الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لويس عوض في الثقافة العربية

مهدي شاكر العبيدي

2020 / 5 / 19
الادب والفن


مهما قيل عن الدكتور لويس عوض من أقوال متضاربة متباينة في إيماءاتها و دلالاتها بحسب تباين أصحابها في مواقعهم و انتماءاتهم ، فهو مثقف كبير و أديب رفيع القدر ، و من يتصدى لرصد هذه الحقبة من تاريخنا المعاصر في مساراتها الثقافية و تياراتها الفكرية ، يستوي على صعيد في ذلك تعويلها على التراث و تطويرها له و انفتاحها من بعد على الحياة الأدبية في الغرب ، لا يني في التنويه أو الإشادة بمجهوداته و اهتماماته المتعددة و أعماله الجادة.

إنه يمثل بصورة واضحة ملموسة لا تحتمل اللبس و الإشكال التلمذة المخلصة الأمينة إذا جاز التعبير لأستاذية الدكتور طه حسين و اضطلاعه بالريادة في أوليات القرن العشرين و هو ما يزال ناشئا ً فتيا ً ، و قد يميل بعضهم الى التهوين من خطورة الدور الذي لعبه المعلم الرائد من قبل ، و يلعبه مريده اليوم في حياتنا الثقافية بدعوى أن الأول لم يستمر أو يمضي قدما ً في ثورته الفكرية و تمرده على التقاليد و اندفاعه في الدعوة إلى الحرية و مقارعة أعدائها ، إنْ لم يمل ِ في طور و آخر إلى مهادنتهم و استرضائهم على حساب نفس الآراء المحددة التي جاهر بها ذات يوم ، و بمزعم أنا ـ بالنسبة للثاني ـ لم نعد بحاجة إلى الموسوعية التي يحرص بعض الأدباء و المفكرين ، و يكلفون أنفسهم ما تطيقه و فوق ما تطيقه من النصب و العناء و الجهد و المشقة و التدارس المضني بقصد مشارفتها و الاقتراب منها أو مجاوزتها في نهاية الشوط ، و أحرى بهؤلاء الموسوعيين أن يوفروا على أنفسهم ما ينفقونه من الجهد و يبذلونه من الطاقة و يدلون به من السعي ، أو أن يوقفوا ممكناتهم و كفاياتهم و مواهبهم جميعا ً على إنجاز أو صياغة عمل فكري يندرج ضمن مجال معين من مجالات المعرفة أو مذهب محدد من مذاهب الأدب ، فيجيء متسما ً بالأصالة و الجدة و الإبداع و الأسارة ، و جديرا ً بالخلود و البقاء لأحقاب متطاولة ، ما بقي الكتاب إبانها متداولا ً يعول عليه في تثقيف العقول و تنوير الأفهام ، بديل أن تتشتت مجهوداتهم و تتبعثر طاقاتهم في الإطلاع بنتاجات متعددة الخصائص ، متغايرة السمات ، متباينة المناحي ، مختلفة في منطلقاتها و دلالاتها و تأثيراتها و أصدائها ، و يغدو رصيدها من الإشراق و الخلق الفني تبعا ً لذلك هيِّنا ً يسيرا ً و دون ما يبلغه و يوفي عليه من ينصب مجهودهم و إمكانهم على الموضوع الواحد .

و قد يستدعي هذا الإيماء الكلي أو بعضه إلى اهتمامات الدكتور عوض و موضوعاته التي يعنى بها و يتوافر بجماع نشاطه و مثابرته و دأبه على معالجتها و سبر أغوارها و تبيان آرائه و أفكاره و نظراته بصددها أو بشأنها ، و لعلنا لا نعدو الحقيقة إنْ قلنا أن دراساته لأعلام الأدباء من الإنجليز : جويس ، و برناردشو ، و إيليوت ، و ويلز ؛ و تعريفه بنتاجاتهم الحية و ما خلفته من تأثيرات فاعلة و أصداء قوية ، سواء أكان ذلك في حياة الغربيينَ عموما ً أم في نتاجات الأدباء من مختلف الأقطار بعد ترجمتها إلى مختلف اللغات ، و يلحق بهذا تقديمه الضافي لمسرحية شللي المعروفة (بروميثيوس طليقا ً) بعد ترجمتها إلى اللغة العربية ، حيث عرف بالمذهب الرومانسي و تناول ميزاته التعبيرية و خصائصه الفنية و مضامينه الفكرية ، بالإضافة و الإسهاب من خلال دراسته الأوضاع التاريخية التي سادَت المجتمعات الغربية بمتناقضاتها الحادة و أزماتها المتفاقمة في أعقاب النهوض الصناعي و تصاعد نفوذ الطبقة البرجوازية و تنامي هيمنتها و سيطرتها و تحكمها بوسائل الإنتاج ، و انطلاقها في دعاوتها المطلقة للحرية الفردية التي لا تحدها الحدود أو تفت بها العوائق ، نقول أن هذه الدراسات المبدعة حقها أن تحفظ لصاحبها مكانة سامقة و احتراما ً فائقا ً في نفوس المثقفين و قلوبهم و ضمائرهم ، فقد طالعهم بها في أعقاب الحرب العالمية الثانية إبان ظروف لا مندوحة لأدبنا و فكرنا أن يشهدا تحولا ً في المعطيات و الموحيات ، و تجددا ً في الأساليب و طرائق التناول و المعالجة و الاجتلاء و التقصي ، و انفتاحا ً على تيارات الآداب الغربية و مساراتها بعد أن تأثرت بظروف الحرب و تلقت عنها آثارها و مياسمها ، فلا يحسن أن يظل القراء العرب و سواهم من المثقفين المستنيرين شهودا ً مفتحي العيون و مرهفي الأسماع على ماجريات معركة قلمية حادة تدور رحاها بين العقاد و أحد خصومه من مريدي الرافعي تتصل بقواعد البلاغة و شروط الفصاحة و خصائص البيان السليم ، في وقت تولى أدباء و مفكرو الدول التي عصفت بها الحرب أو امتدت إليها نتائجها عن الشؤون و الاهتمامات ، و خلصوا إلى ما يشبه الإجماع على تحري الدقة و التماس الفنية في الأداء و التعبير بديل التقعر اللفظي و الزخرف البياني ، و صار وكدهم التوفر على رصد الواقع الاجتماعي بصراعاته و تناقضاته قصد الانتقال نحو التجديد و التغيير .

و من قبيل الدَّلائل الماثلة على موسوعية الدكتور لويس عوض عنايته بتلخيص فحاوى النظم و المذاهب الاجتماعية التي رام بها المفكرون منذ مطالع الثورة الفرنسية و حتى السنوات الأخيرة أن يرتفعوا بالإنسان من واقعه الشائه القبيح الذي يعاني في ظله القهر و الامتهان إلى واقع تتحقق فيه إنسانيته و تتوكد قيمته و يترسخ وجوده و يسمح له بالتعبير عن أشواقه و مطامحه ، و تطوير كفاياته و مواهبه ، و كان كتابه (دراسات في النظم المذاهب) محصلة نافعة مستجمعة لأهم ما عني به الفكر البرجوازي من القيم و الفلسفات الاجتماعية في غاية التمثل و الاستيعاب و الوقوف على المظان و الدقائق ، رغم ما يرمي به صرف الجماعات عن التعلق بمحتوى الاشتراكية الحقيقية والنضال في سبيل تجسيدها و تحقيقها و أنه كتب إبان فترة من تاريخ الثورة المصرية احتدم فيها الخلاف بينها و بين اليسار. و التوفر على إعداد هذه الفصول يعني في حقيقته تراجعا ً واضحا ً عما التزم به في بواكير حياته الأدبية و الفكرية من مواقف و تبناه من مثل و أهداف ، و أن ما عني باستخلاصه من احتواء تلك المذاهب على الاشتراكية التي تشهدها بعض البلدان في شرق أوربا و آسيا في امتهان حرية الفرد و تطويعها لإرادة المجموع ، و كان صدور الكتاب ذاك مرادفا ً في الحقبة الزمنية لصدور كتابه (الاشتراكية والأدب) و إمعانه في الدعوة للإحياء الرومانسي في مجال الخلق الفني بدعوى جنوح المذهب الواقعي للانحسار و التلاشي ، نتيجة شعور أصحاب المواهب و الطاقات بالضيق و الاختناق إزاء ما تطلبتهم به الواقعية الأدبية من اندفاع في التعبير عما يخالج ضمائرهم و يساور نفوسهم من رصد لواقع لم يتمثلوه بصورة كافية أو يتعاطفوا معه تعاطفا ً مخلصا ً ، مما أوفى بهم على شيء كثير من الزيف والتعمل ، و آن لهم بعد هذا أن يوقفوا جماع كفاياتهم و ملكاتهم على استيحاء نوازعهم و تمثل مشاعرهم و صياغة ما تلهمانهم به من ضروب الإحساس و الفكر ، و كذا قدر للدكتور عوض أن ينازل أكثر من خصم و يصاول أكثر من ند ، فالتقليديون المتكلسون يسفهون مدعياته بخصوص تأثر المعري مؤلف (رسالة الغفران) بالتراث اليوناني و ترسمه لشعرائه في وصف مشاهد النعيم و الجحيم و محادثة الشعراء و الفلاسفة حيث يقيمون في جنباتها ، على حين أنهم ينكرون أن يكون لأبي العلاء سابق إطلاع على الفكر اليوناني و أن رسالته نتاج عبقريته و محصلة نبوغه و ثمرة إبداعه ، و أنه يمكن لفكر ما في حقبة ما أن يزدهر و يسلف آثارا ً حية و شواهد ناطقة دون أن يستقي من ثمرات عقول الجماعات الأخرى و يتشرب ثقافاتها و معطياتها ، كما انهد مفندا ً مناقشا ً للداته من رفقة الطريق و أصدقاء الأمس و أعداء اليوم ، دون أن ينجر إلى ما اصطلحنا على تسميته عادة بالمعارك الأدبية أو القلمية و ينزل على أحكامه و لوازمه ، من تتبع الردود و كلف بنقضها و التعقيب عليها في معظم الأحوال ، إنما أشبع حاجته للدحض و التفنيد بأن تزايد نتاجه و تعددت موضوعاته و اشتد نزوعه أكثر لما يسود و يطغى على حياتنا الفكرية و الأدبية من المسلمات الثابتة و الرواسم المألوفة ، و هو بهذا الصنيع الدال على فرط ثقة بالغة بالنفس قد تقرب في غلوها و تماسكها من حد الإصرار و العناد ، يستنفر مشاعر آخرين و يستثير عواطفهم غير مبال ٍ أن ينتظموا أعداء فكريين جددا ً يناقضون تخريجاته و يخطئون مقولاته ، و العجب في أمر هذا الباحث الجاد إنه لم يحِد في معطياته اللاحقة عما ألفه قراؤه منه و عهدوه عنه من النفاذ و الترصن و التعمق ، أو يخل بما درج عليه من طواعية الأسلوب و رشاقة العبارة و تدفق البيان ، بل زاد على هذه الخصائص و السمات هذه المرة بأن أخذ نفسه بشيءٍ يسير من السخرية اللاذعة و الفكاهة المحببة شأن من تعصف بنفوسهم الأوجاع و الآلام و تطبق عليهم المكاره و الأوصاب ، أو يتضافر عليهم الأعداء و الخصوم ، و المعهود عمن يعتنقون النظريات العلمية أو يستهدون بمنهاجها في البحث و الدراسة في مطالع حياتهم الأدبية ثم يحيدون عنها يفرطون فيها أو قد يتسمحون ـ إذا صحت العبارة ـ فينزعون إلى التماس الخلاص الفردي من جميع القيود و الأغلال و الشرائط و التبعات ، حتى لو تمثلت في إرادة الجماعة و مشيئتها ، نقول إن أولاء الحائدين عن خطة التزموا بها في البدء ثم أعياهم أن يمضوا في ترسمها و اقتفائها و الجري عليها قدما ً لسببٍ و آخر ، لا بد أن تجيء نتاجاتهم التالية خالية من ذلك النسغ المشرب بالثرارة و الصدق والصفاء و العذوبة و جماع ما يضفي على الأعمال الأدبية مياسم الجمال و الإبداع و الخلق الفني و يحكي بالتالي استواءها على جادة النضج و الأصالة و الاكتمال.

و لا ندعي أنه تخلى بالمرة موقفا ً و خطة عمل و منطلقا ً فكريا ً حيال الواقع الاجتماعي و الحوادث العالمية ، عما اعتنقه و صدع بالدعاوة له من الفلسفات و الآراء في مطالع حياته ، من هنا فإنه لم يفتقد مزية الصدق و الأصالة ، و سمة الإخلاص و الدقة التي تطالعنا في معظم ما سطر من دراسات و أبحاث ، إنما هو التسمح الذي يراود نفوس ذوي السابقة في الريادة و الجلاد ، فينشدون الخلاص و الانفلات من أيما قيد أو مؤثر ، و قد تساعد الانقسامات التي يمنى بها اليسار الفكري من آن ٍ لآن ، و الأخطاء التي تستتبع بالضرورة سائر التطبيقات للمنهج أو النظرية ، و ترافقها بطبيعة الحال و يمعن الخصوم الفكريون في تضخيمها و تهويلها و اختلاق الأراجيف و الأوهام حولها ، على أن تصاب نفوس الرادة الأوائل بشيءٍ من الاهتزاز و الخيبة دون مجاوزة ذلك إلى التفريط بدواعي الأيمان و التثبث ، و لوازم الحفاظ و الإبقاء على المبادئ القويمة ، و من هنا جاء تعقيبه على قولة هيمنجواي حين دخل أسبانيا أوائل عام 1937م ، مراسلا ً لصحيفة أمريكية فشهد بعض المعارك التي تمزق لها قلبه و صار الكل عنده موتى فحيا من رأى أشلاءهم من الإيطاليينَ مبعثرة على الصخور في أسبانيا بقوله : " لقد ماتوا ميتة الشجعان " ، رغم أنه كان موقفه مع الجمهوريين ، و مدلول هذه القولة في ملة كاتبنا أنه يحكي " الفرق بين من يرون الإنسان في أعدى الأعداء و بين من يرونه في أصدق الأصدقاء ، دون أنْ يغض ذلك من كفاحه ضد الفاشية ، و هؤلاء لا يقاتلون بقوة الحقد الأعمى لكن يقاتلون بقوة الحب الأسمى الذي خلق الله به الوجود " ، و كذا جاءت عشرات المقالات التي كتبها في غمرة امتحانه بالعداوات الفكرية و التي يقيم من خلالها الأعمال الشعرية و القصصية و المسرحية و التراثية ، و مجهودات الرواد من أعلام الجيل الأول : العقاد ، شفيق غربال ، الشدياق ، رفاعة الطهطاوي ، و الجبرتي ؛ منطبعة في بعض المواضع بهذا الملمح الفني الذي يسميه فن الابتسام ، مما نتلمسه في كتابات المازني و أفتقده في النتاجات المحدثة إثر غيابه ، حيث تحملنا بعض العبارات على الابتسام الفاتر الخفيف رغما ً عنا و دون أن نعي ذلك و نطيق له دفعا ً أو نلوي أنفسنا عنه ، و هو صنيع فني مبتكر لا يوفي عليه إلا أولاء الذين امتحنوا بالمرارة و الشقاء و خلصوا منها إلى المبالغة و التماسك في غير لجاجة أو شكوى أو انطلاق في الضحك الصاخب الدال على السفه و ضعف الحلوم قبل أن يدل على التبصر و اعتماد الموقف الحكيم ، و مقالات المرحوم المازني و أقاصيصه و حكايات كتبه : (قبض الريح) ، (خيوط العنكبوت) ، و (صندوق الدنيا) هي شاهد حي على فن الابتسام الذي يميزه لويس عوض عن الأدب الضاحك ، و يصطلح للتفريق بينهما نفس الفارق الماثل ما بين السعادة و الألم ، و يعدو ذلك إلى أن الأول هو العاطفة الهادفة بعد أن تهذبت و صفت من عواسج الغلظة و الكراهية و القسوة ، و الثاني يظل أبقى على الهجر و الإقذاع و التخرص منه إلى الصقل و التشذيب.

إن هذا الميسم الذي نتبينه و نجتليه في عبارات لويس عوض من كتاباته المتأخـرة ليس وليد المحاكاة و التقليد أو الرغبة في إحياء فن أدبي انطوى بموت مريده و عجز عن مجاراته فيه غيره من الأدباء ، إنما هو صنيع نفس اصطلحت عليها ضروب الآلام ، فتاقت للتفريج و الانفلات مما يطبق عليها و يحز بمخانقها من فرط الألم و العذاب ، شأن جميع الحكماء ممن يأخذون أنفسهم دواما ً بالتفكير المستقيم الذي ينأى بهم عن التورط في مواقف التهور و الطيش و يروضهم على الأناة و الروية و يدفع بهم إلى الحكمة الرفيعة العالية.

و كذا فموت العقاد يعني بالنسبة له موت هرقل القرن العشرين ، و يعتمد هذه التسمية الطريفة لمقاله الخطير في تقويم العقاد و استعراض مراحل كفاحه الأدبي و السياسي و صراعاته مع المفكرين و قادة الأحزاب ، و دالة مأثوراته و مؤلفاته على الحياة الأدبية و اضطلاعه بمهمة حمل المجتمع على احترام مهنة الكتابة و النظر للكاتب إنسانا ً أجدر بالتوقير و الاحترام منه إلى الإهمال و الزراية ، معتمدا ً في شق هذا الطريق الوعر على إخلاصه و شجاعته و ترفعه ، و تنسى مع انسياقك في مطالعة مقالة (موت هرقل) أن الكاتب في موقف الملتاع المفجوع بغياب الرائد الذي عول على شوامخه الأولى في تربية ذهنه و ترهيف وجدانه و شحذ كفاياته ، و يندرج في هذا بحثه المهم حول ريادة أحمد فارس الشدياق في التسخط و الثورة و العنف لا يعدم دلالة معينة ، فمهما كان للشدياق من تأثيرات بعيدة عبر مؤلفاته و مواقفه و صداماته مع رجال الكهنوت ، على مقولات الفكر المصري الحديث و فاعليتها في تحديد خصائصه و وجهاته ، مما يؤلف دافعا ً قويا ً لدراسته و تنبيه الأذهان عليه ، فثمة سبب خفي يغريه بإحيائه و تخليده ، إذ يلفيه رجلا ً فياض الحيوية ، كثير التنقل ، لاذع السخرية إلى حد المرارة ، و كثير الصدام بالناس و " أسلوبه يتميز بالدعابة العبقرية و روح السخرية النادرة التي جعلته إلى اليوم أعظم كاتب عربي ساخر في الأدب العربي قديمه و حديثه " ، و في ذلك بعض العزاء لمن يجوز مثل ظروف الباحث و يمتحن بنفس المعارضات و الخلافات الفكرية الشائكة التي امتحن بها ويعلل ذاته أن له نظائر و أشباها ً في تاريخ الثورة الفكرية و زمان تصاعدها و انحسارها و ممن لم يحجموا أو يشفقوا على ذواتهم من آثار الصدام بالناس و تحمل نتائجه الوخيمة ! .

نقول هذا إذ يطالعنا كتابه (الفنون و الجنون في أوربا 69) معيدا ً إلينا ذكرى كتاب طه حسين (في الصيف) الذي أصدره عام 1928م ، ثم عاد فأدمجه (أو دمجه !) مع كتابه (رحلة الربيع) الذي سجل فيه ذكريات رحلته إلى أوربا عام 1948م ، فأسماهما معا ً (رحلة الربيع و الصيف) ، و في كلتا الرحلتين كان العميد طريدا ً من أرض مصر حيث لم يحتمل الجامدون في الأولى آراءه حول الشعر الجاهلي ، فأمعنوا في الإثقال عليه بالعنت و الأذى ، و استهدافه بالعسف و التحيف ، و استثارة مشاعر العامة ، فرام النجاء بنفسه ريثما تخفت الضجة و يسكن اللغط ، و في الثانية خرج مغاضبا ً لثلة من الأصدقاء ممن آثروا النفع و طمعوا في المغنم ، فجنحوا لمشايعة السلطان و السير في ركابه ، و كانت تلكم الفترة الأخيرة ذروة الذروة في تألق نجمه و شخوصه وجها ً كريما ً في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة ، و إبان حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث تعاظم نضال الشعب المصري على طريق الحرية و تعاطف مع النضال ذاك ، و كانت كتبه: (المعذبون في الأرض ، الوعد الحق ، جنة الحيوان ، مرآة الضمير الحديث) نتاج هذه الحقبة ، و كلها تحكي شعوره بالأسى حيال المحرومين و الجياع من سواد الشعب المصري و مناهضته لأي لون من الاستعباد و الانتهاز و التحكم.

و كتاب (الفنون والجنون في أوربا 69) ينظر إلى كتاب (رحلة الربيع و الصيف) في مجمله و مضمونه و يستوي وإياه في العناية بتسجيل صور و مشاهد من حياة الأوربيينَ إلى حدٍ بعيد ، فقد خرج من مصر موفدا ً إلى انجلترا و فرنسا من قبل جريدة (الأهرام) للإطلاع على آخر تطورات الحركة المسرحية في هذين البلدين في مطلع عام 1969م ، و بعد ثلاث سنوات أو نحوها " مرت كأنها الدهور بعد محنة الوطن تفتت فيها الزمن ، فغدت الساعات أياما ً و الأيام شهورا ً و الأعوام آجالا ً و آجالا ً ، تمزقت فيها الأعصاب و انسحقت بالخزي القلوب و أظلمت باليأس النفوس قبل أن نتعلم فضيلة الصبر و المصابرة و الثقة بالنفس إلى أنْ يقضي الله أمرا ً كان مفعولا ً ، في يوم كيوم الهول بسيف أحمس المسلول بمعجزة ذلك البرق الذي ومض في القديم ففتق الظلمة السحماء على قمة طور سينا عسى أنْ يضيء بنور الحق قلب اليقين " .

فالرحلة إذن كانت رحلة نقاهة " و قد توسل كل منا بوسيلته الخاصة لنقاهة نفسه ، و كلنا يعلم أن لا بُرء لأحد من هذا الجرح الدامي ما بقي العدو على شبر من تراب الوطن مهما تماسكنا أو تجلت فينا صلابة الرجال " .

و ما نقلت هذه العبارة الضافية من فاتحة الكتاب الموسومة (رحلة الربيع لتجفيف الدموع) ، إلا لأستدل على ما يمكن أن يلهم به الشعور القوي بالمرارة و الألم أصحابه إن كانوا من الأدباء المطبوعين ذوي القدرة الفائقة على التصوير النابض و الأداء المحكم و التعبير الوقور الرصين مما يذكرنا ثانية بالفلذات العبارية التي ضمنها الدكتور طه حسين كتابه الذي المحنا إليه.

في كتاب (الجنون و الفنون في أوربا 69) فكاهة مستملحة عن المعاهدة التي عقدها موسليني مع البابا بيوس الحادي عشر " و أرسَت قواعد الصلح بين الدين و الدولة على أساس انكماش دولة الفاتيكان بشرط ألا يزيد عدد سكان هذه الدولة في أي وقتٍ على ألف نسمة ، و اعترفت الحكومة الايطالية بأن الفاتيكان دولة مستقلة ذات سيادة ، و هي بموجب ذلك حق لها أن يكون لها علمها و أن تسك عملتها و تصدر طوابع بريدها ، و تنشئ جيشها و هو الحرس البابوي كما أن لها الحق في التمثيل الدبلوماسي مع دول العالم المختلفة و بمعاهدة لاتران انتهى الشقاق بين الأرض و السماء " .

كل هذا الاستطراد يطالعنا به المؤلف خلال حديثه عن زيارته لمدينة روما في طريقه إلى لندن و باريس ، فيلم بالمتاحف و المعارض معددا ً ما تحتوي عليه من نفائس الآثار و روائعها ، و يعدو هذا إلى تعريفنا بنمط من الشخصيات الكافكاوية التي يحسبها بحاجة إلى فنان قدير يرصدها و يصورها فهي قسمات مصر الأخرى في ما وراء البحار ، حيث يقيم رعيل من المصريين المغتربين أو المنفيين باختيارهم في لندن و باريس " بجمعهم شيئان انهم جميعا ً يحملون مصر على ظهورهم أينما هربوا ، بل يحملونها في مخادعهم و ينامون بها تحت أجفانهم و يأرقون لها في صحوهم و المنام ، كل منهم يحمل ندبا ً عميقا ً كندب الحب الأول العظيم ، و كلـما عمق الجرح عرفت أن الحب كان عظيما ً ، و كلما اشتد الرفض و علا الاحتجاج عرفتُ أن الأمل كان قويا ً " ، وأرى إنا في غنى عن التنويه بما يزين هذا التعبير من الأسر و الرشاقة و قوة التصوير .

و قد أدى لويس عوض المهمة الموكولة إليه بزيارة المسارح في لندن و باريس و شاهد أهم ما يعرض فيها و يمثل على خشباتها من التمثيليات الجديدة الماتة إلى الواقع السياسي و الاجتماعي الذي تجوزه القارة الأوربية من غير إمعان في التجريد أو تحليق في الخيال ، و ما يهمنا تلخيص المؤلف لوقائع هذه المسرحيات و القصص التمثيلية في غاية من التركيز و الخصوصية على غرار ما كان يفعل أستاذه في التعريف بالمسرح الفرنسي مما ضمنه مؤلفاته : (صوت باريس ، من هناك ، لحظات) ، إنما يسترعي التفاتنا بالدرجة الأولى وقفته الدارسة لحركة (الهيبز) التي تفشت في أوساط الشباب الأوربي و الأمريكي ، هذه الحركة التي ألزمت الشّباب هناك باعتماد لون من التصرف و السلوك و العناية بنمط من الأدب و الفكر تعبيرا ً عن سخطهم إزاء أخطاء و حماقات اجترحها السياسيون ، و هي وقفة تميزت بكثير من التعاطف و التأمل و الموضوعية و التجرد و الرغبة الصادقة المخلصة في التعرف على حقيقة ما يختلج في أعماق الشباب الجديد من المشاعر و الأفكار من غير ما انتقاد لمسالكهم و إظهار الزراية بهم و الطيرة من غرابة أطوارهم و اعتبارها مشينة بالأخلاق و الأعراف.

و الحق أن صاحب (هوارس ، و شللي ، و أخيلوس) أكثر كتابنا اهتماما ً برصد النزعات الجديدة في الغرب ، و الذي ينهد لتقويم النزعات و الاتجاهات الجديدة و رصدها و التي تستجد و تطرأ من آن ٍ لآن في حياة المجتمعات و تملي منطقها الصارم القوي على مسالك الأفراد و تصرفاتهم و استجاباتهم و مواقفهم و ما يحيط بهم من الظواهر و الأشياء ، يلزمه أن يتحلى بالموضوعية و التجرد ، و يطرح جانبا ً كل اعتقادٍ مسبق أو نظرة في غير أوانها تنضح بالتسخـط و الرفض و الاستنكار ، و كذا ألفى حين دخل أحد مسارح لندن و شاهد المسرحية المسماة (هير ـ الشعر) التي يمثلها على خشبته مجموعة من شباب (الهيبز) وسط الأنغام و الألحان التي يُخيل للمشاهد بما يصاحبها من الصخب أن ليس هناك قصة تحكى أو حادثة تروى ، إنما جماع الأمر تعبير عن الأحزان العجيبة و الأشواق التي ينزعون إليها و يلتمسونها في كل مكان تحت التربة أو ما وراء النجوم ، نقول يلفي أستاذنا في الرقصات الهستيرية في تكوينات الباليه ، و زحار الشباب في أغانيها و أناشيدها ما يفيض بالشكوى " من سلبيات الحضارة الحديثة التي لم تترك للجيل الجديد إلا اليأس من تجديد الحياة على المستوى الاجتماعي ، فلجأوا إلى إنقاذ النفس و ما بقي منها على المستوى الفردي بأحلام اليقظة و ضباب الأفكار و الحواس " .

و عندي أن استعمال المفردة (زحار) في التعبير عن تأوهات الشّباب و تمزقاتهم لم يرد هنا على سبيل التنميق و التوشية ، إنما ينطوي على أكثر من دلالة ، و من هاته الدلائل القوية تعاطف الكاتب و إشفاقه على الشّباب في حيرته المضلة ، و خيبته الفاجعة و يأسه المطبق ، مما استتبع أن يتألق تعبيره و تتسامى لغته و يشف أداؤه .

و ما أعرف مثل هذا التحديد لنوازع الشباب الأوربي و الأمريكي و التعريف بها في غاية التركيز و العمق ، عبر وقفة المؤلف في كتابه : (الاشتراكية و الأدب) ، عند موضوع الدايلوج و المونولوج ، و ما يلحق به و يتشعب من معنى اللامعقول و النشاز الذي تنطبع به حياة الناس ، فقد ألم بهذه الشؤون و الدقائق و حدد لماهيتها مجملا ً و معرفا ً و دالا ً على ثراء لغوي و فهم عميق لنفس الإنسان و ما يختلج في أعماقه من الأشواق و الميول.

و هذا التشخيص و الإجمال للمظاهر الحضارية المستجدة قد يمت بأكثر من صلة إلى تلخيصاته السابقة و تعقيباته حول النظم و المذاهب ، و لعل لما اتسمت به من الطرافة و اليسر و العمق أبلغ الأثر في أن يغنى بها عن المراجع الأصلية و المصادر الأولى موفرا ًعلى القارئ العربي المعني بالتثقف و الاطلاع و مواكبة التيارات و النزعات الفكرية في وجهاتها و مساراتها مزيدا ً من الوقت و الجهد و المال .

حقا ً إن الدور الذي يضطلع به الدكتور لويس عوض في ثقافتنا المعاصرة لا يمكن أن تحيط به أو تجمله مقالة موجزة كهذه ، و ليس أدل على خطورته من ناحية ثانية من هذه الاتهامات المرجفة و المغامرة المتجنية ، مما سمعته يتردد على ألسنة الخصوم الفكريين ممن يتاح لهم أن يلموا بالعواصم و يتحدثوا في المحالفل و يشهدوا منتديات الأدب و الفكر ممثلين لمصر الثورة و ناطقين باسمها ، و واقع حالهم ينبي بما يغلب عليهم و يساورهم من التحفظ و التهيب في منطلقاتهم و مواقفهمم إزاء التحولات الاجتماعية و السياسية التي يشهدها الوطن العربي ، قدر ما يفتضح فرقهم و خشيتهم من شيوع التجديد و الابتداع في المباني الفنية و المعطيات الأدبية ، فيلفون ضالتهم في النيل و الانتفاص ممن لا تضيق عقولهم و أذهانهم بالجديد من قيم الحياة و حقائقها و معطياتها.
* كتبت هذه المقالة سنة 1971 م لتكون خاتمة محتويات كتابي (دفاتر ثقافية) المعد للطبع حينها ، لولا أن الخبير الذي ناطت به وزارة التربية مراجعته ارتأى استبعاده منه ، و ليس هو غير الدكتور جلال الخياط رحمه الله ، و كان بوسعي زيارته لأستوضحه الأسباب و الدواعي التي حدت به للإيصاء بهذا القصد أو الطلب ، لاسيما أن بيننا تعارفاً و تلاقياً و تحادثاً حول الشؤون الأدبية من سنين ، آخره تحيرنا – نحن الأثنين – في تحديد خبر المبتدأ و نوعه في البيت الشعري من قصيدة الجواهري الرثائية :
أنا العراق لساني قلبه و دمي فراته و كياني منه أشطار
إلى أن سمعت بارتحاله مبعوثاً الى لندن لمواصلة تحصيله الأكاديمي ، و قفل منها بنفس تبسطه غير متكلف للرزانة و (الثقل) في غير موجب و داع ، مبايناً في هذا التصرف شأن آخرين أشغلتهم لحلول المشاكل الآراء ، و صادف أن وافى مجلة الآداب البيروتية بعينات من أبحاثه و دراساته فحفيت بها و نشرتها ، و أججت بفعلتها غيظ غير متغرضٍ قي المجالس الأدبية و استثارت حفيظة صنوه من أدباء المقاهي ، و كان آخرها و غرتها كتابه (عن الأصول الدرامية في الشعر العربي) الذي كتبت عنه في جريدة العراق جاباً ما حف به من تحيّفٍ و انتقاص لما اغتنى به من تخريجات و استنتاجات جديدة ، و صرت على علمٍ و دراية باغتباطه و مسرة نفسه بعد أن وافاني تلميذه الدكتور سعيد الزبيدي بذلك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما


.. فنان بولندي يعيد تصميم إعلانات لشركات تدعم إسرائيل لنصرة غزة




.. أكشن ولا كوميدي والست النكدية ولا اللي دمها تقيل؟.. ردود غير