخصية العجوز "تريماغاسي" وما يقوم به من أفعال شنيعة عندما يتبول ويبصق على مَن في الأسفل ويعلم بأنه سيتلقى ذلك من الأعلى، حتى مع شريكه غورينغ عندما ينزلان إلى مستوى (١٧١) يقوم بربطه ويحضره كوليمة لعدم وصول الطعام لهم، ولكون الجزاء من جنس العمل يموت هو نفسه، ويحطم الجوع على غورينغ ليأكل لحماً بشرياً ويتشرب بعض صفات "تريماغاسي" ساخراً وفاقداً للأمل مقلداً طريقة كلامه، ثم يستيقظ في مستوى (٣٣) مع شريك مختلف كلياً عن الأول، الموظفة "ايموغيري" التي دخلت السجن طواعية لعلها تساعد المساجين على التضامن العفوي بعد إصابتها بمرض السرطان.

هنا تظهر النظرية البنيوية لسيغموند فرويد من خلال شخصيتها التي تحاول وبشق الأنفس من وصول الطعام الى مستويات الأدنى لتكشف عن أناها الأخلاقي، في حين إن اللهو طاغٍ بشكل عام على السجن وفق مبدأ اللذة وغريزة البقاء، لكن جميع محاولاتها تضيع سدى، فيتدخل "غورينغ" بشكل غير أخلاقي ويهدد مَن هم في الأسفل ويحذرهم بالتغوّط على الطعام إذا لم يلتزموا بالأكل، ويُحضر كل مستوى طبقين من الطعام للمستويات الأخرى، فتطلب "ايموغيري" منه أن يحذر من هم في الأعلى أيضاً فيعتذر غورينغ: أنا لا أستطيع التغوط فوقاً فقط أستطيع التحكم على من هم أدنى مني، وهنا نلاحظ إن تطبيق العدالة في كثير من الأحيان تحتاج إلى القمع والديكتاتورية ولا تفيد الديمقراطية في التعامل. لم تتحمل "ايموغيري" كذب وخداع ما يسمى بالمركز العمودي للإدارة الذاتية وخاصة عندما تستيقظ في مستوى (٢٠٢)الذي كان من المفترض أن يكون 200 بحسب خبرتها كموظفة للمنظومة، فتشنق نفسها وتقدم جسدها هدية لغورينغ وتتحدث شبحها: جسدي لك كله وتخلص منه على صورة براز تعويضي، لكن "غورينغ" يقاوم على عدم أكلها، ويغلب الأنا على اللهو هنا فمبادئه وقيمه الأخلاقية لا يسمح له بذلك، فيأكل أوراق الرواية فالجوع يفوق جميع النظريات والأدب، وتبقى غريزة البقاء أهم من كل شيء.

تتطور شخصية "غورينغ" ويكتسب خبرة عملية من كل مستوى ويفعل أشياء لم يتوقع فعلها لكن الظروف التي عاشها كانت أقوى منه، عندما يستيقظ في المستوى (٦) يلتقي برجل زنجي "باهارات" المؤمن فاقد الأمل يريد فقط الخروج والخلاص من قذارة هذا المستنقع، فيقترح عليه "غورينغ" التغيير والانقلاب على الوضع الراهن، فيقنعه بإصلاح العمودي لنظام الأكل بأن يوصلا الطعام بالتساوي إلى الطبقات تحت الخمسين حتى يستطيعا إيقاف القرف ولا يأكل أصحابها لحوم بعضهم فالثورات الحقيقية تنبع من القرف الحقيقي. حين تسوء الأمور كفاية، تقتل الهررة الأسد.

في رحلتهما سيلتقيان بالرجل الحكيم وسيقوم بتوجيههما قائلا بأن السلوكيات الأساسية تأتي أولاً، والإقناع قبل الهزيمة وإدارة السجن كيان بدون ضمير، والعاملين بالطابق أي الطباخين من الممكن أن يكون لهم بعض الضمير لوقف المهزلة، ونصحهما باختيار طبق فاخر ليعود إليهم ويكون هو رسالة الاستغاثة فكان الاختيار على طبق حلوى "الباناكوتا"، ولكنهما حين وصلا لآخر طابق (٣٣٣) وجدا فيه طفلة صغيرة تتضور جوعاً، وأخيراً يقرر "غورينغ" البقاء في الأسفل ليموت حتى يتطهر من الخطايا التي ارتكبها، وتصعد الطفلة المنصة وتتم إنقاذها وهي الرسالة للعالم بحق الإنسانية في العيش بكرامة، وتبقى نهاية الفيلم مفتوحة.

فيلم يعكس ما نعيشه الآن من صراع طبقي وغياب القيم الأخلاقية والاجتماعية، حيث يغلب مصلحة الفرد على الجماعة، وينطبق ذلك على قول "هوبز" الذي يعتبر(الإنسان ذئب لأخيه الإنسان)، هو هذا الشر القابع في هذا الكائن المعقد، هذا الشر يمكن أن يجعل الإنسان يفترس حتى أقرب الناس إليه، إذ تبقى مصلحته وأنانيته هي الدافع الأكبر الذي يحفزه لممارسة الشر، ومن أجل ذلك يمكن أن يرتكب كل الممكنات، ومن أبرز السجالات في هذا الموضوع تلك التي دارت بين توماس هوبز وجان جاك روسو حول هذه القضية، إذ وصف هوبز الإنسان بأنه "بشع" و "همجي"، لا يمكنه التعايش مع بني جنسه في سلام إلا في وجود مجتمع وقواعد لكبح جماح غرائزه وشهواته، ولكن روسو عارضه على الملأ، زاعماً في المقابل أن الإنسان يظل لطيفاً ونقياً طالما كان بمنأى عن فساد النظام الطبقي الذي يفرضه المجتمع وما ينطوي عليه من ظلم وجشع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج