الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النقد العقلي للأديان في علم الٍِمَلل والنِحَل(4)

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2020 / 5 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


موقف ابن حزم في نقد الاديان (اليهودية)

لم يقف نقد الأديان في الحضارة الإسلامية عند حدود تعريتها اللاهوتية والحكم عليها بمقاييس القبول والرفض. كما تجاوز هذا النقد الحكم عليها بمعايير الوحدانية الإسلامية فقط. وهي عملية كانت تعكس تراكم عناصر التسامح الديني بالقدر المعقول في تراث الواحدية الثقافية الإسلامية. وهو تراكم أخذت معالمه بالبروز فيما يمكن دعوته بالنقد الفلسفي اللاهوتي والدراسة الثقافية للأديان، باعتبارهما تيارين ومستويين في التعامل مع الأديان الأخرى ساهما تدريجيا في وضع الصيغ الأولوية لمنظومة فكرية عن تعايش الأديان ووحدتها. ومن ثم إمكانية تحرير الأديان جميعا من النفسية الجزئية للدين وتحولهم جميعا إلى جزء من الثقافة العامة. ومن الممكن أن نتخذ من ابن حزم نموذجا للتيار الأول ومن الشهرستاني نموذجا للتيار الثاني.
يقدم ابن حزم الظاهري لنا في كتابه (الفصل بين الأهواء والملل والنحل) أحد النماذج الرفيعة للرؤية النقدية والمتفحصة في الموقف من الأديان والنصوص. فهو يقدم لنا فيما ينتقده نموذجا للرؤية اللاهوتية العقلية والأسلوب الفلسفي والعلمي التحليلي. وينطلق في انتقاده لليهودية والنصرانية من تحليل مكوناتهما الفكرية وعقائدهما الأساسية وبراهينهما اللاهوتية والفلسفية من اجل كشف تهافتهما المنطقي وتناقضاتهما العديدة. ومن ثم للتدليل على انه لا قدسية في النصوص التي يستندون إليها.
فعندما يتناول الاتجاهات اليهودية الخمس الأساسية وهي السامرية والصدوقية والعنانية والربانية والعيسوية، فانه يبرز اختلافاتها العديدة. فالسامرية تعتبر نابلس مدينتها المقدسة، ولها توراتها الخاصة. وهي لا تقر بنبوة ما بعد موسى ويوشع بن نون. بينما الصدوقية، التي كانت بجهة اليمن، تؤكد على أن العزير ابن الله. أما العنانية (جماعة عنان الداوودي)، فانها تتمسك بالتوراة وكتب الأنبياء وترفض ما يقوله الأحبار. في حين أن الربانية هي فرقة أحبار اليهود، وهي فرقة جمهور اليهود وعوامهم. أما العيسوية (أصحاب عيسى الأصفهاني) فإنها تقر، مقارنة بالفرق اليهودية الأخرى، بنبوة عيسى ومحمد. ويعتبرون عيسى نبيا من اليهود، أما محمد فنبي لبني إسماعيل والعرب.
ويشير ابن حزم إلى قسمة أخرى لليهود مبنية على أساس من يقر بإمكانية نسخ الشريعة وممن يرفضها. ويعتبر ابن حزم من يرفض فكرة نسخ الشرائع هم اولئك الذين يبنون علمهم وعملهم على التقليد فقط. وذلك لان كل شئ في الوجود عرضة للتغير والتبدل. والشرائع أيضا تخضع للتغير والتبدل. والذين لا يعترفون بنسخ الشريعة المترتب على التغير الطارئ والمتبدل في الوجود، فان التوراة نفسها تحتوي على الكثير منه. فإننا نرى يعقوب يتزوج من لبّا وراحيل ابنتي لابان وهو محرم في شريعة موسى . والتوراة تقول بأنه لا يخدم في بيت المقدس إلا بني لاوي بن يعقوب، بينما يقول اشعيا، ان الفرس يخدمونه أيضا . وفيما لو تتبعنا الحوادث والوقائع، فإننا نراها تؤيد ما نقوله، كما يقول ابن حزم. فعندما دخل المسلمون المقدس كان هناك مختلف الأقوام والشعوب والأديان، بمن فيهم الفرس. ومع أن التوراة وكتب الأنبياء لا تحتوي على فكرة منظومة واضحة المعالم عن النسخ، إلا أن فيها ما هو أشنع من ذلك مثل فكرة البداء، أي الفكرة التي تقول، بان الله يغير رأيه وما قضى به بطلب من الإنسان (النبي). ولم يقف ابن حزم عند إظهار التناقض بصدد الموقف من قضية النسخ عند اليهود، بل وكشف تناقضات التوراة والكتب اليهودية الأخرى. وكتب بهذا الصدد يقول، بان ما يسعى إليه بهذا الصدد هو كشف التناقضات الجلية التي لا مجال للمراوغة النظرية فيها، أي الأشياء التي لا يمكن تأويلها المفتعل. ويستند في ذلك إلى الكتب التي هي واحدة عند كل فرق اليهودية. ويبدأ من فكرة الخلق، التي وجد فيها صيغة مبتذلة وأسطورية لا يهضمها العقل السليم. والشيء نفسه يمكن قوله عن أعمار الناس والأنبياء، التي تبلغ أحيانا عددا من السنين لا يطيقه الحس ولا العقل ولا الواقع. تلك الأعمار التي تتجاوز الأربعمائة والستمائة والألف! وهي أخبار لا يتقبلها سوى ضعفة العقول والعجائز، كما يقول ابن حزم . وكذلك الحال بالنسبة للأخبار المتعلقة بولادة النسل لرجال تجاوزت أعمارهم الثلاثمائة سنة والخمسمائة، كما هو الحال بالنسبة لنوح.
كما تحتوي التوراة على تناقضات عديدة تشكل بمجموعها دليلا على افتقاد من كتبها لأبسط معارف الحساب. أننا نعثر فيها على لسان إبراهيم قوله، بان شعبه سوف يتعرض للاستعباد أربعمائة سنة، بينما يتوصل ابن حزم بعد تدقيقه الأرقام إلى أن عددها حسبما موجود في التوراة هو 239 عاما . كما كشف ابن حزم عن عشرات الأمثلة المريعة لمفارقات واختلاف الأرقام والتواريخ للبرهنة على عدم دقتها وبالتالي على جهل مؤلفيها بقواعد الحساب البسيط. والشيء نفسه يمكن قوله عن "المعطيات الجغرافية" الواردة في خلق الجنة مثل المعلومات المتعلقة بالأنهار الأربعة وهي النيل وجيحون ودجلة والفرات، التي دعاها ابن حزم بالكذب الفاحش، ودليل على أن كاتبها لا يعرف ابسط المعلومات الجغرافية، إضافة إلى تفاهة تصويرها وخلله. ولا سبيل لمعرفة ذلك سوى أن اتباع التوراة من اليهود وغيرهم يأخذون بما فيها على سبيل التقليد الأعمى. وهو حكم بناه ابن حزم ليس فقط على أساس التحليل والدراسة الموضوعة والنقدية لما في التوراة وكتب العهد القديم، بل وعلى أساس احتكاكه المباشر بيهود الأندلس. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه عاشر كثيرا منهم وجادلهم واستمع إلى أحاديثهم "الغاية في الطرافة". وتوصل في نهاية المطاف إلى حكم يقول، بانه على كثرة ما شاهد منهم، ما رأى منهم قط متحريا للصدق إلا رجلين فقط .
ثم ينتقل ابن حزم لمناقشة "المعطيات التاريخية" في التوراة، التي تكشف عن سخافتها أمام الحس والعقل والواقع والتاريخ. والشيء نفسه يمكن قوله عن "معجزات" أنبيائهم. فالتوراة تشير إلى ما يسمى بتحول الماء في مصر إلى دم. وإذا كان الأمر كذلك فكيف عاش البشر يا ترى؟ ثم نعثر فيها على ظاهر لا يقبلها العقل، مثل موت جميع دواب المصريين في حين لم تمت ولا دابة واحدة لليهود! وان عدد المدن تصل إلى أربعمائة مدينة هو أمر لا يعقله المرء في ارض على تفاهة صغرها، بل هي أرقام لا نعرف مثيل لها حتى في أوسع الممالك وأضخمها على مر التاريخ . والشيء نفسه يمكن قوله عن عدد الأولاد الذي يصل في عائلة واحدة إلى عشرات الآلاف في ثلاثة أجيال! حيث وجد ابن حزم فيه نتاجا لخيال مريض يشبه تقززهم من المن والسلوى ومطالبتهم موسى بالقرع والبصل والكراث والثوم. وعلق على ذلك قائلا "انهم يطلبون ما تشبه رائحته في الروائح عقولهم في العقول" .
كل ذلك يشير إلى أن ما في كتبهم هو من وضعهم، وبالتالي لا قدسية فيها. لان كل ما فيها ينفي مصدرها الإلهي ووحيها النبوي. وبغض النظر عن أن ابن حزم يفرق بين التوراة وبين الكتب الأخرى المضافة إليها، فانه مع ذلك يجد فيما ينسب إلى موسى فيها مجرد كلمات سجلت لاحقا ونسبت إليه، كما هو الحال على سبيل المثال في الكلمات القائلة بانه لا "يعرف قبره ادمي إلى اليوم". إذ كيف يمكن لميت أن يتكلم حول موته!؟ أو ما تورده التوراة عن إخبار يوشع بن نون لسليمان بفناء بيت المقدس، بينما عاش يوشع قبل سليمان بمئات السنين. أما تأويل هذه الكلمات فهو مجرد افتعال لا غير، كما يقول ابن حزم .
إلا أن وضع الكتب اليهودية المتأخر ونسبها إلى أنبيائهم ومن ثم "تحريف" اصلها "الإلهي" يتجلى بصورة نموذجية في أكاذيب اليهود على أنبيائهم. إذ يبدو أنبيائهم فيها نموذجا للكذب والخديعة والدجل والمكر والدعارة والسفاهة. فنرى النبي لوط ضحية سكره بحيث يضاجع بناته، ويعقوب يخدع أباه يقوله له انه ابنه البكر عيسو واخذ منه ما أراد وجلس معه يأكل من صيده. وقد دعاها ابن حزم بأربعة كذبات في لحظة واحدة على لسان نبي! وهي كذبات لا يقوم بها رجل عادي حتى تجاه أعدائه، فما بالك من نبي لأبيه! أو ما تحتويه التوراة من صراع بين يعقوب مع الله، الذي بسبه سمي "اسرائيل"، أي مصارع الله. ولا حقيقة في قول من حاول تأويل ذلك انطلاقا من أن المقصود بذلك هو انه صارع الالوهيم (الملك) . أو أن يعاقب يوشع بن نون رجلا وأهله ويحرق مواشيه لسرقة قام بها. إذ لا يمكن لنبي أن يعاقب من لا ذنب له (الأهل والمواشي) .
لكن "الطامة الكبرى" تقوم في إفراط اليهود بالتشبيه والتجسيم، الذي شق لنفسه الطريق لاحقا إلى النصرانية. وقد اعتبر ابن حزم ذلك نتيجة لتغلغل اليهود فيها ودس محرفيهم إليها. فالتوراة هي نموذج للتجسيم والتشبيه بدءا من قولهم، بان الله خلق آدم على مثاله وانه صار "كواحد منا" وانتهاء بمختلف نماذجهما الفجة. كما تشير التوراة إلى رؤية إبراهيم لثلاثة نفر وسجوده لهم ومخاطبتهم بالعبودية. ومع أن النصارى لا تأخذ بها، إلا أن ابن حزم يؤكد على رؤيته بنفسه لذلك في كتبهم، باعتبارها إشارة ورمز إلى التثليث القادم . غير أن النصارى تجعل البنوة لله في شخص واحد أما اليهود ففي كل أولادهم . إذ نعثر في المزامير على كثيرة هائلة من مفاهيم التشبيه والبنوة، كما هو الحال في المزمور الأول "أنت ابني. أنا اليوم ولدتك"، وفي المزمور الثامن والثمانين "داود يدعوني والدا، وأنا جعلته بكر بنيّ"، الذي يقابله في النص النصراني "هو يدعوني أبي أنت، الهي وصخرة فلاحي، أنا أيضا اجعله بكرا أعلى من ملوك الأرض". بل أن النصارى تبدو اكثر "معقولية" في ما يتعلق بالبنوة وأمثالها من التجسيم مقارنة باليهود الذي جعلوا لله أزواجا. وقد وجد ابن حزم في انتشار أفكار التجسيم والتشبيه في اليهودية أحد الأسباب الجوهرية لفاعليتها في النصرانية. وذلك لأنها أخذت بكل التصورات الفجة من اليهودية وأدمجتها في "كتابها المقدس"، كما في قبولها على سبيل المثال الفكرة اليهودية "الله يدهن أبناءه بزيت الفرح" ووضعها في النص النصراني بمزمور "مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج" ونماذجها العديدة في الأناجيل. كما نعثر في التوراة وكتب اليهود الأخرى على تشبيه لله بالحيوانات، كما هو الحال في المزمور السابع والسبعين "الرب قام كالمنتبه من نومه كالجبار الذي يعتريه أثر الخمار كما يقوم الجريش"، الذي يورده النص النصراني بعبارة "فاستيقظ الرب كنائم جبار معبّط من الخمر". واستغرب ابن حزم جرأتهم على تشبيه الله بالسكران وهو اتعس حالا عقلا وجسدا من أي كان! ثم ما الجريش أن لم يكن ثورا من الثيران بقرن في وسط رأسه؟! كما تمتلئ كتب اليهود بالشرك مثل "الله قائم في جمع الله، في وسط الآلهة يقضي" وامثالها.
كل ذلك يبرهن على أن كتب اليهود مشحونة بالتشبيه والتجسيم والشك . ووضع هذه المقدمة في نقده لكتب اليهود الأخرى مثل "نشيد الإنشاد" (شعر الأشعار) المنسوب إلى سليمان كذبا كما يقول ابن حزم. إذ ليس "شعر الأشعار" هذا سوى "هوس الاهواس"، لانه كلام "أحمق لا يعقل ولا يدري أحد منهم مراده". فهو مرة يتغزل بذكر ومرة بأنثى ومرة يأتي منه بلغم ومرة كالمصدوع" . وعلق على مناقشة جرت بينه وبين بعض اليهود الذين قالوا بان "شعر الأشعار" هي رمز على الكيمياء قائلا "وهذا وسواس آخر ظريف! واعتبر "قلب الكلام حسب ما يشتهي المر بلا برهان لا يمكن قبوله". وهو استنتاج وموقف طبقه على الكتب الأخرى لليهود مثل (الأمثال) و(الجوامع) و(اشعيا) وغيرها. واستنتج في نهاية المطاف من خلال استعراضه لما اسماه بأكاذيب ومضحكات الكتب "المقدسة" على أنها كتب "محرفة". ولم يجد في ذلك تعارضا مع التصورات الإسلامية عنها، لكن إقراره بها جاء من زاوية تناول القرآن لها. أي أن الحق فيها ما أورده القرآن عنها، كما أن الحق ما قاله القرآن عنها من حيث تحريف اليهود لها .
كما تتبع ابن حزم إيمان العوام من اليهود والمتداول بينهم باعتباره الصيغة المباشرة لما في كتب اليهود أنفسهم. ولم يعر اهتماما كبيرا للجدل معها بقدر ما انه حاول عرض ما اسماه بالخرافات والمضحكات المنافية للعقل، مثل زعمهم بان لحية فرعون كان طولها سبعمائة ذراع. وعلق على ذلك قائلا "وهذه والله مضحكة تسلي الثكالى وترد الأحزان". وكتب عما ورد "في بعض كتاباتهم" عن كيفية اغتصاب بن احمور لابنة يعقوب والزنا بها ثم حملها وولادتها الفرخة التي حملها عقاب إلى مصر ووضعها في حجر يوسف فرباها وتزوجها "وهذه تشبه الخرافات التي يتحدث بها النساء بالليل إذا غزلن" . أما مائدة سليمان السنوية التي يضعون عليها 1500 ثور و36 ألف شاة عدا الإبل والصيد فهو أمر تضيق به "نفقات بني اسرائيل"، كما يقول ابن حزم. أما مائدته الذهبية التي كان يضع عليها ثلاثمائة طبق، وعلى كل طبق ثلاثمائة كأس فليس اكثر من حماقة وخرافة، متأتية عن جهلهم بمعرفة الموازين والأثقال وخواص المواد. لأنه أمر لا تسعه مساحة قصر سليمان ولا تحمل أثقالها. وكتب بهذا الصدد يقول، بأننا نقبل بالمعجزات "لكن ما كان داخل تحت الممكن في بنية العالم" . أما التلمود فهو ديوان الخرافة التي لا يقبلها كل ذي عقل سليم، كما يقول ابن حزم .(يتبع...)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. WSJ: لاتوجد مفاوضات بين حماس وإسرائيل في قطر حاليا بسبب غياب


.. إسرائيل تطلب أسلحة مخصصة للحروب البرية وسط حديث عن اقتراب عم




.. مصادر أميركية: هدف الهجوم الإسرائيلي على إيران كان قاعدة عسك


.. الاعتماد على تقنية الذكاء الاصطناعي لبث المنافسات الرياضية




.. قصف إسرائيلي يستهدف منزلا في مخيم البريج وسط قطاع غزة