الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات مضيق الرّمال (3)

طارق حربي

2020 / 5 / 7
الادب والفن


بين السفينة والمطار
بعد ثلاثة ايام غادرتُ الفندق إلى شقّتي الجديدة، مرتدياً الكمّامة، ما لفتَ انتباه الصغار قبل الكبار، ممن كنتُ ألاقيهم في الطريق على قلة عددهم. حتى داخلني شعور مُصاب غادر المستشفى للتوِّ، فتمَّ تزويده، حفاظاً على أرواح الناس، بكمية من الكمّامات! وكم كنتُ مخطئاً في تقدير أن النرويجيين، تحت تهديد كورونا، يرتدون الكمّامة مثل التايلنديين، المهووسين بها منذ ما قبل الجائحة!

كان عليَّ في الشقة الجديدة، أن لا أفتح الباب الرئيس إلّا بمنديل ورقي، وغطاء صندوق البريد الأنيق، والباب الخلفي المؤدي إلى صندوق القمامة، وحينما أنزل إلى السرداب لغسل ثيابي، في الماكنة المشتركة لسكّان المبنى، لا ألمس بابَيّ الماكنة والمُنَشِّفَة، إلّا بمنديل أرميه بعد الاستعمال في سَلَّةِ المهملات، والسلَّم الخشبيّ الملتوي حتى الطابق الثاني، لا ألمس درابزينه، لكني أصعد وأنزل بسرعة دون لمسه، تاركاً ذلك للمسنين إن وجدوا! ورحتُ أغسل اليدين بالماء والصابون عدداً من المرات يوميا، ونظاراتي الطبية، وأضعُ مثل النرويجيين يَديَّ تحت صناديق المطهرات، وهي بحجم علبة المناديل الورقية، معلقة على عمود أبيض بباب مجمع المتاجر، تَخرُّ منها بدون لمسها رغوة أفركها بيديَّ. شعرتُ بالملل في منتصف شهر أبريل، وتركتُ تلك العادات اليومية.

في قلب المدينة الخالية من السكان، أقيم في منتصف شارع بطول كيلومتر واحد، إلى اليمين محطة القطار، وإلى اليسار الميناء، حيث ترسو ثلاث سفن بسبع طوابق وتسعة، إحداها تعمل بوقود الكاز إضافة إلى الكهرباء، وتنطلق جميعاً إلى السويد في رحلات مكوكية يومية، لكنها مع الأسف أُوقفتْ عن العمل بعد الجائحة!

في الخلف وعلى بعد 10 كم يقع مطار Torp Sandefjord ، يُسَيّر رحلات طيران يومية مباشرة إلى خمس مدن في النرويج، و 23 مدينة في عشر دول أوروبية.

السفينة والمطار جناحان فرناسيّان، كلما اشتدَّ نداء السفر في نفسي، أرفرف بهما من النافذة الركنيّة المطلة الشارع الخالي من المارّة.


وأمامي على مبعدة 100 متراً ، ثمة محطة الحافلات المنطلقة إلى بلدات صغيرة، وقرى حديثة في المضائق الصغيرة، تساوتْ في الخدمات مع العاصمة. وكنيسة بجانب الحافلة برجها شاهق، يشكل أحياناً مع سحابتين طويلتين شكل طير قادم من الأساطير. في أرض الكنيسة مقبرة تلصف شواهدها الرُّخامية غالية الثمن، تحت أشعة الشمس إذا ما مَنَّتْ علينا بإشراقة! بلغ ثمن الرخامة الواحدة في مكتب الدفن 1000 دولار، أضافتْ لها الشركة المصنعة مؤخراً، لغرض جني المزيد من الأرباح، زخارف طيور أَفردتْ أجنحتها، أو عصافير فضّية تزقزق، ومشكاة في أحد أركانها يوضع فيها مصباح كهربائي، لإنارة الطريق إلى الأبدية!

المقبرة الخضراء التي لا يحلو لأي ابن أنثى إلّا أن يُدفنَ فيها، كما لو أنها تمنح الحياة والخصب من جديد! يقوم العاملون في البلدية، من شبّان وكبار السنِّ بتنظيفها يومياً، مما عَلَقَ بحشيشها الأخضر الناعم، من أوراق الزمن المتساقطة من اشجار محيطة بها، أو ذرق الطيور.

ويزورها الناس بلا كفوف أو كمّامات، يجمعون الزهور اليابسة في كيس يحملونه معهم، ثم يضعون الجديدة أمام القبر، ويشعلون شمعة.

أولئك مسيحويون بروتستانيون ويهود، فإلى متى يأخذ السعوديون الوهابيون على الشيعة، مأخذ زيارة قبور أحبابهم؟

وتحت شقتي صالونا حلاقة نسائية تزورهما الحسناوات، ثلاثة أو أربعة يومياً لا أكثر، خرجتْ من أحداهما ظهر أمس حسناء، كتبتْ على رقبتها الغزالية، بحروف كبيرة تُقرأ على بعد 10 أمتار، إسم عباس! فقلتُ في نفسي يستاهل أبو خضير! وصالون لمساج القدمين وصبغ الأظافر، من طراز فرنسي تعمل فيه سيدة تايلندية، وعدا ذلك كانتْ متاجر بيع الملابس النسائية على طول الشارع مغلقة. والناس يتصلون ببعضهم البعض على بعد متر أو مترين، دون ارتداء الكمّامات أو الكفوف، فمضيق الرمال إصاباته قليلة جدا!

11 يوماً في الشقة لا أبرحها إلا لشراء الطعام، أو يجلبه لي ليث، يتركه في باب السجن وينطلق بسيارته، إلى بيته في الضواحي الخلابة، إلى أن انتهى الحجر الصحي يوم الخميس، فخرجتُ صباح يوم الجمعة إلى المدينة الخالية المشمسة.

تصفرُ رياح كوفيد المستجد في المدينة الخالية! بعدما وصل عدد المصابين بلعنته حتى بداية شهر مايو، إلى أكثر من ثلاثة ملايين شخص في دول العالم، ومات خلال بضعة اشهر أكثر من ربع مليون مصاب في أمريكا وأوربا والصين وإيران وغيرها. لكن النرويج لم تتأثر به كثيراً، بعد غلق الحدود مع الدول المجاورة في الشهر الماضي، سيّما في المدن الصغيرة، فأعادتِ الحكومةُ فتح المدارس بالتدريج حتى الصف الرابع الإبتدائي، وكذلك رياض الأطفال، كما أصدرتْ قبل أسبوع أمراً يقضي بفتح دور السينما حتى 50 مشاهداً، على أن يجلسوا متباعدين، وربما تعود شركات الطيران إلى عملها بعد أشهر من التوقف، والحياة إلى طبيعتها خلال الشهرين القادمين، كما صرَّحَ ساسة الدول المتضرر اقتصادها بالفيروس اللعين!

مدينتان في النرويج ساعدت ثديّيات البحر على تطويرهما، الفقمة في ترومسو في الشمال، والحوت في مضيق الرمال في الجنوب الشرقي. لذلك سمّوا شارعاً هنا باسم شارع صياد الحوت، والمتاجر الرئيسة جُمِعَتْ في مول الحوت (Hvaltorvet) ، وكان مغلقاً حينما زرته أول مرة في مطلع شهر أبريل.

ثالث عشر أكبر مدينة في النرويج، وبلغ عدد سكانها أكثر من 63000 نسمة، حسب إحصاء سنة 2019، لكن الشوارع خالية منهم! يمرقُ أحياناً رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة على كرسي متحرك، وامرأة تايلندية تعمل في محل مساج تخلتْ عن الكمّامة، أتحدث معها بما أجيده من لغتها، قبل تغيير الموجة إلى اللغة النرويجية! أو رجل ضخم الجثة في تناسب فاضح مع حجم كلبه، أو بالعكس، إمرأة ضئيلة الجسم تمشي مع كلبها الضخم، وتلك نسبة لا أفهمها!

124جزيرة في مضيق الرمال، حينما أجلس في الشرفة الكبيرة في بيت ليث، مطلة على أحد المضائق الصغيرة، أشاهد ثلاث جزر، كل واحدة منها لا تحتوي إلّا على منزل واحد، بحبوحة العيش الحقيقية هنا!

أظنُّ ما على الشاعر في هذه البلدة الهادئة، حتى تنجلي غمة كورورنا، سوى أن يطلق لحيته ويكتب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. آخر ظهور للفنان الراحل صلاح السعدني.. شوف قال إيه عن جيل الف


.. الحلقة السابعة لبرنامج على ضفاف المعرفة - لقاء مع الشاعر حسي




.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد