الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تاريخ الشعوب مع الميتافيزيقا

طلعت رضوان

2020 / 5 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


منذ بداية تكوّن أول تجمع إنسانى (وقبل ظهورالكتابة وعصرالتدوين) تعامل البشرمع الظواهرالطبيعية، باعتبارقدرتها على (جلب النفع) أو(صد الضرر) وهذا التعامل مع قوى الطبيعة هوما أطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا الإنسانية (ميتافيزيقا) أى علم (ماوراء الطبيعة) أوجميع المسائل التى لايمكن تصنيفها، ضمن الإطار الطبيعى (الفيزيقى- الواقعى المادى) مثل الكائنات الخرافية..وليس لها وجود حقيقى ملموس..كما فى الاعتقاد بالجن والأشباح..وتضاعف الأمرأكثرمع انتشارالغيبيات، مثل (شق البحر) والعصا التى تتحوّل إلى ثعبان..إلخ.
ولم تخلُ حضارة من الحضارات القديمة، من (تأليف) أساطيرها حول وجود (آلهة) للخير..وأخرى للشر(كما فى الأسطورة الأوزيرية) وهنا يجب التوقف لملاحظة (خصوصية) كل حضارة..وعند التأمل والتعمق فى الحضارة المصرية، فإنّ أساطيرها- بالرغم من (غلافها) الميتافيزيقى، كان يسعى لترسيخ بعض قيم النــُـبل الإنسانى، مثل وفاء الزوجة (إيزيس) لزوجها (أوزير) وأنّ إيزيس أصبحتْ (رمز الأمومة) فى كل العالم القديم، حيث انتشرتْ صورتها..وهى تــُـرضع طفلها (حور) أو(حورس- وفق النطق اليونانى) وأنّ حورس صارالرمزالعالمى لوفاء الابن لأبيه، لأنه عندما استردّ (عين) أبيه من الإله (ست- رمزالشر) أعطاها لوالده أوزير..كما أنّ كاتب تلك الأسطورة، كثــّـف وركــّـزعلى محورلم تنتبه إليه حضارة أخرى غير الحضارة المصرية، أى محور(دولة القانون) حيث أنّ البرديات العديدة التى تناولتْ تلك الأسطورة، ذكرتْ أنّ إيزيس أقامتْ (دعوى قضائية) أمام (محكمة الآلهة) بهدف استرداد العرش من المُـغتصب، ليؤول إلى صاحب الحق الشرعى ابنها حورس..وأنّ المحاكمة استمرّتْ عدة سنوات..والمغزى أنّ كاتب البردية كان يعكس الواقع (الموجود فعلا على أرض الواقع) حيث أنّ مصرعرفتْ القضاء الابتدائى والاستئناف..وأنّ اللجوء للقضاء مكفولٌ للجميع..وأنه لافرق بين مواطن وآخرأمام القانون..وأنّ العقوبة (واحدة) بغض النظرعن الموقع الطبقى أوالوظيفى لمرتكب نفس الجريمة..وهذا بخلاف ما جاء فى قانون (حمورابى) حيث أنّ عقوبة القائد أوالوزيرتكون أقل بكثيرمن عقوبة الفلاح، بالرغم من أنّ الجريمة (واحدة) وهوما أكــّـده علماء المصريات..ومن بينهم (كمجرد مثال) برستد فى كتابه (فجرالضمير)
برستد بعد أنْ شرح (بتوسع) مبادىء العدالة فى مصرالقديمة، عقد مقارنة بين القانون المصرى..وقانون (حمورابى) فذكرأنه جاء فى قانون حمورابى إنّ ((كل العقوبات والأحكام القضائية تــُـدرّج حسب مراكزالمذنبين الاجتماعية، أومكانة المتخاصمين الاجتماعية..وهذه الحقيقة تــُـفسّـرلنا السبب الذى من أجله نعتبرأنّ ما أضافته المدنية البابلية إلى إرثنا الخلقى فى غربىْ آسيا فى حكم العدم)) (ص236)
وأليس من الأمورذات الدلالة أنْ يذكرأكثرمن عالم متخصص فى علم المصريات أنّ ((الآلهة اليونانية قد تمصــّـرتْ)) ومن بينهم- كمثال- العالم الألمانى (أدولف إرمان)؟ وما مغزى أنّ يعتبرالإسكندرالأكبرأنّ الأله المصرى (آمون) والده وليس والده الحقيقى البيولوجى (فيلب) بل إنّ الإسكندرطلب من الكهنة أنْ يضعوا على رأسه (قرنىْ آمون) وحتى بعد أنْ حاز(صفة الربوبية) ظلّ يــُـقدم القرابين للآلهة المصرية (ول ديورانت- قصة الحضارة- مجلد4- ص534)
ما قصدتُ إليه فى السطورالسابقة هوأنّ الميتافيزيقا (بالرغم من إدراكى لخطورتها) خاصة فى (تغييب العقل) اختلفتْ بين الشعوب والحضارات..ولعلّ موقف اليونان من الفيلسوف (سقراط) يلقى الضوء على (سيطرة الميتافيزيقا) على عقول من حاكموه وأصدروا حكمهم بتجرع السم لأنه (من وجهة نظرهم) ارتكب جريمتيْن: الأولى إفساد عقول الشباب (لمجرّد أنه كان يــُـشجــّـعهم على الحوار..وعلى حق الاختلاف) أما الجريمة الثانية الأكثرخطورة، فهى أنه كان يــُـروّج لآلهة أجنبية، هى الآلهة المصرية..وهنا تبدومفارقة الميتافيزيقا، فالآلهة- سواء المصرية أواليونانية- من صنع البشر، فإنّ (تهمة إزدراء الآلهة) التى وجــّـهها المتعصبون لسقراط، لم يحدث مثلها طوال تاريخ الحضارة المصرية، بالرغم من العثورعلى برديات عديدة جاء بها عدم الاعتراف بوجود آلهة..وفى بردية أخرى فإنّ كاتبها يتحدى الإله بأنْ يـُـعيد الميت إلى الحياة ((كى يحكى لنا ماذا شاهد فى الحياة الآخرة المزعومة)) وفى بردية ثالثة كلها سخرية من أحد الآلهة الشهيرة جدًا فى الأساطيرالمصرية (رع) وأظهرته البردية أنه بدأ التخريف وظهرتْ عليه أمراض الشيخوخة ((وبيريل)) ولايستطيع التحكم فى السائل المنساب من فمه..إلخ..وبالرغم من ذلك لم يعثرعلماء الآثارعلى بردية واحدة- مع كثرة البرديات المكتشفة- فيها ما يدل على محاكمة أى حكيم مصرى، حتى الذين هاجموا وانتقدوا بعض الملوك، مثلما حدث بعد الثورة الشعبية التى حدثتْ فى الأسرة السادسة..والتى أخذتْ اسمها الشهير(أول ثورة على الاقطاع فى التاريخ)
هذه الثورة وردتْ تفاصيلها فى برديتيْن الأولى بعنوان (نبوءات الحكيم إيبور) الموجودة بمتحف ليدن بهولندا..واكتشفها العالم الأثرى (لانجا) وعكف عالم المصريات واللغويات الكبير(جاردنر) على دراستها عام1909..كما درسها برستد فى كتابه الشهير(فجرالضمير) كما ذكرها عالم المصريات المصرى (سليم حسن) فى كتابه عن الأدب المصرى القديم..والبردية الثانية بعنوان (نفر روهو) التى اكتشفها العالم الروسى (جولينشيف) ومحفوظة بمتحف ليننجراد..وترجمها عالم اللغويات البريطانى (جاردنر) وعالم المصريات الألمانى (أدولف إرمان) فى البردية الأولى فإنّ الحكيم (إيبور) وجـّـه رسالته إلى الملك (بيبى الثانى) وقال له فيها: أنت جالس فى قصرك بين حاشيتك الذين يــُـغذونك بالأكاذيب..وأنا أناشدك أنْ تنقذ مصر..وللأسف فإنّ رد الملك على رسالة الحكيم إيبورغيرواضحة فى البردية، نظرًا لسوء حفظها..ومع ملاحظة أنها مكوّنة من14 ورقة من ورق البردى..ومن بين كلمات إيبورللملك: انظر: لقد هوجمتْ الإدارات العامة..ونــُـهبتْ محتوياتها..وأخذتْ دفاترالموظفين..ولم تعد لكبارالموظفين كلمة مسموعة..والمواطنون الثائرون صاحوا بكلمات تنم عن العداء للملك..وقال للملك: انتبه لقد اختلّ الأمن..وانتشركبارلصوص الدولة..ولم يعد للدولة سيطرة عليهم.
وانتقل الحكيم إيبورفى تحذيراته للملك إلى محورآخرفقال: لقد نزل قوم أغراب من الخارج إلى مصرلأنك يا جلالة الملك ((أهملت حماية دلتا مصر)) والأجانب أوقفوا عجلة الإنتاج..وسيطروا على الصناعات المحلية..وأصبحتْ مصرفى عهدك ((كالجارية التى تصب الماء على أيدى أسيادها)) وأضاف: إنّ القيادة والفطنة معك، ولكنك لاتستخدمهما..وإنما تترك مصرللفوضى والخراب)) واختتم الحكيم إيبوركلامه للملك قالا: ((ليتك- وأنت فى قصرك- تذوق بعض هذا البؤس الذى يــُـعانى منه الشعب))
وإذا كان ذلك التمرد الشعبى- كما وصفه علماء المصريات- بأنه ((أول ثورة اجتماعية فى تاريخ الشعوب)) فإنّ هذا الوصف يجعلنى أعتقد أنّ الميتافيزيقا لم تــُـسيطرعلى عقول جدودنا بنسبة100%، فوفقــًـا للأساطيرالمصرية فإنّ الملك يـُـعتبرمن الآلهة..ومع ذلك ترك جدودنا الكثيرمن البرديات التى سخرفيها كاتبها من الآلهة..وأنها لاتضر..ولاتنفع..وليس لها وجود..والأكثردلالة على ذلك التمرد على سلطة الملك، فلوأنه (إله) فكيف امتلك الشعب جسارة تحديه؟!
بينما فى الحضارة اليونانية، فإنّ تحدى الآلهة ورد فى الأساطير(فقط) كما فى أسطورة (بروميثيوس) الذى تحدى الإله وسرق منه (سرالنار) ووهبها للبشر. أوما ورد من سخرية فى مسرحيات (يوربيدس) الذى تخيل (آلة إسقاط الآلهة من السماء) أوما كتبه (سوفكليس) فى إحدى مسرحياته حيث جعل (أحد أبطال المسرحية) يقول أمام (هرقل) وهو يتلوى من الألم ((نحن لم نقترف ذنبـًـا..ومع ذلك فإنّ الآلهة لاتعرف الرحمة..ويطلبون أنْ نعبدهم)) أوالأسطورة التى حكتْ عن إله شعرباليأس، فألقى بنفسه فى فوهة بركان (ول ديورانت- المصدرالسابق- ص210) أو(كرتياس) الذى كتب مسرحية وصف فيها الآلهة بأنها من ((بدع صناع مهرة)) (المصدرالسابق- ص232) وهاجم بعض معاصرى الكاتب المسرحى (يوربيدس) لأنه ((يفترى على الآلهة.. وادّعى أنها تــُـقيم المواخيرفى السماء)) (المصدرالسابق- ص325) وذكرأفلاطون ((توجد طائفة من الناس لاتؤمن بوجود الآلهة)) كتب ذلك فى كتابه (القوانين- 948) ولأنه كان صاحب فكرمثالى لذلك أضاف: ولذلك يجب وضع شرائع تستند إلى (العقل) و(الإيمان)
ولكن بشكل عام ظلّ الفكرالميتافيزيقى هوالمسيطرعلى عقول الحكام والمحكومين، ففى الصراع حول الحدود بين أثينا وجيرانها..كان كل طرف يـستند إلى الفكرالغيبى ويــُـبرّرتصرفاته قائلا ((هكذا أملتْ علينا الآلهة)) (المصدرالسابق- ص350)
وذكرديورانت فى أكثرمن صفحة عن انقسام المجتمع اليونانى إلى أحراروعبيد. وأنّ العبيد ليس لهم حق الشهادة فى المحاكم..وأنّ الاعتراف يؤخذ منهم بالتعذيب..وكان تعليقه ((وذلك وصمة فى جبين الشرائع اليونانية..ووحشية شاءتْ الأقدارأنْ تزداد قسوة فى السجون الرومانية)) هذا بخلاف (ظاهرة انتشاراحتقارالعمل اليدوى) وأنه متروكٌ للعبيد (فقط) أما الأحرارفلا يعملون فى هذه الأعمال الحقيرة..وقد ذكرديورانت أكثرمن مثال على ذلك (ص22، 33، 62) ولكن عندما تكلم فى الجزء الخاص بفترة (حــُـكم البطالمة فى مصر) ذكرأنهم تأثــّـروا بمجمل الثقافة المصرية..وتقاليدها وقيمها الإنسانية والاجتماعية..ولذلك- كما كتب ديورانت- لم يكن الفلاح عبدًا..وأبقى البطالمة النظام الذى كان سائدًا قبلهم (ج8- ص65) وعن الميتافيزيقا ذكرأنّ تلاميذ (مدرسة الرواقيين) كانوا ((يسخرون من تدخل القوى غيرالطبيعية فى شئون العالم)) (ص113) وحتى بعض الفلاسفة أثــّـرتْ الميتافيزيقا على عقولهم، مثل الفيلسوف (فيلو) الذى جمع بين الفلسفة والتصوف..وكان يعتقد أنّ الله ((كائن غيرمجسد..وأزلى وسرمدى)) (ديورانت- المجلد السادس بعنوان: قيصروالمسيح- ص103) وفى العصرالرومانى ظلّ أصحاب الديانات القديمة يجاهدون دفاعــًـا عن معتقداتهم..وكانوا يعبدون إله الشمس..وكان أحد الكهان يقول للناس ((ستــُـحشرون كلكم أمام الإله (مثراس) ليحكم بينكم، ثـمّ تــُـسلم الأرواح الدنسة إلى أهرامان، لتــُـعذب عذابـًـا أبديـًـا، أما الأرواح الطاهرة فتــُـرفع إلى السماء..إلخ)) (المصدرالسابق- ص149)
وذكرديورانت أنّ شعب الغال (جدود الفرنسيين) كانوا يؤمنون بعدة آلهة..ولكى يتجنــّـبوا أذاها كانوا يسترضونها بتقديم الضحايا البشرية..ويأخذونها من المحكوم عليهم بالإعدام..وكان تعليق ديورانت: وهذه عادة همجية (ص46، 47) وتوازى مع الفكرالميتافيزيقى انتشارظاهرة العبودية (كما كان الوضع فى اليونان) فذكرأنه فى أجزاء من إيطاليا..والجزء الأكبرمن كورسكا، كان الرومان يصطادون الأهالى بالكلاب المدرّبة، ليبيعوهم عبيدًا (ص30)
وقد لاحظتُ فى المجلــّـدات التى خصـًـصها ديورانت عن اليونان وروما، أنّ (ظاهرة العبودية) تتوازى معها (ظاهرة حب الغلمان) والتغزل فيهم، لدرجة تخصيص (دواوين للشعر) اليونانى والرومانى..وقد ضـمّ إكليل (مليجر) الذى هوأحد الشعراء فى القرن السادس الميلادى ((ديوان شعركله تغزل فى الغلمان، جمعه استرابون السردينى (50 ق. م) (ديورانت- ص119)
وأستطيع أنْ أؤكد أنّ هاتينْ الظاهرتيْن (العبودية واللواط) لم تعرفهما الحضارة المصرية..وما يؤكد ذلك- فى ظنى- أنه بالرغم من العثورعلى آلاف البرديات التى تناولتْ أصغرالأشياء، مثل ضرورة غسل المعدة بعشب (مُـسهل ومطهر) مرة كل أسبوع (كان الأسبوع عشرة أيام- والشهرثلاثة أسابيع) ومع ذلك لاتوجد بردية واحدة تناولت اللواط أوالعبودية..وبالرغم من اعترافى بوجود إرهاصات للميتافيزيقا فى الحضارة المصرية، فقد اختلفتْ كثيرًا عن باقى الحضارات الأخرى..وبصفة خاصة تركيزها على الأبعاد الأخلاقية والإنسانية.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المقاومة الإسلامية في العراق تعلن استهدافها هدفا حيويا بإيلا


.. تونس.. ا?لغاء الاحتفالات السنوية في كنيس الغريبة اليهودي بجز




.. اليهود الا?يرانيون في ا?سراي?يل.. بين الحنين والغضب


.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل




.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت