الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من نقد الدين إلى وحدة الأديان في الثقافة الاسلامية(3)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 5 / 13
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


موقف علم الكلام الاشعري من الأديان

بينما نعثر على نموذج آخر في الموقف من الأديان عند الاشعرية. ولعل الباقلاني يمثل أحد الأعلام المتميزين بهذا الصدد. ويشكل كتاب (التمهيد) تجسيدا كلاسيكيا لهذا النمط من المواقف. فهو يتميز بالجدل اللاهوتي الحاد مع تركيز على القضايا الجوهرية في العقائد الدينية عند النصرانية واليهودية. وعادة ما يشكل الدفاع عن الإسلام وإظهار أفضليته بكافة الميادين والمستويات عصب المواقف النقدية أو وجهها الآخر. فعندما يتناول قضية النبوة، فانه يسعى للبرهنة على حقيقة النبوة المحمدية ومعجزتها الفعلية وإمكانية البرهنة العقلية عليها. فنراه ينطلق من أن البرهنة عليها ممكن أما بطريق الاضطرار أو بطريق الاستدلال. والمقصود بالاضطرار هو الحكم المبني على معطيات التاريخ الواقعية ودليلها المباشر. والاضطرار بالنسبة للنبوة المحمدية هو القرآن. فكما لا نشك في أن التوراة من موسى والإنجيل من عيسى وإن قصيدة "قفا نبك" لامرئ القيس كذلك لا نشك أن ما في القرآن دليل عليه .
أما الاستدلال فهو ما ينقله لنا الجميع بالتواتر. إذ من الصعب توقع كذب الجميع أو تمسكهم جميعا بالكذب. إضافة لذلك أن العادة في النقل والتأييد والتكذيب طريق استدلالي لا يمكن تخطئته. فالعادة تبرهن على انه يستحيل إمساك الجميع على السكوت عن الكذب أو إنكاره. غير أن هذا الحكم يثير كثرة من الأسئلة المعارضة مثل ألا يشكل إنكار المجوس واليهود والنصارى لنبوة محمد دليلا على ذلك؟ ويجيب الباقلاني عليه بالنفي، انطلاقا من أن مواقفهم مبنية على البعد أو العداء، كما لا يشكل إنكار المجوس لنبوة عيسى وموسى، أو إنكار اليهود لنبوة عيسى دليلا على صحة إنكارهم أو دليل على نفي نبوتهم .
واستعمل الباقلاني هذا الأسلوب في الدفاع عن النبوة المحمدية ومعجزته القرآنية. فهو ينطلق مما في القرآن من براعة النظم وانطوائه على أخبار الغيوب وعلمها. فانه يعطي لبراعة النظم صيغتها الملموسة، من خلال ربطها بواقع المواجهة القائمة آنذاك والتحدي المباشر بين النبي محمد وعرب الجاهلية المتميزين بالفصاحة. من هنا لا معنى للاتهامات التي تقول، بان العرب كتبوا مثله أو احسن مثله لولا السيف والسيطرة الإسلامية التي منعت أو قضت على ما قالوه. ووجد في هذه الآراء أحكاما لا تصمد أمام التجارب التاريخية. فالتاريخ يبرهن على أنه لا سيف ولا سلطان قاهر قادر على منع الناس من التحدث ونقل الأخبار بينها ومنها إلى الأجيال الأخرى .
وقد أدرك الباقلاني بحنكته العقلية وملكته الجدلية محدودية هذه "البراهين". من هنا أسلوبه في الرد على انتقاد النصارى واليهود للإسلام في عبارته القائلة: كل شيئ تعلقوا به في نقدهم للإسلام فهو جوابنا عما يسألوا عنه . أي يمكن ترديد ما يتهموا الإسلام به عليهم. وهي رؤية نقدية ودقيقة، تحتوي على إدراك مبطن للأسلوب المشترك في النقد اللاهوتي والديني، ولحد ما ضعفه الداخلي بفعل سيادة نفسية الاتهام للآخرين ونفسية الانغلاق العقائدي فيه. وهو أسلوب ميز مواقفه من اليهودية والنصرانية. لكنها تجاوز نفسية الاتهام والانغلاق المميزة لهما مقارنة بانفتاح الإسلام على "الأديان السماوية". من هنا استنتاجه عن أن سبب عدم اعتراف اليهود بنبوة محمد يقوم في أن أحكامهم بهذا الصدد مبنية على السمع دون العقل. ولو كان العقل حاكما لاقتنع به الجميع. وهو استنتاج دقيق للغاية يتصف ببعد عقلاني وإنساني في نفس الوقت. ومنه يمكن استشفاف الرؤية النقدية العميقة في مواقفه من الضيق الديني عند الجميع .
لم يستطع الباقلاني تذليل نفسية الاشعرية ومنطق رؤيتها الثقافي في الموقف من الأديان بشكل عام واليهودية بشكل خاص. وهو منطق تمثل الحصيلة الإنسانية الكبرى للرؤية الإسلامية ولكنه تميز في نفس الوقت بحدة مبالغ فيها أحيانا بفعل شعوره التاريخي عن تمثيله لتقاليد السنّة والجماعة. لهذا وجه اهتمامه لكشف تناقضات الاتجاهات اليهودية وتعارض مواقفها من اليهودية نفسها. فهناك من اعترف بنبوة موسى وهارون ويوشع بن نون كما هو الحال عند السامرية، بينما اعترف القسم الآخر بنبوة عيسى ومحمد كما هو الحال عند العيسوية (أصحاب عيسى الأصفهاني)، التي أقرت بصدق نبوة عيسى ومحمد ولكنها لا تخص اليهود. وطبق أسلوبه هذا على الموقف من مسالة نسخ الشرائع. فاليهودية نفسها انقسمت إلى من قال بإمكانية النسخ مثلما هو الحال عند الشمغية وإلى من رفضه كما هو الحال عند العنانية. فالاتجاه القائل باستحالة نقض الشريعة ونسخها سمعا وعقلا لا أساس له. لأنه لا يمكن فهم حقيقة السمع دون العقل. لان معنى السمع متوقف على تأويل العقل. فكلمات موسى عن بقاء شريعته كما في عبارة "ما دامت السماوات والأرض"، لا يتعارض مع إمكانية فهمها على أساس ما "دمتم موجودين"، أو أنها "مؤيدة لكم ما لم يبعث الله نبيا". إذ لا توجد في التوراة عبارة "عدم نسخ شريعتي بعدي"، كما يقول الباقلاني. أما الترجمات والشروح اليهودية، فإنها تخضع للجدل، وذلك لإمكانية تحريفهما وإظهارها بالشكل الذي يستجيب لهوى اليهود عن عدم نسخ شريعتهم . أما محاولاتهم البرهنة عقلا على عدم نسخ الشريعة انطلاقا من أن الله حكيم وقوله بعدم النسخ هو لصلاح الإنسان، فإنها تشويه للعقل والمنطق. وذلك لان العقل يبرهن على أن ما هو صالح الآن قد يكون فاسد غدا. فما في التوراة صالح في وقته قد يكون فاسدا في وقت آخر، كما يقول الباقلاني.
إلا أن انتقاد الباقلاني لليهودية لم يعن بالنسبة له انتقادا للدين كما هو ولحقيقة الوحدانية اليهودية التي جرى طمسها من جانب اليهود أنفسهم. إذ أن الخطأ ليس في حقيقة الدين اليهودي والنصراني من حيث أنها ديانات توحيدية. من هنا موقفه المعارض والنقدي للمواقف اليهودية من النصرانية وعقائدها عن التثليث، التي تقول عن المسيح ما تحيله العقول. فالنصارى، كما يقول الباقلاني، لم "تنقل التثليث فيفسد نقلها، وإنما تأولته، واستدلت عليه عند أنفسها، وضربت للحلول والاتحاد، وغلطت وأخطأت في اجتهاداتها وتأويلاتها . إضافة لذلك أن الانتقادات اليهودية ضد المسيح يمكن توجيهها كما هي ضد موسى. إذ يمكن العثور في التوراة على وصف لموسى ما تحيله العقول، عد عنك ما فيها من التجسيم والتشبيه الذي يفوق تثليث النصرانية .
لكن إذا كان نقد الباقلاني العقلي لليهودية يصب في إطار المعترك الديني، بسبب ضعف اليهودية الفكري وانعزالها الديني واللاهوتي والفلسفي عن التيار العام للإبداع الثقافي العالمي آنذاك، فان الموقف من النصرانية تميز بجدل عقلي رفيع، أي انه ارتقى إلى مصاف الجدل اللاهوتي والفلسفي. مما أعطى له في الذاكرة التاريخية الإسلامية صورة المدافع النموذجي عن رفعة الإسلام الفكرية والعقلية. وتشير الكثير من كتب التاريخ والأدب ونكت الكلام عن شخصية الباقلاني الجدلية ونموذجيتها في الدفاع عن الإسلام في كل مكان وطئته قدميه. وقد ترجم لها كل من صاحب (الذيل على تجارب الأمم) والقاضي عياض (ت-544) في (ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب الإمام مالك). إذ تشير هذه المصادر إلى سفرة الباقلاني لملك بيزنطة ولقاءه بملك الروم (باسيليوس الثاني). ونعثر في هذه الأخبار عن كيفية زيارته إلى بيزنطة وتدبير الملك للطريقة التي تجبر فيها الباقلاني على الدخول عليه بطريقة تجعل منه راكعا أمامه، وذلك من خلال إدخاله من باب ضيق واطئ. أما الباقلاني فقد "ابتكر" طريقة تحافظ على وقاره وأنفته و ذلك عبر إدخال جذعه وجسده ومن ثم رأسه وهو مرفوع إلى الأعلى، بحيث خلصه ذلك من الانحناء أمام الملك. وهي صورة تذكرنا بما تنقله كتب التاريخ والأدب عن حالة مشابه قام بها أحد ملوك اليمن قبل ذلك بقرون عديدة. كما تشير إحدى نوادر الباقلاني التي ترمي إلى إظهار سرعة البديهة الجدلية في شخصه كيف انه حالما التقي بالملك وبحاشيته من رجال الدين اخذ بالاستفسار عن أهلهم وأبنائهم، مما أثار استغراب الجميع واشمئزازهم من الأسئلة. واستغل الباقلاني ذلك للإجابة عليهم: إنكم لا تنزهون الله عن الأولاد وتنزهون هؤلاء!
ونعثر على صدى هذه الشخصية في انتقاده للافكار النصرانية المنتشرة انذاك في اتجاهاتها الكبرى الأساسية. فقد تعرض الباقلاني في جدله لأغلب الأفكار والمفاهيم العقدية في المذاهب النصرانية الكبرى مثل الملكية واليعقوبية والنسطورية، أي الأكثر انتشارا في عالم الإسلام آنذاك. وتناول بالأخص قضايا الجوهر والاقانيم. وناقشها بصورة مستفيضة وعلى كافة المستويات.
لقد كان انتقاد الباقلاني للأفكار النصرانية يجري ضمن تقاليد النقد العقلي المميز لعلم الكلام الإسلامي، وبالأخص في مدارسه المعتزلية والاشعرية. ويتضح ذلك من خلال إبراز التهافت المنطقي في آراء وبراهين الاتجاهات النصرانية وكذلك في نقد التشبيه والتجسيم. وهو انتقاد ميز تقاليد علم الكلام والاعتزال منه بالأخص فيما يتعلق بهذين الجانبين. بعبارة أخرى، أن الأسلوب النقدي للباقلاني كان اقرب في روحه إلى تقاليد المعتزلة. وشأن كل انتقادات علم الكلام آنذاك كانت موجهة في نفس الوقت للدفاع عن العقائد الإسلامية.
وبغض النظر عن الدوافع المباشرة والغاية العملية من وراء انتقاد الباقلاني لعقائد اليهود والنصارى وغيرهما من الأديان، فإنها أدت إلى شحذ الذهن النقدي، وبالتالي إلى كسر تدريجي لحدة أسنان الوعي اللاهوتي نفسه. ومن ثم كانت تساهم بصورة غير مباشرة في توسيع وترسيخ الرؤية العقلية والثقافية للانفتاح الديني والفكري. وذلك لأنها كانت تعمل موضوعيا على تغلغل أولوية وجوهرية بل وسمو الفكرة المجردة ونموذجها العقلي. ووجد ذلك تعبيره بصورة "غير واعية" في الاستعمال الواعي للباقلاني لأدوات الخصم في الجدل الفكري، عندما قال على أن من الممكن استعمال انتقادات وأساليب اليهود والنصارى المعادية الإسلام بالضد منهم. وهو شئ يمكنه تطبيقه في الموقف من علم الكلام الإسلامي والدين الإسلامي نفسه.
وشكلت حصيلة الأساليب التي نظمها الباقلاني في انتقاده لأراء وأفكار المدارس اللاهوتية والفلسفية لمختلف الأديان الخزين الذي وظفه إمام الحرمين الجويني في كتاباته المتعلقة بهذا الجانب، وبالأخص في (شفاء الغليل من بيان ما وقع في التوراة والأناجيل من التبديل). أي انه لم يقف عند حدد النقد اللاهوتي المباشر عن نماذج "التحريف" في كتب اليهود والنصارى، بل ويتعدى ذلك إلى كشف الفروق والتباين بين نسخ التوراة نفسها عند كل من اليهود والنصارى. ووضع هذه المقدمة في انتقاده العقلي لهما، والقائل، بان سبب ذلك يقوم أولا وقبل كل شئ في تقليدهم الأعمى وأخذهم للحجج تقليدا من غير "امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها" . إضافة لذلك أن تسمية التوراة نفسها لا علاقة لها بالنصرانية، رغم تحولها لاحقا الى مصدر من مصادر النصرانية. فقد كتبت قبل بعثت المسيح بحوالي 545 سنة، أي قبل أن يوجد نصراني واحد على الأرض. من هنا إمكانية تحريفها، كما يستنتج الجويني.
وقد اعتبر الجويني "حب الرياسة" أحد الأسباب التي يمكنها أن تفسر لنا إمكانية التحريف المشار إليه أعلاه. لاسيما وانه كان على الدوام أحد الأسباب الكبرى للفتن وقتل الآباء والأبناء ووقوع الحروب وتبديل الرحمة بالقسوة. وهو أيضا سبب قلب الحقائق، بل انه من أخص صفاتها، كما يقول الجويني. فالنصارى تقول بتحريف اليهود للتوراة، لأنها تضمنت على إخبار بمجيء المسيح. واليهود تقول بان النصارى حرّفت التوراة. ذلك يعني انهما كلاهما يؤكدان على تحريف التوراة. وهو أمر يمكن رؤيته على مثال اختلاف وتباين وتناقض النصوص المتداولة عندهما. وهو دليل يبرهن على أن هذه النصوص التي عندهما ليست إلهية، كما يقول الجويني. وعندما ننتقل إلى الأناجيل فإننا نرى الاختلافات الجلية أيضا بصدد شخصية المسيح. ففي قضية الصلب نرى الاختلاف جليا بين النصوص التي يوردها إنجيل لوقا مقارنة بإنجيل متي ومرقش .
مما سبق يتضح، بان نقد الأديان في الثقافة الإسلامية كان جزءا من بحثها عن اليقين. وذلك لان هذه الانتقادات جرت ضمن إطار التأسيس للتوحيد الحق. إذ لم يكن اهتمامها موجها من اجل الكشف عن التوثيق والتدقيق في المصادر بقدر ما كان موجها من اجل بيان طبيعة الابتعاد عن ماهية الحق كما جرى ادراكه ضمن مفاهيم التوحيد الإسلامي. ولم يعن ذلك أنها أهملت تأمل وتتبع المصادر التاريخية، بقدر ما أنها وضعت أولوية اهتمامها في التدليل على أن اليقين الحقيقي يفترض كحد أدنى القبول بالعقائد الكبرى التي بلورها الإسلام عن التوحيد، باعتبارها تجسيدا معقولا له. (يتبع....)
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة جديدة من برنامج السودان الآن


.. أطباق شعبية جزائرية ترتبط بقصص الثورة ومقاومة الاستعمار الفر




.. الخارجية الإيرانية: أي هجوم إسرائيلي جديد سيواجه برد إيراني


.. غارات إسرائيلية تستهدف بلدتي حانين وطير حرفا جنوبي لبنان




.. إسرائيل وإيران لم تنتهيا بعد. فماذا تحمل الجولة التالية؟