الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عزيزي المسلم 4: ثقافة القطيع

سامي الذيب
(Sami Aldeeb)

2020 / 5 / 11
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هذا هو الفصل الرابع من ملحق كتاب
عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك
لكاتب سعودي نشرت كتابًا له تحت اسم: مواطن مجهول

ويمكن الحصول على النص الكامل للكتاب ورقيا: https://bit.ly/2y5Z5Jm
كما يمكن تحميله ضمن كتبي العربية
https://www.sami-aldeeb.com/livres-books/

------------------
عزيزي المسلم،
يؤسفني أن أخبرك أنه أنت وأنا ومعظم من يقرأ هذه الأسطر هم مسلمين بالوراثة، نعم. بالوراثة شئت ذلك أم أبيت. لا ينبغي أن يكون وقع ذلك مفاجئا عليك فكلنا مسلمين بالورْث. ورثنا هذا الدين ولم نعتنقه اختيارا أو نقبله ابتداءً، مثلما أن أبا لهب ورث ما يعتنقه من أبويه ومن أسلافه فأنت وأنا ورثنا ما نعتنقه اليوم من آبائنا وأسلافنا.
ليس هناك من جديد أو مفاجئ في ذلك القول، بل المفاجئ أن تعتقد غير ذلك. أتفهّم عزيزي سبب انقيادك لغيرك، إذ ليس من الهيّن أن تتوقف عن اتّباع الآخرين، ليس فقط لأن الآخر قد يلزمك باتباعه ويفرض عليك ذلك ويشدّك اليه شدّا بل لأنك تشعر بالأمان وتحس بنوع من الألفة والطمأنينة حين تنتمي الى مجتمع أو طائفة ما، يؤمن أفرادها بنفس المعتقد ويتلبّسون نفس الأفكار ويرددون نفس الأذان. شعورك مثل شعور مشجع نادي النصر حين يجلس في الملعب مع مشجعين آخرين ينتمون لناديه ويرددون نفس الأهازيج. أتظن من السهل عليه أن يهتف لنادي الهلال وهو في مدرجات النصر؟
هذا الشعور بالانتماء نستطيع تتبعه الى مجموعات الإنسان البدائي الذي عاش على الصيد قبل اكتشاف الزراعة وظهور التجمعات البشرية حين كان التعاون والانتماء الى المجموع سببا للبقاء على قيد الحياة والخروج وحيدا للصيد مخاطرة لا تحمد عقباها. يحتاج كل منا الى الشعور بالانتماء فدوافع ذلك تبدو موروثة منذ الإنسان الأول وهذا قد يفسر عدم تساؤلك عما تعتقد وفحص ما تؤمن به فرغبتك في السلامة والعيش مع القطيع والإحساس بالأمان أقوى وآكد وأسلم من العيش وحيدا بأفكارك التي ترهقك والتي لا تدري من يشاركك بها، لاسيما إذا أُلقي في روعك أن يد الله مع الجماعة ومن شذّ شذّ في النار.
يأتي دينك بعد ذلك ليؤكد على ما ورثته في حمضك النووي بأن تبقى مرتبطا بمن حولك مهادناً لهم ومُطاوعاً لما ترى وتسمع فما أنت سوى فرد من رعيّة وهناك دائما من يرعاك سواءً أبا أو زوجا أو حاكما. يدعوك تراثك الديني الى الإذعان والخضوع الى المجموع والتماهي معهم والاستكانة لهم ويكفيك ما يكفيهم من معتقدات ورؤى وأفكار حتى وإن جانبتْ تلك المعتقدات في نظرك المعقول وخرجتْ في بالك عن المألوف وعارضتْ لديك المنطق، وإيّاك إيّاك أن تسمح لنفسك بالاستفسار وإثارة السؤال فآخر ما يريده منك هو التساؤل “إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم”.
أول ما يطلبه منك دينك هو الاستسلام ثم الانقياد (الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة) حتى تعيش في مجتمع كل أفراده مستسلمين منقادين مطيعين، يقودهم قلّة نصبوا أنفسهم متحدثين باسم كائن غيبي وموقّعين عنه. تُقبّل حجرا لأن غيرك قبّله وترمي آخر بحصيّات لأن من قبلك فعل ذلك وتنضم الى الألوف في الدوران حول غرفة مجوفة لأنهم فعلوا ذلك وتتبرك بماء مقدس لأن غيرك صنع ذلك، ثم تشاهد هندوسا يغمسون رؤوسهم في نهر الغانج العظيم فتتعجب من صنيعهم وقد تضحك من فعلهم مردّدا هذا ما وجدوا عليه آبائهم.
قد تقف الآن وتقول إني أفعل تلك الأمور التي تبدوا غريبة لغيري لأن ربي أمرني بها. حسنا، متى وأين وكيف كان هذا؟ دعني أعرض عليك الإجابة باختصار وعارية كما هي بدون رتوش، اجابة لن تجدها في كل كتب الدين وتفسيراته. في عصور مظلمة قديمة، وقبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، عاش رجل في هذه البقعة من الأرض إدّعى أنه يتواصل مع إله في السماء، ثم بدأ في الحديث بكلام غريب ملحون نسبه لربه المزعوم، فيه أنواع من التخويف والترهيب وبعض الترغيب باستخدام الجنس والملذات الحسية. فرض كتابه بالقوة على قومه ثم عندما مات اختلف من أتى بعده ومازالوا مختلفين الى اليوم حول فهم ما قال في ذلك الكتاب، لكنهم اتفقوا على فرض أفكاره بالقوة كما فهموها هم. تلك هي الحكاية باختصار، آه. نسيت أن أضيف أن من أفكاره لكم دينكم ولي دين.
لا أريد أن أثقل عليك لكن ما أشرت اليه آنفا حول الشعور بالانتماء هو إحساس فطري قوي متجذر ويصعب ممانعته أو الانعتاق منه ولا تحسبني أدعو لذلك أو أشجع عليه. بل العكس، فإن ذلك الشعور إنما هو مصدر قوة وإلهام للمجتمعات البشرية ويتولّد منه الانخراط في التعاون نحو المنفعة المشتركة ولولاه لما استطاع الإنسان أن يبني الحضارات ويمتاز عن باقي المخلوقات، فالبشر وإن ولدوا منفردين إلا أنهم يعيشون جماعات.
فقط أريد أن تفهم عزيزي أن موقفك المتصلب تجاه ما تقرأ وتسمع وترى مما يخالف السائد في محيط مجموعتك هو أمر طبيعي بل وفي أحيان كثيرة هو من غريزة حب البقاء التي ورثناها في جيناتنا من أسلافنا. جرّب أن تفصح عن رأي متسامح مع الشيعة في مجلسٍ بالرياض مثلا ويكون حضوره ممن نشأ في أحضان السلفية الوهابية وكتب ابن تيمية أو تبدى رأياً في السعودية عن خلافها الحالي مع قطر أو حربها في اليمن مختلفا عن الرأي السائد والذي هو بالطبع رأي الحكومة. لا تستطيع فعل ذلك بسهولة واطمئنان لأن شعور الانتماء لديك والموصول برغبتك في البقاء والأمان يطغى على شخصية الفرد داخلك.
الاستثناء الوحيد الذي أعرفه هو عند توفر سقف عالي من الحرية في مجتمعك يسمح لك بالتعبير عن رأيك دون أن يتعارض ذلك مع شعورك بالانتماء. وحتى ذلك قد لا يكفي، إذ يصدّق الناس وبسهولة مختلف الأكاذيب لتفادي الاختلاف مع المجموع المحيط بهم وهناك تجارب كثيرة عن ثقافة القطيع تلك، ولعل من أشهرها تجارب عالم النفس آش والتي تُري وبوضوح كيف أن الفرد موضع الاختبار يمكن أن يقوم بأفعال غير منطقية، فقط لأن جميع من حوله يفعل ذلك.
أنت حبيسٌ لما زُرع فيك منذ طفولتك وأسيرُ أفكار غيرك قبل أن تكون أسيراً لأفكارك، وحريّ بك أن تفحص تلك القناعات والأفكار جيدا وأن تعيد مراجعتها كل فترة وتكونَ مستعدا للتخلي عنها وتركها أو تعديلها وتنقيحها أو استبدالها وقبول غيرها متى ما اتّضح لك عوارها وبان لك نقصانها، فالخطأ الأكبر هو أن تبقى كما أنت والأسوأ أن يكون هذا الأنت إنما هو الغير وصورة طبق الأصل له، تمّ زرعها بك قبل أن تبلغَ الحلم وتشبّ عن الطوق فتعيش حياة غيرك وأنت تظنها حياتك وتتحدث بلسان الآخرين وأنت تظنه لسانك وتدافع عن أقوال غيرك وأنت تظنها أقوالك وتؤمن بما يؤمن به الآخرين وأنت تظنه إيمانك. أتقبل أن تعيش هكذا حياة؟ نسخة لغيرك وصورة طبق الأصل لأفراد مجتمعك، يختفي الفرد داخلك وتروّض الأنا بين جنبيك وتُكبح النفس المتسائلة في عقلك وتذوب في محيط الجماعة حواليك فهم أعرف منك وأدرى بمصلحتك، تاريخهم يرسم لك خط حياتك والى أي مدى يمكن أن تطلق عنان تفكيرك، يروّضونك بتراثهم ويدجّنونك بتاريخهم كما يشاؤون. أنت المسكين الذي لم يبلغ أشده ولم يستقم عوده وكأنك طفل لم تبلغ سن الفطام بعد، والأدهى والأمر أنك تعيش عمرك كله وتموت وأنت لم تبلغ الحلم أبدا.
هل عليّ أن أصدق بأمور هي من الغيب لمجرد أن من حولي يصدّق بها دون أن يكون لي رأي في ذلك؟ قد يقول قائل ولكن هناك الكثير من الأشياء التي نصدق بها لأن غيرنا يصدق بها وتوافقنا على ذلك بالرغم من أنها غيب عنا. فأنا مثلا أصدق بوجود دولة تسمى اليابان بالرغم من أني لم أسافر لها ولم أطأ رجلا فيها. أصدق بوجود تيار كهربائي في سلك ممدود بالرغم من أني لم أره. كل هذه الأشياء صدّقت بها لمجرد أن من حولي يصدق بها.
هذا صحيح لكنك تنسى شيئا هاما وهو أنّ تلك الأشياء كلها قابلة للفحص والتحقق إذا أردت، فبإمكانك مثلا السفر الى اليابان لتتأكد بنفسك أو قياس شدة التيار بجهاز الأميتر للتحقق من وجود الكهرباء به أو حتى لمس السلك مكشوفا إذا أردت المخاطرة، لكنّ الأفكار الغيبية المرتبطة بالأديان غير قابلة للتحقق والفحص إذ أن محلها الإيمان وهو شي متعلق بذات الشخص وليس موضوعا من خارجه. مادام أن تلك الغيبيات هي من الأمور الشخصية البحتة والمتعلقة بالذات فمن حقي أن يكون لي ذاتي الخاصة بي والمستقلة عن الآخرين، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تستطيع أن تنكر بعض الحقائق الموضوعية التي تعارف الناس على تصديقها وبإمكانهم التحقق منها دون أن يؤثر ذلك على نمط معيشتك فمثلا تستطيع أن تسافر بالطائرة وتقضي إجازة ممتعة على الطرف الآخر من الأرض ولو لم تصدق بكرويتها بل بإمكانك أن تحكي لمن حولك عند مسبح الفندق عن تصورك البسيط للأرض والكون والسماوات بينما قبولك بغيبيات دينك وخضوعك لها في بلدك ستؤثر حتما على اسلوب حياتك وطريقة معاشك منذ ولادتك الى مماتك.


مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا فكاهة ولا مازية
ابراهيم الثلجي ( 2020 / 5 / 11 - 15:36 )
أستاذ سامي وعدتنا اخر مرة بنشر مقالات عن الأخطاء في القران الكريم وكل يوم افتح على الموقع وما فيش حتى اني قلقت عليك ولكن الحمد لله ها انت عدت
وأتمنى عليك ان تترك نشر هذه المراهقة لذلك الكاتب السعودي ولا لها معنى ولا فكاهة ولا مازية علة قولة المرحوم أبو عنتر


2 - استاذ سامى
على سالم ( 2020 / 5 / 11 - 22:08 )
رائع جدا , انت تقول الحقيقه المجرده الخالصه بدون رتوش او ماكياج , الاسلام تحديدا ديانه بدويه صحراويه دمويه وعنيفه تأسست على السيف والغزو والسرقه والبلطجه والاجرام والاستنكاح , اى مسلم يعرف ذلك جيدا فى قراره نفسه لكنه يخاف ان يخرج عن ثقافه القطيع , لكن نأمل ان يتغير الوضع بسبب الثوره الثقافيه المباركه والانترنت الرائع والفضائيات التى عرت الاسلام تماما حتى سقط سرواله واصبح يتوارى خجلا من الفضيحه


3 - هل فعلا نرث الدين أو نختاره عن قناعة ؟
عبد الله اغونان ( 2020 / 5 / 12 - 03:25 )
من يرثون الدين من آبائهم وأمهاتهم وهم أنواع
هناك نوع مقلد يدعي الدين حتى ولو لم يكن له اعتقاد والتزامات بالدين
وهناك نوع ينمي اعتقاده والتزاماته
كما أن هناك نوع قد ينقلب على ماورثه
وهناك نوع لم يرث الدين كان لادينيا أو على دين مخالف فيتوصل الى قناعة بالدين كمن يتحولون الى الإسلام من خلفية مسيحية أو حتى الحادية
بل نرى شعوبا اعتنقت الإسلام حتى دون حركة فتح ولاحرب فأكثر الشعوب سكانا وتدينا الشعب الأندونيسي
وكثيييييييييير من المعتنقين والمعتنقات للإسلام عن بحث وقناعة حقيقية وذاتية
راجعوا كتبهم وتصريحاتهم


4 - سيدي النبي
د. ليث نعمان ( 2020 / 5 / 12 - 06:41 )
كل ما قلته ينطبق اليوم على المسيحيين في الولايات المتحدة بعد حوالي 230 سنة على قيام الجمهورية و اقرار الدستور


5 - ما نشرته ليس لي
سامي الذيب ( 2020 / 5 / 12 - 07:09 )
حتى لا انسب لنفسي أمرا ليس لي أكرر ما قلته في بداية مقالي
هذا هو الفصل الرابع من ملحق كتاب
عزيزي الله: رحلتي من الإيمان الى الشك
لكاتب سعودي نشرت كتابًا له تحت اسم: مواطن مجهول

ما جاء اذن في المقال هو لمواطن سعودي مسلم يخاف على رأسه رأيت من واجبي نشر كتابه
ونشري للكتاب لا يعني ان نقده للإسلام تبرئة مني لأصحاب الديانات الأخرى

ولذا وجب التنويه

اخر الافلام

.. الشرطة الأمريكية تعتقل عشرات اليهود الداعمين لغزة في نيويورك


.. عقيل عباس: حماس والإخوان يريدون إنهاء اتفاقات السلام بين إسر




.. 90-Al-Baqarah


.. مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى وسلطات الاحتلال تغلق ا




.. المقاومة الإسلامية في لبنان تكثف من عملياتهاعلى جبهة الإسناد