الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة في مسرحية -مغامرة رأس المملوك جابر- لسعد الله ونوس

كمال التاغوتي

2020 / 5 / 14
الادب والفن


تصدير: زبون3: ... تلك حكاية تملأ الدماغ فعلا. (المسرحية ص.246)

للعرض المسرحي استراتيجياته، له هو الآخر أفق انتظار غالبا ما يكون المشاهد قطب الرحى فيه. إن الفاعلين المسرحيين يَصدرون عن صور ونماذج جاهزة لمتلقي العرض؛ وتظل غايتهم الأساسية تشكيل جمهور، أي إدماج الكثرة المتنوعة في واحد يحافظ على وحدته مدّةَ العرض. والشكل الموروث عن المسرح الإغريقي ينبئ بمجموعة من الأفراد تتعقد في كتلة تنقاد لجهاز يتدفق علامات تدفقا موجّها. والصمت – أعني صمت الأفراد – شرط أساسي للمشاهدة واستيعاب ما يدور على المنصة المنتصبة في شموخ أمام الأعين. وما إن ينطلق العرض حتى تشرع في التبرّج والإغراء وتفعيل طاقاتها للهيمنة على تلك العيون الشاخصة والآذان المصغية والأجساد المتصلبة؛ فهي مشدودة إلى مقاعدها بأوتاد القداسة، قداسة المكان المنفصل عن المتواليات الهندسية، ومشدودة إلى الركح بأمراس غير مرئية لذاك التدفق المتواتر. طبعا ليس لهذا الرسم البياني صلة بالواقع الفعلي، وإن يتحقق فإنه لا يجاوز بضعة دقائق. لأن العلاقة بين المشاهد والعرض قائمة على توتر متصل تتغير درجاته ويسير عبر منحنيات فلا ينقطع، حتى بعد انتهاء العرض ومغادرة المكان. يظل هذا التوتر قائما ضمن لحظة استرجاعية (العبارة يستخدمها ريفاتير ضمن تحليله السيميائي). ثمة دائما تشويش صوتي أو مرئي يشق عالم التهيؤ ذاك؛ والتشويش يبدأ مع التعرف على اسم المسرحية إذ تنطلق أصوات وتتفجر صور في ذهن كل متلق تـُــفقد العرض الآتي طهره ونقاءه. فالمشاهد يستبق ذهنيا العرض المباشر، ويخلق أفق انتظار نظير ما رتب له صاحب العرض، لتكون القاعة ميدان مواجهة بين الأفقين، فتتشابك الصور والنصوص أو تتنافر ليتولد صراع قد يكون مكتوما، ولكنه في أغلب الأحيان يترجمه المشاهدون بالصوت والحركة. إن التشويش أو التطفل على المشاهد أقوالا وأفعالا يساهم من جهة في بناء الدلالة وتشييد معمار علامي جديد، لكنه من جهة أخرى يعطّل مسار العرض ويدخل الضيم على الرسالة بما يحدثه فيها من نتوءات تفقد بموجبها سلاستها. فالمسرح الحالم بمشاهدين على رؤوسهم الطير إنما يستبطن رؤية لاهوتية متعالية عن "أتباعها"، ترى في هؤلاء المتفرجين السلبيين كتلة متجانسة أو هي بصدد التجانس. ذاك ما يهزه التشويش ويخلخل أركانه، فعبر التشويش يذكِّر الجمهور أنه ما يزال متعددا مختلفا متناقضا، ويحمل المشهد على البوح بثغراته وفجواته وتناقضاته هو الآخر. وقديما دفعت سلبية المشاهدين المزعومة أفلاطون إلى مهاجمة المسرح معتبرا فن المحاكاة تضليلا وتجهيلا، بما أن العرض المقدم إنما يصدر عن شاعر مقلد "يبث في الفرد نفسه حكما فاسدا، إذ يتملق الجزء اللاعاقل، الذي لا يميز الفاضل من الرديء ويعدّ الأشياء ذاتها أفضل تارة وأردأ تارة أخرى؛ ويخلق أشباحا ويقف دائما بعيدا كل البعد عن الحقيقة.". (الجمهورية، الكتاب الرابع ص.458). وبذلك فإن أفلاطون يحجّر دخول شعراء التراجيديا مدينته الفاضلة، حتى يقي الناس سحرَهم وتلبيسهم عليهم. يتكرر الأمر نفسه مع الرومنطيقيين عندما سعوا إلى جعل المسرح دستورا جماليا يغير المُشاهد وينتشله من آلية القوانين وأجهزة الدولة. (جاك رانسيير، المتفرّج المتحرر ص.12) ومع برتولت بريخت في تجربته المسرحية عندما سعى إلى جعل المسرح برلمانا يغادر فيه الجمهور إيهاب المشاهد ليصير ملاحظا ناقدا، ومع أنطونين أرتو وهو من سعى إلى استعادة المسرح جوهره الاحتفالي الجماعي ليصير بذلك طقسا مطهرا أو تجمعا يشرع في تملك طاقاته الخاصة. كل هذه المساعي وغيرها تنطلق من تصور يلغي التشويش من حسابه، ويسبغ على العرض المسرحي خصائص المحراب التعبدي. لكن رواد المسرح من أجل المشاهد، لا المشاهدة / الفرجة، إنما يوسعون دون قصد من دائرة التشويش ذاتها بوصفها المضاد للإيهام والاغتراب، فيضحي بذلك من صميم بنية النص المسرحي بما أن منشئه سيعمل على نسج نص يغلب عليه البياض، ومخرج سيعمل على إعداد عرض مساحات الصمت الخصب تزاداد اتساعا على حساب مساحات الكلام. وعلى هذا النحو يتحقق الانسجام بين "المنظم سلفا" والمشوش، بين الأصيل والطفيلي الدخيل، بين المركز والهامش؛ ليتلاحم العرض والمشاهدة (الفاعلة) في بؤرة واحدة من العلامات تشوّش على النظام الوهمي القائم وتربك الطبقات العاملة على تأبيده.
في هذا المضمار ينتهج سعد الله ونوس – مقتفيا خطى بريخت – سبيلا بيداغوجيا في تأليفه؛ إذ يسعى إلى مسرح يوحد بين قاعة المشاهدة ومنصة العرض، ويلغي الفواصل الوهمية (الجدار الرابع) ويستضيف الجمهور ليمارس نشاطا فكريا تأويليا على المسرحية نصا وعرضا. لذلك يجتهد ونوس في إضفاء الألفة على نصه "مغامرة رأس المملوك جابر" باستدعاء موروث المتلقي، ويوظف – كي يضمن الاسترخاء لضيفه – عناصر معهودة لديه كالمقهى بأثاثها ومناخها والأغاني المشهورة... الخ ويلجأ إلى السرد/الحكي شكلا أدبيا يتحيف النص الدرامي ويوجهه من خلال صوت الحكواتي الشعبي الراوي من درجة ثانية وصوت الديناري الراوي من درجة أولى. وقد سبق لبريخت أن وضح القصد من المسرح الملحمي القائم على السرد أساسا، إذ يرى أن هذه الطريقة تيسر تفكيك الواقع وإعادة تنظيمه من أجل فهمه في مرحلة أولى والعمل على تغييره في مرحلة ثانية. وسعد الله ونوس يستثمر مقطعا من سيرة الظاهر بيبرس ليعيد تشكيله وفق رؤية جديدة؛ فإذا بالجمهور يجد نفسه أمام عرض مشوّش لا انسجام ظاهر فيه، تحكمه الفراغات والتصدعات، عليه أن يشحذ العزم لملئها وسدها. فإذا كان فهم الواقع يحتاج إلى تفكيك وإعادة تنظيم، فالأوْلى إذن أن نخوض هذه المغامرة التفكيكية بأدوات تسمح بالكشف عن بنية النص وإيقاع الدلالة فيه لنساهم في إنتاج بعض معانيه. على هذا السمت ينتهج هذا البحث تقسيما اصطناعيا لمسرحية مغامرة رأس المملوك جابر (مجلة المعرفة، العدد 105، نوفمبر 1970 من الصفحة 185 إلى الصفحة 283). ولما كان نص المسرحية يخلو من العناوين داخل المشاهد والفصول؟ كما يخلو من الترقيم، فإن الاستئناس بآليات اشتغال النص المسرحي قد يساعد على تبين مفاصله. فباعتماد الزمان معيارا ينقسم النص إلى مسرحيتين إحداهما مولدة للأخرى: أما الأولى فتدور في الزمن الراهن بعيد هزيمة 1967 وفضاؤها مقهى شعبي، وأما الثانية فتدور في عصر غابر تومئ إشاراته ومؤشراته إلى زمن سقوط الخلافة العباسية في العصر الوسيط وفضاؤها الأساسي بغداد. وبما أن الحكاية (أو الأمثولة كما يحلو للبعض تسميتها ترجمة لكلمة fable ) هي مركز العمل المسرحي الماثل بين أيدينا فقد اتجه البحث إلى مسار يعكس مسار التلقي – قراءةً أو مشاهدةً -، إذ ينطلق من الداخل (المسرحية المضمنة/ الداخلية) ليرجع القهقرى إلى الخارج (المسرحية الإطار/ الخارجية) والهدف من ذلك، كما أسلفت من القول، إعادة تركيب النص بعد تفكيكه للإحاطة بدلالته الكلية شكلاً ومحتوىً (وفق مفهوم هايمسلايف). إن المسرحية الثانية سليلة السرد، فحضورها استعاري. وهي موزعة بين مشاهد (مصطلح المشهد يستعمله سعد الله ونوس في أكثر من إشارة ركحيّة، يقول: "يمكن هنا وفي المشاهد التالية الاستعاضة عن قطع الديكور بلوحات مرسومة " المسرحية ص.199 ويقول: يستمر المشهد ... ص.278. ويقول: يتجمد المشهد على صوت الحكواتي. ص.273 في حين يستعمل مصطلح المقطع لتعيين السرد، يقول: «تتم رواية هذا المقطع على صوت خبب الخيول وصليل السيوف". ص.281) تختلف باختلاف الشخصيات: فأهل بغداد يظهرون في مكان عام ضمن أربعة مشاهد: الأول 196-198 والثاني 207-220 والثالث 268-271 والرابع 280-281، وتتنوع هذه المشاهد في مستوى تركيبها، إذ يتشكل بعضها من مواقف يحددها إيقاع الشخصيات بين الظهور والغياب، ففي المشهد الثاني مثلا يتبدل الموقف بدخول الرجل الرابع ثم بدخول الحارسين. ويظهر أهل بغداد في مكان مغلق خاص في مشهد واحد يصور موقف أسرة صغيرة: 252-255. أما جابر فيظهر في سبعة مشاهد ينتقل خلالها في المكان، وفق تناوب بين المفتوح والمغلق، والخاص والعام. إذ يظهر في رواق من أروقة قصر الوزير صحبة رفيقه منصور والمملوك ياسر، ليتحول إلى قاعة داخل القصر صحبة الوزير والحلاق، فغرفة أشبه بالزنزانة تزوره فيها زمرد. وعلى النحو ذاته يتدرج المملوك جابر في الرجوع من الغرفة إلى القاعة فالبيداء. وهي على التوالي الصفحات 198-206 رفقة منصور، الصفحات 221-226 رفقة منصور وياسر، الصفحات 232-243 رفقة الوزير في موقف أول ثم رفقة الوزير والحلاق وصبيته في موقف ثان، الصفحات 256-260 رفقة زمرد، الصفحات 261-263 رفقة الوزير، الصفحات 266-267 في طريق الرحلة منفردا، الصفحات 271-278 رفقة ملك العجم في موقف أول ثم في غرفة الجلاّد لهب في موقف ثان. ولا تظهر الشخصيات الأخرى – دون جابر – إلا في مشهد واحد؛ فالوزير صحبة عبد اللطيف الصفحات 227-232، والخليفة صحبة عبد الله الصفحات 248-251 والمملوكان ياسر ومنصور الصفحات 263-266 في حين لن تظهر زمرد إلا في نهاية المسرحية الصفحة 282. كل هذه المشاهد المتجاورة تخترقها المسرحية الإطار الحاضنة وتحدّ من استرسالها. فزبائن المقهى والحكواتي رغم ظهورهم في مشاهد خلصت لهم (الصفحات 190-196، 243-247، 282-283) إلا أنهم ينتشرون في أغلب المواضع.
إن رحلة الحكاية الشعبية من سيرة الظاهر بيبرس إلى الركح قد أكسبتها ملامح مغايرة، وأجبرتها على التدفق بدلالات لم يدر بخلد الراوي التعبير عنها، وفعّلت في ثناياها قيما لم تكن الرواية الشعبية على استعداد للترويج لها. إنه الفن المسرحي وقد صهر الحكاية ليعيد خلقها خلقا جديدا.

تشهد الحكاية في مسرحية سعد الله ونوس ضروبا من التحولات، فالمؤلف – رغم أنه يحافظ على جملة من الأركان كالزمان والمكان وبعض الأعلام والأحداث الأساسية – إلا أنه يتنزع نص السيرة الشعبية من مجالها الخرافي المائع ليزج بها في الواقع بتناقضاته وفجواته العديدة. فمرحلة العرض تمتد من الصفحة 196 إلى الصفحة 206، وتتكون من ثلاثة مشاهد تتوزع على مكانين: سوق بغداد حيث يلتئم شمل العامة من الناس فتتفاوت الخطابات كمّا وكيفا؛ وقصر الوزير محمد العبدلي، رواق منه يجمع بين مملوكيْن جابر ومنصور المنشغلين بما يستجد من أحداث-وهي تصور واقعا متأزما ملؤه التوتر والتشنج بعد ذيوع نبأ الخلاف بين الوزير المذكور وبين الخليفة المنتصر بالله، يقول الراوي:
" في البداية كان الخلاف سرا، ثم انفجر، وبدأ يشيع في ردهات القصور وينتقل منها إلى المدينة وأسماع الناس"ص.198.
إن إقحام الرعية / العامة في النزاع بين ذوي الشوكة يُعد من أهم التحولات الطارئة على نص الحكاية؛ إذ في سيرة الظاهر بيبرس يتجاهل الراوي العامة في مستهل روايته، ويقصُرُ أمر الصراع على الخليفة ووزيره وأتباعهما من الخدم والحشم. والنص المسرحي بفتحه البوابة أمام أهالي بغداد وجعلهم طرفا في الخلاف رغم أنوفهم يرُدُّ دراميا على تصور سياسي مضمَر في الحكاية الخرافية. تعلن عامة بغداد كلُّها جهلها بأسباب الخلاف، وإن تكن تحدس عواقبه الوخيمة؛ فحتى "الرجل الرابع" وقد بدا أوسع أفقا وأشدَّ حرصا على التيقظ، يظل نسخة مكررة من نظرائه الرافضين الخوض في الشأن السياسي. يقول:
الرجل الرابع: ما جهله كثير. كنت أسأل إن كان بينكم من يعرف سبب الخلاف أو توتر الأوضاع؟ ص212.
ويضيف في موضع آخر:
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ: وﺣﻖ اﷲ أﺧﺎﻓﻬﻢ ﻣﺜﻠﻜﻢ ... وﺷﻌﺮت ﻗﻠﺒﻲ ﯾﻜﺎد أن ﯾﺘﻮﻗﻒ ﻟﻜﻦ أﻧﻈﻞ ﻛﺎﻟﻌﻤﯿﺎن ﻻ ﻧﻌﺮف إﻟﻰ أﯾﺔ ﻣﻬﺎو ﺗﺪﻓﻌﻨﺎ اﻷﺣﺪاث .ص.215
إن تجربة السجن لم تُضِفْ إلى صاحبها شيئا، لكنه يختلف عن البقية برغبته في المعرفة والاطلاع على ما يجري داخل القصور، فالمعرفة لديه هي موضوع القيمة. يعمد ونوس إلى تعليل راوي السيرة الشعبية للنزاع القائم بين رأسي السلطة فيحذفه رغم أنه يرد في بداية الحكاية. والراوي – أعني الراوي في الخرافة – إنما يسعى إلى إضفاء منطق ما على نسقه السردي؛ فحسبه مبررا يملأ به مفاصل الحكاية وليس مُهِمّا لديه أن يكون ذاك التعليل علميا أو معقولا. ويدرك متلقي السيرة الشعبية هذا الأمر جيدا، فهو ضمن العقد التداولي، لذلك تراه ينزل عن شروط العقل بما أن الراوي يتعهد بتحقيق المتعة واللذة. بيد أن الأمر مختلف في المسرحية، بل إن الحكواتي يسكت سكوتا تاما عن سبب الخلاف بين الوزير والخليفة ودواعيه، جاعلا السؤال عنه والتفكير فيه قضية من قضايا المسرحية الأساسية. ومن ثمة فإن النص الدرامي يناهض مسلمات تضمِرها الحكاية الموروثة والمشحونة بتصورات قُدّت قسماتها وسُبكت مَعارضها على يد وعاظ السلطان منذ عهود خلت لتكرس الاستبداد وتعمق الانفصام بين العامة/ الرعية وبين مؤسسات في جوهرها اجتماعية من صنع البشر. تُـبْنى تلكم المسلمات غالبا على "براءة الرعية" وعدم مسؤوليتها عما يدور في "القصور" – بوصف القصر رمزا ماديا للسلطة –لتتحمل الخاصة – وهو المصطلح السياسي الماثل في أغلب المؤلفات القديمة – مسؤولية تدبير ذاك المجال بما أنها ملمة بكل أسراره. تواجه المسرحية هذه المسلمات المضمرة في الحكاية التراثية بتنزيل السر السلطوي في شوارع بغداد وأسواقها عبر الإصغاء للناس ومنحهم فضاء يعبرون فيه وبه عن آرائهم؛ فالعمل الدرامي يتحول بالشأن السياسي من الخاص المغلق إلى العام المفتوح ليؤسس بذلك لتداول عمومي خارقا جدران الصمت. ذاك ما يفسر في رأيي تخصيص أربعة مشاهد تظهر فيها عامة بغداد: فإلى جانب مرحلة العرض، يلتقي الجمهور بأهل بغداد في مرحلة التصعيد وتنامي الفعل الدرامي ضمن فضاءين، واحد منهما مفتوح يتمثل في سوق بغداد (أمام فران) وشوارعها وثانيهما مغلق يتمثل في بيت الأسرة الصغيرة المعدمة. يعقِد هذا الحضور الصلة بين الطبقة المسيطرة وبين غالبية الناس، صلة قد لا ترى بالعين المجردة، إلا أنها متينة بما أن العلاقة عضوية نتيجة التبعية لنظام سياسي واحد. والمؤلف في المشاهد الأربعة يقتصر على عدد قليل من الممثلين رجالا ونساء لأداء دور الرعية؛ ذلك أنه ينتهج سبيل التكثيف على طريقة التجريديين، ومن ثمة يسعى الممثلون إلى تجسيم المواقف المختلفة وما يصاحبها من انفعالات وردود فعل تتراوح بين القلق والفضول وبين اليأس والتسليم لما هو قائم. إن عملية التصعيد وما يرافقها من تعقيد الأزمة في طريقها نحو ذروتها يدركها الجمهور في هذه المشاهد، ليس من خلال الحوار المسرحي وحسب، بل من خلال ما تنطق به أحوال الناس نفسيا وجسديا واجتماعيا. والشأن ذاته ينطبق على الكارثة في نهاية المسرحية. أما الحوار الدرامي فتتنوع سبله وتتغير وتيرته، فمنه الجدالي الحجاجي من خلاله يعرض النص وجهتي نظر من تعقد الأزمة السياسية: أما الأولى فتتمثل في موقف الرجل الرابع، وهو موقف إيجابي نسبيا بما أن صاحبه يصر على الخوض في الشأن السياسي على الرغم من الحضور الضاغط لحراس الخليفة، يقول:
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ : وﺣﻖ اﷲ وأﻧﺎ ﻣﺜﻠﻜﻢ ﻻ أﺣﺐ اﻟﺴﺠﻦ ، وﻻ أﺗﻤﻨﻰ أن أتذكره ... إﻻ أﻧﻲ ﻻ أﺣﺐ أﯾﻀًﺎ ﻋﯿﺸﺔ اﻟﻜﻼب اﻟﺘﻲ أﻋﯿﺸﻬﺎ ، ﻛﻤﺎ ﻻ أﺣﺐ أن أدﻓﻊ رأﺳﻲ ﺛﻤﻨﺎ ﻻﺿﻄﺮاب ﻻ رأي ﻟﻲ ﻓﯿﻪ .217
معبرا عن وعيه بالواقع وإدراكه أن الرعية أولى ضحايا صراع لم تشارك في صنعه ظاهريا. يقول في ثقة تلوح في الترديد والجمل الاسمية:
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ : ﻓﻮق رؤوﺳﻨﺎ ﯾﺘﻌﺎرﻛﺎن ﻓﻮق هذه اﻟﺮؤوس اﻟﺒﺎﺋﺴﺔ ﺳﺘﻨﺰل أﻗﺴﻰ اﻟﻀﺮﺑﺎت ، إﻧﻨﺎ ﻧﺘﺨﻠﻰ ﻋﻦ رؤوﺳﻨﺎ . ﻧﺴﻠﻤﻬﺎ إﻟﻰ اﻟﺠﻼدﯾﻦ ، وأﺳﻮأ ﻣﻦ اﻟﺠﻼدﯾﻦ 218
وعلى هذا السمت يظل يقاوم القناعة الراسخة في الأذهان معتمدا الترهيب من مغبة السُّدور والانكفاء على الذات، منذرا بمآل الرؤوس استنادا إلى معطيات واقعية ملموسة. (رأس جابر إذن محكومة بتناقضات الواقع فهي مجرد عيّنة). أما الثانية فتتمثل في موقف الأغلبية، وقد اختارت إعادة إنتاج واقعها وعجزها عن تغييره معتبرة ذلك آمن الطرق وأسلمها. لذلك يتوحد الزبائن – رجالا ونساء – في صوت واحد أشبه ما يكون بالجوقة، ليعلنوا استكانتهم المبنية على نزعة انتهازية أنانية؛
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 1 : ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ عنده ﺣﺮاﺳﻪ وﻗﻮاﺗﻪ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 2 : وﺳﯿﺪﻧﺎ اﻟﻮزﯾﺮ ﻟﻪ ﺣﺮاﺳﻪ وﻗﻮاﺗﻪ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 1 : ﻗﺪ ﯾﻘﻊ اﻟﺼﺪام ﺑﯿﻦ ﻟﺤﻈﺔ وﻟﺤﻈﺔ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 2 : ﻓﻠﻤﺎذا ﻧﺮﻣﻲ ﺑﺄﻧﻔﺴﻨﺎ إﻟﻰ اﻟﺘﻬﻠﻜﺔ ! .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 1 : اﻟﺨﻼف ﺑﯿﻦ وزﯾﺮ وﺧﻠﯿﻔﺔ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 2 : ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﻗﺼﺪ وﺧﻄﺔ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 1 : أﻣﺎ ﻧﺤﻦ ﻓﻼ ﻧﺎﻗﺔ ﻟﻨﺎ وﻻ ﺟﻤﻞ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 2 : ﻧﻨﺘﻈﺮ وﻧﺮﻗﺐ اﻟﻨﺘﺎﺋﺞ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ 1 : وﻣﻦ ﯾﺘﺰوج أﻣﻨﺎ ﻧﻨﺎدﯾﻪ ﻋﻤﻨﺎ .ص.217-218
إن توزع الزبائن – أعني زبائن الفرن -على مجموعتين لا يعني الاختلاف، إنما التماثل الكلي بين الصوت والصدى؛ والتعبير العفوي القائم على الجمل الاسمية وصيغة المضارع يجعل المعاني قواعد عامة راسخة في الأذهان والوجدان، لأنها متوارثة. وذاك ما يوهم بحكمة حاملها قولا وعملا، أي أن الأسلوب يبعث على الظن بأن الموقف المُجمع عليه إنما يصدر عن العقل؛ في حين ينزِّل النص هذا الشعار "ﻣﻦ ﯾﺘﺰوج أﻣﻨﺎ ﻧﻨﺎدﯾﻪ ﻋﻤﻨﺎ" ضمن دائرة الخوف والانفعال. إنه وعي زائف، لا يؤدي إلا إلى تأبيد الواقع وتبريره. واقع الاستلاب والتهميش. ومن خلال المواجهة بين الرجل الرابع، الفرد، وبين الرجال والنساء المصطفين أمام الفرن، الجماعة، يصعّد النص الفعل الدرامي، فتُغْني المشهدَ حركةٌ نفسية وجسدية تهبه حيوية توفر للجمهور الفرجة؛ بيان ذلك في الإيقاع الركحي المتجسد في التناوب بين حضور الحرس وغيابهم، وفي تغير النبرة في أثناء المحادثة بتلوين طبقات الصوت، وفي تنوع سجلات القول من جدل وتذكر وحكي مضمن، تولّد عنه التضايف بين الواقعي والخرافي. إن لجوء الرجل الرابع إلى الحكي والسرد ضرورة يقتضيها الموقف المتبدل، إذ أنه يستغل الحكاية لتضليل العسس وقد انتشروا في كل أرجاء بغداد مداخلِها ومخارجِها وشوارعِها وأسواقِها، وهُمْ علامة على تصاعد الأزمة بين طرفيْ النزاع. ويبلغ التصعيد ذروة من ذراه في المشهدين الآخرين، إذ ينقضُّ الخليفة وأعوانه على الرعية لابتزازها وإثقال كاهلها بضريبة "مقدّسة" تزيد الناس تفقيرا وعجزا يبلغ أشده عندما يفكر زوج في استغلال زوجته جنسيا حتى يوفر الطعام والشراب بعد طرده التعسفي من عمله.
اﻟﺰوج : ) ﺑﻌﺪ ﺗﺮدد .. ﺑﻠﻬﺠﺔ ﯾﺮﻋﺸﻬﺎ اﻟﺨﺠﻞ واﻟﻐﻀﺐ وﻫﻮ ﻣﻄﺮق اﻟﺮأس ( ﻟﻤﺎذا ﻻ ﺗﺬﻫﺒﯿﻦ إﻟﻰ ﺟﺎرﻧﺎ؟ ﻓﻲ ﺑﯿﺘﻪ ﻣﺆوﻧﺔ ﺗﻜﻔﻲ ﻟﺴﻨﺔ . ﯾﻤﻜﻨﻚ أن ﺗﺴﺄﻟﯿﻪ ﺷﯿﺌﺎ ﻧﺄﻛﻠﻪ .
اﻟﺰوﺟﺔ : ) ﯾﺘﻐﯿﺮ وﺟﻬﻬﺎ .. ﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺔ ﺗﺘﺄﻣﻠﻪ ﺑﻌﯿﻨﯿﻦ ﺟﺎﺣﻈﺘﯿﻦ ( أﺗﻄﻠﺐ ﻣﻨﻲ ذﻟﻚ ؟.
اﻟﺰوج : ) ﻻ ﯾﺰال ﻣﻄﺮﻗﺎ ﻓﻲ اﻷرض ( ﻟﻌﻠﻪ اﻟﺤﻞ اﻟﻮﺣﯿﺪ ..
اﻟﺰوﺟﺔ : أأﻧﺖ ﺟﺎد ؟ إﻧﻚ ﺗﻌﺮف ﻣﺎ ﯾﻌﻨﯿﻪ اﻟﺬﻫﺎب إﻟﻰ ﺑﯿﺘﻪ ) ﯾﻐﺺ ﺻﻮﺗﻬﺎ ﺑﺎﻟﺒﻜﺎء ( ﻻ .. ﻻ ﯾﻤﻜﻦ أن ﺗﻄﻠﺐ ﻣﻨﻲ ذﻟﻚ ﻻ ﯾﻤﻜﻦ .. ) ﺗﻨﻔﺠﺮ دﻣﻮﻋﻬﺎ ( .
اﻟﺰوج : ) ﯾﻨﻔﺠﺮ قهره ( ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ؟ ﺗﻀﻌﯿﻦ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻋﻠﻰ رأﺳﻲ وﻛﺄﻧﻲ اﻟﻤﺬﻧﺐ . أأﻧﺎ اﻟﻤﺴﺆول ﻋﻤﺎ ﯾﺤﺪث ﻓﻲ ﺑﻐﺪاد أأﻧﺎ ﻣﻦ أوﻗﻊ اﻟﻔﺘﻨﺔ ﺑﯿﻦ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ واﻟﻮزﯾﺮ أأﻧﺎ ﻣﻦ أﺣﺪث اﻟﻜﺴﺎد ، وأوﻗﻒ اﻷﻋﻤﺎل ﻗﻮﻟﻲ ﻟﻲ ﻣﺎذا أﻓﻌﻞ ؟ ﻟﺴﺖ ﺳﺎﺣﺮا وﻻ رﺟﻞ ﻣﻌﺠﺰات . ﺗﻌﺮﻓﯿﻦ أن ﻗﻠﺒﻲ ﯾﻨﺰف ، وأن ﺻﺮاﺧﻪ ﯾﻜﻮﯾﻨﻲ ﻓﻲ اﻷﻋﻤﺎق ) ﺧﻼل ﺛﻮرﺗﻪ ، ﺗﻨﻬﺾ اﻟﻤﺮأة ، وﺗﺠﻠﺲ إﻟﻰ ﺟﻮاره ﺛﻢ ﺗﻤﺴﺢ ﻋﻠﻰ ﺷﻌﺮه ( .
اﻟﺰوﺟﺔ : ) ﻣﻊ ﺷﻬﯿﻖ دﻣﻮﻋﻬﺎ .. ﺑﺤﻨﺎن ( أﻋﺮف .. أﻋﺮف .. إﻧﻲ اﻣﺮأة ﻣﻮﺟﻮﻋﺔ وﺣﻤﻘﺎء . ﻻ أرﯾﺪ أن ﺗﻐﻀﺐ . اﻟﺠﻮع ﯾﻌﺾ ﻛﻤﺎ ﺗﻌﺮف . 254
لموضع هذه الأسرة البغدادية من سيرورة الحبكة وصيرورتها أهمية، فالمشهد واقع بين عتبتين تصعيديتين بما أنها تظهر مباشرة بعد مشهد قرار الخليفة فرض الضريبة المقدسة لتمويل حربه ضد الوزير، وقبل مشهد يجمع زمرد بجابر وهو في غرفة القصر ينتظر أن ينبت شعره فيغطي الرسالة المرقومة على شواة رأسه ليكون رسول الوزير إلى قوة خارجية يستعين بها على الفتك بالخليفة. وعلى الرغم من اقتضاب مشهد الأسرة فإنه ينجح في تصوير فظاعة الموقف فتنشأ مفارقة بين المشاهد بما هي نتيجة مباشرة للنزاع السياسي؛ يرفع هذا المشهد درجة العاطفة من خلال نبرة تفجعية تجسد الحزن العميق بسبب القهر. ومن أجل إبعاد المشاهد وحفظ المسافة الموضوعية بينه وبين الموقف، ينتهج النص الدرامي – ضمن آلية التغريب الملحمية – سبيل الإيجاز والتكثيف؛ حتى يقف المتلقي على المفارقة الملازمة لكلام العامة وتصوراتها، فكلما نأت بنفسها عن الخوض في الشأن السياسي اعتقادا منها أنه أسلم السبل وآمنها، يضيق الخناق عليها وتُستنزف طاقاتها من جهة، وتزداد الطبقة المسيطرة تسلطا وتصلبا من جهة أخرى. وهذا التلازم بين وهن الرعية وإحجامها عن المشاركة في القرار السياسي باعتباره ملكية خاصة وبين تمادي الطبقة المسيطرة في تكتمها وقمعها كل من تسول له نفسه مجاوزة الحدود، يرسخ في نهاية المطاف صورة الناس لديهم، أقصد أنهم يرون أنفسهم عبئا ثقيلا على السلطان وعالة عليه. والواقع يشهد بعكس ذلك تماما. وهذا الوهم تمعن السلطة في تعميقه وتثبيته لاسيما أن طرفيْ الصراع – الخليفة والوزير-يتفقان على تفاهة العامة وجبنها. ذاك ما ينطق به الحوار الدائر بين الوزير وعبد اللطيف:
ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻄﯿﻒ : وﻣﻊ ذﻟﻚ ﻣﻦ اﻟﻤﻔﯿﺪ أن ﻧﺘﺨﺬ ﺑﻌﺾ اﻻﺣﺘﯿﺎﻃﺎت . ﻫﻨﺎك داﺋﻤﺎ ﻣﻔﺎﺟﺂت ﻏﯿﺮ ﻣﺤﺴﻮﺑﺔ . وﻣﻦ ﯾﺪري ﻗﺪ ﺗﺴﺘﻐﻞ اﻟﻌﺎﻣﺔ ﻫﺬه اﻟﻈﺮوف ، ﻓﺘﺸﻌﻞ ﻧﺎر اﻟﺸﻐﺐ ، ﺣﯿﻨﺌﺬ ﻻ أﺣﺪ ﯾﻌﺮف ﻛﯿﻒ ﯾﺘﺤﻮل اﻟﻤﻮﻗﻒ . .
اﻟﻮزﯾﺮ: ) ﺑﺎﺣﺘﻘﺎر ( اﻟﻌﺎﻣﺔ ! وﻣﻦ ﯾﺒﺎﻟﻲ ﺑﺎﻟﻌﺎﻣﺔ ؟ ..ﻻ ﻫﺆﻻء ﻻ ﯾﺜﯿﺮون أﯾﺔ ﻣﺨﺎوف ، ﯾﻜﻔﻲ أن ﺗﻠﻮح ﻟﻬﻢ ﺑﺎﻟﻌﺼﺎ ﺣﺘﻰ ينمحوا ، وتبتلعم ﻇﻠﻤﺎت ﺑﯿﻮﺗﻬﻢ . ص.230
وعلى الجناح الآخر يرجّع عبد الله شقيق الخليفة ومستشاره الصدى فيقول ردا على مخاوف أخيه:
ﻋﺒﺪ اﷲ : ﻓﺘﻨﺔ ! ﻋﺎﻣﺔ ﺑﻐﺪاد ﺗﺤﺚ ﻓﺘﻨﺔ ! ) ﺗﻠﻮح ﻋﻠﻰ وﺟﻬﻪ أﺑﺸﻊ ﻋﻼﻣﺎت اﻻزدراء ( .. ﯾﻨﻘﺼﻚ ﯾﺎ ﺧﻠﯿﻔﺔ اﻟﻤﺴﻠﻤﯿﻦ أن ﺗﻌﺮف رﻋﯿﺘﻚ . أﻣﺎ أﻧﺎ ﻓﺄﻋﺮﻓﻬﻢ ﺟﯿﺪا .. ﻗﺪ ﯾﺘﺬﻣﺮون ، وﻟﻜﻦ ﻣﺎ إن ﯾﺮوا وﺟﻪ ﺣﺎرس ﺣﺘﻰ ﯾﻤﻀﻐﻮا ﺗﺬﻣﺮﻫﻢ ، ويبلعوه ﻣﻊ رﯾﻘﻬﻢ . وﻓﻲ اﻟﻨﻬﺎﯾﺔ ﯾﻬﺮوﻟﻮن ، ﻟﯿﻨﺒﺸﻮا اﻷرض ﻣﻦ أﺟﻞ ﺗﺴﺪﯾﺪ اﻟﻀﺮﯾﺒﺔ .ص.251
على هذا السمت تكشف المسرحية عن رعية سلبية يختار أغلبها الاستكانة ويصرون على "براءتهم" من جريمة تكبر يوما بعد يوم تحت أعينهم وأسماعهم؛ لذلك يغلب على حواراتهم سواء أكانت ثنائية أم محادثة الانفعالُ والنمطية، والركون إلى أمثال شعبية لا يذكر منها إلا ما يبرر الخنوع والتخاذل وادعاء الحياد، فتتلفظ بها الشخصيات تلفظ القابض على الحقيقة رغم أنهم يعمهون في الإشاعات نتيجة التعتيم الذي تمارسه السلطة. هذا التعتيم يساهم في تكريس هالة التقديس حولها، فالممارسة السياسية في عرف العامة شأن "خاص" وحكر على أفراد يدبرون الأمر في عُلبة سوداء لا يعرف منها المرء إلا الآثار المترتبة عليها؛ أما عملية الإنتاج ذاتها فبعيدة عن أفق الإدراك. إنه وهم مسيطر وصنمية متجذرة في الأذهان. يظل سبب الخلاف والصراع طي الكتمان إلى نهاية المسرحية، ويظل السؤال معلقا حتى عند حلول الكارثة واجتياح الغزاة بغداد؛ لعل ذلك يعود أساسا إلى خطأ في طرح السؤال، أو يعود إلى زيفه؛ فليست القضية في السبب المباشر الذي أشعل فتيل النزاع بين الوزير والخليفة؛ إنما مدار الأمر والغاية التي إليها يجري ذهول الناس نتيجة سياسة قائمة على التدجين والتهميش، وتنمّي الأنانية والبحث عن الخلاص الفردي إذا أتيحت الفرصة لذلك، وإلا فالصبر وانتظار البطل الأبوي المخلص.
هكذا تمثل أمام الجمهور شخصية جابر المغامِرة، لتبادر بتغيير هذه الوضعية الأساسية باستغلال الخلاف إياه. يحافظ سعد الله ونوس على الأطراف الفاعلة في حكاية السيرة الشعبية لكنه يغير هيكلها ورسالتها، فيجعل من حدث عارض مغامرة تنهض على أسسها حبكة مسرحية. تفصيل ذلك أن المملوك جابر في سيرة الظاهر بيبرس يلقى حتفه بسبب ولائه للوزير الخائن لخليفته ولاء مطلقا؛ فيحتسب الراوي المملوك جابر -وقد قتل غدرا -شهيد طاعته لسيده، لتظل السيرة الشعبية محتفظة بأطروحتها المضمرة المتمثلة في براءة الرعية وسذاجتها مقابل مكر الساسة ودهائهم. ترفض المسرحية أن يُحجز الشأنُ السياسي في الغرف المغلقة، فتوسع من دائرته وتفتح أبواب الاختيار أمام المملوك جابر ليضحي قوة جاذبة لطاقات النص عرضا وتلقيا على مدى سبعة مشاهد يعاد خلالها بناء الشخصية لتكتسب مقوماتها الجسدية والنفسية والاجتماعية؛ وهي مقومات تهيئها لتكون بطلا، وإن يكن مغايرا للبطل التراجيدي، فهو بطل سلبي ينهض فعله على قيم متدهورة. تتظافر الإشارات الركحية والحوار الثنائي للنهوض بهذه المهمة في أول ظهور ركحي له ففي المشهد الأول يمثل أمام الجمهور شاب «ﺗﺠﺎوز اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ واﻟﻌﺸﺮﯾﻦ ﻣﻦ ﻋﻤﺮه ، ﻣﻌﺘﺪل اﻟﻘﺎﻣﺔ ، ﺷﺪﯾﺪ. اﻟﺤﯿﻮﯾﺔ ، ﯾﻤﺘﺎز ﺑﻤﻼﻣﺢ دﻗﯿﻘﺔ وذﻛﯿﻪ وﻓﻲ ﻋﯿﻨﯿﻪ ﯾﺘﺮاءى ﺑﺮﯾﻖ ﻧﻔﺎذ ﯾﻮﺣﻲ ﺑﺎﻟﻔﻄﻨﺔ واﻟﺬﻛﺎء" ص.199، يتعين في النص باسمه وصفته. فجابر مملوك ينتمي إلى طبقة العبيد نشأ على الطاعة والولاء لمن يملك السلطة. وهو يعي ذلك جيدا ويواجه مخاوف رفيقه المملوك منصور من الخلاف بين الوزير والخليفة باستخفاف. فالأول – أعني منصور – يحيط نسبيا بخطورة الصدام، يقول:
ﻣﻨﺼﻮر : وإذن ﻻ ﺗﻘﺪر اﻟﺨﻄﺮ اﻟﺬي ﯾﺤﯿﻂ ﺑﻨﺎ ، اﻟﻨﺘﯿﺠﺔ ﻫﻲ اﻷﺧﺮى ﺳﺘﻜﻮن ﻋﻨﯿﻔﺔ . ﻣﻦ رأى ﺳﯿﺪﻧﺎ اﻟﻮزﯾﺮ ﯾﺨﺮج ﻣﻦ اﻟﺪﯾﻮان أﻣﺲ ، ﺣﺴﺐ أن ﻋﺎﺻﻔﺔ ﺗﻬﺐ . ﻛﺎن ﻗﺎﻧﻲ اﻟﻌﯿﻨﯿﻦ ، ﻛﺎﻣﺪ اﻟﻮﺟﻪ ، ﯾﻘﻀﻢ ﺷﺎرﺑﻪ ﺑﺄﺳﻨﺎﻧﻪ ص.201
ويضيف معبرا عن خوفه من المصير:
ﻟﻮ اﻧﺪﻟﻌﺖ اﻟﻨﺎر ، ﻓﺴﻨﻜﻮن اﻟﺤﻄﺐ اﻟﺬي ﯾﻐﺬﯾﻬﺎ .ص.202
يمنح المملوك منصور النصَّ طابعا حماسيا من خلال الصور المتعلقة بالنار، فقوله يختلف عما سبقه ونظرته السوداوية المتشائمة تجعل له موقفا يشي بانخراطه – رغم أنفه – في التحولات السياسية الجارية وإن يكن ذلك من موقع المنذر بالكارثة لا الفاعل فيها سلبا أو إيجابا. إنه أشبه بالعرّاف أو الكاهن في إصغائه لما يجول في أروقة القصر وقاعاته وفي قراءته العلامات وفك شفرتها ومحاولة تأويلها. بيد أنه لا يجرؤ حتى النهاية على مغادرة موقعه فما ينفك يحذّر وينذر إلى أن تلتهمه نيران لم يدُر في خَلَده يوما الاقتراب منها أو هكذا توهّم. إنها سلبية مُطّلعٍ لا تزيده المعرفة والوعي بما يدور حوله إلا جبنا. يُقاسم منصور جابر المنزلةَ نفسَها، غير أنهما مختلفان في التعاطي مع الأزمات السياسية، فإن يكن الأول بنبرته التفجعية ورؤياه الكارثية جادا متصلبا في جديته، فإنّ جابر لاهٍ مغرق في لهوه لذلك ترى خطابه هزليا يغلب عليه التهكم؛ ويتجلى هذا الأمر عندما يتحول بالخطاب من السياسي العنيف إلى الجنسي الطريف فيقول تعليقا على نبأ غضب الوزير:
ﺟﺎﺑﺮ : أﻋﺮف أﻧﻪ ﻣﺘﻜﺪر اﻟﻤﺰاج . وأن اﻟﺤﻆ ﯾﺒﺘﺴﻢ ﻟﺠﺎرﯾﺘﻪ ﺷﻤﺲ اﻟﻨﻬﺎر .
ﻣﻨﺼﻮر : وﻟﻤﺎذا ﯾﺒﺘﺴﻢ اﻟﺤﻆ ﻟﺠﺎرﯾﺘﻪ ﺷﻤﺲ اﻟﻨﻬﺎر ؟.
ﺟﺎﺑﺮ : ) ﻫﺎﻣﺴﺎ ﻓﻲ أذﻧﻪ ، وﻋﻠﻰ وﺟﻬﻪ ﺗﺘﺨﺎﯾﻞ اﺑﺘﺴﺎﻣﺔ اﻟﺨﺒﺚ .(ﻷن ﺳﯿﺪﻧﺎ اﻟﻮزﯾﺮ ﻻ ﯾﺸﺒﻊ ﻣﻦ وﺻﺎﻟﻬﺎ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﯾﺘﻜﺪر ﻣﺰاﺟﻪ . ﻟﻮ اﺳﺘﻤﺮ اﻟﺤﺎل ﻛﺬﻟﻚ ﻓﺴﺘﺼﺒﺢ ﺷﻤﺲ اﻟﻨﻬﺎر ﺳﯿﺪة ﻛﻞ ﺷﻲء ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻘﺼﺮ .ص.199
بل إنه يتمادى في استهتاره بالأزمة المطلة برأسها من قصريْ الوزير والخليفة ليختزلها في رهان، يقول ساعيا إلى إخراج صاحبه من جديته:
ﺟﺎﺑﺮ : اﻟﺨﻼﻓﺔ واﻟﻮزارة ﻣﻌﺎ. اﻟﻮﺟﻪ اﻷول ﯾﻤﺜﻞ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ ، واﻟﻮﺟﻪ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﯾﻤﺜﻞ اﻟﻮزﯾﺮ ، ﻛﻼﻫﻤﺎ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻘﺮش ، ﻓﻠﻨﺘﺮاﻫﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺎﺳﺐ ) ﯾﺮﻣﯿﻪ ﻓﻲ اﻟﺠﻮ ﺛﻢ ﯾﻠﺘﻘﻄﻪ، وﯾﺨﻔﯿﻪ ﺑﯿﻦ راﺣﺘﻰ ﯾﺪﯾﻪ ( أﯾﻬﻤﺎ ﺗﺨﺘﺎر اﻟﻮﺟﻪ اﻷول أم اﻟﺜﺎﻧﻲ ؟ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ أم اﻟﻮزﯾﺮ ؟ ﯾﺎ اﷲ ... اﺧﺘﺮ أﺣﺪ اﻟﻮﺟﻬﯿﯿﻦ ﻛﻞ اﻟﺪوﻟﺔ ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﻘﺮش ، اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ أم اﻟﻮزﯾﺮ ؟ 203
يشحن الحوار والإشارة الركحية بوظيفتها الحركية النفسية المشهد بنَفَس احتفالي فولكلوري يجسد موقف جابر ورؤيته الكرنفالية المفعمة سخرية وترفعا؛ ذلك أنه لا ينظر إلا إلى ما يمكن كسبه جرّاء الخلاف بين رأسيْ السلطة في بغداد. وعلى هذا السمت يمسي اختلافهما، أقصد المملوكيْن، وجها من وجوه الاختلاف في الطبائع. إن جابر مسكون بحلم؛ فهو غير راض عن واقعه يحدوه طموح إلى الارتقاء من منزلته إلى أخرى يكون فيها ذا مال وجاه. والسبيل الأمثل في نظره للتمكن مما يريده إنما هو قنص الفرص، وإعمال كل وسيلةٍ تُحقق غايته. إن الممارسة السياسية لديه مجرد مقامرة لا تقتضي من المرء إلا الجرأة والانغماس في المغامرة بما فيها من مخاطر. هكذا يضع النص المشاهد أمام رؤيتين متعارضتين في صلتهما بالخلاف السياسي: رؤية كارثية سكونية وأخرى كرنفالية ساخرة؛ والنص وهو يقدّ الفعل الدرامي وينميه يرمي إلى اختبار الرؤيتين عمليا. يشير جابر في نهاية الرهان إلى غموض النتائج فيقول منكرا على صاحبه منصور انسحابه من المراهنة:
ﺟﺎﺑﺮ : ﺑﻘﻲ ﺷﻮط واﺣﺪ . ﻓﻠﻢ ﺗﻔﺴﺪ ﻟﻌﺒﺘﻨﺎ ) ﯾﺒﺘﻌﺪ ﻣﻨﺼﻮر وﻻ ﯾﺠﯿﺒﻪ ، ﻓﯿﻠﺘﻔﺖ ﺟﺎﺑﺮ ﺻﻮب اﻟﺰﺑﺎﺋﻦ ﻣﺘﺄﻫﺒﺎ ﺑﺪوره ﻟﻼﻧﺴﺤﺎب ( ﻟﻮ أﻋﺮف ﻓﻘﻂ ﻣﺎ اﻟﺬي ﯾﻌﻨﯿﻪ ﻓﻲ ﺧﻼف ﯾﻨﺸﺐ ﺑﯿﻦ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ واﻟﻮزﯾﺮ ) ﯾﻬﺰ ﻛﺘﻔﯿﻪ وﯾﻤﻀﻰ( ص.206.
والشوط المقصود إنما هو الثالث في القرعة بين الوزير والخليفة، فكل طرف من هذين الطرفين ربح شوطا (بميل القرش إليه) فيتحقق حينئذ التوازن، فهما متكافئان في القوة ولا يمكن أن يحسم النزاع بينهما سوى ميدان المعركة: بغداد. إشارة جابر تلك تعلن عن بدء الصراع على نحو استعاري، فالقرش – وسيلة الرهان – بوجهيه المتلاحمين يكثف الدولة ويكشف عن التماثل بين طرفي النزاع، الوزير والخليفة، لكنه في الآن نفسه يومئ إلى استحالة الفصل بينهما إلا إذا انهارت الدولة انهيارا شاملا. بعبارة أخرى إن "انتصار" طرف هزيمة لأن سقوط أحد المتنازعين على السلطة يؤدي آليا إلى سقوط الأخر؛ فالمسألة لا صلة لها بالأفراد، وإنما النظام القائم برمته. والمملوك جابر يدرك أنه ليس تابعا لفرد وزيرا كان أم خليفة إنما تبعيته لنظام سياسي توهم – مثل جل الشخصيات – أنه جوهر باق وإن تغير الأشخاص. لذلك لا يرى في الكوارث وما تخلفه من فوضى إلا سلما للصعود وتغيير شرطه الاجتماعي. ذاك ما ينبئ به ظهوره الثاني رفقة المملوكين منصور وياسر. يعرض هذا المشهد موقف الوزير، الطرف الآخر في الصراع، ورده على تصعيد الخليفة المتمثل في تطويق بغداد وسد منافذها. يحمل ياسر أنباء عن مزاج الوزير وبلوغ التشنج أقصاه، ويعلل ذلك بعجزه عن تحقيق برنامجه أمام حركة الخليفة الاستباقية. يقول:
ﯾﺎﺳﺮ : ... هﻨﺎك رﺳﺎﻟﺔ ﺗﺤﻮم راﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﺨﺮوج ... ﻛﻞ ﻣﺎ أﺳﺘﻄﯿﻊ تأكيدها ﻫﻮ أن اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻫﺎﻣﺔ وﺧﻄﯿﺮة ﻟﻠﻐﺎﯾﺔ ، ﻛﺎد اﻟﻮزﯾﺮ أن ﯾﺼﺎب ﺑﺎﻟﻔﺎﻟﺞ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻋﻠﻢ ﺑﺈﺟﺮاءات ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ ، ﻻ ﺷﻚ أﻧﻪ ﯾﻌﻄﻲ أي ﺷﻲ ﻣﻦ أﺟﻞ وﺻﻮل هذه اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ .ص.ص.223-224
وعلى الرغم مما يكتنف الرسالة من غموض يرفع درجة التشويق، إلا أن إيرادها في هذه المرحلة وموقعها من الحبكة الدرامية يبرهنان على أنها تحمل في طياتها قرار الوزير؛ فإذا كانت أدوات الخليفة أجهزة الدولة وأعوانه، فإن سبيل الوزير هو التواصل مع الخارج. وبذلك فإنه يرد على تصعيد بمثله ليشتعل فتيل الصراع بين الطرفين ويأخذ سبيله نحو ذروته. وما كان له أن يتصاعد لولا تحولٌ يطرأ على شخصية جابر؛ فبعد أن يلتقط النبأ تتيقظ حواسه ومشاعره وتتكثف طاقاته الذهنية ليتخذ قرارا مصيريا يتمثل في الانخراط في الصراع، بوصفه عنصرا مساعدا للوزير وأداة من أدواته.
ﺟﺎﺑﺮ : ﺳﺄﺑﺤﺚ ﻋﻦ اﻹﻟﻬﺎم ﯾﺎ ﻣﻨﺼﻮر إﻧﻲ ﺑﺤﺎﺟﺔ إﻟﯿﻪ اﻵن . أﻟﻢ أﻗﻞ ﻟﻚ .. ﻗﺪ ﻧﻘﺒﺾ ﺑﺪلا ﻣﻦ أن ندفع . إذا ظلت رأﺳﻲ ملتهبة ﻛﻤﺎ هي اﻵن .. ﻓﻠﻦ ﺗﻀﯿﻊ اﻟﻔﺮﺻﺔ .225
يبتني على ذلك أن مدار الحبكة الرئيسية في المسرحية الداخلية هو الصراع بين الخليفة ووزيره، وما مغامرة المملوك جابر إلا برنامجا أداتيا مساعدا؛ ولعل رهان جابر في مرحلة الاستهلال يضيء هذا الجانب، فهو يشير إلى أن القرعة تفتقر إلى شوط ثالث حتى يكتمل الرهان وندرك وإياه مصير النزاع بين الطرفين. هذا الشوط الغائب ليس سوى المغامرة ذاتها؛ فجابر بتورطه في الصراع يساهم في ملء ذاك الفراغ الأوّليّ بموجب دوره الحاسم كما سيتضح في المشاهد اللاحقة. يحتد التوتر وتتعقد الأزمة معلنة احتدام الصراع واتخاذه منعرجا خطيرا حين يعقد المملوك صفقة مع مالكه الوزير.
ﺟﺎﺑﺮ : أﯾﻤﻦّ ﻋﻠﻰ ﻋﺒﺪ ﺑﻤﺮﻛﺰ ﯾﺮﻓﻌﻪ ﻣﻦ ﺿﻌﺘﻪ ؟ .
اﻟﻮزﯾﺮ : أﻋﻄﯿﻚ ﻣﺎ ﺗﺮﯾﺪ ﻟﻮ ﺑﻠﻐﺖ رﺳﺎﻟﺘﻲ .. .
ﺟﺎﺑﺮ : وﯾﻜﺮﻣﻨﻲ ﻓﯿﺰوﺟﻨﻲ زﻣﺮد ﺧﺎدﻣﺔ ﺳﯿﺪﺗﻲ ﺷﻤﺲ اﻟﻨﻬﺎر ؟ .
اﻟﻮزﯾﺮ : ) ﻧﺎﻓﺬ اﻟﺼﺒﺮ ( ﻫﻲ ﻟﻚ .. وﻓﻮﻗﻬﺎ ﻣﺎل ﻛﺜﯿﺮ ، وﻟﻜﻦ أرﻧﺎ أوﻻً ﺗﺪﺑﯿﺮك
ﺟﺎﺑﺮ : (ﯾﻨﺤﻨﻲ ﻣﻘﺘﺮﺑﺎً ﻣﻦ اﻟﻮزﯾﺮ .. ﻟﻬﺠﺔ ﺑﻄﯿﺌﺔ ﻣﻊ ﺗﺸﺪﯾﺪ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﻠﻤﺎت ( إﻧﻲ أﻫﺒﻚ رأﺳﻲ ﯾﺎ ﻣﻮﻻي 235
ثم يبسط أمامه تفاصيل الخطة:
ﺟﺎﺑﺮ : إذن إﻟﯿﻜﻢ اﻟﺘﺪﺑﯿﺮ .. ﻧﻨﺎدي اﻟﺤﻼق ، ﻓﯿﺤﻠﻖ ﺷﻌﺮي ، وﻋﻨﺪﻣﺎ ﯾﺼﺒﺢ ﺟﻠﺪ اﻟﺮأس ﻧﺎﻋﻤﺎ ﻛﺨﺪ ﺟﺎرﯾﺔ ﺟﻤﯿﻠﺔ ، ﯾﻜﺘﺐ ﺳﯿﺪﻧﺎ اﻟﻮزﯾﺮ رﺳﺎﻟﺘﻪ ﻋﻠﯿﻪ . ﺛﻢ ﻧﻨﺘﻈﺮ ﺣﺘﻰ ﯾﻨﻤﻮ اﻟﺸﻌﺮ وﯾﻄﻮل ﻓﺄﺧﺮج ﻣﻦ ﺑﻐﺪاد ﺑﺴﻼم . .236
ليعلن الوزير فوزه
اﻟﻮزﯾﺮ : ﻛﺴﺒﻮا ﻧﻘﻄﺔ .. رﺑﻤﺎ .. وﻟﻜﻦ ﻫﺎ أﻧﺬا أﻛﺴﺐ اﻟﺠﻮﻟﺔ . ﺗﺴﻠﻤﻨﺎ اﻟﻤﺒﺎدرة ﻣﻨﻬﻢ، وإﻧﻲ أﻣﺴﻚ اﻟﻤﻨﺘﺼﺮ وأﺧﺎه ﻓﻲ ﻗﺒﻀﺘﻲ .. وﺳﺄﻋﺼﺮﻫﻤﺎ .. ) يشد ﻗﺒﻀﺘﻪ ( ﺣﺘﻰ ﯾﺼﺒﺤﺎ ﻋﺠﯿﻨﺎ ﻓﺎﺳﺪا . ﺳﺘﻜﻮن اﻟﻤﻔﺎﺟﺄة كبيرة هذا المساء... لنتابع الخطة . .238
ويمر فورا إلى الإنجاز. إن وتيرة الفعل الدرامي السريعة والرفع من درجة الانفعال ينبئان بخطورة الرسالة رغم أنها تظل طي الكتمان حتى نهاية جابر؛ وتحول هذا المملوك من طور "الحياد" البارد إلى الانحياز الكلي لطرف على حساب آخر هو الذي يعصف بالوضعية المتوترة الأساسية ليشهد الصراع تصاعدا نحو ذروته. واتخاذ جابر قراره المصيري لا يعتبره موقفا سياسيا، بل مجرد فرصة تسمح بصفقة تخلصه من العبودية والفقر والحرمان. ذاك ما يصرح به لزمرد في أثناء انتظار نمو شعره على شواة رأسه – الصحيفة:
زﻣﺮد : إﻧﻲ ﺧﺎﺋﻔﺔ ﯾﺎ ﺟﺎﺑﺮ ﻻ ﺑﺪ أﻧﻬﺎ ﺧﻄﯿﺮة ، وﻟﻌﻠﻬﺎ ﺗﻤﺲ ﻣﻮﻻﻧﺎ اﻟﺨﻠﯿﻔﺔ. ﻟﻮ ﻋﻠﻢ أﺣﺪ . .
ﺟﺎﺑﺮ : وﺗﺸﻐﻠﯿﻦ ﻧﻔﺴﻚ ﺑﺎﻟﺨﻠﯿﻔﺔ واﻟﻮزﯾﺮ ! ﻓﺨﺎر ﯾﻜﺴّﺮ ﺑﻌﻀﻪ ﯾﺎ زﻣﺮد . ﻟﻦ ﻧﺤﻤﻞ ﻫﻤﻮﻣﻬﻢ أﯾﻀًﺎ . ﻣﺴﺘﻘﺒﻠﻨﺎ أﻫﻢ. ﺗﺼﻮري ﻓﺠﺄة وﺟﺪت أﻣﺎﻣﻲ ﻓﺮﺻﺔ ﻋﻤﺮي ، ﻓﻬﻞ أﺗﺮﻛﻬﺎ ! أﻛﻮن ﻣﺠﻨﻮﻧًﺎ ﻟﻮ ﻟﻢ أﺛﺐ ﻋﻠﯿﻬﺎ ، ﻛﻞ اﻟﻔﺮق ﺑﯿﻦ اﻟﻔﺸﻞ واﻟﻨﺠﺎح ، ﻫﻮ أن ﯾﻌﺮف اﻟﻤﺮء ﻛﯿﻒ ﯾﻨﻘﺾ ﻋﻠﻰ اﻟﻔﺮﺻﺔ.. ﻻ.. ﻻ ﺗﺨﺎﻓﻲ . اﻟﻤﻬﻤﺔ ﺳﻬﻠﺔ وﻻ ﻣﺒﺮر ﻟﻠﻘﻠﻖ.. ﺳﺄﻋﻮد ..وﺳﺘﻜﻮن أﻣﺎﻣﻨﺎ ﻛﻞ اﻷﯾﺎم ، أﯾﺎم ﺣﺎﻓﻠﺔ وﺑﻬﯿﺠﻪ . .
زﻣﺮد : أواﺛﻖ ﺣﻘﺎً أﻧﻪ ﻻ ﺧﻄﺮ ﻋﻠﯿﻚ ؟.!
ﺟﺎﺑﺮ : ﻫﻨﺎك ﺧﻄﺮ واﺣﺪ ﻓﻘﻂ . .
زﻣﺮد : ) ﺑﻠﻬﻔﺔ وﺟﺪﯾﺔ ( ﻣﺎ ﻫﻮ ؟ .
ﺟﺎﺑﺮ : أن ﺗﺒﺎﻟﻐﻲ ﻓﻲ اﻟﺘﺜﻨﻲ ﺣﯿﻦ ﺗﺴﯿﺮﯾﻦ ﻓﻲ أرﺟﺎء اﻟﻘﺼﺮ . ﻟﻮ ﻓﻌﻠﺖ . ﻓﺴﯿﻜﺘﺸﻒ اﻟﻮزﯾﺮ ﻧﻔﺴﻪ أن ﻟﻚ أﻟﯿﺘﯿﻦ ﺗﺘﻼﺣﻖ ﻟﻬﺎ اﻷﻧﻔﺎس ﻛﺄﻧﻲ أراه .. ﺳﯿﺘﻨﺎول ﻧﺸﻮﻗﻪ ، وﯾﺴﻮﻗﻚ إﻟﻰ ﻣﺨﺪﻋﻪ ، ﺣﯿﻨﺌﺬ ﻟﻦ ﯾﺒﻘﻲ ﻟﻠﻤﺴﻜﯿﻦ ﺟﺎﺑﺮ أن ﯾﻤﻮت ﻛﻤﺪا . .
زﻣﺮد : ) ﺑﺎﺳﻤﺔ ( ﻣﺘﻰ ﺗﺘﻌﻠﻢ اﻟﺤﺸﻤﺔ ! .259-260

إن جابر كما تلوح صورته في المسرحية ليس له معيار يحدد سلوكه وعلاقاته إلا النفع المباشر، فهو لا يخدم الوزير تأييدا أو تعاطفا، كما أنه لا يعين على الخليفة تمردا أو عداوة، إذ هما في عرفه متماثلان في النوع والوظيفة لا يفرقهما سوى الصفة بما هي عرضية إضافية. إنهما في نهاية المطاف وسيلته لتسلق السُّلَّم الاجتماعي من أجل الصعود والتحرر من أغلال التفقير والتهميش. إن اختيار جابر عينة من الناس أتيحت له فرصة الفعل والتأثير في الوضع السياسي فخص بها نفسه مستعملا أدوات النظام الفاسد لدليل على أن النص الدرامي يعمل على تعرية الواقع بإزالة قشور الخوف والرهبة والوصول إلى جوهره؛ لقد سبقت الإشارة إلى الصفقة المبرمة بين المملوك والوزير، وما تلك الصفقة إلا تجسيد مادي للعلاقة الزبونية clientélisme المتغلغلة في النظام السياسي، وهي ظاهرة لصيقة بالفساد بما أنها تقوم بين طرفين غير متكافئين فتخلط بين المنفعة الخاصة والمصلحة العامة. وجابر انطلاقا من منزلته الاجتماعية، كونه مملوكا لا صلة تربطه بالأسر والعائلات في بغداد، يعتقد أنه في حل من التزاماته نحو المجتمع. لذلك يركب هواه ويُعرض صفحا عن هموم الناس وشواغلهم ليقدم بطلا زائفا سلبيا يخوض مغامرته وهو على يقين من العلاقة الآلية بين نجاحه في المهمة المنوطة به وبين تحقيق أهدافه. هكذا تتشابك – في مرحلة التعقيد هذه – الحبكتان: الصراع بين الوزير والخليفة، وصراع جابر ضد شرطه الاجتماعي؛ ليرفع النص من درجة التشويق، ويسرّع في وتيرة الفعل دون تراخ بانتقال المملوك جابر من غرفة الأحلام بقصر الوزير إلى غرفة الإعدام بقصر الملك منكتم. تزخر المشاهد التالية بالحركة، ويتلون فيها الإيقاع متخذا وتائر مختلفة سواء أكان على المستوى الجسدي أم على المستوى النفسي، وهذا من شأنه أن يمنح العرض ثراء ويوفر للجمهور الفرجة. فمن غرفته يطير جابر على جواد يطوي الأرض طيا، ويلجأ ونوس إلى الإيماء ليصور هذه الحركة في المكان، حتى يلج قصر ملك العجم ثم غرفة الجلاد لهب، وهي مثواه الأخير. وفي الأثناء يقف المتلقي عند ذروتين: أما الأولى فتمثل الصراع الأساسي عندما ينجح جابر في إيصال الرسالة، ليتخذ الملك قراره الفوري بمهاجمة بغداد، ومن ثمة يشهد الفعل الدرامي انحدارا حادا نحو الفاجعة. وأما الثانية فتمثل المغامرة وهزيمة المملوك بموته والتمثيل برأسه، رغم محاولته النجاة؛ وهي محاولة عبثية لأن صاحبها لم يدرك – أو لعله فهم؟ - أن النجاح في المهمة لا يتم إلا بإقصائه: ذاك ما يقتضيه النظام السياسي القائم على المقامرة والرهان. إن رغبة جابر في تغيير واقعه تصطدم بأطراف أقوى منه؛ فخطؤه يتمثل في اختزاله الصفقة بينه وبين الوزير في تبادل المصالح على نطاق شخصي، ذاهلا عن جوهر تلك الصفقة، فهي سياسية وليست مجرد مقايضة اقتصادية. لكن الخطأ لن يكون الجزاء عنه فرديا، بل شاملا. وذاك ما يصوره مصير بغداد الكارثي في نهاية المسرحية. وما استمرار الحكواتي في سرد ما حل ببغداد خلال هجوم الأعاجم إلا برهان على أن مغامرة المملوك جابر برأسه حبكة تابعة، فهي أداة من أدوات الصراع الأساسي. يحافظ سعد الله ونوس على نهاية جابر كما أوردتها السيرة الشعبية، بيد أن إعادة بناء الشخصية وإكسابها أبعادا نفسية واجتماعية يحولها من شهيد إلى شاهد على من يجد الأمان والسلامة في البحث عن الخلاص الفردي فيخطئ في تحالفاته؛ ويغفل عن كون فخار الطبقة المهيمنة (الذي يكسّر بعضه) هو من طينة الناس. تصور المسرحية صدمة زبائن المقهى، الجمهور الافتراضي، وخيبتهم لحظة فصل لهب رأس جابر عن جسده؛ رد الفعل هذا دليل على تعاطف الزبائن مع شخصية جابر، وبرهان على أنهم اختلقوا أفق انتظار يعيد إنتاج أبطال الخرافات والحكايات الشعبية. ولا يرون أنّ تحقيق رغبته وإشباع حاجته هما في الآن نفسه نجاح للوزير في سعيه إلى تدمير البلاد. لذلك يحرص ونوس على المباعدة بين الجمهور وبين الشخصية عبر مسافة تحفظ للمتفرج عقلا يقظا يفكك المشاهد ويعيد نظمها وتنظيمها ليؤسس وعيا سياسيا يعمق فهمه للواقع ويقنع بضرورة تغييره لصالح الطبقات المضطَهَدة المحرومة، ذاك ما يصطلح عليه بالتغريب آلية فنية وموقفا إيديولوجيا من الفعل الدرامي وأدواته.
إن تفعيل آلية التغريب أو المباعدة يعدِل بالمسرحية عن ضوابطها المأثورة عن التنظير الأرسطي، لترد مقطّعة متشظية تسودها انقطاعات تلوح بين الفينة والأخرى، فإذا بحبكتها تحيد عن صراطها المستقيم نحو منحنيات وتعرجات نتيجة تزاحم الأصوات وتعددها فيها. ويمكن تقسيم الأصوات المتنازعة إلى أربعة: أما الأول فيتمثل في الحكواتي، وقد أنيط به توجيه دفة السرد لاسيما وأنه إطار المسرحية وعنوان الملحمية فيها. وأما الثاني فيتمثل في المؤلف المسرحي عبر إشاراته الركحية الموجهة للفعل المسرحي. وأما الثالث فيتمثل في الممثلين وهم بصدد لعب أدوار مختلفة فيقفزون من دور إلى آخر ولا ينزعون قناعا إلا ليرتدوا قناعا مغايرا. وأما الرابع فيتمثل في زبائن المقهى، وهم جمهور الحكواتي، لكنه جمهور مشاغب مشاكس لا يكف عن التدخل في مسار المغامرة. ذاك ما يجعل المسرحية تتضاعف لتضحي مغامرة جابر مسرحية داخل أخرى دون أن يعني ذلك استقلالها. فإلى جانب تحكم العم مؤنس الحكواتي في مفاصل المغامرة ووتيرتها، تقتحم أصوات زبائن المقهى مشاهد المسرحية كلها أو تكاد؛ بدءا بتعبيرهم عن لهفتهم لسماع سيرة الظاهر بيبرس وحاجتهم إليها في هذا الزمن الرديء، وانتهاءً بحكمهم على حكاية جابر بعد تمامها. ففي المشهد الأول، الموقف الثاني -أعني بعد دخول العم مؤنس المقهى – تجتمع كلمة الزبائن حول رغبتهم في حكاية تصور "أﯾﺎم اﻟﺒﻄﻮﻻت واﻻﻧﺘﺼﺎرات " و"أﯾﺎم اﻷﻣﺎن وﻋﺰ اﻟﻨﺎس وازدﻫﺎر أﺣﻮاﻟﻬﺎ ."ص.193 لتخفف عنهم وطأة واقعهم. ورغم انصياعهم لما أقره الحكواتي وتسليمهم له، فإنهم لا يستسيغون نهاية جابر الدموية، ويعبرون في المشهد الأخير عن خيبتهم لأن الحكاية " ﻗﺎﺗﻤﺔ ﻛﺤﻜﺎﯾﺔ اﻟﺒﺎرﺣﺔ ."ص.283 لم تثمر في النفوس سوى الاكتئاب والحزن. بين هذين الحدين تتسع مساحة تدخلات الزبائن تارة وتتقلص أخرى، وتتنوع الأقوال إنشاء وخبرا، ووظائفها التداولية فمنها السجال والتعليق والتوجيه والتنظيم والمراهنة والتهكم والحث والتعاطف... تنشئ هذه الأقوال فجوات في متن الحكاية (المسرحية الداخلية) فتمحو الحدود الفاصلة بين الركح وقاعة المشاهدين فيتحول الأول إلى منصة والثانية إلى برلمان على حد تعبير بريخت، ليتشكل فضاء مغاير لما عهده الناس قوامه تداول الكلام وتحفيز الخطاب بجناحيه الأثري (التراثي) والراهن (المعاصر) على تحيين العلامة وتحريرها من قوالب التأويل الجاهزة لتنهض بتفكيك واقع لا ينفك يتغير. وإذا اختلف هذا الفضاء المسرحي عن الفضاء المعهود فلن يختلف إلا في تزكية الجمهور بمنحه الثقة في كفاءته التأملية والتأويلية. إنه مسرح مضاد للاحتكار. تتجلى فاعلية الزبائن في إجبار النص الدرامي في المسرحية الداخلية على التوقف، ليستبدلوا به نصهم الخاص.
) ﻟﻐﻂ ﺑﯿﻦ اﻟﺰﺑﺎﺋﻦ ، ﺛﻢ ﯾﺘﻮﺿﺢ ( .
زﺑﻮن 2 : اﻟﺸﺨﺺ اﻟﺬي ﻛﺎن ﻣﻊ اﻟﻤﻤﻠﻮك .
زﺑﻮن 1 : ﻫﻮ ﺑﻌﯿﻨﻪ
زﺑﻮن 3 : وﻣﺎ ﯾﺰال ﯾﺤﻤﻞ اﻟﺴﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﻇﻬﺮه .
زﺑﻮن 1 : ) ﺑﺼﻮت ﻋﺎل ( أﺧﻲ ﻧﺰل ﻫﺬا اﻟﺴﻠﻢ ﻋﻦ ﻇﻬﺮك .
زﺑﻮن 3 : ﻫﺬه ﺳﻮﺳﺔ إذا ﺳﻜﻨﺖ اﻟﺮأي ﺻﻌﺐ اﻧﺘﺰاﻋﻬﺎ .
اﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ : ) ﯾﻌﻠﻮ ﺻﻮﺗﻪ ، ﻟﯿﺴﯿﻄﺮ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻮﻗﻒ ، ﻓﯿﻤﻨﻊ اﻧﻘﻄﺎع ﺧﯿﻂ اﻟﺤﻜﺎﯾﺔ ﺑﺎﻟﻨﻘﺎش ( وﺗﻨﺎول اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻌﺠﻮز اﻟﻜﻼم ، ﻓﺄورد ﻣﺎ ﻋﻠﻤﺘﻪ اﻷﯾﺎم 215
لعل هذا الموقف خير ما يمثل قيمة النص المنجز الآن وهنا المشتق من مشهد في الحكاية؛ إن الحوار الدائر بين الرجل الرابع وبين نظرائه في المسرحية ينشط المخزون الثقافي الراسب في أذهان الزبائن / المشاهدين، ويحرض النصوص السابحة في عالم الخطاب المشترك، لتطفو على السطح أمثال شعبية واستعارات تكثّف موقفا سياسيا مما يدور بين الممثلين.
زﺑﻮن 1 : اﻧﺘﺒﻬﻮا ﯾﺤﺮﺿﻜﻢ ﻋﻠﻰ اﻟﻔﺘﻨﺔ .
زﺑﻮن 3 : ﻧﻮع ﻣﻦ اﻟﺮﺟﺎل ﯾﺤﺐ إﺛﺎرة اﻟﻤﺸﺎﻛﻞ، ﻟﻜﻲ ﯾﺘﻔﺮج ﺑﻌﺪﺋﺬ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺸﺎﻛﻞ
زﺑﻮن 2 : أي اﻧﻬﺾ أﺧﻲ .. اﻧﻬﺾ ذﻟﻚ أﻓﻀﻞ .ص.ص.219-220
فالعبارات الواردة في أقوال الزبائن تميط اللثام عن جبن متجذر في النفوس، (السلم، سوسة، الفتنة، المشاكل) تحتضنه أشكال في القول وتبرره بل وتعمل على تأبيده. بيد أن المسرحية بمنحها الجمهور الحق في الكلام تجبره –أعني الجمهور -على الترائي وتورطه في شأن غالبا ما سعى إلى تجنبه. ومن ثمة فإن نص المسرحية باستقطابه أشكال القول الأخرى وتشربه فنونا متغايرة يزج بجمهوره في غابة من العلامات ليتدبرها ويتأملها فيقارن ويستدل ويفكك ويركب... بعبارة واحدة المسرحية ملحمية لأنها تحولت إلى مفاعل فكري في أقصى نشاطه. ذلك أن مصير كل من يدور في فلكها سواء أكان ممثلا أم مشاهدا التشفير، أعني أن يتحول هو ذاته – حتى أولئك الجالسين في القاعة، جمهور المؤلف – إلى علامة تفتقر إلى فك شفرتها بالفهم والتأويل، فالقارئ – نحن والحكواتي – يصبح مقروءا والرائي يصبح مرئيا أكثر والمستدل يصبح دليلا – لغويا أو غير لغوي – والسامع يصبح مسموعا... وهلم جرا. هكذا يعصف النص المسرحي الملحمي بالإيهام بمزجه بين "الواقع" و"الخيال" مزجا يلغي الفواصل بين الصورة والأصل؛ إذ أن النص بنأيه عن محاكاة الواقع إنما يعمل على تجويفه مرآويا ليخرجه من ظلمات التبرير فيقيم في الضوء كاشفا بذلك عن جوهره، أعني واقعية الواقع. فالمسرحية تروم تجاوز الانسجام المترقرق على الوجه الخارجي وانتشال المُشاهد من هاوية التعود، فيرى واقعا غريبا عنه يحتاج – حتى يقبض على واقعيته فنيا وفكريا – إلى أن يتخلى هو الآخر عن الفصل بين الصورة والأصل. فليست الشخصيات في المسرحية صورة عنه، بل الجمهور صورة عن الشخصيات. ولما كان زبائن المقهى جمهورا "افتراضيا" يضرب مثلا على نوعية الجمهور المطلوب، فإن سعد الله ونوس يجري آلية التضمين الانعكاسي mise en abyme في أكثر من موضع؛ بيان ذلك أن زبائن المقهى المشاهدين يرون صورتهم في رعية بغداد، حتى أن النص يسقط صورة الزبون الرابع في المقهى ليتراءى في الرجل الرابع في بغداد، فكلاهما يحمل التصور ذاته؛ ويتكرر هذا التصور في شخصية منصور، لا غرابة إذن أن يلعب الممثل نفسه الدوريْن. الأمر نفسه ينسحب على الحكواتي، فهو يتراءى في الرجل الرابع عينه ساعة يتفطن إلى حرس الخليفة؛ إذ يتحول من مناضل مجادل إلى راوية:
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ : ) ﯾﻨﺘﺒﻪ إﻟﻰ اﻗﺘﺮاﺑﻬﻤﺎ ﯾﻐﯿﺮ اﻟﻜﻼم ، وﯾﻮاﺻﻞ دون ﺗﻠﻌﺜﻢ ... ﯾﺘﺎﺑﻌﻪ اﻵﺧﺮون ﺑﺨﻮف ودﻫﺸﺔ ( ﻓﻠﻤﺎ ﺣﻂ اﻟﺤﻤﺎل ﺣﻤﻮﻟﺘﻪ ﻋﻠﻰ ﺗﻠﻚ اﻟﻤﺼﻄﺒﺔ ﻟﯿﺴﺘﺮﯾﺢ ، ﺧﺮج ﻋﻠﯿﻪ ﻣﻦ اﻟﺒﺎب ﻧﺴﯿﻢ راﺋﻖ ) ﻛﻠﻤﺎ اﻗﺘﺮب اﻟﺤﺎرﺳﺎن ﯾﻌﻠﻮ ﺻﻮﺗﻪ ( وراﺋﺤﺔ ذﻛﯿﺔ ﻓﺎﺳﺘﻠﺬ اﻟﺤﻤﺎل ﻟﺬﻟﻚ ، وﺟﻠﺲ ﻋﻠﻰ ﺟﺎﻧﺐ اﻟﻤﺼﻄﺒﺔ ، ﻓﺴﻤﻊ ﻧﻐﻤﺎً وأوﺗﺎرا وﻋﻮدا وأﺻﻮاﺗﺎ ﻣﻄﺮﺑﺔ ) ﯾﺘﻮﻗﻒ اﻟﺤﺎرﺳﺎن ﻗﺮب اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ( ﻓﻌﻨﺪﺋﺬ ﺗﻌﺠﺐ وﺗﻘﺪم ﯾﺘﺒﻊ اﻟﺼﻮت. دﻓﻊ اﻟﺒﺎب ودﺧﻞ .. ﻓﻮﺟﺪ أﻣﺎﻣﻪ ﺑﺴﺘﺎﻧﺎ ﻋﻈﯿﻤﺎ، ورأى ﻓﯿﻪ ﻏﻠﻤﺎﻧﺎ وﺧﺪﻣﺎ وﺣﺸﻤﺎ ، ﺛﻢ ﻫﺒﻄﺖ ﻋﻠﯿﻪ راﺋﺤﺔ أﻃﻌﻤﺔ زﻛﯿﺔ ﻣﻦ ﺟﻤﯿﻊ اﻷﻟﻮان اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ واﻟﺸﺮاب اﻟﻄﯿﺐ ، ﻓﺮﻓﻊ ﻃﺮﻓﻪ إﻟﻰ اﻟﺴﻤﺎء ، وﻗﺎل : ﻣﺎذا ﻗﺎل ؟ ) ﯾﺘﻮﻗﻒ ﻟﺤﻈﺔ ، وﻛﺄﻧﻪ ﯾﺸﻮق اﻟﺴﺎﻣﻌﯿﻦ ( .
اﻟﺤﺎرس 1 : ﯾﺘﺴﻠﻮن ، وﯾﺮوون ﺣﻜﺎﯾﺎت .
اﻟﺤﺎرس 2 : أﺷﻌﺮ ﺑﺎﻟﺠﻮع ...
الرجل الرابع: ) ﯾﻮاﻟﻲ ... ﺑﯿﻨﻤﺎ ﯾﺒﺘﻌﺪ اﻟﺤﺎرﺳﺎن ( ﻗﺎل ... ﺳﺒﺤﺎﻧﻚ ﯾﺎ رب ﯾﺎ ﺧﺎﻟﻖ وﻋﻨﺪﻫﺎ ﻟﻤﺢ ﺻﺒﯿﺔ ذات ﺣﺴﻦ وﺑﻬﺎء ... ) ﯾﺨﺘﻔﻲ اﻟﺤﺎرﺳﺎن ، ﻓﯿﺘﻮﻗﻒ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ، ﯾﺘﻨﻬﺪ اﻟﺠﻤﯿﻊ ﺑﺎرﺗﯿﺎح وﻛﺄﻧﻬﻢ ﺧﺮوﺟﻮا ﻣﻦ ﻣﺤﻨﺔ ، ﺑﻌﻀﻬﻢ ﯾﺠﻔﻒ ﺣﺒﺎت ﻋﺮق ﺗﻔﺼﺪت ﻣﻦ الوجوه .(214
قد يكون ما يرويه الرجل الرابع ارتجالا، وقد يكون مقطعا من حكاية خرافية؛ لكن المهم في ذلك أنه يُري الحكواتي نفسه، يجعله يبصر واقعية واقعه: أنه محاصر بالرقابة من جهة وبجمهور تعوّد على الغرق في الأوهام تلذذا واسترخاء. إن انتباه الزبون الثاني إلى أن دوريْ الرجل الرابع ومنصور يلعبهما شخص واحد يحطم وهم التمثيل، وهذا من أهداف المسرح الملحمي، لكن أهميته تعود – في رأيي – إلى دعوة ضمنية إلى الانتباه والعناية بهذه الشخصية؛ لا ريب أنها في نهاية المسرحية وحين تتهشم الحدود جميعها بين المقهى الشعبي المعاصر وبين مدينة بغداد الموغلة في القدم تلتحق بالحكواتي لتلتحم الصورة بالأصل فينمحي الاختلاف. )ﯾﻌﻢ اﻟﺼﻤﺖ ﻓﺘﺮة ﻣﺪﯾﺪة ، ﺛﻢ ﯾﻨﻬﺾ اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ ﻣﻦ ﺑﯿﻦ اﻟﻘﺘﻠﻰ ، وﯾﻘﻒ ﻗﺮب اﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ)281-282 ويستخدم ونوس آلية التضمين الانعكاسي ليعقد الصلة بين زبائن المقهى وبين رعية بغداد، فها هو الزبون الأول ينسج على منوال جابر ليراهن على نهاية المغامرة:
اﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ : اﺻﺒﺮوا .. اﺻﺒﺮوا ﻫﻲ دﻗﺎﺋﻖ وﺗﻌﺮﻓﻮن ﺑﻘﯿﺔ اﻟﺤﻜﺎﯾﺔ ..
زﺑﻮن 1 : ﻃﯿﺐ .. اﻟﻌﻢ ﻣﻮﻧﺲ ﻻ ﯾﺮﯾﺪ أن ﯾﺠﯿﺐ . وﻟﻜﻦ ﻫﻞ ﺗﺮاﻫﻦ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ أﻗﻮل ؟.
زﺑﻮن 2 : وأﻧﺎ أﻧﺰل ﻣﻌﻚ ﺑﺎﻟﺮﻫﺎن .
زﺑﻮن 4 : ﻻ أراﻫﻦ .. ﻗﺪ ﯾﺼﺢ ﻣﺎ ﺗﻘﻮل ، إﻻ أن اﻟﻤﻨﻄﻖ اﻟﺴﻠﯿﻢ ﻫﻮ أﻻ ﯾﺼﺢ ﻣﺎ ﺗﻘﻮل .
زﺑﻮن 1 : هذه ﻓﺬﻟﻜﺔ . ﻧﺤﻦ ﻧﻌﺮف اﻟﺪﻧﯿﺎ ، وﻧﺮى ﻛﯿﻒ ﯾﺴﯿﺮ دوﻻﺑﻬﺎ .245
على هذا السمت تستوي مشاهد المسرحية مرايا مقعّرة ومحدّبة تنعكس عليها الصور فتتضخم أو تتقلص ويتداخل الجميل والقبيح لتذوب الفوارق على مشارف النهاية وتنصهر الأمكنة والأزمنة وتتكثف في نقطة واحدة ذات قوة جذب دلالية هائلة، ففيها تنحل الحبكتان الرئيسية والثانوية وتتفكك المشاهد وتتفسخ الهيئات لتنحل كلها في سديم أوّلي( ﺗﺘﻢ رواﯾﺔ ﻫﺬا اﻟﻤﻘﻄﻊ ، ﻋﻠﻰ ﺻﻮت ﺧﺒﺐ اﻟﺨﯿﻮل ، وﺻﻠﯿﻞ اﻟﺴﯿﻮف ، وﺻﯿﺤﺎت اﻟﺮﻋﺐ ﺑﯿﻦ ﺣﯿﻦ وآﺧﺮ ﯾﻨﺪﻓﻊ ﺑﻌﺾ اﻟﺬﯾﻦ ﻧﻌﺮﻓﻬﻢ ﻣﻤﻦ ﻣﺜﻠﻮا ﻋﺎﻣﺔ ﺑﻐﺪاد أو ﺳﻮاﻫﻢ . اﻟﺮﺟﻞ اﻷول ، اﻟﺜﺎﻧﻲ ، اﻟﺜﺎﻟﺚ ، اﻟﺮاﺑﻊ اﻟﻤﺮأة اﻷوﻟﻰ ، اﻟﺜﺎﻧﯿﺔ ، ﯾﺎﺳﺮ ، أﺣﺪ اﻟﺤﺮاس .. ﻛﻠﻬﻢ ﯾﺪﺧﻠﻮن وﻫﻢ ﯾﺼﺮﺧﻮن ، وﯾﻤﺜﻠﻮن إﯾﻤﺎﺋﯿﺎ ﺗﻠﻘﻲ اﻟﻄﻌﻨﺎت ، أو ﻫﺘﻚ اﻟﻌﺮض ، اﻟﻤﺮأة اﻟﺜﺎﻧﯿﺔ ﺗﻤﺜﻞ ﻋﻤﻠﯿﺔ اﻟﻬﺘﻚ ، وﺗﺴﻘﻂ ﻣﻤﺰﻗﺔ اﻟﺜﯿﺎب ﻣﻔﺘﻮﺣﺔ اﻟﺴﺎﻗﯿﻦ .. ﯾﺘﻜﻮﻣﻮن ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻮق ﺑﻌﺾ أﻣﺎم اﻟﺰﺑﺎﺋﻦ ، ﺟﺜﺜﺎ وأﺟﺴﺎدا ﻣﻬﺘﻮﻛﺔ ﯾﻐﺎدر اﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ وﻫﻮ ﯾﺮوي ﻫﺬه اﻟﻤﻘﺎﻃﻊ ﻛﺮﺳﯿﻪ ، وﯾﺠﻮل ﺑﯿﻦ اﻷﺟﺴﺎد اﻟﺘﻲ ﺗﺘﻜﺪس (.281 يختم سعد الله ونوس نصه بأطروحة فكرية يضعها على لسان شخصيات يصطفيها من المسرحيتين لتتوحد في أداء رسالة واحدة يندمج خلالها الراوي بالمروي والرائي بالمرئي، ليكشف المؤلف عن المغزى التعليمي والمقصد السياسي من نصه. فالكلام يوجه إلى زبائن المقهى (الجمهور الافتراضي) وزبائن القاعة (الجمهور الواقعي) ويرد في شكل نبوي رؤيوي يذكر بسفر أشعياء وهو يقرّع شعبه أو بنذير الكهان بما فيه من ترديد ووعيد وتذكير.
اﻟﺠﻤﯿﻊ : ) ﻣﻌﺎ إﻟﻰ اﻟﺰﺑﺎﺋﻦ واﻟﺠﻤﻬﻮر .( ﻣﻦ دﻟﯿﻞ ﺑﻐﺪاد اﻟﻌﻤﯿﻖ ﻧﺤﺪﺛﻜﻢ . ﻣﻦ ﻟﯿﻞ اﻟﻮﯾﻞ واﻟﻤﻮت واﻟﺠﺜﺚ ﻧﺤﺪﺛﻜﻢ . ﺗﻘﻮﻟﻮن .. ﻓﺨﺎر ﯾﻜﺴﺮ ﺑﻌﻀﻪ .. وﻣﻦ ﯾﺘﺰوج أﻣﻨﺎ ﻧﻨﺎدﯾﻪ ﻋﻤﻨﺎ .. ﻻ أﺣﺪ ﯾﺴﺘﻄﯿﻊ أن ﯾﻤﻨﻌﻜﻢ ﻣﻦ أن ﺗﻘﻮﻟﻮا ذﻟﻚ . ﻟﻜﻞ واﺣﺪ رأي وﺗﻘﻮﻟﻮن .. ﻫﺬا رأﯾﻨﺎ ﻻ أﺣﺪ ﯾﺴﺘﻄﯿﻊ أن ﯾﻤﻨﻌﻜﻢ ﻣﻦ أن ﺗﻘﻮﻟﻮا ﻫﺬا رأﯾﻨﺎ . ﻟﻜﻦ إذا اﻟﺘﻔﺘﻢ ﯾﻮﻣﺎ ، ووﺟﺪﺗﻢ أﻧﻔﺴﻜﻢ ﻏﺮﺑﺎء ﻓﻲ ﺑﯿﻮﺗﻜﻢ . .
اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺮاﺑﻊ : إذا ﻋﻀﻜﻢ اﻟﺠﻮع ووﺟﺪﺗﻢ أﻧﻔﺴﻜﻢ ﺑﻼ ﺑﯿﻮت . .
زﻣﺮد : إذا ﺗﺪﺣﺮﺟﺖ اﻟﺮؤوس . واﺳﺘﻘﺒﻠﻜﻢ اﻟﻤﻮت ﻋﻠﻰ ﻋﺘﺒﺔ ﺻﺒﺢ ﻛﺌﯿﺐ .
اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺔ : إذا ﻫﺒﻂ ﻋﻠﯿﻜﻢ ﻟﯿﻞ ﺛﻘﯿﻞ وﻣﻠﺊ ﺑﺎﻟﻮﯾﻞ ﻻ ﺗﻨﺴﻮا أﻧﻜﻢ ﻗﻠﺘﻢ ﯾﻮﻣﺎ . ﻓﺨﺎر ﯾﻜﺴﺮ ﺑﻌﻀﻪ .. وﻣﻦ ﯾﺘﺰوج أﻣﻨﺎ ﻧﻨﺎدﯾﻪ ﻋﻤﻨﺎ ﻣﻦ ﻟﯿﻞ ﺑﻐﺪاد اﻟﻌﻤﯿﻖ ﻧﺤﺪﺛﻜﻢ . ﻣﻦ ﻟﯿﻞ اﻟﻮﯾﻞ واﻟﻤﻮت واﻟﺠﺜﺚ ﻧﺤﺪﺛﻜﻢ .
) ﯾﻨﻬﺾ اﻟﻤﻤﺜﻠﻮن اﻟﻤﻜﺪﺳﻮن ﻋﻠﻰ اﻷرض ، ﺛﻢ ﯾﻨﺴﺤﺐ اﻟﺠﻤﯿﻊ ﺑﻌﺪ ﻟﺤﻈﺎت ﻣﻦ اﻟﺼﻤﺖ.. ( .282
من خلال هذا الحوار المفرد monologue يصوغ سعد الله ونوس أطروحته صياغة القاعدة العامة والحكمة العابرة للسياقات: حريتك في تحمل مسؤولية مواقفك؛ فلا بريء بين الجموع الحاضرة والغائبة أمام السقوط المريع. وهكذا ينتقل ونوس بالحكاية الخرافية من مجال التخييل إلى فضاء التحليل والتأمل والتفكير، لينهض الراوي (الحكواتي) بوظيفته الإيديولوجية إلى جانب وظائفه الأخرى (السردية والتواصلية والتداولية). فهو مركز المسرحية ومحورها، فوّضه المؤلف مهمة الرواية / الحكي، فإذا به يستوي الراوي-الممثل le narracteur يغير مواقع الرؤية فتعدد طرق التبئير؛ إذ يكون المنطلق بالدرجة صفر من التبئير حيث يكون الراوي عليما. ويلوح ذلك جليا في وصف الشخصيات أفرادا ومجموعات وصفا باطنيا يكشف عما يجول بالصدور ويدور بالأذهان. يقول:
...وﻛﺎن اﻟﻌﺼﺮ ﻛﺎﻟﺒﺤﺮ اﻟﻬﺎﺋﺞ ﻻ ﯾﺴﺘﻘﺮ ﻋﻠﻰ وﺿﻊ . واﻟﻨﺎس ﻓﯿﻪ ﯾﺒﺪون وﻛﺄﻧﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﺘﯿﻪ . ﯾﺒﯿﺘﻮن ﻋﻠﻰ ﺣﺎل وﯾﺴﺘﯿﻘﻈﻮن ﻋﻠﻰ ﺣﺎل . ﺗﻌﺒﻮا ﻣﻦ ﻛﺜﺮة ﻣﺎ ﺷﺎﻫﺪوا ﻣﻦ ﺗﻘﻠﺒﺎت ، وﻣﺎ ﺗﻌﺎﻗﺐ ﻋﻠﯿﻬﻢ ﻣﻦ أﺣﺪاث . ﺗﻨﻔﺠﺮ ﻣﻦ ﺣﻮﻟﻬﻢ اﻷوﺿﺎع ﻓﻼ ﯾﻌﺮﻓﻮن ﻟﻤﺎذا اﻧﻔﺠﺮت ﺛﻢ ﺗﻬﺪأ ﺣﯿﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﻓﻼ ﯾﻌﺮﻓﻮن ﻟﻤﺎذا ﻫﺪأت . ﯾﺘﻔﺮﺟﻮن ، ﺛﻢ ﺗﻬﺪأ ﺣﯿﻨﺎ ﻣﻦ اﻟﺰﻣﻦ ﻓﻼ ﯾﻌﺮﻓﻮن ﻟﻤﺎذا ﻫﺪأت . ﯾﺘﻔﺮﺟﻮن ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﯾﺠﺮي ، ﻟﻜﻨﻬﻢ ﻻ ﯾﺘﺪﺧﻠﻮن ﻓﯿﻤﺎ ﯾﺠﺮي . وﻣﻊ اﻷﯾﺎم اﻋﺘﻘﺪوا أﻧﻬﻢ اﻛﺘﺸﻔﻮا ﺳﺮ اﻷﻣﺎن ﻓﻲ ﻣﺜﻞ ﻫﺬا اﻟﺰﻣﺎن ، ﻓﻘﻨﻌﻮا ﺑﻤﺎ اﻛﺘﺸﻔﻮا ، ورﺗﺒﻮا ﺣﯿﺎﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ أﺳﺎس ﻣﺎ اﻋﺘﻘﺪوه أﺳﻠﻢ اﻟﻄﺮق إﻟﻰ اﻷﻣﺎن .196
وفي موطن آخر يصور شخصية جابر: ﯾﺆﻣﻦ أن اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﺮﺗﯿﻦ . وﺳﺮ اﻟﻔﻄﻨﺔ أﻻ ﺗﺤﺘﺎج اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻣﺮﺗﯿﻦ . وإن أﺳﻌﻔﻪ اﻟﺨﯿﺎل ، ﺻﺎرت اﻷﻣﺎﻧﻲ ﺳﻬﻠﺔ اﻟﻤﻨﺎل . ﻣﺎذا ﯾﻌﻨﯿﻪ ﻣﺎ ﯾﺠﺮي ﻓﻲ ﺑﻐﺪاد ﻣﺎ دام ﻫﻮ اﻟﺮاﺑﺢ ﻓﻲ اﻟﺨﺘﺎم ؟ 226
يتعمد الحكواتي في موطن مغاير تبديل هذه الرؤية بتبئير داخلي، فلا يدرك إلا ما تدركه الشخصية. يقول:
وﻟﻢ ﯾﻜﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﯾﻌﺮف ﻣﻦ ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﯾﻤﺴﻜﻪ ﺑﻘﺒﻀﺔ ﻣﻦ ﺣﺪﯾﺪ ، وﯾﺠﺮه وراءه ﻏﯿﺮ ﻋﺎﺑﺊ ﺑﺬﻫﻮﻟﻪ أو ﻗﻠﻘﻠﻪ . وﻣﻦ دﻫﻠﯿﺰ إﻟﻰ دﻫﻠﯿﺰ ، ﺣﺘﻰ وﺻﻞ ﺑﻪ إﻟﻰ ﻏﺮﻓﺔ ﺑﺪت ﻏﺮﯾﺒﺔ ﺗﻤﺘﻠﺊ ﺑﺎﻟﺴﯿﺎط واﻟﺴﻼﺳﻞ واﻟﺒﻠﻄﺎت . وﻛﺎن " ﻟﻬﺐ " ﻧﻔﺴﻪ ﺗﻔﻮح ﻣﻨﻪ راﺋﺤﺔ ﺷﺒﯿﻬﺔ ﺑﺮاﺋﺤﺔ اﻟﻤﻘﺎﺑﺮ . وﻛﻠﻤﺎ ﺳﺮق ﺟﺎﺑﺮ ﻧﻈﺮه إﻟﻰ وﺟﻬﻪ اﻟﻤﻌﺪﻧﻲ ، أو ﺗﻄﻠﻊ ﻓﻲ اﻟﻐﺮﻓﺔ ﺣﻮﻟﻪ ، ﺷﻌﺮ ﻗﻠﺒﻪ ﯾﻐﻮص ﻓﻲ أﻋﻤﺎﻗﻪ . واﻟﺼﻤﺖ ﺛﻘﯿﻞ ﯾﺰﯾﺪ اﻟﻐﻢ ﻏﻤﺎ ، واﻟﺨﻮف ﺧﻮﻓﺎ . وﺣﺎول ﺟﺎﺑﺮ أن ﯾﺒﺪد رﻫﺒﺔ اﻟﺠﻮ ، ﻓﺮاح ﯾﺘﻜﻠﻢ آﻣﻼ أن ﯾﺠﻌﻞ ﻗﺴﻮة ﻣﺮاﻓﻘﺔ ﺗﻠﯿﻦ ، أو ﻟﻌﻠﻪ ﯾﻔﻬﻢ ﻣﺎ ﯾﺤﺪث ﻟﻪ 275-276
بل إنه يستخدم تبئيرا خارجيا ليعلم أقل مما تعلمه شخصياته؛ وذلك جلي في نص الرسالة المخطوطة على رأس جابر، ولا يدركها الراوي – ومن ثمة المتلقي – إلا بعد أن تقصل الرأس فيتسنى للحكواتي قراءة ما سطر على جلدها.
اﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ : ) ﯾﻨﻈﺮ إﻟﻰ اﻟﺮأس وﯾﻘﺮأ ﻣﺎ ﻫﻮ ﻣﺨﻄﻮط ﻋﻠﯿﻪ ( ﯾﻘﻮل وزﯾﺮ ﺑﻐﺪاد ﻓﻲ رﺳﺎﻟﺘﻪ : " ﻣﻦ اﻟﻮزﯾﺮ ﻣﺤﻤﺪ العلقمي إﻟﻰ ﺑﯿﻦ أﯾﺎدي اﻟﻤﻠﻚ ﻣﻨﻜﺘﻢ .. ﻧﻌﻠﻤﻜﻢ أن اﻟﻮﻗﺖ ﺣﺎن , وﻓﺘﺢ ﺑﻐﺪاد ﺻﺎر ﺑﺎﻹﻣﻜﺎن . ﻓﺠﻬﺰوا ﺟﯿﻮﺷﻜﻢ ﺣﺎل وﺻﻮل اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ إﻟﯿﻜﻢ وﻟﯿﻜﻦ ﻫﺠﻮﻣﻜﻢ ﺳﺮا ، وﺗﺤﺖ ﺳﺘﺮ ﻣﻦ اﻟﻜﺘﻤﺎن ﺣﺘﻰ ﺗﺘﻢ اﻟﻤﻔﺎﺟﺄة ﺑﻔﺘﺢ ﺑﻐﺪاد . وإن وﺟﺪﺗﻢ ﻓﻲ اﻟﻄﺮﯾﻖ ﻋﺴﺎﻛﺮ ﺗﻤﺸﻲ إﻟﯿﻨﺎ ، ﻓﺎﻗﻀﻮا ﻋﻠﯿﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ إﻣﺪادت ﻟﻠﺨﻠﯿﻔﺔ . وﻧﺤﻦ ﻫﻨﺎ ﻧﺘﻜﻔﻞ ﺑﺎﻟﻌﻮن وﻓﺘﺢ اﻷﺑﻮاب " ﺛﻢ ﯾﻀﯿﻒ اﻟﻮزﯾﺮ ﺣﺎﺷﯿﺔ ﺻﻐﯿﺮة .. ) وﻛﻲ ﯾﻈﻞ اﻷﻣﺮ ﺳﺮا ﺑﯿﻨﻨﺎ اﻗﺘﻞ ﺣﺎﻣﻞ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻏﯿﺮ إﻃﺎﻟﺔ ( ) ﻟﺤﻈﺔ وﯾﻜﺮراﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ ( وﻛﻲ ﯾﻈﻞ اﻷﻣﺮ ﺳﺮا ﺑﯿﻨﺎ اﻗﺘﻞ ﺣﺎﻣﻞ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻏﯿﺮ إﻃﺎﻟﺔ . .280
لقد خطت هذه الرسالة بيد الوزير وظلت فترة من الزمان في قصره – مدة نمو شعر المملوك جابر-ولكن الحكواتي لا يميط اللثام عنها إلا في النهاية وكأنها طمست في الكتاب بين يديه وانمحت؛ لتستقر على رأس المملوك بوصفها نصا موازيا. إن الحدث العجائبي المتمثل في إلقاء السيّاف لهب رأسَ جابر بين يدي الحكواتي (... يرمي الرأس للحكواتي فيلتقطه ويضعه بين يديه ...280) يجعل المسرحية فضاء تتزاحم فيه النصوص وتتنافذ، فيتحول كتاب العم مؤنس إلى طرس يتشابك على سطحه نص حاضر آخر غائب، نص مرقوم جلي ونص مطموس خفي؛ ليتولد عن هذا التشابك تشويش يربك الدلالة ويفتتها. (إننا أمام ما عبر عنه جاك دريدا بالأثر). لا يمكن لمتلقي هذه المسرحية – قراءة وفرجة – عن هذا التدافع بين النصوص في تدخلات الحكواتي – إذا قصرنا الحديث عليه -فعلى لسانه ترد نصوص جامعة تحدد نوع النص أو شكله (حكاية، سيرة، رسالة، أغنية ...) يقول محدثا عن جابر في طريقه إلى الملك: ﯾﻐﻨﻲ وﻫﻮ ﯾﻘﻄﻊ اﻟﻔﯿﺎﻓﻲ ﻗﺎﺻﺪا ﺑﻼد اﻟﻌﺠﻢ .266، ويوضح في موطن آخر موضع النص وشكله: ﺛﻢ ﯾﻀﯿﻒ اﻟﻮزﯾﺮ ﺣﺎﺷﯿﺔ ﺻﻐﯿﺮة.. ) وﻛﻲ ﯾﻈﻞ اﻷﻣﺮ ﺳﺮا ﺑﯿﻨﻨﺎ اﻗﺘﻞ ﺣﺎﻣﻞ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻏﯿﺮ إﻃﺎﻟﺔ ( ) ﻟﺤﻈﺔ وﯾﻜﺮراﻟﺤﻜﻮاﺗﻲ ( وﻛﻲ ﯾﻈﻞ اﻷﻣﺮ ﺳﺮا ﺑﯿﻨﺎ اﻗﺘﻞ ﺣﺎﻣﻞ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ ﻣﻦ ﻏﯿﺮ إﻃﺎﻟﺔ . .280 هذه الإشارات/ التعريفات تسيج النص وتوجه عملية التلقي. كما ترد نصوص واصفة Meta texte وذلك بيّن في تعليقاته على الحكاية وتعليل سردها دون غيرها الآن وهنا. يقول ردا على اعتراض الزبائن واحتجاجهم: ﻫﺬه اﻟﺤﻜﺎﯾﺎت ﺿﺮوﯾﺔ ... وﯾﻨﺒﻐﻲ أن ﻧﺮوﯾﻬﺎ ...ﻷﻧﻬﺎ ﻓﻲ ﺗﺴﻠﺴﻞ اﻟﻜﺘﺎب ، ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮد إﻟﻰ زﻣﻦ اﻟﺤﻜﺎﯾﺎت اﻟﻤﻔﺮﺣﺔ . ﻟﻜﻞ ﺷﻲء أوان ، وﺳﯿﺮة اﻟﻈﺎﻫﺮ دورﻫﺎ ﺑﻌﺪ ﻗﺼﺺ ﻫﺬا اﻟﺰﻣﺎن ﻻ ﺗﺨﺎﻓﻮا .. ﺳﺘﺄﺗﻲ ﺳﯿﺮة اﻟﻈﺎﻫﺮ ، وﺳﺘﺴﻤﻌﻮﻧﻬﺎ ﺧﻼل ﺳﻬﺮات وﺳﻬﺮات . ﻟﻜﻦ اﻟﻘﺼﺺ ﻣﺮﻫﻮﻧﺔ ﺑﺘﺴﻠﺴﻠﻬﺎ وأواﻧﻬﺎ . ﻟﻜﻞ ﻗﺼﺔ أوان 194-195
يتخذ الحكواتي في هذا الضرب من التعليقات – وهي نظيرة تعليقات الزبائن وآرائهم – موقفا نقديا مما يروي، فهو يدرك أنه يخيب انتظار جمهوره بسرد حكاية "غير مفرحة" ويكشف عن معيار اختياراته القصصية، بما أنه لا يخضع للذوق أو الرغبة أو الهوى وإنما لحركة التاريخ ليومئ بذلك إلى تبدل الغاية من الحكاية؛ إنها لا تروى للتخدير بل من أجل الحفز على التفكير. هكذا تكون حكاية المملوك جابر كما يصوغها الحكواتي نصا متفرعا hypertexte عن الحكاية الواردة في سيرة الظاهر ببيبرس لأنه لا ينسخ الأحداث ولا يلتزم طريقة إنشائها، بل ينتج الحكاية ذاتها بطريقة أخرى مقيما مع نص السيرة علاقة جديدة مغايرة لما عهده المتلقي العادي. نحن إذن أمام شاشة تتدفق عليها نصوص صادرة عن فضاءات مختلفة للذاكرة الأدبية دفعة واحدة. وبعض تلك النصوص – كما ذكر آنفا – تكلم المتلقي القارئ والمشاهد من خلف حجاب؛ فها هو الراوي يتغنى في مقام أول بشخصية جابر "الفذة" ويمجدها: وﻛﺎن ﻋﻨﺪ اﻟﻮزﯾﺮ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﻌﺒﺪﻟﻲ ﻣﻤﻠﻮك ﯾﻘﺎل ﻟﻪ ﺟﺎﺑﺮ . وﻟﺪ ذﻛﻲ .. وذﻛﺎؤه وﻗﺎد .198 ثم يضيف: واﻟﻤﻤﻠﻮك ﺟﺎﺑﺮ ذﻛﻲ وذﻛﺎؤه وﻗﺎد . ﻟﻤﺢ اﻟﻔﺮﺻﺔ ﺗﻮاﺗﻲ ، ﻓﺎﻧﻘﺾ ﻋﻠﯿﻬﺎ ﺑﻼ ﺗﺮاخ . ﯾﺆﻣﻦ أن اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻗﺪ ﻻ ﺗﺄﺗﻲ ﻣﺮﺗﯿﻦ . وﺳﺮ اﻟﻔﻄﻨﺔ أﻻ ﺗﺤﺘﺎج اﻟﻔﺮﺻﺔ ﻣﺮﺗﯿﻦ . وإن أﺳﻌﻔﻪ اﻟﺨﯿﺎل ، ﺻﺎرت اﻷﻣﺎﻧﻲ ﺳﻬﻠﺔ اﻟﻤﻨﺎل . ﻣﺎذا ﯾﻌﻨﯿﻪ ﻣﺎ ﯾﺠﺮي ﻓﻲ ﺑﻐﺪاد ﻣﺎ دام ﻫﻮ اﻟﺮاﺑﺢ ﻓﻲ اﻟﺨﺘﺎم ؟ وﻧﺰل إﻟﻰ أﺑﻮاب اﻟﻤﺪﯾﻨﺔ ﻣﺮات وﻋﺎد ... وأﻋﻤﻞ اﻟﻔﻜﺮ ، وﻧﻘﺐ ﻋﻦ ﺣﯿﻠﺔ أو ﺳﺮ . وﺟﺎﺑﺮ ذﻛﻲ وذﻛﺎؤه وﻗﺎد . إذا أﻛﺪ ذﻫﻨﻪ ﻓﻬﻮ ﻻ رﯾﺐ ﺑﺎﻟﻎ ﻣﺮاده .. وﻟﻢ ﯾﺰل ﻓﻲ ﺗﻔﻜﯿﺮ ﺣﺘﻰ وﺟﺪ اﻟﺘﺪﺑﯿﺮ . ﻋﻨﺪﺋﺬ أﺷﺮق وﺟﻬﻪ ﺑﺎﻟﺴﺮور ، وﻃﻠﺐ ﺑﺎﻟﻌﺠﻞ اﻟﺪﺧﻮل إﻟﻰ اﻟﻮزﯾﺮ ..226-227 فالراوي وهو يجبل الشخصية يحيطها بكل آيات الحسن معتمدا التكرار والسجع والتكثيف في السرد ليجلوه أمام المتفرج نموذجا متفردا يخلب اللب فيخفق له القلب. بيد أنه سرعان ما ينقلب على هذه الصورة مؤكدا غباء جابر فيقول: وﻟﻢ ﯾﻜﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﯾﻌﺮف ﻣﻦ ﻫﻮ ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﯾﻤﺴﻜﻪ ﺑﻘﺒﻀﺔ ﻣﻦ ﺣﺪﯾﺪ ... وﻟﻢ ﯾﻌﺮف ﺟﺎﺑﺮ أن ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻟﺬي ﯾﻨﺎدوﻧﻪ " ﻟﻬﺐ " ﻫﻮ ﺑﺎﻟﺬت ﺳﯿﺎف ﻣﻠﻚ ﺑﻼد اﻟﻌﺠﻢ اﻟﺴﯿﺎﻓﻮن ﯾﺘﺼﻔﻮن داﺋﻤﺎ ﺑﺎﻟﺪﻗﺔ . ﻻ ﯾﻬﻤﻠﻮن ﺷﯿﺌﺎ ، وﻻ ﯾﺤﺒﻮن اﻟﻜﻼم . وﻣﺎ إن أﺻﺒﺤﺖ ﻛﻞ اﻷدوات ﺟﺎﻫﺰة ، ﺣﺘﻰ أﻣﺴﻚ ﻟﻬﺐ ﺑﯿﺪه اﻟﻤﻌﺪﻧﯿﺔ رأس اﻟﻤﻤﻠﻮك ﺟﺎﺑﺮ . وﺿﻌﻪ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﺎﻋﺪة اﻟﻤﻠﻄﺨﺔ ﺑﺎﻟﺪم اﻟﯿﺎﺑﺲ . وﺑﻀﺮﺑﻪ ﻣﻦ ﺑﻠﻄﺘﻪ اﻟﻤﺴﻨﻮﻧﺔ ﻓﺼﻞ رأﺳﻪ ﻋﻦ ﺟﺴﺪه .278 وما كان لجابر أن يصير إلى هذا المصير المشؤوم إلا لأنه "لم يسأل السؤال رغم أن موته كان تحت فروة رأسه /ولم يدر / قطع البراري يحمل قدَره على رأسه / ولم يدر/ كان يحلم بالعودة رجلا حرا / تنتظره زوجة وثروة/ لكن بين الموت وهذه العودة / المسافة سؤال ص.279 هذا النص الشعري يرد على لساف السياف، ليكثف الراوي المفارقة في شخصية جابر، مفارقة درامية تقوم على جهل الشخصية مقابل معرفة الأطراف الأخرى. تتراءى خلف هذا الموقف قصة طرفة بن العبد الشاعر العربي المشهور، (تقول الرواية إن الملك عمرو بن هند حمّله رسالة إلى بعض ولاته وكان طرفة أميا فلم يدر أن في الرسالة أمرا بقتله). وعلى الرغم من الاختلافات بين بطلي القصتين إلا أن الجهل قاسم مشترك بينهما وسبب مباشر في موتهما قتلا. لكنهما ضحية نظام سياسي فاسد تـؤمه الأهواء ويقوده المزاج الشخصي؛ فالبحث عن الخلاص الفردي وإن يعرف نجاحا أحيانا إلا أنه وهم من جملة الأوهام الجاثمة على الألباب.
لعل قضية الجهل المخلوط بالكبر والعناد هو الدافع الأساسي إلى هذا التغريب في مسرحية مغامرة رأس المملوك جابر؛ فالنص مراوغ لا تستقر فيه دلالة إلا ليزيحها نقضيها. والمتعة الفنية لا يحققها الانغماس والذهول عن الواقع، بقدر ما تحققه المعرفة: أي لحظة الكشف عن الحقيقة المتوارية خلف ركام العلامات، صورا ونصوصا وشخصيات. فسعد الله ونوس يحرص على البعد الجمالي حرصه على البعد العلمي الجدلي، ولعله في هذه المسرحية قد حقق معادلة يعسر على البعض تحقيقها: تجلي الجميل في القضية النبيلة؛ فلا تعارض بينهما. إن التسييس والاحتجاج وتنبيه الغافلين لتحريضهم على سلطة سرطانية يزداد رسوخا في الأذهان والوجدان إذا تحولت آلية التغريب / المباعدة إلى موقف جمالي فني؛ والتجريب في الفن المسرحي يزداد أثره غورا إذا أضحى أفقا مفتوحا لأشكال فنية تعالج واقعا في حاجة دائمة لمن يفك شيفراته. هكذا هي مسرحية سعد الله ونوس، استعارة تتحول كل مكوناته إلى مجاز يرسخ في الناس رسوخ الوشم الغائر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى