الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أساتذة الوهم .. وبنيتها القائمة على التناقض

صباح هرمز الشاني

2020 / 5 / 17
الادب والفن


كما في روايتيه (تل المطران) و(بابا سارتر)، كذلك في هذه الرواية يعول السارد الضمني، بدلا عن مؤلفها علي بدر على الوثيقة، في سعي منه لإقناع المتلقي بحقيقة وقوع أحداثها، وذلك من خلال إستلامه رسالة من شقيقة صديقه منير الذي أستشهد في الحرب العراقية الإيرانية، وتدعى (ليلى)، تطلب منه فيها:(( أن يكتب عن الشعراء الذين ماتوا أو قتلوا في الحرب الإيرانية العراقية ولم ينشروا شيئا عن شعرهم، لتصنع في أطروحتها التي تكتبها في روسيا مقاربة بينهم وبين الشعراء الروس الذين عاشوا فترة الحرب العالمية الثانية – أو الذين قتلوا خلالها – أو الذين أستمروا في العيش تحت عقاب سنوات ما بعد الحرب. وقد حددت بالأخص الكتابة عن حياة (عيسى) الذي أعدم في العام 1987))، حيث تدور أحداث هذه الرواية، بين ثلاثة أصدقاء جنود شعراء هم: السارد ومنير وعيسى. يستشهد الثاني على أرض المعركة، ويعدم الثالث لفراره من الخدمة، ويبقى السارد فقط على قيد الحياة.
ومن المنطلق نفسه، لا يكتفي السارد بتوظيف تقنية الرسالة بوصفها وثيقة فحسب، وإنما مثل ما أستخدم في روايتيه السالفتي الذكر وصف الأماكن المعروفة في بغداد، بإعتبارها وثيقة، فقد أنتهج الأسلوب نفسه في هذه الرواية أيضا، كالمقاهي والمكتبات، في كونها نقاط دالة لقضاء الأصدقاء الثلاثة أوقاتهم فيها، ناعتا: مكان وقوفه مع صديقيه قبالة (مقهى) صغير يتفرع من شارع أبو نؤاس في المرة الأولى، ليقود الثلاثة زقاقا صغيرا الى شارع السعدون، حيث يتوقفون عند (مكتبة) صغيرة تبيع بعض الكتب الأجنبية قرب سينما سميراميس في المرة الثانية، و(دكان للشاي) الواقع في حي الصليب في البتاوين، الشارع الذي يقود الى تمثال السعدون في المرة الثالثة. وفي المرة الرابعة يقفون أمام (مكتبة مكنزي) في شارع الرشيد. والخامسة يجلسون في (المقهى البرازيلي)، والسادسة قاطعين طريق ساحة النصر، متجاوزين صفا من الأشجار، محاذية لشركة برنستون الأمريكية).
وإذا كانت الوثيقة التي أستخدمها السارد في (تل المطران)، تتمثل بأسم المدينة غير الموجود في سهل نينوى، إلآ في حدود مخيلة السارد، بهدف قيادة المتلقي بإتجاه تخيل وقوع أحداث الرواية في واحدة من بين ثلاث مدن يقطنها السريان، فقد أعتمد في بابا سارتر على جمع المعلومات من خلال اللقاء بالذين عاشروا عبدالرحمن، ونعت الأماكن التي تتحرك عليها الشخصيات بدقة متناهية، كمكان وقوع بقالة الاثوري القريب من مبنى البريد في بارك السعدون، وملهى جريف قرب صالة سينما روكسي، ووصف الأولى لسوق المدينة السريانية التي يقصدها السارد، والأزقات التي يمر بها، والفندق الذي يقيم فيه، بطريقة تنم على أن هذه الأماكن في الروايات الثلاث، ليست غريبة عن المسرود له، أو أنه سبق وأن شاهدها ومر بها، كما شاهدها ومر بها السارد.
جاء في نهاية رواية (بابا سارتر) على لسان إسماعيل حدوب: (لم يعد سارتر مفيدا للثقافة العربية، العبث والغثيان لم يستطيعا حل مشاكلنا، علينا ان نتبع خطة جديدة، البنيوية هي التي ستحل مشاكلنا، فأريد كتابة مؤلف يقوم بهذا الشيء. . ). إن هذه الجملة كما هو واضح هي إشارة الى خلق بنيوي على غرار عبدالرحمن الوجودي، بالتعويل على كتاب ميشيل فوكو الذي تناول فيه تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، فاضحا فيه الثقافة الغربية، وذلك عبر تأليف كتابا مناظرا له، يفضح الثقافة العربية. ما يعني أن هذه الرواية ماهي إلآ إمتداد لرواية بابا سارتر، أو الجزء المتمم لها، وإن أختلفت أسماء الشخصيات وأحداثها، وكان علي بدر صادقا مع المتلقي، عندما وعده على لسان شخصيات رواياته بابا سارتر في نهايتها، بأنه سيكتب كتابا عن تأريخ الجنون في العصر الإسلامي، ليدشن إياه في روايته الموسومة (أساتذة الوهم) التي تتصدى لجيل الثمانينيات من القرن الماضي، أبان الحرب العراقية - الإيرانية. بينما تتصدى بابا سارتر لجيل نهاية الخمسينيات والستينيات.
مثلما تبدأ هذه الرواية بأجواء كئيبة من خلال وقوف الأصدقاء الثلاثة قبالة، مقهى صغير في زقاق قاتم وأرضيته قذرة، والحزن يخيم على وجه عيسى المتعب المهزوم، وتردده مع إنهمار قطرات المطر، تنتهي كذلك بالأجواء نفسها، عبر إستلام السارد جثة (منير): (وقد لف التابوت بالعلم العراقي، لأخذه الى أهله، حيث شقيقته ليلى وحدها التي أصبحت في قلب المشهد، كان صوتها يشق المنزل والسقوف والجدران ويخترقها مثل كومة من الحطام، كان يصل الى السماء، وما أن يتلاشى في صعوده حتى يتبعه صراخ وبكاء وعويل كل الحاضرين. . ). وهذا الإقتران بين بداية الرواية ونهايتها، إن دل على شيء فإنما يدل على أن الموت يسود الجو العام للرواية، ولعل قول السارد: ( في الواقع كانت فكرة الموت تحاصرنا جميعا. . )، تأكيد على ذلك، وما يضاعف من سيادة الموت على الجو العام للرواية، ورود مفردة الموت في الصفحة (255) لوحدها، سبع مرات، وفي الصفحة (256) ست مرات، وفي الصفحة (46) مرتين، والصفحة (47) سبع مرات، والصفحة (48) ست مرات، والصفحة (49) أربعا. أي أكثر من أثنتي وثلاثين مرة، ما عدا المفردات التي فاتتني ولم أهتد اليها.
كما أن إعتقاد جماعة الدكتور إبراهيم الأدبية التي ينتمي منير اليها، بعكس الجماعة الأدبية الثانية التي ينتمي اليها عيسى، أنها:( من برج الحرب، موضوعاتها الأساسية من الموت، أو أنها ستتفادى الموت عن طريق الكتابة عن الموت)، يعزز هذا الإعتقاد، إعتقاد سطوة هذه النزعة على الرواية. فضلا عن منزل الدكتور إبراهيم الذي: ( يحيط به الغموض، بحديقته الكبيرة ووحشية نباتاتها التي تنتهي بأشجار ضخمة تبعث رعبا في النفس)، وكون منزله: ( مسكونا بروح شقيقه الذي توفي في سن السابعة من عمره، أي قبل ولادة الدكتور إبراهيم بعامين، وكان أسمه إبراهيم أيضا.).
تقوم بنية هذه الرواية على التناقض القائم بين الموت الذي يهدد حياة شخصياتها، بسبب دعوة مواليدهم للخدمة العسكرية، وإندلاع الحرب، وبين منحاهم الأدبي الغريب الذي لا ينسجم مع إمكاناتهم، وواقع مجتمعهم المتخلف، لما يدعو الى السخرية والتهكم. ولكن دون أن تبلغ هذه السخرية والتهكم حدهما غير المعقول، كما بلغتا في بابا سارتر، تحديدا في شخصية (عبدالرحمن)، وربما جاء ذلك بفعل سخط المواطن العراقي على الحرب، لتنقلب هذه السخرية والتهكم الى التعاطف معها.
أقول أن بنيتها تقوم على التناقض القائم بين الموت الذي يهدد حياة شخصياتها، ومنحاهم الأدبي الغريب، إنطلاقا من إعتكاز البنيوية على الإنفتاح والتمرد والحرية، شأنها شأن الوجودية، منطبقا هذا المنحى على شخصية (عيسى)، من خلال هروبه من الخدمة العسكرية، وسعيه الفرار الى بلاد أخرى، دون الشخصيات الأخرى الواقعة تحت تأثير فكر الدكتور إبراهيم وديوانه الموسوم (أناشيد)، كمنير وأردال وسعيد الذين أختاروا الموت بملء إرادتهم، لقناعتهم أنهم: ( يكتبون عن الموت، ليتفادوا الموت، أي تصبح الكتابة نوعا من التعزيم، نوعا من الرقية والسحر). أو كما يقول الدكتور إبراهيم: (ليس هناك من مطلق للجمال إلآ في الموت). ولعل هذا الإختلاف بين منحى الدكتور إبراهيم ومنحى عيسى، لإنسجام منحى الثاني مع البنيوية، قياسا بالمنحى الأول، فقد ظلت شخصية عيسى هي محور الرواية، وشخصية منير ثانوية بالرغم من إنتهاء الرواية بها.
وتأسيسا لهذا الإختلاف بين شخصيتي منير وعيسى، أو بالرغم من الإختلاف القائم بين شخصيتيهما، إلآ أنهما يشتركان معا بإمتدادهما لشخصية عبدالرحمن في بابا سارتر الذي مثلما كان غير قادر أن يكتب بالفرنسية، كذلك لم يكن قادرا على الكتابة بالعربية، أي كانت ثقافته شفاهية، وذلك من حيث أن منير لا يعرف كلمة واحدة من اللغة الروسية التي يترجم منها قصائد مايكوفسكي ويسنين الى اللغة العربية، بينما أن مايقوم به في الحقيقة، ليست عملية ترجمة، بقدر ماهي عملية تأليف لقصائد أرتجالية. أما عيسى يقرأ بالفرنسية والألمانية والأنكليزية، ولكنه لا يستطيع لفظ كلمة واحدة مما يقرأ. إن شخصية عيسى لا تلتقي مع شخصية عبدالرحمن في هذا الجانب فقط، وإنما تمتد لتلتقي في جوانب أخرى أيضا. إذ مثلما أنجذب عبدالرحمن لجرمين، كونها مواطنة سارتر التي تشبه أصبع البازلاء، كذلك كان يريد عيسى أن يصنع له حياة تشبه حياة الأدباء الأجانب الذين قرأ لهم. كما أنه مثل عبدالرحمن غادر أهله وأستأجر شقة في شارع الرشيد يعيش بها وحده، وكان يتصور نفسه رجلا عظيما، بيد أن للسارد رأي آخر فيه ويقول: (ولكنه مع الأسف لم يكن سوى شخص تافه لطيف وطيب وكل ما يقوله عن نفسه كان تلفيقا لا أكثر). ومع هذا كان عيسى أصدق واحد فيهم: ( ذلك لأنه الوحيد الذي عاش كما رغب، رغما عن كل عوائق حياته. . ).
ولأنه مثل عبدالرحمن، ينسب بأمور لم يفعلها الى نفسه، جعله يعتقد أنه كشاعر لا يقل شأنا عن الشعراء الأجانب الذين قرأ لهم، لذلك راح يقارن نفسه بهم وليس بالشعراء العراقيين. ولكن إن ما يمنعه أن يكون شاعرا عالميا هو عيشه في بغداد، وسيرة حياته التي لا تتطابق مع سيرة حياة الشعراء العالميين، ذلك لأنه عاش في كنف عائلة فقيرة: ( أبنا لسكير ولأم تبيع على البسطة).
لا شك أن تحجج عيسى بعيشه في بغداد تارة، وبأبويه الفقيرين تارة أخرى، ليقفا حائلا في طريقه لئلا يصبح شاعرا عالميا، ما هو إلآ تهكم وسخرية موجهين الى جيل الثمانيني الذي فقدت لديه روح الإبداع، بالرغم من توافر كل مستلزمات الإبداع في المحيط الذي يعيش فيه، أو كما لو كان هذا الجيل قد فقد عينيه ولم يعد يرى ما يدور حوله. وإذا كان عيسى نموذجا لهذا الجيل، ويعد نفسه بمستوى شعراء الغرب، فإن أول ما ينبغي أن تلتقط عيناه وتثير هواجسه الحرب الذي تمرد هو عليها، وتخطف منه صديقيه السارد ومنير، أثناء إنتهاء إجازتهما وإلتحاقهما بأرض المعركة، وإذا كان قد فاته أن يلتقط هذين الحدثين الكبيرين، فكيف فاته أن يرسم في قصائده صورة غرفته القذرة؟! :(يا عيسى هنا عمارات كثيرة. . ما فرقها عن أوروبا؟ وأصرخ: المنزل الذي تقطنه من طبقة واحدة أو طبقتين لا يهم. . هنا ايضا حدائق لا تغيب عن الأزهار، هنا أشجار الليمون ونخل وجهنمية وعشب وشرفات تتسلقها أزهار العسل واللبلاب، وأمام الباب أراجيح هزازة، تجلس عليها الصبايا بأنتظار حلول الليل، وهن يثرثرن عن شباب المحلة هذا وذاك، ويغرين الشباب وهن يستنشقن أريج الياسمين.).
في الصفحة (105)، لأول مرة ترد في الرواية جملة (كأنه يمثل دور النبي في فيلم أمريكي)، وسبقتها جملة: (وصوته الغريب كأنه قادم من مغارة عميقة). إن هاتين الجملتين، ومن خلال مفردتين تردان فيهما، وهما مفردة (النبي) ومفردة (مغارة)، يوحيان الى التمهيد لإقتران حياة عيسى الشاعر بحياة عيسى النبي، وذلك باللجوء الى طريقة الإستعارة، وفي سعي من السارد تأويل شخصية عيسى الشاعر في شخصية النبي عيسى، عبر الجملتين اللتين تليان الجملتين الأولين، وهما جملة: (فكثيرا ما كان عيسى يطلق جملا غريبة وتصريحات غير مألوفة) وهذا هو شأن كل الأنبياء. وجملة: ( فصوته الجهوري الفصيح القادم من الطاولة القريبة من باب المقهى، تجذب الناس. . ). أي تناصره وتؤيد الفكر والرأي الجديدين اللذين يطرحهما.
إن شخصية عيسى بتمردها والتي تتسم بالتردد والقلق وحتى التشكيك، لا تتشابه مع شخصية النبي عيسى فقط، وإنما مع شخصية هاملت أيضا، وفي هذا الجانب من شخصيته، يظهر التناقض مرة أخرى، ذلك أن شخصية النبي عيسى تميل الى السلم، بينما شخصية هاملت بالعكس تميل الى القتل، قتل عمه، ليلتقي مع عيسى الشاعر في قتل أبيه، من خلال محو أسمه عن هويته، حالما أنه جاء الى الحياة بدون أب، شأن سيدنا عيسى.
إن ما يؤكد تشابه شخصية عيسى مع شخصية هاملت، هو في هاتين الجملتين:
1-:( إنه المتردد أبدا، القلق دوما وفي كل ما يفعله، لا يتخذ قراراته بسرعة أبدا. . . ).
2- :(مرة ألتقيناه صدفة، منير وأنا في حفل موسيقي. . قال أنه مراقب. . بعد دقائق غير مكانه، ثم جلس في الخلف، ثم عاد وجلس بالقرب منا، وفي جلسته بدا متضايقا وهو يتلفت يمينا وشمالا طوال الوقت.).
تأتي مفردتا (إله) و(آلهة) في الصفحتين 121، و123، أربع مرات، بينما تأتي مفردة (النبي) في الصفحة 128، خمس مرات، تمهيدا لتصحيح سيرة عيسى والإرتقاء بها الى مصاف الرجال العظماء، إن لم يكن الى مصاف الأنبياء، ظنا منه :(أن من يريد أن يصنع تأريخا لا بد أن تكون له سيرة عظيمة.). ولبلوغ هذا الهدف يعمد السارد الى مقارنته بالإله، وعلى هذا النحو: ( كان واقفا كما لو كان الإنسان الوحيد على الأرض، إله مفرد، إله سعيد!. . ). ثم يتسائل:( ألم يكن في قصائده إله اللغة الذي سيصرع الرجال الذين يقاتلون من أجل الأفكار؟). وتبدأ مفردة النبي بالتكرار كلما تقدمنا في قراءة الرواية، مرة في كون الشاعر نبيا، ومرة ثانية أن الشاعر الذي يقف بأسمه الأول مثل نبي، ومرة ثالثة أن الشاعر بلا أب ولا هم يحزنون، ومرة رابعة وصول عيسى حد أسم العلم الذي يعرف به الشاعر، ومن قبل كان يعرف به النبي.
إن أبرز أحداث الرواية التي تجعل شخصية عيسى الشاعر نظيرا لحياة النبي عيسى، هو خروجه بعد إعدامه من قبره، كما خرج سيدنا المسيح من قبره بعد ثلاثة أيام من دفنه، وصعد الى السماء. ذلك: ( لإشاعة تلك الأعوام في بغداد آلاف الحكايات من هذا النوع، إنه زمن الحرب، يظهر فيه الموتى فيه للأحياء، ويظهر الأحياء كآلهة مهزومة. . ). إلآ أن تصوره، قد جاء الى الحياة عبر إستمناء أمه الروحاني، يجعله أنه هو بعينه سيدنا المسيح بما لا يقبل الشك، وأبن مريم العذراء: (المرأة الساهرة فوق السطح فتحت ساقيها بهدوء، شعرت بضوء قادم من مكان بعيد، ضوء ساطع حاد مثل خيط، شعرت بلذة كبيرة لا تقاوم، لذة أكبر بكثير من لذتها مع الرجل المتعب ذي الخيال الضعيف.).
مثلما كان هاملت يطلق عبارته المعروفة (أكون أو لا أكون) المحيرة في قتل عمه، وقتل أوديب والده، وتزوج أمه، وفقأ عينيه، كذلك يطرح عيسى السؤال نفسه في كيفية التخلص من أبيه الذي يراه مجهولا وزائدا عن الحاجة، ذلك لأنه يعتقد: ( أن الإتصال المباشر ليس ضروريا لولادة العظماء والأنبياء والشعراء. . . وأنه ولد من المعاناة الشعرية، ولد من عذاب الأفكار، من الحكمة العظيمة، لا من اللذة الرثة المبتذلة لأرويد والده ومن رغبة صبرية أمه. . لا من الرعشة بين السيقان، ولد من الجذوة الملتهبة، لا من الرخام اللحمي الحي لجسد والده ووالدته.
ومثلما كان عبدالرحمن في بابا سارتر، في صغره يتلصص على والديه وهما في غرفتهما، كذلك فقد كان عيسى يتلصص عل نازك التركمانية من ثقب الباب وهي تتسلل الى الحمام، وتولدت هذه الرغبة لديه بالتلصص على الآخرين، ولكن لا لتفضي به الى الرذيلة، كما أدت بعبدالرحمن، وإنما ليكشف عن دكتاتورية النظام البائد في مراقبة الشعب في كل حركاته وسكناته، أو كما يقول السارد: ( الأمر الذي أدى بالشعب أن يتلصص كل شخص على الآخرين. . أنها رغبة البصاص الأبدي والتي تنتعش في البلدان التي تحكمها أعين المراقبة والمعاقبة.). وفي روايتي (شلومو الكردي) لسمير النقاش، و(مائة عام من العزلة) لماركيز، يأتي التلصص في الأول من قبل شخصية (رضا) على زوجة شقيقته وهي تسبح في الحمام، وفي الثاني من قبل أحد الأشخاص الأشخاص الغرباء على شخصية (ريميديس).
وإذا كانت نصف الحياة التي عاشها عيسى من الخيال، فإن جلها تكاد تنطوي على التناقضات: (وذلك من خلال عدم إستسلامه لفكرة أن الجسد أي جسد، يمكنه أن يبول أو يتغوط.)، مثله مثل عبدالرحمن بطل بابا سارتر الذي: ( لم يكن يبحث في الحب عن الآلام واللوعة والعذاب الناتج عن الحب المستحيل، إنما كان الحب لديه مثل أي شيء آخر غير موجود، لأن الحب من العدم والعدم وحده خالق كل شيء). وبالنتيجة لقي في علاقاته العاطفية، أقسى عذابات العشق، وأشد الإهانات. أقول وبالرغم من نفور عيسى من أي جسد يبول، فإنه يستسلم له، في أول تجربة يخوضها مع نازك وهي تغويه بكالسونها الأحمر، بوضعه على الكرسي أمامه بالضبط، أثر خروجها من الحمام. يذكرني هذا الإغواء برواية (عزازيل) ليوسف زيدان، بإستسلام بطله (هيبا) في أول تجربة له مع (أوكتافيا) وقهر عزيمته في العهد الذي قطعه على نفسه. عيسى بوصفه يتقزز من المرأة التي تدخل الحمام، وهيبا بإعتباره راهبا. لذا فإن هذه الرواية في تناص مع مجموعة من النصوص الروائية والمسرحية، وليس نصا واحدا، إبتداء بهاملت وأوديب، ومرورا بشلومو الكردي، وإنتهاء بمائة عام من العزلة: (نظر اليها ثم حول نظراته مباشرة الى الكالسون. ذكره هذا الكالسون الموضوع على يد الكرسي بمثال الدخان والنار الذي يضربه اللسانيون مثالا على القرينة. . . وقد أدرك في تلك اللحظة أن هذه النار تشب الآن بين فخذي نازك، وأن الكالسون المنزوع المرمي على كتف السرير هو القرينة التي أدت نازك التي أرادت منها أن تقول للشاعر:- هل تريد جنة موقتة؟).
وتتواصل هذه التناقضات في حياة عيسى الى نهاية الرواية، حيث تختتم بقراءته لرواية (الجريمة والعقاب) لدوستوفسكي التي يتأثر بها، ويتمنى أن تتكرر أحداثها في بغداد ليكتبها بنفسه، لكنه لا يجد في الشقة التي يعيش في إحدى غرفها البائسة مع مجموعة من الأسر الفقيرة، أي أثر لأحزان روسيا القرن التاسع عشر، مع أن المأساة للشخصيات التي يلتقيها يوميا تفوق المأساة التي يصورها دوستوفسكي في روايته (الجريمة والعقاب): ( كشخصية هادي وهو يجلس عند البريمز ويقلي بيضا بالدهن ، ودنخا يقف امام التواليت وهو يحمل منشفته، وتحت النخل جلست سليمة بدشداشتها السوداء لتضع النفط في البريمز، وخرج مرقس من الحمام الفوقاني باللباس الطويل، وقرب الزاوية جلست أم جوني أمام طشت معدني وأخذت تغسل ملابسها، وعبرت شونة الكردية الممر وهي تحمل صينية وضعت فيها أرزا غير مطبوخ.). بالإضافة الى شخصية أم جوني وسالم وحسان أبو العنبة وعوديشو. والغريب أنه يسعى لمحاكاة راسكيلينوكوف، بطل الجريمة والعقاب، تعويضا لعجزه في كتابة رواية مماثلة لها، وإيجاد شخصيات بمصاف مستوى شخصياتها، وذلك من خلال عدم قدرته على دفع إيجار الغرفة، لذا كلما خرج في الصباح من حجرته، يقرر قتل أم جوني المرابية البخيلة، أو يتحاشاها لئلا تطالبه بالإيجار.
تقع الرواية في مائتين وأربع وستين صفحة، تشرع بعنوان (البداية)، وتختتم بعنوان (النهاية)، وتحت كل عنوان، عنوان آخر بخط بارز، البداية تحت عنوان (شباب يحلمون بالشعر ولا شيء آخر)، والنهاية تحت عنوان (قتلوا ولا شيء آخر). وقام المؤلف بتجزئة الرواية الى خمسة أجزاء، موزعا إياها الى وحدات لا تتجاوز كل منها عشر صفحات، معززة هي الأخرى بعناوين.
يعتمد السارد على السرد الذاتي وهو الأسلوب الذي يستخدم فيه الكاتب ضمير المتكلم (أنا) من بداية الرواية الى الجزء الثالث منها، حيث يغلب عليه السرد الموضوعي الذي يستعين بضمير الغائب، (هو، هي)، العلم بكل شيء، والمعروف بغير المبؤور، أو ما يسمى بالتبئير في درجة الصفر، إعتبارا من هذا الجزء، لغياب صوت منير تقريبا، وسيادة صوت عيسى، بوصفه بطل الرواية، وأنموذجا للجيل الثمانيني.
والرواية كما يبدو من خلال بطلها عيسى، تنحو بإتجاه تقديم تحليل نفسي، بما يحدوها أقرب الى الرواية السايكولوجية، لما يعانيه عيسى من كآبة ليس بسبب الظروف غير الطبيعية التي يمر بها البلد فحسب، وإنما ربما لعدم رضاه من أن يكون أبنا لأسرة فقيرة، وتمرده عليها، وبأمنيته ان يكون شاعرا عالميا وبمستوى شعراء أوروبا، ولكن لأن العراق ليس كذلك، ليس أوروبا، لذا فمن الصعب أن تتحقق أمنيته، كما أن عدم إعجابه بصورته الحقيقية، ورغبته في أن يكون كما يرى بورتريهات الشعراء المرسومة على الكتب، كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت منه كئيبا، لا يستقر على حال. ولعل إظهاره بهذه الصيغة من السطور الأولى للرواية، يؤكد صحة معاناة عيسى من هذه النزعة: (عيسى بدا حزينا ذاك اليوم بوجهه المتعب المهزوم). وبناء على هذا الفهم لشخصية عيسى التي أبتكرتها الأحلام والخيال، سواء كان خياله، أو خيال السارد الضمني، ساعيا الى التمرد والحرية، أنه لا يفهم في التيارات الأدبية التي ظهرت إبتداء من (اللامنتمي) لكولن ولسن، مرورا بوجودية سارتر، وإنتهاء بالتفكيكية، إلآ ما هو سطحي وبسيط، معبرا عن جيله الثمانيني، وممثلا له، شأنه شأن عبدالرحمن بطل بابا سارتر الذي لم يكن يفهم من الوجودية سوى قشورها.

ملاحظة: الجمل المحصورة بين الأقواس مستقاة عن روايتي أساتذة الوهم وبابا سارتر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا