الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحضارات القديمة والتضحيات البشرية الدموية

خالد كروم

2020 / 5 / 7
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مقدمة :-

منذ مراحل مبكرة من التاريخ الإنساني.....مثلت ضربات القلب علامة على الحياة نفسها..... حتى قبل أن ندرك وظيفة هذا العضو.....وقبل أن نعرف أي شيء عن وجود دورة دموية تشترك فيها الرئة بدور أساسي..... ومثلما كان النبض والشعور بضربات القلب علامة حياة.... كان غياب هذه الضربات ذات النمط الثابت... يعني الموت....

كتب الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي ...(( بلايز باسكال ))... في دفاتر ملاحظات...أن القلب يملك منطقه الخاص الذي لا يعرف المنطق الطبيعي ....((أي العقل)).... أي شيء عنه......من هنا استنتج أننا في سعينا لفهم الحقيقة....علينا أن نشرك القلب في البحث والاستنتاج....لا العقل فقط.....

حتى في هذه اللحظة، يبدو أننا لم ننج من شراك المجاز في التعبير عن المشاعر......ربما يعود هذا في جزء منه.... إلى أننا ما زلنا لا ندرك كثيرًا من الأمور عن المشاعر وطبيعتها...... وبما أن المخ مكان التفكير والعقل والمنطق..... فالاختيارات محدودة حينما نرغب في وصف الشعور ومن أين ينبع.....

نستخدم تعبيرات مثل ....(( أبوه قلب طيب ))... للتعبير عن أفكارنا الإيجابية تجاه شخص ما..... ونقول عن شخص إنه ...(( عديم القلب ))...إذا أظهر قدرًا من القسوة والعنف في تعامله مع الآخرين..... ونقول عن فلان ...((عنده قلب ))....ما يعني أننا نصفه بالشجاعة والإقدام......الأمر يعود إلى أقدم مما نتخيل......

في الميثولوجيا المصرية القديم.... احتل القلب مكانًا محوريا"..... فكان شريكًا أساسيا"... في الحياة كبوصلة أخلاقية ندرك من خلاله الحقيقة..... ويعرف الصواب من الخطأ....وقد طور قدماء المصريين نظامًا معقدًا لفهم كثير من عناصر الحياة الدنيوية والأخروية......كان القلب شريكا أساسيا"... في الحياة الدنيا..... فهو بوصلة أخلاقية.... ندرك من خلاله الحقيقة....ويعرف الصواب من الخطأ.....

في المشهد النهائي من الحساب، كما يرِد في كتاب الموتى، يحمل الإله ...(( أنوبيس ))...قلب الميت.... ليضعه على كفة ميزان.... وفي الكفة الأخرى تستقر ريشه الإلهة ....(( ماعت ))....إذا كان القلب أثقل من الريشة.... فإن مصيره الهلاك الأبدي..... أما لو كان قلب الميت أخف من الريشة..... فهذا يعني أنه كان صالحًا في حياته.... وتحكم عليه الإلهة ماعت بالنجاة ودخول العالم الأخروي....

كان هذا هو السبب الذي جعل قدماء المصريين يحتفظون بالقلب في أثناء عملية التحنيط.... لكنهم يلقون بالمخ بعيدًا..... فهو لا يملك أي أهمية مجازية تُذكر في عالم ما بعد الحياة.....وفي عالم وظيفي تمامًا مثل الميثولوجيا المصرية القديمة.... فلا مكان إلا لما يتسفيد منه الميت في حياته الأخرى.....

لم تكن الحضارتان ...(( الكيمتية _ والإغريقية ))... وحدهما في هذا التصور....إذ تزامنت هذه الرؤية تحديدًا في عدد من الثقافات القديمة والأديان..... وإن كانت معظم هذه الثقافات قد تعاملت مع القلب بنفس الطريقة....وبتزامن يثير الانتباه ....(( القلب دائمًا هو مصدر الأفكار والمشاعر )).... وهو الجزء الأساسي الذي يدرك الإنسان العالم من خلاله....

باعتبار القلب مركزًا لوجود الإنسان، فهو مساحة للتواصل مع الغيبيات.....مع كل ما لا تدركه العين....جهاز استقبال من نوع خاص......القلب محراب مقدس.... والإله يطَّلع على ما في القلوب.... تعبيرًا عن القدرة على النفاذ إلى أدق الأفكار والهواجس.....ينطبق الأمر على الديانات غير التوحيدية أيضًا..... فالقلب عين الحكمة الثالثة في الهندوسية.....وعين الفهم في الطاوية.....حتى في أقدم الوثائق المكتوبة باللغة السنسكريتية.... يشار إلى القلب باعتباره ...(( الروح ...!! )).... نفسها.....

من الوثائق التي وردت إلينا وشهدناها على معابد وأثار عن حضارة الأزتك....هناك ذكر واضح لحفلات التضحية التي يشارك فيها القربان بنفسه ....وتكتمل التضحية بلحظة نزع القلب وتقديمه إلى الإله.....

كانت القربان للتقرب من المعبود فى الحضارات القديمة ولدى الشعوب الأصيلة لا تمييز بين الفينيقيين..... والمصريين والآشوريين والهنود.....وكان القربان من الذبائح الحيوانية .... والذبائح البشرية أيضا ! فكلمة القربان ككلمات كثيرة.... تشترك لفظاً ومعنى بين العبرية والعربية.....وهي مشتقة من فعل “قرب”.....

فالقربان هو وسيلة للتقرب من الإله .....كوسائل أخرى كثيرة، منها الصوم والصلاة..... أو أي طقس ديني آخر....فكل الطقوس لا تتعدى كونها وسائل تمثيلية رمزية للتقرب من المتعالي المحتجب في بعض الديانات.... أو الظاهر المرموز له في ديانات أخرى....غير أن القربان مادي في طبعه.... فهو يعد بمثابة هدية عينية للإله المعبود.....

أما كلمة...(( sacrifice ))...بالإنجليزية.... فهي كلمة أصلها لاتيني مركب من ...(( sacer )) ...وتعني المقدس و ...((facio أو facere )) ...وتعني يفعل.....وبذلك تعني ...((sacrifice )) ...حرفيا" “الفعل المقدس” _ أو “فعل الشيء المقدس” .....

وهي تشير في أصلها للأضحية الدموية.... الحيوانية أو البشرية... والفعل المقدس هنا هو التضحية بالروح المذبوحة لإرضاء الإله......ونجد أن كلمة ...((sacrifice )) ... تحولت بعد ذلك لتشير للتضحية في جوانب الحياة العامة.... وذلك في معنى أشمل بكثير من معناها المقدس القديم....

فلماذا شعر الإنسان بضرورة تحثه على تقديم القرابين....؟ نجد أن جميع التصورات التي تبرر وتؤسس لتلك الفكرة أنثروبولوجيا" لا تتعدى كونها تكهنات .....فليس هناك سببًا قطعيا قد نُرجئ إليه ظاهرة القرابين في تاريخ الإنسانية.....ونجد أن بعض الباحثين اتجه لفكرة أن الأضحية الحيوانية..... على سبيل المثال....بدأت بشروع الإنسان القديم في استئناس وتربية الماشية...

حيث كانت تُذبح الأضاحي لتأكلها القبيلة في شبه احتفالية اجتماعية تحولت بعد ذلك لطقس مقدس....وأفضل مثال على ذلك هو طقس القرابين الحيوانية في يونان القديمة....ففي ذلك الحدث كانت تذبح الأضاحي... خاصة الخنازير...في إطار طقوس صارمة ثم ترش دماؤها على المذبح و.... يأكل منها الفقراء في احتفال بالشواء.... ويُحرق الجزء المتبقي من الأضحية بغرض المباركة....

وعادة ما كان ذلك الجزء المحروق هو دهون وجلود وعظام الحيوان المذبوح....وفي الحقيقة، لا نجد اختلافًا كبيرًا بين طقس القرابين هذا وبين الطقس المشروح توراتيا.......بل نجد الطقس اليوناني متشابه حتى مع الطقس الإسلامي للأضحية فيما يختص بجزء الاحتفالية وإطعام الفقراء....

رأى ويل ديورانت في كتابه ...(( قصة الحضارة)).... أن الإنسان القديم في وقت الحاجة وشح الكلأ لجأ لأكل أخيه الإنسان فاستساغه جدا".... بل ظن أن لحم الإنسان هو قمة أطايب الطعام....وظل ذلك التصور لدى القبائل الآكلة للحوم البشر.....

وبما أن القربان في شكله الأبسط هو طعام للآلهة.... فربما رأى الإنسان أن أفضل ما يقدم للإله المعبود من الطعام هو الإنسان ذات نفس وهو أعلى مرتبة في الأضاحي أو الأطعمة.... وبذلك ظهر مفهوم الأضحية البشرية....ولأن الطقوس الدينية تبقى لسنوات طوال حتى بعد تغير العادات والتقاليد.... ظلت فكرة الأضحية البشرية متلازمة مع الأضحية الحيوانية على الرغم من أن البشر كفوا عن أكل بعضهم البعض.....

ولا نجد مثالاً أكثر تعبيراً عن شعور الإنسان القديم بضرورة تقديم الأضاحي البشرية.... من العادات الدينية التي ارتبطت بحضارات قارة ...(( أمريكا الجنوبية من المايا - والأزتيك - والإينكا))..... فنجد مثلا أسطورة الخمس شموس في حضارة الأزتيك التي تحكي لنا عن مجموعة آلهة تتولى القيام بدور الشمس أربع مرات ....

وفي كل مرة يفشل واحد من تلك الآلهة وتفنى بذلك الحياة على الأرض، حتى يأتي الإله الخامس المخلص.... الذي يعيد الشمس ويمنح البشرية دمه لتحيا.... وبذلك يصبح إلزاماً على شعب ...(( الأزتيك ))...تغذية ذلك الإله المخلص بالدماء البشرية ليظل مستجمعاً لقواه في صراعه مع آلهة الظلام التي إن انكسر أمامها تظلم الشمس وتفنى البشرية للمرة الخامسة.... وظلت بذلك الحاجة للأضحية البشرية ملحة في أذهانهم لآلاف السنين... بل هي التضحية الأعظم لاستدامة الحياة للبشرية جمعاء..

ومن الملفت للانتباه أن نسمع كلامًا مشابها" ...من بعض شعب نيجريا تحكي عن طقس الذبح في ...(( ديانة الفودو ))... التي ينتمون إليها.... والفودو من الديانات البدائية القليلة الباقية.... وكان تبريرها للذبح عميقًا جدا" ... فتحدثوا أن ذلك الطقس ليس بالهين ولا بالبسيط ولا بالوحشي على الإطلاق....وإنما هو أساس الحياة.... فذلك الحيوان روح يضحي بحياته من أجل إطعامك أو مباركتك أو تكفيرًا عنك.... فتمتزج روحه بروحك... بل إن روحه تذهب في هدف مقدس نبيل لتتناسخ ...!! وتعود من جديد في جسد طفل وليد....

وحتى تلك الفكرة على تعقيدها نجدها موجودة في الحضارات القديمة مثل الحضارة السومرية.... حيث يذكر ...(( ويل ديورانت ))....في كتابه السالف ذكره أن في الخرائب السومرية وجدت لوحة كتب عليها نذر يقول:_

...(( “إن الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته” )).... ونجد في نسخة أخرى من نص اللوحة...(( “إن الحَمَلَ بديلٌ عن الإنسان، يقدم الإنسان الحَمَلَ فداء حياته- تُقدم رأس الحَمَلِ مقابل رأس الإنسان” ))....

ويرى ويل ديورانت أن استبدال الإنسان بالضأن أو الحمل يرجع لعادة تقديم القرابين البشرية... التي حين اندثرت أصبح الإنسان يستعيض عن تقديم نفسه أو أخيه كقربان بتقديم حيوان يفتدي الإنسان....وبذلك تظل عادة القرابين لديه تدور في محور كونها طعام للآلهة.... سواء كان بشري أو حيواني....

أما حرق الأضحية فكان في الحضارات القديمة.... ومازال....الوسيلة الوحيدة المضمونة لتوصيل القربان للآلهة الغير مرئية.... فمع الحرق تصعد الرائحة مع الأدخنة للسماء.... وتتلقى الآلهة بذلك ما قُدم إليها بشكل أثيري... فتختفي الأضحية من على الأرض رويدًا رويدًا.... حتى تحترق عن آخرها... وبذلك تكون قد عبرت كلها إلى السماء....

وكأننا بحرق الذبيحة استخلصنا خلاصتها .... أو روحها وصعدنا بها للسماء فأصبحت هي وسيلة الاتصال بين الإنسان والإله المعبود..... عن طريقها يتقرب له.... وبذلك فهي قربان.....ونجد هذا المعنى واضح في طقوس حرق الأضاحي في اليونان القديمة....وفي النص البابلي الخاص بأسطورة...(( جلجامش))... وفي نص التوراة أيضا".... فالرب يرضى توراتيا" حين تصله رائحة شواء الأضحية وبهذا يتمم طقس القربان....

وأن القرابين كانت ومازالت جزءً لا يتجزأ من معتقدات العالم بأسره.... وأنها مرت بمراحل تطور... واشتبكت وتشابهت بين الأديان القديمة والأديان الإبراهيمية الثلاثة.... أو ما يطلق عليه اصطلاحًا في الشرق الأوسط...(( “الأديان الإبراهيمية” السماوية ))... وما يعرف علميا" بالأديان التوحيدية أو ...(( Monotheistic Religions))...

فلفظة السماوية في الحقيقة غير دقيقة ....ولا تتسم بالحيادية العلمية على كثرة استخدامها....وذلك ببساطة لأن جميع أديان العالم تدعي السماوية....وبذلك يتضح لنا أن كنية السماوية هي كنية إيمانية وليست علمية أو حتى دالة.....ولذلك علينا مراعاة الحيادية العلمية حين نتحدث عن ظاهرة متجذرة كالقرابين.... والتي يجب دراستها أنثروبولوجيا" كظاهرة إنسانية عامة ....وليس من وجهة نظر ديانة بعينها.... حتى وإن اتصفت بالسماوية من التابعين لها....

نجد في الختام وبعد تلك الرحلة القصيرة في الزمن الإنساني الطويل أن ظاهرة القرابين ربما هي إنسانية أكثر منها عقائدية مرتبطة بهذا الدين أو ذاك.... بل نجدها تتمحور كلها حول محاولة للتقرب من المتعالي المحتجب بتحويل المادة المقدمة لرمزية أثيرية تصل للسماء.... فيرضى عن المساكين ممن يبتغون العون والسند والعناية....

هي ظاهرة نابعة من نوازع إنسانية واحدة.... منها الخوف من المجهول.... التوق للأمان النفسي الذي قد يتولد عن توهم التحكم في الغيبيات... رغبة في إصباغ القتل بصبغة مقبولة وجدانيا" لإسكات الضمير المعذب.... محاولة للتواصل مع من في السماء.... أو حتى ظاهرة اجتماعية احتفالية مرتبطة بالالتفاف حول الطعام....كلها أهداف متكررة مرتبطة بالتجربة الإنسانية، تعامل معها الإنسان بطريقة متشابهة.... فتولد عنها شعور إنساني متقارب.... ذلك الشعور الذي تشعر به حين تتقدم بقربانك، بأضحيتك أو تناولك....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما ردود الفعل في إيران عن سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز


.. الولايات المتحدة: معركة سياسية على الحدود




.. تذكرة عودة- فوكوفار 1991


.. انتخابات تشريعية في الهند تستمر على مدى 6 أسابيع




.. مشاهد مروعة للدمار الذي أحدثته الفيضانات من الخليج الى باكست