الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العالم بعد كورونا

سامح عسكر
كاتب ليبرالي حر وباحث تاريخي وفلسفي

2020 / 5 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


عندما نقول أن العالم بعد كورونا سيختلف ليس معناه أنه في خلال سنة أو اثنين سيتغير كل شئ بالفانوس السحري ، ولكن لأن كورونا عنصر مساعد (أضعف الثقة) في النظام العالمي الحالي

ضعف الثقة بالنظام الدولي حدث منذ انتفاضة 1968 بفرنسا، والنتيجة أن خرجت فرنسا رسميا من عالم الرأسمالية الحر وقمع اليسار إلى عالم متوازن بين اليمين واليسار هو الذي يحكم فرنسا الآن، ولمن لا يعلم ما هي انتفاضة 68 بفرنسا فهي أشهر محاولة أوروبية لتغيير العالم الرأسمالي والثورة ضد الليبرالية القديمة، بعدها توالت الأحداث التي لم تكن في صالح العالم الرأسمالي (ماديا وأخلاقيا) من حرب 73 وانسحاب إسرائيل ثم هزيمة أمريكا في فيتنام ثم نجاح ثورة إيران ضد الشاه وصعود قوى شيعية بلمحة اليسار في لبنان واليمن، في المقابل منذ سقوط شاوشيسكو في رومانيا بدأت الكفة تنسحب من المنتصرين الشيوعيين حتى انهار الاتحاد السوفيتي ومعظم الأنظمة الشيوعية بالعالم مطلع التسعينات.

هنا تم التسليم بنظام دولي جديد يتشكل غير قائم على رأسمالية محضة كما تم تعريفها بالكتب، بل جمعت بين مبادئ اليمين واليسار وأخذت من الفكر الشيوعي والليبرالي لتظهر ما تسمى ب "الليبرالية الاجتماعية" وهي التي سادت العالم أوائل القرن 20 وصنعت ثورات شعبية ضد حكم رجال الدين والأغنياء والبرجوازيين، أي أن العالم الآن يحمل بصمات العالم منذ 100 عام في موقفه من (العدالة الاجتماعية) حتى أمريكا وأشهر قوانينها الذي يتنافس مرشحيها في تطبيقها قانون (التأمين الصحي) وهو منتج يساري اشتراكي من بقايا الفكر الشيوعي وعصر التأميم..

يعني باختصار: العالم الآن ليس رأسماليا ولا شيوعيا ولا ليبراليا أو يساريا، بل هو خليط متنوع من كل ذلك..والذي يحاول إثبات نفسه بقوة السلاح والمال هم دعاة "النيوليبرالية" فقط أي متطرفي الرأسمالية أمثال ترامب وملوك البنك الدولي وعائلات الإقطاع المتبقية منذ عصر الممالك

كورونا يقضي الآن بل يطلق رصاصة الرحمة على النيوليبرالية وكل مظاهرها من الاقتصاد الريعي – كالخليج – لاقتصاد الدولار والدين ويفك تحالفات (المال والسلطة) في أكثر من دولة، ويعيد مشاعر الوحدة والعدالة الاجتماعية من قاعدة الهرم الشعبي كما كان عليه الإنسان في بداية القرن العشرين، والذي أدى لانتفاضات يسارية وعلمانية ضد كل ما هو راديكالي ديني وإقطاعي كالثورة البلشفية الروسية 1917م والثورة الأسبانية عام 1936 م والثورتين الصينية والمكسيكية عام 1911 م والثورة الألمانية 1918 م..إضافة لحركة أتاتورك..وغيرها، جميعها ثورات شيوعية أطاحت إما بملكية رأسمالية أو أنظمة دينية كانت حليفة لها، وهذا يفسر كيف أن النظام الديني السلطوي هو رأسمالي بطبيعته بينما الأنظمة العسكرية تميل لليسار الشمولي خصوصا لو جاءت بثورة شعبية..

بل أن ثورة 1919 م في مصر كانت بها لمحات لانتفاضة على رأس المال الإنجليزي ودوره في استغلال الفلاح المصري، رغم إن ثورة 19 ليها أسباب تانية كإجبار بريطانيا الشعب المصري على الحرب في جيشهم خلال ww1 أو بتحريض من الدولة العثمانية توازيا مع وباء الأنفلونزا الأسبانية الذي قتل آلاف المصريين ..كلها عوامل تضافرت مع بعضها وأدت لثورة الجماهير المصرية بشكل وزخم ربما كان أول مرة يحدث في التاريخ المصري بهذا الشكل..

يعني باختصار: النظام الحالي بينتهي فعلا وخلال 10 سنوات بالكتير ستصبح مفاهيم العولمة والنيوليبرالية من الماضي وسيبحث الإنسان عن مفاهيم وتطبيقات جديدة، لكن المؤكد أنه وفي حال تغير العالم سينتقل إلى أحد بديلين:

الأول: نظام عالمي أفضل ويساوي بين البشر اجتماعيا..ليس بشكل مطلق ولكن بمعدل أكثر من الموجود، وفي حال وصل الإنسان لهذا النظام ستعيش البشرية حقبة رومانسية وفلسفة نقدية للأديان كالتي عاشها العالم في منتصف القرن العشرين وأوائل القرن 19وأهم معالمها سيكون عودة الدين للمعابد وشخصية أخرى لرجل الدين أقرب للشكل الطقسي مع نشاط شبابي ثوري واجتماعي هائل يضغط على رأس المال ليجبره على الخضوع والقبول بالنظام الجديد..

البديل الثاني: وسيكون نظام عالمي أسوء ستزيد الفجوة فيه بين الفقراء والأغنياء وتكثر المجاعات والحروب، وقتها سيعود رجال الدين للواجهة مرة أخرى بتقديم تفسيرات عقائدية لما يحدث موافقة للكتب المقدسة، نسخة كوبي باست من قصة صعود الوهابية والخومينية الذين صعدا في نفس الظروف مع الفارق.

شخصيا أميل لنجاح البديل الأول، ليس لأنني أتمنى فقط ذلك...ولكن لأن مقدمات ظهوره الآن في صعود نُظُم عالمية تخاصم النفوذ الديني الاجتماعي والسياسي للنظام الحالي كروسيا والصين واليسار الأمريكي، مع نشاط ملحوظ لليسار الأوروبي خصوصا فرنسا، وكما قلت أن انتفاضة 1968 الفرنسية كانت شعلة البدء في التغيير وإحداث توازن فكري أقنع الغرب لاحقا بحقوق العمال الذي هو أحد مبادئ ماركس وكل من ينادي به يتهم بأنه شيوعي..حتى طال ذلك علامات إنسانية كإينشتاين وشارلي شابلن أعقاب العصر المكارثي الأمريكي في تحقير وازدراء كل من ينادي بحقوق الفقراء والعمال على أنه جاسوس شيوعي.

أما عن فترة التغيير..يعني متى سيظهر النظام العالمي الجديد فليس أقل من 10 سنوات وربما من 20 – 30 سنة خلال هذه الفترة لن يهدأ العالم بل سيمر بثورات اجتماعية وحروب على أساس (مالي وديني) وهي ضريبة حتمية سيدفعها البشر للانتقال الآمن يصفي فيها حسابه مع الماضي وتُقبّح فيه كل فكرة تخلط بين الدين والدولة أو تربط بين المال والسلطة وتُجرّم أي توظيف سياسي للدين في القوانين..

سيؤمن العالم بضرورة التعايش والسلام وكف شرور الأغبياء والطامعين، فقط بعد انحسار موجة المرض سيعود العالم لنقطة الصفر في بناء علاقاته السياسية، فالإنسان يفعل الخير غالبا لأنه ضعيف أو لا يشعر بالقوة، وقيل قديما أن أول خطوة في طريق الشر هي القوة، بعدها اصطلح الناس على مفهوم (توازن القوة) لمنع الشرور، ووصل لأن تحكم وسيادة دولة ما أو مجموعة أو فرد دون منافس متكافئ يعني فعل الشر حتما...

والتاريخ يشهد..كيف أن الأنفلونزا الأسبانية التي قتلت 100 مليون إنسان في القرن العشرين كانت سبب (نفسي) لإقناع العالم بعبثية الحرب العالمية الأولى..فانتهت الحرب حتى قبل انحسار المرض، فلولا هذا الوباء وجرائم الحرب العالمية الأولى ما عاش العالم فترة سلام دامت ٢---١--- عام سوى بعض الحروب الصغيرة، ولولا سقوط ملايين القتلى البريطانيين في الوباء والحرب ما تنازلوا عن مستعمراتهم وأشهرها لدينا مصر فقد نالت استقلالها بعد الحرب ب ٤ أعوام سنة ١٩٢٢ م، وكذلك لولا الحرب الأهلية الأمريكية في القرن ١٩ لاستولت أمريكا على كل أراضي المكسيك ليس فقط تكساس وكاليفورنيا قبل الحرب بسنوات، ولولا الحرب والوباء ما وصل العالم لفكرة تأسيس عصبة الأمم سنة 19 بهدف حل مشاكله وتنظيم حياته السياسية..كما أنه لولا الحرب العالمية الثانية ما وصل العالم لفكرة الأمم المتحدة والعرب للجامعة العربية..

لولا الحرب والوباء ما سقط أعتى نظامين دينيين في القرون الوسطى ..النظام العثماني التركي والقيصري الروسي..ولما وصل العالم ومفكريه وفلاسفته للشك في ثقافتهم والاقتناع بضرورة تغييرها أو تطويرها، ولولا شعور العثمانيين بالضعف أمام ملوك إيران وروسيا في القرون الوسطى لغزوا آسيا وأوروبا، لكن سلسلة الحروب العثمانية ضد الصفويين والقاجاريين والقياصرة لمئات الأعوام أعادت للعالم توازنه وحفظت أوروبا وآسيا من سلطة دينية واحدة كانت تعمل على عولمة العالم حسب مذهب السنة...

مبررات الحروب سهلة جدا وقصة إيجاد سبب لفعل الشر بسيطة، ومن يظن أن الحرب العالمية الأولى توقفت لشعور الزعماء بالخطأ دون قوة عليا لا يمكنهم السيطرة عليها وشعور جماعي بالضعف فهو واهم، ومن يظن أن إسرائيل ستنسحب من أراضي فلسطين دون شعورها بالضعف فهو مخدوع، الآن بعد وباء كورونا الذي سينحسر حتما عن خسائر أقل من الأنفلونزا الأسبانية ستقف معظم الحروب الصعبة وتحل مشاكل كانت في الماضي مستحيلة الحل، وتعود للدول سيادتها المفقودة..مما يعني أن الشعب السوري سينال سيادته على أرضه ويُرفع الحصار الدولي على كل من سوريا واليمن وإيران وفنزويلا وغزة، ويعاد النظر بجدية في حل مشكلة فلسطين..

لحظات الرعب التي يعيشها العالم الآن وقياداته ستدفعهم للخيار الصعب الذي لم يفكروا فيه وهم أقوياء، وكما بطشوا وقتلوا وظلموا لطمعهم وجشعهم سيعودوا عن ذلك لشعورهم بالضعف والخوف من اكتساح الفيروس الضعيف الذي يقف العلم حتى الآن عاجزا عن التصدي له، وسيتأسس نظام دولي جديد رسمت معالمه منذ سنوات وأصبح العالم مجهزا لاستقبال ذلك النظام والتعايش معه دون تمرد، ولأنه النظام العادل الذي يجب أن يكون، ثم تعود الكرّة بعد فترة بظهور زعماء أغبياء وجشعين ليشعلوا حروبا أخرى وأزمات أخرى مركبة ومعقدة.. وحين تصل في تعقيدها وشدتها لحظة اليأس..يأتي الحل البسيط غير المتوقع لتدوم الحياه كما دامت ملايين السنين بنفس الطريقة..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملف الهجرة وأمن الحدود .. بين اهتمام الناخبين وفشل السياسيين


.. قائد كتيبة في لواء -ناحل- يعلن انتهاء العملية في أطرف مخيم ا




.. وسائل إعلام إسرائيلية تناقش تداعيات الرد الإيراني والهجوم ال


.. إيران وروسيا والصين.. ما حجم التقارب؟ ولماذا يزعجون الغرب؟




.. مخلفا شهداء ومفقودين.. الاحتلال يدمر منزلا غربي النصيرات على