الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تحليل قصيدة /2 تداعيات لزمن منفلت لعبدالرحمان بكري (الجزء الرابع)

محمد هالي

2020 / 5 / 13
الادب والفن


تحليل لقصيدة 2/تداعيات لزمن منفلت لعبدالرحمان بكري (الجزء الرابع)

يستمر بكري في قصيدته الثانية المتممة لما سبق تداوله في القصيدة الاولى، لكن هذه المرة ارتأى أن يستطرد بلغة شاعرية عوائق الفكر الوثوقي و انعكاساته على المجتمع، إنه الفكر الاصولي الذي يرى في يقينية تصوره ايمانا مطلقا لا يقبل الجدال، و يسعى هذا التيار الى مماثلة ما يعتقد أنه يقيني، مع كل افراد المجتمع، متناسيا إنه مجرد "يقينيات غيبة" تخص خصوصية كل فرد مع الله، و مادامت في رأيه أنها هي الحقيقة لا غبار عليها، فإن يقينيات تترسب في ذهنية الوثوقي المنصت لذاته فقط، و لا يقبل الجدال فيما هو مترسب و راسخ في ذهنه.
القصيدة ككل هي سرد لموقفين أو لتصورين لهذا التيار، سواء في منحاه المسالم اي الاسلام السياسي "المعتدل" او في منحاه الاسلام السياسي المتطرف، و قد حاول بكري أن يجعل هذين التصورين بين مدخل و تركيب، اي مدخل و مخرج ، بحبكة متمرس يأخذ الكلمات بعناية فائقة من أجل وضع الاطروحتين المتماثلتين فيما بينهما، فالمدخل يظهر من خلال سائل مفترض، إما نابع من تلاعب الذات المعربدة بجرعات الخمر، أو من " وشوشات" كانت تربكه من وثوقية الفكر الغيبي المتفشي في المجتمع، و التي تحضر كتناص تجره الجرعات لتظهر من جديد في ذهنية المخمور:
"السائل يستفزني برذاذه من كل الجهات ،
على يميني
وشوشات لا زالت عالقة
كأنها حمم حارقة
تتقاذف من بركان متهور"
حتى الكلمات المستعملة للدخول لهذا المعترك المرفوض "يستفزني برذاذه" و "حمم حارقة" "بركان متهور" تنم عن هذا الثقل الذي كان يسايره الانسان الذي يرفض الوثوقية، و التحجر الفكريين، لكن الحقيقة يظهرها السكر ، كما تظهر زلات اللسان مكامن الفرد الحقيقية الداخلية للإنسان ، فينجلي الباطن للظاهر حسب التحليل النفسي، بهذا المدخل الجميل ينتقل اللاشعور لوصف حالة الوثوقية التي تعيق تطور المجتمع، و تدجنه، بل تعيق تطوره، و تزيد من تخلفه، و انحطاطه .
و لكي يتم متابعة بقية التحليل سنترككم مع مقطع شعري يلخص فيه بكري انعكاسات التيار المعتدل الذي أشار اليه بكري بوضوح تام:
ابتلع جوفي
سيل الصمت الذي فاض
على حوار يقينيات غيبية
تمتلأ وثوقية ونكوصية نصية
أفرزتها مجاري صرف الصحي
في نهاية التسعينات من القرن العشرين

وناهضت القوامة في لباس الذكورة
يحرضني في كل مناسبة تارة يتهمني ..
بفاقد البوصلة
كلما تخليت عن الحوقلة
أن أصير منصاعا له في صيغة المضارع
وقد رأيته ماضيا بلا حسيب
مسكونا بحقد بلا رقيب
ففي عمرة السكر، و حجم صخب القاعة، التي هي أكيد تشبه فوضى المجتمع ككل ، لتعدو الدردشات و الصيحات و العربدات، خصائص أساسية لسرد طبيعة المواقف التي تريد هذه التيارات فرضها بحزم زائد، هكذا تتفجر الذات من خلال صخب السكارى لتحوله الى صمت رهيب هو في الحقيقة عبارة عن بركان تستجمعه الذات في لحظة المساءلة الخمرية التي تجرك الى السيء المخزون في بنية اللاشعور العميقة ،و التي لا يمكنها ان تظهر الا في لحظات السكر هذه:
" ابتلع جوفي
سيل الصمت الذي فاض"
ليتداعى السرد التنفيسي للذات التي كانت تعج بمخاطر الثقل الظلامي، و افكاره التي تعيق التحضر، و تبيح للسكون لوازمه، من حيث صبر المجتمع لتقبل تهرءاته، هذا الفكر هو بمثابة معيقات لتحرر الذات، و الاعراب عن مواقف جريئة، كان من الممكن صد هذا الفكر و اغلاقه نهائيا، و ما دام الامر مستحيلا في مجتمع هجين تسيطر عليه الخرافة، و الشعوذة، مما يعطي شرعية زائدة لمثل هذه الافكار ان تنتشر، لتحاصر كل ناقد متبصر عاقل، فما على هذا الاخير الا ان يبوح في قمة هذه العربدة عن حقيقة الرفض الكامنة فيه أولها تلك السفسطة الممارسة يوميا :
" على حوار يقينيات غيبية
ةتمتلأ وثوقية ونكوصية نصية"
و لعل الكلمات المستعملة هنا تبين حقد المعربد "غيبية" وثوقية" نكوصية نصية" ليختم هذا السيل بالزمان و التاريخ او المرحلة الذي يقصدها، إنه باختصار شديد مجرد "مجاري صرف الصحي" في نهاية التسعينات من القرن العشرين" و هذا ما يجعلنا نقع في نكوص تاريخي لا يمكن توقعه، فنحن عوض أن نسبح الى الشط بأمان نسقط في قاع البحر من جديد، اذ اصبحنا متخلفين عن ماضيتا، اذا قارنا المطالب التي كان يحملها اليسار و الطموحات التي كان يسعى اليها كما ذكر في القصيدة الاولى من" تداعيات زمن منفلت" نجد أنفسنا في هذا الزمن الذي انقلب علينا، غارقين في الغيبيات ،و وثوقية النصوص، و الذي في أخر المطاف هو حلم بمجتمع متخلف يشبه مجتمعات القرون الو سطى الاقطاعية، هكذا اصبح الخطاب سكونيا تراجعيا، باهتا . و كأننا نحارب طواحن بأسلحة دون كيشوتية ، فبعدما كان اليسار يفسر الاحداث بالمادية التاريخية و المادية الجدلية، بناء على صراع الطبقات في المجتمع، استبدل التحليل فأصبحت الصدقة وانتظار الغيث من السماء لتفسير الكثير من الظواهر الطبيعية ضمن ترقيعات الحلول الخيرية التي ينشرها هدا التيار الاصولي داخل المجتمع، و بعدما كانت الحرية عالما جميلا نتصوره، اصبح الخضوع و الطاعة سكونا لا نهاية له، الى غير ذلك من القيم التي تغيرت "في نهاية التسعينات من القرن العشرين" فهذا هو الخطاب الجديد لا يجب أن نخرج عن "الحولقة" و لا يجب مناهضة" القوامة في لباس الذكورة" على لسان الشاعر :
. "يحرضني في كل مناسبة
أن أصير منصاعا له في صيغة المضارع
وقد رأيته ماضيا بلا حسيب "
لأن طبيعة الوثوقي " مسكونا بحقد بلا رقيب"
فأصبحت الاحكام الجاهزة هي المستشرية بقوة و ليسمح لي الشاعر أن أحول القصيدة الى نثر، ليتضح ما تم ذكره سابقا فالخطاب السائد تارة يتهمك بأنك فاقد للبوصلة حين ترفض تصوره، و لكي ابقى منصاعا اليه فلابد من الصاق التهم، و هذا لا يخلو من تحريض مقصود، و لو بإصدار احكام جاهزة، لتأنيب المجتمع ضدك، و لا يخلو ان يكون فهو ينظر الي المستقبل بعيون الماضي، كيجب عليك و عليك ان تقوم بكذا لكن هذا المضارع المغشوش بقافية المستقبل سرعان ما يسقط بأسلحة بالية لا تقوى عن الصمود و التحدي امام جبروت الواقع و ممكناته، فيوضع الحاضر و المستقبل معا في مجهريات الماضي، عليهما أن ينصاعوا لهذا القدر الجاثم على دواليب المجتمع و متناقضاته، عليه أن يسبح و أن يكيف ظاهره مع باطنه، و أن يجعل المتاشبه ليصبح محكما ليتحكم، و أي خروج أو نقد يكون ما تلخصه القصيدة بالمجازفة بالساق التهم كما هو متبين في المقطع التالي:
"تارة يتهمني ..
بفاقد البوصلة"
بهذا يكون خطاب الوثوقي في زمن سكونيته، و اعتداليته، فهو لا يكف عن نشر افكار قيمية، سكونية، بالية، محطمة كل آمال من الخروج من هذه الزوابع التي تكرس علاقة السيد بالعبد. بعد هذا السرد الجميل الذي بين من خلاله بكري دور الاسلام السياسي، في جانبه المهادن، و الذي لا يكف في الاشتغال في مسائل ثانوية، لا تمس هموم الشعب، و مشاكله، بل تسعى الى توجيهه الى مسائل ميتافيزيقية، و أفكار اخلاقية، لا تخرج عن كيفية ممارسة الطقوس، و المسح اثناء الوضوء، و ترتيل و تسبيق اليد اليمنى عن اليسرى، و كيف يكون الوقوف أمام الإمام ، و لم ينسوا حتى كيف البسملة عندما تدخل الى المرحاض ... لكن هموم الناس و مشاكلهم في خبر كان، حتى عندما اعتلوا سدة الوزارات، اكتفوا بالاغتناء، و الارتشاء، و انصاعوا للرساميل الرأسمالية، و طبقوا حرفيا ما تمليه عليهم صناديقهم الاستعمارية (صندوق النقد الدولي ، و البنك العالمي).
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا