الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تولستوي في تَافرَاوت

ادريس الواغيش

2020 / 5 / 10
الادب والفن


بقلم: إدريس الواغـيش

كنت أسمع بالكاتب الرّوسي ليو تولستوي من قبل وسبق لي أن قرأت له رواية "الجريمة والعقاب"، وبعض المقالات والدراسات حول رواياته الشهيرة في الملاحق المغربية والمجلات العربية، لكن لم يخطر ببالي يومًا أن أصادفه في تافراوت، المدينة التي ارتبط اسمها بالروائي والشاعر محمد خير الدين. يعود بي الحدث هنا إلى ربيع 1985 في هذه المدينة الصغيرة والجميلة، وهي بالمناسبة من أجمل المدن المغربية في نظري، ليس لجمال شطآنها أو اخضرار جبالها أو تدفق شلالاتها، ولا اتساع شوارعها أو ازدحامها بالناس حين تنيرُ مصابيحها في الليل بعد غروب الشمس في الصيف. تافراوت منطقة بين أحضان الأطلس الصغير ومدينة لها سحرها الخاص، سحر غامض لا يوجد في غيرها من المدن، أقصد هنا خصوصية طبيعتها الساحرة التي لن تجد لها مثيلا في كل المناطق المغربية: عناق نخيل أفرزته الطبيعة، نوعية الصخور الفريدة من نوعها سواء في لونها أو شكلها، شجر الأركان، شجر اللوز، الهواء النقي، رقصة أحواش المتفردة في الأعراس، جمال فتياتها ونسائها، طريقة البناء الفريدة ولون الطلاء والصباغة فيها...إلخ. وهذا سر كونها مقصدا لأغلب السيّاح الاجانب الذين يزُورُونها انطلاقا من أغادير عبر تزنيت أو وُصولا إليها من ورزازات مرورًا بمركز "إغرم" في عمق جبال الأطلس الصغير الصحراوي على مرمى حجر من واحات طاطا ونخيلها.
كنت أثناء زيارتي الأولى لها رُفقة سيّاح إيطاليين وفي المرة الثانية مع بعض الفرنسيين، قبل أن تتكرر زياراتي لها بمناسبة ومن دونها على مدى ثلاث سنوات. كنت حينها لا أزال شابا لم تجاوز العشرين من العمر إلا بقليل، أمارس مهنة التعليم وفي نفس الوقت أزاول هواية أخرى بالموازاة مع ذلك كمرشد سياحي، كلما سنحت لي الفرصة بذلك في بعض العطل الصغيرة، أفيد وأستفيد من خلال احتكاكي بثقافات أجنبية أخرى. هذه الهواية مكنتني من ولوج أفخم الفنادق المُصنّفة في أغادير وورزازات ومراكش وأن أدخل إلى فندق "المامونية" الشهير فيها. عرفت في هذه المحطات كلها كيف يعيش كبار القوم فينا مع عائلاتهم خارج عوالمنا، أقصد عوالم المغاربة، أما بالنسبة لبعض السياح الأجانب وليس كلهم، فقد كان شيئا بديهيا أن يعيشوا تلك الرّفاهية المُفرطة، لكن ما لاحظته هو أنهم يعيشونها بتحضر ومن دون تفريط ولا إفراط أو مباهاة. تعرفت على ثرثرة الإيطاليين ومرحهم وإقبالهم الشديد على الحياة بما يملكون من مال وانفتاحهم على الجميع، وعلى عجرفة بعض الفرنسيين ممّن يتعاملون مع المغاربة كمُستعمرين سابقين، هذا الجانب جعلهم ينظرون إلى الإنسان المغربي بعجرفة ودونية ولا يخجل بعضهم أن يصرّح بأنهم كانوا أسياد إفريقيا ومُستعمريها، ويبطنون أنهم لازالوا كذلك. لكن حين توخز ذاكرته أو تذكرُّه بتاريخ فرنسا الآخر المنسي الذي يجهله أو يتجاهله وتستحضر له بعض الأحداث القاسية التي "أذلت" عجرفة فرنسا كالغزو النازي أو الحرب البروسية الفرنسية أو محاولة غزو المسلمين لبلاد الإفرنج بعد استكمال فتح الأندلس، وكادت فرنسا أن تسقط في يد المسلمين لولا حظهم مع التاريخ، خصوصًا بعد أن وصلوا إلى أسوار مدينة (بريش) باريس عاصمة المملكة حينها، وهي حرب لا يعرفونها كما لا يعرف عنها أغلبية الفرنسيين العاديين شيئا أو يتناسونها ويتجاهلونها عمدًا حتى يظل ريشهم متنفخًا. لكن حين يشعر الفرنسيون أنك تستفزُّهم في "الجانب الذي يضرُّهم" يخفون غضبهم واستعلاءهم تحت شواربهم أو يستنجدون بابتساماتهم المُفبركة ويغـيّرون الموضوع برمّته كأن يسألونك عن اسم شجرة "الخرُّوب- Le caroubier" مثلا أو المكان الذي نمرُّ أو نتواجد فيه.
أما الألمان فتميّزهم أقدامهم ومقاسات أحذيتهم، جادّون أكثر من الإنجليز حتى وهم يمازحون، لذلك تجدهم حذرين في تعاملهم مع الآخر، لا يثقون ولا يستأنسون بك مهما أطعمتهم أو قـدّمت لهم من خدمات، أغلب السيّاح الشباب منهم يحملون سلاحًا أبيضًا خصوصًا إذا كانوا مصحوبين بزَوجاتهم أو خليلات ألمانيات أو غربيات تصادفوا معهن في المطار أو وحّدهم طريق السفر جميعا أو جمعتهم اللغة الألمانية ولا يفهم غيرها أكثرهم وقليل منهم يتحدث الإنجليزية، ويبقى الإنجليز أقل الأوروبيين دهاء ومكرًا في ظاهر الأمر، لكن مع ذلك يطلبون منك أن تزورهم في لندن أو في بلدهم ويوفون بوُعودهم، فيرسلوا لك صوَرًا جمَعتك بهم مع بعض الهدايا البسيطة عند عودتهم إلى إنجلترا. ويبقى السويسريون والنمساويون هم أظرف الشعوب الأوروبية وأكرمهم وألطفهم، إذ كلما صعدت إلى الشمال الأوروبي إلا وجدت شعوبا أخرى مختلفة عما ألفناه عن سكان القارة العجوز في جنوبها، شعوب حسنة المَعشر كريمة في تعاملها ككل شعوب المناطق الإسكندنافية، وهذا راجع ربما إلى كونهم لم يكونوا دولا مُستعمِرة في الماضي، وبالتالي بقت هذه الدول وسكانها في مأمن من عقدة التعالي.
حين أخذنا ما يكفي من راحة في فندق اللوز(hôtel les amandiers)، وكان يومها الفندق الوحيد المُصنّف بالمدينة، لكن يوجد فيها أيضا عدد كبير من فنادق أخرى غير مصنفة وهي كافية لإيواء من يزورها من سياح مغاربة وأجانب، صعدت مع مرافقي(نمساوي وزوجته) إلى جبل يعلو الفندق يمكّن من الاستمتاع بالنظر إلى لوحة فنية ونظرة بانورامية على المدينة وما يجاورها من مناظر خلابة تتشكل من نخيل وبساتين وصخور الغرانيت التي تأخذ أشكالا وأحجامًا متعدّدة. كانت برفقتنا أيضًا ابنتهما "آنّا"، وهي صبية جميلة في مقتبل العمر تحمل بين يديها البضّتين رواية "أنّا كارنينا" للكاتب الروسي ليو تولستوي مكتوبة باللغة الإنجليزية (كنت أراها لأوّل مرّة)، بدأت توَشوش لأبيها في أذنه، تمنيت في قرارة نفسي لو أنها فعلت ذلك في أذني وليس في أذن أبيها. قبل ذلك كنا قد قمنا بجولة جبلية صغيرة، كانت تمسك فيها بيدي كلما أوشكت أن تفقد توازُنها، وكان مفعول هذا اللمس ليدي عبارة عن تيار كهربائي يسري في كامل جسدي. كانت "آنّا" تقريبا في نفس عمري أو أقل قليلا، أتذكر أنها كانت مثل فتاة أطلسية في سواد شعراء وسواد عيونها، وكم كانت يا ربي منفتحة وبريئة ومرحة تكاد تطير من الفرحة مثل عصفورة، ولم أكن في حقيقة أمري أدرك إن كانت تمسك بيدي خوفا من السقوط على صخور مسطحة، لأنها فعلا تكاد تفقد توازنها؟، أم أنها تتعمّد ذلك، فتفقدني توازن إحساساتي الداخلية والخارجية برُمتها؟، كانت هذه الصخور التي كانت في لونها أقرب إلى النحاس يتغيّر في كل مرة شكلها وتشكلها، وتأخذ أيضا في كل مرة شكل حيوان من الحيوانات، وتدفعك لاستعمال الخيال للبحث عن الحيوان الأقرب إلى شكلها، استهوتنا اللعبة كما السياح من حولنا، وقد كان أكثرهم رغم كبر سنهم يضحكون كما الأطفال، ورمانا الهوى بعيدا حتى ونحن بين أحضان والديها.
اختلط عليّ الأمر بين انفتاح عاداتهم وانغلاق تقاليدنا، حرت بين آخذ بمنطق انفتاحهم أم آخذ بكل ما يلزمه عليّ انغلاقنا؟، كان أبوها أو أمها يناديانها بـ"آنا"، لكن بما يملكان من لين وحنان في المناداة، وكانت هذه الـ"آنا" تمسك بيد على يدي وتحتضن بأخرى كتاب "آنا كارنينا" كأنه قطعة من قلبها. كنا قد ابتعدنا قليلا في سهو وعن غير قصد عن والديها. نادى علينا والدها أن اقتربا، خلته سيوبخني على بعض سلوكياتي نحوها وقد بدأنا نتمايل يمينا وشمالا ويسمع ضحكنا من بعيد، لكن ما أن وقفت بالقرب منه حتى قال لي الرجل النمساوي الخمسيني الطيب الذي كان مصحوبا بزوجته السويسرية الأصل وقد استمتع بسحر الفضاء وبكل ما يختزنه المنظر الجميل من لوحات جمالية مبهرة، وهي مناظر لا توفرها لك إلا تلك الإطلالة من فوق الجبل، وهي إطلالة توصى بها إدارة الفندق زوّاره من خلال جدارية ملونة مرسومة على برنامج المدار السياحي اليومي، لكن عرفت فيما بعد أنه استرعى انتباهه كثرة المآذن في مكان محصور جدا، فقال لي متسائلا:
- ما تلك المنارات الإسمنتية المرتفعة يا صديقي إدريس، وما فائدتها؟
قلت له مستغربا: تلك مآذن المساجد..!
لم يفهم، فأردف قائلا:
- عذرا، أنا أقصد ما الفائدة منها؟
قلت له أن الأمر يتعلق بمآذن مساجد المدينة، يُرفع منها آذان الصلوات الخمس.
شرح لزوجته على طريقته ما قلت له، لكني أحسست بزوجته وكأنها لم تقتنع بما قدم لها من شروح، كانت تنطق بلغة لم أفهمها، ربما كانت اللهجة النمساوية، وهي تختلف في شقها الشفهي عن اللغة الألمانية كما أوضح لي فيما بعد، كونها مزيج من ثقافات مناطق متفرقة في النمسا وبعض اللغات القديمة في المنطقة عندهم، عكس اللغة الألمانية المتعامل بها رسميا في دولة النمسا.
قال لي مستفسرا مرة أخرى، وكأنه غير مقتنع:
- أرى أن المساحة ليست شاسعة جدا، مئذنة واحدة تكفي لإخبار سكان المدينة وإسماعهم الآذان، أليس كذلك صديقي؟
استجمعت مرة أخرى كل ما أملك من لغة إنجليزية، كي أشرح له أن الصومعة أو المئذنة أو المنارة مُخصّصة في الأصل لرفع الآذان، وهي تدخل ضمن التصميم الهندسي للمسجد برُمته، تنضاف إلى مكونات أخرى مختلفة مثل قاعة الصلاة وأحواض الماء للوضوء ومحراب لإقامة الصلاة بالنسبة للإمامة وغيرها من المرافق، وأيضا ليفرّق عابرو السبيل والغرباء بين المساكن والمساجد.
عند رجوعنا ليلا إلى أغادير وقد أخذ منا التعب مأخذه، وكانت ليلتنا الأخيرة فيها جميعنا، سيقفلون هم راجعين إلى النمسا عبر الطائرة وأنا إلى الفرعية التي كنت أعمل بها. طلبت من الصديقة "آنّا" ونحن نتناول العشاء في فندق "القصبة" أن تعطيني رواية "آنّا كارنينا" كهدية أتذكرها بها وتغافلت عن طلب "الكاميرا" من أبيها، لكني في الأخير لم أجرؤ على ذلك. اعتذرت "أنّا" بلطف شديد وقالت لي مبتسمة:
- عندما أعود إلى بلدي، أشتري لك واحدة ومعها أشياء أخرى...!
في موسم ربيع من السنة الموالية، قال لي صديقي بأن "المقدّم" جاء لي برسالة وصلت من أستراليا ولم يجدني، كان يقصد طبعا(Austria) لكنها في حقيقة الأمر كانت رسالة من "آنّا" النمساوية وصلت ومعها تلك "الأشياء الأخرى" التي وعدتني بها. توصلت بالرسالة، فيما تلك "الأشياء الأخرى" التي لا أعلم إلى اليوم ما نوعها، بقيت عالقة بين مكاتب البريد دون أجد إليها سبيلا...!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء


.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في




.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و