الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وأغلقَتِ الخطّ!

ضيا اسكندر

2020 / 5 / 17
كتابات ساخرة


ككلّ عاشقٍ ولهان، جاء إلى الموعد قبل أن يحين بساعة كاملة. ولبث منتظراً بلهفة يتفنّن بتخيّل سيناريوهات متعدّدة للقائه المرتقب الأول مع حبيبته، التي وافقت أخيراً على اللقاء بعد طول عناء. حتى أنه نفّذ عدّة بروفات في كيفية استقبالها؛ تخيّل كيف ستقرع الباب وكيف سيفتح ذراعيه مهلّلاً، كيف سينحني لحظة وصولها مقبّلاً يديها ثمّ خدّيها، وقد اختار أجمل ما احتوته قواميس الترحاب من عبارات. كيف سيمسك يدها ويسير الهوينى باتجاه غرفة الجلوس، وهو يسألها فيما إذا عانت بمعرفة العنوان.. سيشعرها بأنهما يعرفان بعضهما منذ زمنٍ طويل.
لا شك أن لقب (حبيبة) سابق لأوانه، فهو لم يلتقِ بها إلا على "الفيسبوك" بواسطة (الدردشة). ولكن من يدري، فقد تتحول إلى حبيبة.
أشعل سيجارة وبدأ يتفقّد المكان، كل شيء على ما يرام؛ ها هي الشمعة منتصبة ممشوقة القوام جاهزة للاشتعال. وها هما كأسا النبيذ على الطاولة يبتسمان إلى زجاجة (أنكيدو) الفاخرة بانتظار أن يمتلآ ليُضْفِيا بهجةً على الحبيبين الرومانسيين.
الصبية جميلة كما تبدو من خلال ألبوم صورها على موقعها في "الفيسبوك". يكفي في اللقاء الأول أن يؤكد لها إعجابه الشديد بها، وأمنياته في علاقة هي تحدّد ماهيّتها وآفاقها. فقد استفاد من تجربة سابقة عندما تواعد مع صبية في ذات المكان، وكيف كان سلوكه الاقتحامي الهمجي في اقتطاف قبلة سبباً في نفورها وابتعادها عنه. «لا، لن أقترف ذات الخطيئة مرتين» قال في سرّه وبدأ يتفقّد صحن الفواكه؛ الموز، البرتقال، التفاح.. «يا سلام، سأضيّفها تفاحة في بداية الجلسة وأذكّرها بأسطورة آدم وحوّاء. ثم سأنتقل بالحديث إلى ثنائية الوجود وتاريخ الإنسان وتكاثره بفضل الجنس.. ثم..» يلتفت مجدّداً إلى عقارب الساعة، ياه! غير معقول فقط ربع ساعة مضى! كاد أن ينهض إلى الساعة الحائطية ويقدّم عقاربها باتجاه توقيت الموعد.
صحيح أنهما غير متوافقين على الكثير من المسائل والقضايا، ولكن من يدري، فقد يتّفقا على الاستمتاع بالجنس مثلاً. وفي نهاية المطاف فإن كل علاقة بين شاب وصبية هدفها الأخير هو الإشباع الجنسي. لهذا فقد وضع في جيب سترته حبة (فياغرا) تحسّباً، فقد يضطر لاستخدامها.
وتعمّد أن يتريّث بحلاقة ذقنه إلى ما قبل اللقاء بساعة ونصف، ليبقى وجهه ناعماً طرياً، فقد يحصل ما يبتغيه، من يدري، وقد يتطوّر الأمر لأكثر من ذلك.
عندما نظر إلى عقارب الساعة مجدّداً أصابه الكمد، «هل يعقل أنه لم يمضِ على وجودي هنا سوى ثلث ساعة؟! ليتني حدّدتُ الموعد قبل التوقيت الذي اتفقنا عليه» قال في سرّه. ولكن سرعان ما واسى نفسه قائلاً: «ولكن أيضاً كنت سأصل قبل الموعد بساعة».
«ترى هل كل العشاق المنتظرين يعانون من تسرّع في نبضات القلب؟ يا إلهي! يكاد قلبي يقفز من صدري!» قالها وهو يفكّر بطريقة لإطفاء لهيب الانتظار، وبدأ يعدّ أرقاماً لمواكبة تقدّم الوقت. لكنه سرعان ما تأفّف، فالحالة لم تعجبه أبداً.
تناول جريدة ملقاة على الطاولة وحاول قراءة أحد المقالات، وصل إلى منتصفه ولم يفهم كلمة واحدة مما قرأه، فهو مشوّش الذهن تماماً. ألقى الجريدة جانباً وأشعل سيجارة.
أحسّ بإسهالٍ شديد يمزّق أمعاءه، هرع إلى الحمام للحظات وعاد وقد ازداد وجيب قلبه. «هل هو القلق من احتمال عدم مجيئها هو السبب فيما أصابه؟» تساءل بحيرة.
تشاغل بقصّ أظافره، وفجأةً تذكّر أنّ بوسعه التحمّم للمرة الثانية قُبَيل مجيئها. هرع إلى الحمّام وخلع ثيابه بسرعة وشرع باستخدام نوع جيد من الشامبو اشتراه خصيصاً لهذه المناسبة. فهو ومن خلال تجربته الشخصية بالإضافة إلى تأثّره بالدعايات والإعلانات التلفزيونية، بات على قناعة بأن الانطباع الأول لأيّ لقاء، يدوم طويلا..
غسل قدميه بخلّ التفاح لإزالة ما تبقّى من الروائح التي يعاني منها، وارتدى جوارب جديدة. من يدري، ربما يضطر إلى خلعها بحضور حبيبته الجديدة.
رشّ عطراً على مختلف أنحاء جسمه. ونظّف أسنانه مرتين؛ مرة بالمبيّض ومرة أخرى بمعجون معطر. وإمعاناً بمزيد من الرائحة الجذّابة فقد استخدم علكة "كلوريكس" بنكهة النعناع. وتفقّد مراراً رائحة فمه. وكان منذ الصباح وبعد أن تيقّن من أن محبوبته ستوافق على اللقاء، امتنع عن تناول البصل الشهيّ مع الفتّة التي يعبدها إكراماً للّقاء العتيد.
تفقّد مجدّداً غرفة نومه، ووضع علبة المحارم إلى جانب الوسادة على السرير.
عندما اقترب الموعد لم يعد بإمكانه الجلوس، وبدأ يذرع أرض الغرفة جيئةً وذهابا.. وأشعل سيجارة جديدة وبدأ يمجّها بشراهة وهو يراقب من النافذة الطريق المؤدّي إلى شقته التي استأجرها منذ عامين بغرض التفرّغ للكتابة بعيداً عن الضوضاء والصخب في بيت أهله الكائن وسط المدينة. فهو يعمل محرراً صحفياً في إحدى الجرائد الهامة في العاصمة، ويحتاج إلى الهدوء والسكينة في عمله.
المطر يهطل بغزارة في الخارج، وقد تتذرّع به الآنسة في تأجيل الموعد. فكّر بإرسال رسالة من (لابتوبه) بواسطة الماسنجر. ليؤكد لها بأنه وبرغم المطر الغزير، فقد وصل إلى المكان المتفق عليه وهو بانتظارها. فكتب لها: «حبيبتي، أهديك كل قطرات المطر التي بلّلتني حتى وصلتُ إلى موعدنا».
لحظات وتصله رسالة منها تقول فيها: «ما رأيك أن نؤجّل موعدنا، فأنا لا أحبّ المطر..».
سارع إلى الردّ: «حبيبتي، المطر يزيّن لقاءنا.. أرجوكِ تعالي! وإن كنتِ تقدرين قبل الموعد فيا حبّذا..».
ردّت عليه: «لا تفرض ما تحبّه على الآخرين.. هذا اسمه استبداد».
تذكّر خلافاتهما السياسية من خلال الدردشات والتعليقات فكتب لها: «ألم نتفق أن تخلو حواراتنا من الألفاظ السياسية؟».
استحضرت هي الأخرى حدّة التناقضات الفكرية والسياسية التي كانت تنشب بينهما فردّت: «آسفة، لكنني لم أجد كلمة مناسبة في قاموسي أنسب منها».
فكّر كيف يمكن أن يستميلها ويُنسيها خلافاتهما ويحثّها على المجيء فكتب مجاملاً:
«أتخيّلك وأنت قادمة وقد علق على شعرك الجميل ووجهك الوضّاء بعضٌ من قطرات المطر.. ياااااه! ستزدادين جمالاً صدّقيني».
ردّت عليه: «قلت لك لا أطيق المطر، أرجوك أن تكفّ عن الإلحاح».
شعر بنبرة غضب في رسالتها، فاستسلم راضخاً لمشيئتها وأراد أن ينتزع منها موعداً لاحقاً، فكّر أن يتظارف معها فكتب مازحاً:
«سأتواطأ مع مذيع النشرة الجوية في المرة القادمة وأقدّم له رشوة محرزة ليعدّل النشرة بما يتفق ومزاجك في موعدنا اللاحق».
ردّت عليه: «أنتم الصحفيون شاطرون بالابتزاز، وبالصيد في الماء العكر، وباتّباع كل السبل التي تحقّق لكم مصالحكم..».
أحسّ بالمرارة والاستياء بسبب مشاكستها الفظّة، لكنه كظم غيظه، وحاول أن يبدو سعيداً، فكتب مشجّعاً لها بالقدوم:
«صدّقيني أنك لن تندمي على المجيء في هذا اليوم الشتائي، تعالي لنشرب نخب قرب انتهاء الأزمة السورية».
ردّت عليه: «إنك تثبت لي بإصرارك بأنك نقّاق من الدرجة الأولى..».
شعر بالإهانة، بدفقات من اليأس تجتاح كيانه، فكلماتها قاسية، جارحة، تخلو تماماً من أية مجاملة، وكالمصفوع غدراً أحسّ بضرورة الردّ الصاع صاعين ليعيد شيئاً من كرامته التي تهدر في كل رسالة تصله منها فكتب: «كنت أتوقّع منك غلاظة اللسان، وجلافة الحوار، وسوء الطباع.. ولكن ليس إلى هذا الحدّ!».
ومع كل رسالة تصله، كان استياؤه يزداد، جارفاً كل إعجاب يكنّه لها من خلال دردشاتهما الكثيرة السابقة..
رنّ هاتفه الخلوي، وقالت له: «لم يعد بمقدوري مجاراتك بالكتابة.. يبدو أننا غير مناسبين لبعضنا.. أنصحك بالسفر إلى الهند، فهناك العشاق يمشون ويغنّون ويضحكون ويمرحون.. تحت المطر. وإذا كنتَ تستثقل السفر بعيداً، ها هي شوادر القرباط قريبة، وهم أيضاً يحبّون المطر ويمارسون كافة طقوسهم وفي مختلف الظروف المناخية.. عليك بهم».
أحسّ من نبرة صوتها أنها جادّة فيما تقول، وأنه خسرها تماماً، وأن كل تحضيراته للقائها باتت بلا جدوى.. خالجه شعور بالخيبة والمرارة والمشاكسة. هرب الدم من وجهه، ونشف ريقه سريعاً، وشعر بثقل في تحريك لسانه لينطق بالعبارات. وبعد جهدٍ مضنٍ تمكّن من القول وهو يرطن بغضب ويأسٍ واضحين:
«ولك انشا الله بتاخدك "داعش" سبيّة، وبتبيعك بسوق النسوان بأبخس الأثمان..».
أجابته بغضبٍ أشدّ: «داعش تاخدك انت وكلّ عيلتك.. يلعن أبوك لأبو الفيسبوك اللي عرّفني عليك..».
وأغلقت الخط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - الناقد الفني طارق الشناوي يحلل مسلسلات ونجوم رمضان


.. كل يوم - طارق الشناوي: أحمد مكي من أكثر الممثلين ثقافة ونجاح




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي لـ خالد أبو بكر: مسلسل إمبراطور


.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي: أحمد العوضي كان داخل تحدي وأثب




.. كل يوم - الناقد طارق الشناوي : جودر مسلسل عجبني جدًا وكنت بق