الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من نقد الدين إلى وحدة الأديان في الثقافة الاسلامية(1

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 5 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


موقف الإسلام الأول من الأديان

كان ظهور الإسلام في الجزيرة استنهاضا جديدا لأرث قديم، ليست اليهودية والنصرانية سوى تجليات تاريخية طارئة له. والقضية هنا ليست فقط في أن الجزيرة هي مهد "الشعوب السامية"، بل والكيان الذي احتوى في أعماقه على تقاليدها القديمة وأعرافها وقيمها وتصوراتها وأحكامها المنحلة في كل ما له علاقة بوجود الإنسان وصلته بالطبيعة وما ورائها. فهي الخزين الدائم للموروث الحي، الذي يشكل الاعتراف الدائم بالأسلاف والانتماء الدائم إليهم والإقرار بشرعيتهم الوحيدة في التكفير والإيمان صيغتها الفجة. وليس اعتراف اليهود الدائم بأنهم على دين آبائهم سوى الصيغة "التوحيدية" لردود الوثنين العرب في مواجهتهم الأولى للإسلام بأنهم على دين آبائهم وانهم وجدوا آباءهم يعبدون ما يعبدون. ومن هنا الصيغة المتكررة للنفي الإسلامي الأول القائل "قل لا اعبد ما تعبدون"!
وفيما لو تتبعنا تاريخ الصراع الفكري والعقائدي بين الإسلام والأديان الأخرى بما في ذلك اليهودية والنصرانية، فإننا نلاحظ امتداده التاريخي ما قبل الإسلام، أي منذ الاستقلال الأولى للاتجاه الحنيفي في الجزيرة، الذي وقف موقف الحياد من صراع النصرانية واليهودية. وهو حياد لم يكن معزولا عن ضعفهما. مع أن الجزيرة كانت بمعنى ما الملجأ الأمين والمتسامي للمضطهدين بما في ذلك اليهودية، فإنها كانت أيضا مدرسة الخلوة الروحية وتقوية الإرادة لرجال النصرانية الأوائل وحملة لوائها التبشيري، كما اشار إلى ذلك على سبيل المثال بولص في رسالته إلى أهل غلاطية من أن الله عندما أودعه سرّه منذ الأزل في أن يدعو بين البشر لابن الله، فانه لم يتصدق بحيوان ولم يذبح كبش فداء، كما انه لم يتوجه إلى اورسليم كما فعل من قبله الرسل، بل انطلق إلى الجزيرة العربية . وكما استقبلت بين الحين والآخر طريدي الأمم المناهضين للظلم والاضطهاد من أنبياء ورسل، فإنها قدمت في وقت لاحق الإسلام ليرمم معالم الوحدانية في العراق وسوريا وفلسطين. فهي المناطق التي شكلت على الدوام الامتداد العضوي للجزيرة وذروة تجليها الثقافي. وليس مصادفة أن تتحول هذه المنطقة لاحقا إلى ميدان احتدام واحتكاك الصراع العقائدي والفكري والحضاري بين بقايا التوحيدية التاريخية والدينية لليهودية والنصرانية وبين توحيدية الإسلام الصاعدة. وهو صراع تمثل بصورة مباشرة وكبرى النماذج الأولية للمواجهات التي تعرض لها الإسلام من جانب الوثنية العربية واليهودية وبدرجة اقل من جانب النصرانية. وهي مواجهات عكست عمق التحجر والانغلاق الذي ميز تاريخيا تقليدية الوثنية ونموذجها العنصري المنغلق في اليهودية. إذ لم يكن "جدلها" يتعدى حدود الرفض المباشر والاستهزاء الخشن المميز للنفسية المنغلقة على ذاتها. على عكس النصرانية التي تمثلت حتى صعود الإسلام تقاليد الشعوب الثقافية في العقل والوجدان، مع أنها حاربت وخربت الإنجازات المادية والمعنوية الكبرى لتلك الشعوب.
غير أن الصراع أدى أيضا إلى بلورت منظومة من المفاهيم والمعايير والمواقف في التعامل مع الأديان مبنية على مبادئ التمثل الشامل، أي النفي الثقافي المبني على قواعد التحدي العقلاني والمواجهة الأخلاقية الشاملة.
وهي منظومة قامت على جملة مبادئ أساسية منها التأكيد على مبدأ الوحدانية، وإن الإسلام هو الممثل الحقيقي الدائم لهذا المبدأ. ووضع القرآن هذا المبدأ في جملة من آيات السور المكية، مثل "أن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى" . و"قالوا يا قوم انا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدق لما بين يديه ويهدي إلى الحق والى طريق مستقيم" . وكذلك مبدأ إظهار الوحدانية المجردة، من خلال التأكيد على جوهرية الإسلام، باعتباره إسلاما للحق، كما في الآيات "أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل واسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى…" ، و"ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما" . وكذلك مبدأ تمثيل المسلمين لحقيقة التوحيد في الديانات التوحيدية، كما في الآية "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم… سيماءهم في وجوههم من اثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" ، و"يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله" .
وتضمنت هذه المبادئ العامة في أعماقها على فكرة النفي الدائم والبديل الشامل، لتي صاغها القرآن في آياته المتنوعة والموحدة عن ماهية وحقيقة التوحيد الإسلامي، بوصفه نفيا واستكمالا لما في اليهودية والنصرانية من حقائق جرى تحريفها وتزييفها في الأقوال والأعمال. وبلور القرآن في مجرى تكامله التاريخي الأول خمس مواقف عامة كبرى من اليهودية والنصرانية.
الموقف الأول ويقوم في ضرورة التمييز بين المهتدين والفاسقين، انطلاقا من انه "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون باله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات أولئك من الصالحين" . و"منهم مهتد وكثير منهم فاسقون" . الموقف الثاني ويقوم في رفض الجدل معهم، انطلاقا من أن "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا واليه المصير"، إذ أن "الذين يحاجون في الله بعد ما استجيب له حجته داحضة عند ربهم" . الموقف الثالث ويقوم في رفض التعصب والغلو، كما في الآية "وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى. تلك أمانيهم! قل: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، و"قالت اليهود ليست النصارى على شئ، وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم" . و"يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق" . الموقف الرابع يقوم في إعلان تحريف اليهود والنصارى للوحي، ومن ثم لا قدسية في "الكتاب المقدس" الذي بين أيديهم. ويميز القرآن بين نوعين من التحريف. الأول فكري وينبع من الغلوّ الديني ومن ثم الإساءة لحقيقة التوحيد، كما في الآية "أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كم الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون" . و"جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضيعه" . و"لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بين مريم"، كما "كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة، وما من اله إلا اله واحد"، وما "المسيح بين مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" . والثاني عملي وينبع من كون "كثير من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله" . و"إن اليهود والنصارى قد "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا لعبدوا إلها واحدا" . الموقف الخامس ويقوم في إعلان الصراع ضد انحرافهم عن الحق، كما في الآية "ولن ترض عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم. قل: إن هدى الله هو الهدى" . ووضع مهمة الصراع في دعوته القائلة "وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" . وهي دعوة مقيدة بموقف الإسلام من الإقرار بشرعية "أهل الكتاب" واستثناء الفاسقين من المهتدين في كل موقف بما في ذلك الجزية، كما في الآية "وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما انزل إليكم وما انزل إليهم خاشعين لله" . وإذا كان الموقف من اليهود اشد معارضة، فلأنهم كانوا اشد قسوة في معارضتهم للنبي والتحريض عليه. بحيث صورة القرآن مسار التحجر والقسوة في قلوبهم في إحدى آياته قائلا "ثم قست قلوبهم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو اشد قسوة، وان من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار" . بينما كان الموقف من النصارى اشد لينا وتعاطفا بفعل ما في النصرانية من أولوية للمحبة والغفران، كما في الآية "وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة" . و"لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا، الذين قالوا "انا نصارى"، انهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا مما انزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه المبادئ العامة والمواقف المترتبة كانت حصيلة الصراع الأولي الذي فرض على الإسلام في مرحلة ظهوره الأول حتى وفاة النبي محمد. وبالتالي ليس "التناقض الظاهري بين المواقف سوى النتيجة الطبيعية للصراع آنذاك والملازم في نفس الوقت لسعي الإسلام فرض توحيديته الجديدة بوصفها ردا شاملا وبديلا واقعيا وعقائديا وروحيا على مستوى الجزيرة العربية وخارجها. وهو الأمر الذي تجلى بوضوح في تزاوج وتماشي هذه الجوانب اثناء نشر الإسلام والتبشير به وما ترتب عليه من ممارسة الإقرار بشرعية وحرية الأديان وفرض الجزية، في مجرى بناء الخلافة.(يتبع......).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ضربة إيران لإسرائيل: كيف غيرت قواعد اللعبة؟| بتوقيت برلين


.. أسو تخسر التحدي وجلال عمارة يعاقبها ????




.. إسرائيل تستهدف أرجاء قطاع غزة بعشرات الغارات الجوية والقصف ا


.. إيران قد تراجع -عقيدتها النووية- في ظل التهديدات الإسرائيلية




.. هل ستفتح مصر أبوابها للفلسطينيين إذا اجتاحت إسرائيل رفح؟ سام