الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإعلام وإغواء السياسة

ناجح العبيدي
اقتصادي وإعلامي مقيم في برلين

(Nagih Al-obaid)

2020 / 5 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


نجاح مصطفى الكاظمي في تبوأ أعلى منصب تنفيذي في العراق سيدغدع أحلام الكثير من الإعلاميين العراقيين. فقد بدأ هو أيضا مسيرته المهنية كصحافي وانتهى به المطاف ليصبح رئيسا لوزراء العراق حيث يتمتع بصلاحيات استثنائية في مرحلة حرجة من تاريخ البلاد، ناهيك عن امتيازات هذا المنصب الرفيع وهيبته. لا يمكن بالطبع انتقاد الكاظمي لأن عمله الصحفي شكل بوابة لمشواره السياسي لاحقا، لكن تجربته تطرح من جديد العلاقة الملتبسة بين الإعلام والسياسة في العراق. وإذا كان من البديهي أن يتم انتقاد السياسيين عموما، والسلطة التنفيذية على وجه الخصوص على خلفية انتهاك حرية الصحافة وعدم احترام استقلالية الإعلام، إلا أن هناك أيضا إعلاميين كثيرين لا يعيرون أهمية لاستقلاليتهم وحيادهم، ويروجون علنا لمواقف سياسية معينة ويتحزبون لهذا الجهة بطريقة يصعب التمييز فيها بين الصحافي والسياسي لديهم. وفي كثير في الأحيان يمهد ذلك للسقوط أمام مغريات السلطة والمنصب.
ليس محمد الطائي، صاحب قناة الفيحاء، ووجيه عباس مقدم البرامج التلفزيونية المعروف سوى مثالين على إمكانية توظيف الشهرة الإعلامية للحصول على "مجد سياسي". ترشح الاثنان للانتخابات التشريعية ضمن قوائم إسلامية ونجحا في نيل عضوية مجلس الشعب بكل ما يعينه ذلك من امتيازات ومخصصات وشهرة وحضور سياسي وإعلامي وحماية ووظائف شاغرة، وما خفي أعظم. أيضا سروة عبد الواحد التي ترأست كتلة حركة التغيير في البرلمان العراقي حتى عام 2018 وضعت اللبنات الأولى لمشوارها السياسي في حقل الصحافة والإعلام. تشير هذه الأمثلة وغيرها إلى حقيقة أن المهارات الصحفية يمكن أن تفيد كثيرا في احتراف السياسة ، إلا أنها تؤكد أيضا أن عاملين في ميدان الإعلام لا يقاومون مغريات المنصب والسلطة، بل ويجدون هذا الانتقال أمرا بديهيا. فالعقلية السائدة تنظر إلى العمل الصحافي على انه نشاط سياسي، أو على الأقل يخدم أهدافا سياسية وليس تقديم المعلومة الصحيحة للقارئ والمشاهد والمستمع وتركه لكي يبلور موقفه دون توجيه من أحد. من هنا يمكن القول أن تداخل الإعلامي مع السياسي وانتفاء الحدود بينهما لا يختلف كثيرا عن الخلط بين الدين والسياسية. فالحيادية التي يفترض أن تحول دون إقحام الدين والتربية والجيش في الصراعات الحزبية على السلطة يجب أن تسري بهذا القدر أو ذاك على الإعلام أيضا، ولكن هذا الفهم لا يزال بعيدا عن الثقافة العراقية.
لا يجد الكثير من الصحفيين العراقيين غضاضة في التصريح علنا أنهم منحازون، بل ويتنافسون في ذلك مع السياسيين. فهم "منحازون" إلى جانب الشعب والجماهير والفقراء، وهم مع الثورة والثوار والمنتفضين والمحتجين، أو مع هذه القضية العادلة أو تلك وغيرها من الشعارات الكبيرة والرنانة والتي تفتح المجال لتفسيرات متباينة. بطبيعة الحال لا يمكن سلب حق العاملين في الإعلام في تبني مواقف سياسية معينة وتأييد هذا الحزب أو ذاك، لكن لا يجوز أن يطغى ذلك على تغطيتهم الصحفية التي يجب أن تترك مجالا للرأي الآخر حتى لو كان يعتبر "كفرا" ويتعارض مع قناعاتهم الشخصية. يُنتظر من الصحفي أن يقف بوضوح ضد الإرهاب والجريمة والفساد ومع الحريات الأساسية ولكن مع النأي بنفسه عن الصراعات الحزبية على السلطة. كما يتمتع الصحفي مثل غيره بحقه الأصيل في حرية التعبير عن آرائه وقناعاته السياسية الشخصية على أن يكون ذلك واضحا للمتلقي وألا يخفي أجندة سياسية معينة. هنا أيضا لا بد للصحافي أن يختلف عن الناشط السياسي وأن يلتزم بالمعايير الأخلاقية لمهنة الصحافة والتي تتطلب التحقق من الوقائع وتجنب الدعاية المباشرة. من جهة أخرى يمكن للصحافي أن يتحول إلى ناشط سياسي وأن يحترف السياسة، ولكن لا يجوز أن يمارس المهنتين في آن واحد حيث لا يعرف أحد أن ينتهي الصحافي وأين يبدأ السياسي.
يتجلى بؤس الإعلام العراقي بشكل واضح في بعض مقدمي البرامج التلفزيونية الحوارية الذين لا يتورعون عن تحويل برامجهم إلى منصة للترويج لمواقفهم السياسية الشخصية أو الجهات التي تقف ورائهم وللتهجم على هذه الجهة أوتلك. يضربون بعرض الحائط بكل معايير العمل الصحفي ولا يقيمون وزنا للحيادية، بل وينجر بعضهم إلى التهريج والابتذال والإثارة والكذب ونشر الإشاعات والأخبار الملفقة.
سطغ في سماء عالم الإعلام العراقي "نجوم" يتمتعون بشعبية كبيرة يحسدها عليهم الكثير من السياسيين وذلك بفضل لسانهم السليط وما يدعى بجرأتهم الإعلامية. من بين هؤلاء برز أنور الحمداني ونجم الربيعي على سبيل المثال لا الحصر. كان الحمداني يستضيف في برنامجه الحواري "ستوديو التاسعة" على قناة البغدادية سياسيين مختلفين، ولكن قبل أن يفسح المجال للضيف يستبق "الحوار" بمقدمة طويلة يُبين فيها للمشاهد "الموقف الصحيح" أي رأيه هو. هنا تختلط أنصاف الحقائق مع أنصاف الأكاذيب ويتداخل التحريض مع الدعاية بمفهومها النازي والخبر الصحيح مع الملفق. أهم عنصر إثارة هو الشعبوية الرخيصة ومحاولة تملق المشاهد من خلال الظهور بمظهر الوطني والنزيه والحريص على المال العام. بطبيعة الحال لا يعترف الحمداني وأمثاله بحيادية الصحافة ويعتبرها مجرد شعار خادع للإعلام "الرأسمالي" المغرض. لا يختلف أسلوب نجم الربيعي عن زميله الحمداني. ففي حوارته الساخنة على شاشة قناة تغيير لا يكتفي الربيعي عادة بطرح الأسئلة على ضيوفه، وإنما يصدر أحكاما مسبقة وينشر الادعاءات دون التحقق والتأكد من الوقائع. لا ضير من نسب قصيدة إلى الإمام علي بن أبي طالب يذكر فيها وباء كورونا قبل 1400 سنة والترويج لأن العراق ينفق 90 مليار دولار لاستيراد النبق والشلغم والشمندر، طالما أن ذلك يزيد من عنصر الإثارة ومن شعبية الربيعي وبرنامجه. ومن الواضح أيضا أن حملته الشعواء ضد الفساد والفاسدين والتي تنال إعجاب الكثيرين، هي وسيلة وليست غاية وهدفها الأول هو تلميع صورته أملا بتسلم منصب سياسي يعوض مشاق هذا النضال على الجبهة الإعلامية، لا سيما وأن طموحاته السياسية تعرضت في انتخابات 2018 لنكسة كبيرة . للأسف ينسى الكثير من المشاهدين أن نجم الربيعي ترشح للانتخابات عن قائمة بيارق خير – وهذا من حقه تماما - وأنه قد فشل فيها وبالتالي فإن الاحتمال الأقرب لأسلوبه التشهيري هو الحسد وتصفية حسابات مع سياسيين آخرين حصلوا على المغانم، بينما خرج هو خالي الوفاض. صحيح أن رائحة الفساد في العراق تزكم الأنوف وتفوق الخيال ويجب على الإعلاميين فضح كل أشكال الرشوة والمحسوبية وتبذير المال العام وتسمية الفاسدين بأسمائهم، ولكن ذلك يتطلب وجود إعلام جاد ومحايد يسعى لكشف الحقيقة وليس له مصلحة في إسقاط الآخرين أو إطلاق التهم الكيدية، كما يفعل الربيعي وأمثاله.
تعود ظاهرة التحيز الفاضح في الإعلام العراقي واحتقاره للحيادية، وخاصة في مجال تغطية الأحداث السياسية إلى أسباب تتعلق بالدرجة الأولى بتقاليد الثقافة السياسية والعمل الصحفي والنظام الاقتصادي في البلاد. حتى يومنا هذا يهيمن الإعلام الحزبي على ميدان الصحافة. فمعظم الصحف والقنوات التلفزيونية تنطق باسم أحزاب وقوى معينة وتمول من قبلها. ومن البديهي أن المهمة الأساسية لهذه المنابر هو الدعاية والترويج لأفكار هذه الأحزاب ومواقف قياداتها وتلميع صورتهم أمام الرأي العام. ولا يمكن بالتالي توقع قيامها بتغطية متوازنة للأحداث، إلا إذا كانت تندرج ضمن الهدف الأسمى لها. بدأت تقاليد الصحافة الحزبية في العهد الملكي ووصلت "أرقى" مراحلها في النظام الجمهوري، لا سيما في عهد صدام حسين حيث ساد الصوت الواحد والحقيقة الواحدة. صحيح أن فترة ما بعد 2003 بشرت بتنوع كبير في المنابر ولكن الصحافة الحزبية عادت لتهيمن على الساحة، بينما انزوت الصحافة المستقلة في مساحة ضيقة. وترتبط هذه الظاهرة بطبيعة النظام الاقتصادي حيث تتحكم الدول الريعية بأهم مفاصل الحياة الاقتصادية مقابل ضعف القطاع الخاص.
النتيجة الحتمية لطغيان القطاع العام هو تراجع المنافسة وضعف قطاع الإعلانات التجارية واستئثار وسائل الإعلام الرسمية والحزبية بحصة الأسد فيها. في ظل هذه الظروف كان من البديهي أن تفشل معظم محاولات إصدار جريدة أو إطلاق قناة تلفزيونية مستقلة كمشروع تجاري واعد كما هو الحال في الدول المتقدمة حيث طويت منذ عقود صفحة الجرائد الحزبية. هنا تتضح حقيقة الترابط بين الحريات السياسية والحريات الاقتصادية وضرورة وجود قطاع خاص متطور كقاعدة مادية لا غنى عنها لتنوع الإعلام واستقلاله.
ذهب غوبلز العراق، محمد سعيد الصحاف في ربيع عام 2003 ولكن عقليته لا تزال تعشعش في الإعلام العراقي. لا يتحمل مسؤولية ذلك السياسيون والأحزاب المتنفذة فحسب، وإنما أيضا إعلاميون فشلوا في مقاومة إغراءات السياسة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -تكتل- الجزائر وتونس وليبيا.. من المستفيد الأكبر؟ | المسائي


.. مصائد تحاكي رائحة الإنسان، تعقيم البعوض أو تعديل جيناته..بعض




.. الاستعدادات على قدم وساق لاستقبال الألعاب الأولمبية في فرنسا


.. إسرائيل تعلن عزمها على اجتياح رفح.. ما الهدف؟ • فرانس 24




.. وضع كارثي في غزة ومناشدات دولية لثني إسرائيل عن اجتياح رفح