الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضريح القائد المؤسس حفظه الله و رعاه

حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي

(Hussain Alwan Hussain)

2020 / 5 / 21
الادب والفن


(مهداة للأستاذ الدكتور "سعدي شرشاب" الذي روى هذه القصة لي .)

بعد أن أدخل المتعهد "كوركيس" عمّاله الخمسين عبر قاعة استعلامات حرس الأمن الخاص المؤدية للحديقة الغربية الواسعة الكائنة إلى جوار مقر القيادة القومية لحزب البعث في بغداد ، عند تقاطع شارع الكندي مع طريق القادسية السريع ، قال في جمعهم :
- أخواني ، لقد تقصّدت جلبكم اليوم من البصرة لبغداد لكي أتيح لكم فرصة التشرف بالمساهمة في تشييد الضريح المقدس للقائد المؤسس المغفور له الأستاذ ميشيل عفلق – عفواً : السيد أحمد ميشيل عفلق رحمه الله . أقسم لكم بالله العظيم أن هذا هو قصدي الشريف ، و ليس لأن الأجر اليومي للعامل البصري هو نصف أجر العامل البغدادي ـ مثلما قد يدَّعي الحاقدون على الحزب و الثورة . الهدف النبيل إنما هو تشريفكم بتشييد هذا الصرح الشامخ المقدَّس الذي سيضم قبة زرقاء مثمَّنة الأضلاع فوق الضريح المزخرف أجمل زخرفة عربية مثل بقية قبور أئمة المسلمين الأطهار ، و أمامه تمثال من البرونز بالحجم الطبيعي . و هذا شرف عظيم و أنجاز آخر مجيد يضاف للإنجازات التي لا تحصى و لا تعد للحزب القائد و للثورة الجبارة على طريق تحقيق أهداف الأمة العربية الكبرى في الوحدة و الحرية و الاشتراكية . مفهوم ؟
- مفهوم ، أستاذ ! ردّد جميع العمال .
- عمل اليوم هو أهم عمل في كل هذا المشروع المبارك : صب الاساسات لبناية الضريح بالإسمنت السريع التصلب . أمامكم عشرة من أحدث المكائن لخلط الخرسانة . كل خمسة عمال يتوجهون لماكنة واحدة : عامل يملأ عربة التحميل بكيس واحد من الإسمنت مع أربعة أكياس من الحصى ، و عامل ثان يجلب كيسين من الرمل المغربل و يعبئها في نفس عربة التحميل الميكانيكية ، و عامل ثالث يشرف على تدوير و سقي ماكنة الخلط بخليط جريش الثلج و الماء و صب الخليط الجاهز ، وعاملين ينقلان السمنت الجاهز من الجهة الأخرى بالعربات – كل عامل بعربة – ليصبّانه داخل حصيرة الشيش المنصوبة للأساسات حسب توجيهات الخلفة في الموقع بكل دقة و نشاط . يجب إنهاء صب كل الأساسات اليوم ، و بدون أي تأخير ، و إلّا تعرَضتم و إياي للتحقيق و للاعتقال في سجون الرضوانية الرهيبة . كل الإسمنت هنا هو ألماني المنشأ و شديد النعومة و سريع التصلد ، و المسافة بين كل ماكنة خلط اسمنت و حصيرة الحديد لا تستغرق أكثر من ثلاث دقائق فقط . أما إذا تأخر النقل لعشرة دقائق ، فسيتحول السمنت إلى جلمود فاسد في عربة النقل . فإن حصل أدنى تأخير ، و تحجَّرت الخلطة قبل صبّها في الأسس ، فسنغرِّم العامل المسؤول عن تأخير توصيلها ثمنها ، و هو غال جداً : خمس و عشون ألف دينار لكل عربة نقل ، في حين أن يومية العامل منكم هي ألف دينار فقط . أخواني ، القضية مستعجلة ، و فيها توصية خاصة من القيادة العليا للحزب و الثورة ، و تحتاج لهمم العمال الأشاوس أمثالكم للوفاء بها أحسن الوفاء . و هذا الوفاء لن يتحقق إلا !ذا أشتغل كل فريق بالتنسيق الجماعي و بالمواكبة البينية مثل الدواليب المسننة المتعشقة ببعضها البعض في الساعة . حتى حك الرأس ممنوع ، مفهوم ؟
- مفهوم ، أستاذ . ردّد أغلب أفراد فوج العمال .
- بارك الله بكم ، أيها النشامى ! بوق طعام الفطور سيصوّت في الساعة التاسعة و النصف صباحاً ، و مكان تناول الفطور هو في الخيم العشرة المنصوبة على يمينكم بعيداً هناك قرب المرافق الصحية ، كل خمسة منكم بخيمة ، مفهوم ؟
- مفهوم ، أستاذ !
- و بوق العودة للعمل بعد الفطور سيكون في الساعة العاشرة . مفهوم ؟
- مفهوم ، أستاذ !
- و بوق الانصراف من العمل سيكون في الساعة الرابعة و النصف عصراً ، مفهوم ؟
- مفهوم !
- و موعد انطلاق سيارة اللوري القلاب للعودة بكم للبصرة سيكون في الساعة الخامسة عصراً بالضبط ، و كل مَن يتأخر و لو ثانية واحدة بعد هذا الموعد سنتركه على الشارع ، و سيتوجب عليه العودة للبصرة على حسابه الخاص ، مفهوم !
- مفهوم ، أستاذ .
- الالتزام الدقيق بالعمل و بنسب الخلط و بسرعة النقل و الحرص على المواعيد ضروري جداً حسب أوامر الحزب و الثورة ، و إلّا تعرض الجميع للحساب القاسي ، مثلما تعرفون . مفهوم ؟
- مفهوم .
- و الآن انطلقوا سريعاً للعمل خمسة خمسة ! تفرّق !

في الساعة الثامنة و النصف ، و فيما كان العامل "جبار" ينقل عربة الاسمنت الجاهز من ماكنة خلط الاسمنت إلى خندق الأساس ، أحس بالحاجة الآنية الماسة للتبوّل فوراً إذ كان يعاني من مرض السكري و سلاسة التبول . و لما كان الذهاب إلى جناح المرافق الصحية البعيد و العودة من شأنه أن يحيل خلطة الاسمنت التي ينقلها إلى حجر ، فقد أنزل العربة على الأرض ، و ارتقى مسناة من الخرسانة المسطحة الفارغة ، و تبول عليها بأقصى سرعة ، ثم عاد و حمل عربة الإسمنت و قد تهللت أساريره لرؤيته عدم تصلده . صب الاسمنت في خندق الأساس بسرعة ، و دلف عائداً لماكنة الخلط لنقل الوجبة التالية .

بعد خمس دقائق ، سمع العمال صوت البوق ، فتصوروا أنه للإعلان عن بدء فرصة تناول طعام الفطور الصباحي ، و راحوا يحملقون بساعاتهم .

من غرفة استعلامات الأمن الخاص ، خرج الملازم "ذياب" حاملاً مكبر الصوت ، و بجانبه "إياد ميشيل عفلق" ببدلته السوداء و نظاراته السوداء و رأسه المرفوع مصعِّراً خده للجميع ، و خلفه ستة من الجلاميز الطويلة العريضة . صرخ الملازم في مكبر الصوت :
- أنهوا العمل حالاً ، و تجمعوا أمامي نسقاً واحداً ، هين ! تحرك !
بعد أن تجمع العمال في نسق واحد ، خاطبهم الملازم ذياب بالقول :
- الرفيق أياد نجل القائد المؤسس ميشيل عفلق حفظه الله ورعاه شاهد أحدكم و هو ينجس فوق القبر المقدس للقائد المؤسس ، حفظه الله و رعاه . و هذه – مثلما تعلمون – فعلة شنيعة ، و جريمة نكراء تستوجب العقاب الشديد حسب القانون العادل . أريد من الزلمة اللي بال على رأس القائد المؤسس حفظه الله ورعاه أن يتقدم بكل شجاعة أمامي الآن ، و أن يعترف مثل الرجال بفعلته ، و أنا أعده بأنني سأتوسط له كي لا يُعدم شنقاً حتى الموت حسب القانون ، بل سيخفف الحكم عليه إلى الإعدام رمياً بالرصاص ، و يمكن بالسجن المؤبد . و الآن : من منكم هو الذي بال على رأس القائد المؤسس ميشيل عفلق ، حفظة الله و رعاه ؟
بقي كل العمال ساكتين ، و كأن على رؤوسهم الطير .
- صمٌ ، بكمٌ ، فهم لا يعقلون ! شوفوا ، إللي يعلَّم لي منكم على الفاعل المجرم ، أعده بأنني سأتوسط له كي يمنحه الرئيس القائد صدام حسين حفظه الله ورعاه نوط الشجاعة ، مثلما أعطاه للأب الذي قتل إبنه الفار من الخدمة العسكرية . و لمعلومكم ، نوط الشجاعة بيه قصر و سيارة جديدة . من منكم شاهد المجرم اللي بال على رأس القائد المؤسس حفظه الله ورعاه ؟
واصل كل العمال سكوتهم ، و كأن على رؤوسهم الطير .
- ولكم يا عجايا ، يا شراگوه ، أقسم بالمصحف الشريف أن أخواتكم و نسوانكم هساع طالعات دا ينيچن و أنتم ما تدرون . معلوم ما تدرون ؛ واحدكم يطلع الفجر ويّا القحاب ، و يرجع بالليل ويّا الچلاب ! نايب ضابط زيدان !
- نعم سيدي !
- دَيِّح ذولي الشراگوه النجسين بالشارع هلحين ، و شوف شغلك ويّاهم زين حسب الأصول !
- تؤمر ، سيدي ! – إلى العمال – أثبتوا مكانكم و لا تتحركوا حتى أعود !
هرول نائب الضابط زيدان نحو قاعة الاستعلامات يتبعه بقية الجلاوزة ـ و عاد لصف العمال بعد دقيقتين . قال لهم :
- تدخلون قاعة الاستعلامات واحداً بعد واحد ، و تخرجون منها للشارع مباشرة ، فتمشون بسرعة واحداً واحد ـ و بدون تجمع ، و إذا رأيت في كاميرات المراقبة أحدكم وهو يلتفت للوراء أدنى التفاتة ، فسألقي عليه القبض و أسفّره حالاً للتحقيق في سجن الرضوانية . مفهوم ؟
- مفهوم !
- تفو عليكم ، چلاب !

اتفق العمال بينهم مقدماً أن يلتقوا مجدداً في الباب الشرقي ، تحت نصب الحرية . دخل كل واحد منهم لوحده غرفة استعلامات الأمن الخاص ، ليفتشه جلميزان و يسلبانه كل نقوده - حتى خردة المسكوكات - لينتقل إلى جلميزين يضربانه على قذاله ، لينتقل بعدها لواحد يقف عند الباب يركله على قفاه ، فيخرج مسرعاً للشارع .
إلتقى العمال البصريون مجدداً تحت نصب الحرية ، فأبلغهم كبيرهم "الحاج" بالتوجه معاً لمرآب السيارات في ساحة النهضة ، حيث سيستقلون الحافلة من هناك للبصرة إذا ما قَبِل أحد السواق بكفالته لدفع الأجرة كاملة عند الوصول لبيته في البصرة .
في مرآب النهضة ، رفض أول سائق عرض الحاج عليه . سمع السائق "علي قامة" الرفض ، فتوجه للحاج و قال له بهدوء : تفضلوا لحافلتي الريم هذه ، و أنا بخدمتكم . شكره الحاج ، و استقلوا الحافلة . بعد أن سدد على قامة رسم الانطلاق ، صعد للحافلة ، و أغلق الباب و قفلها ، ثم شغّل جهاز التبريد ، و طلب من العمال إسدال الستائر على النوافذ للوقاية من لفح شمس ذلك اليوم الحزيراني . ثم وقف فيهم ، و سأل :
- أخواني ، شنهو قصّتكم ؟
أخبره الحاج قصتهم بأوجز العبارات . فقال السائق :
- اسمعوا ، أخوان : سفرتكم هذه على حسابي ، و معها غداكم في العزيزية ، و راح أوصل كل واحد منكم لباب بيته ، و آني الممنون ! فقط ، أرجوكم ، أعلموني من الذي شخًّ على رأس هذا اليهو- مسلم- كاثوليكي عفلوقي !
- و هل تشتغل أنت مخبراً أمنياً أيضاً ؟ لم تريد معرفة الاسم ؟ سأله الحاج مبتسماً .
- شوفوا أخوان : داعيكم معوَّق بقادسية زربان ، و عندي أخو وحيد شيوعي أعدموه العفالقة و أمّي عمت عيونها من كثر البچي عليه . كل اللي أريد أعرفه : منهو البطل إللي رفع راسنا و شخَّ على رأس هذا الحقير عفلق ، لكي أفرح بتقبيل جبهته ؛ بل نعاله ، و زبّه الشريف !
قال هذا و قد أنهمل الدمع بعينيه ، فأنشد بصوت متهدج :
دار الملوك أظلُمَتْ عُگب السَنا بَسْروج ،
يَهْناك دَمعي يِكت إعلى الوَجِن بَسْ روج ،
والخيل لمَّن تِردَّت واضْلَعت بَسْروج ،
والكِدِش أصبح لها عَزْمن شِديد وباس ،
والزين دَنًّگ على چَف الزَنيم وباس ،
والشهِم لو عاشَر الأنذال ما هو باس ،
من جِلَّة الخيل شَدَّوا علچلاب سروج .
كفكف السائق دموعه بمنديله الأبيض ، و دسّه بجيبه ، ثم انطلق بسيارته على الطريق السريع للبصرة بأقصى سرعة و هو يتراقص على كرسيه بكل زهو وانتصار !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اسلوب تهكمي ولكن
Muwaffak Haddadin ( 2020 / 5 / 22 - 05:52 )
السيد الكاتب المحترم
بعد التحية
لا حاجة للتحقيق البوليسي بل كان كافيا أن يهمس ابن القائد المؤسس - الذي رأى الفاعل - في إذن المحقِق ليدله على الفاعل . ولا حاجة للإسهاب في وصف الحالة الدراماتيكية . هذا أسلوب قصصي ضعيف
لعله ستنتفع إذا مارست الكتابة القصصية أكثر قبل أن تكتب في موقع الحوار المتمدن . أُكرر المتمدن
بقي أن أقول : أسلوب صفيق في وصف العريق. ومن جلة الخيل شدوا ألخ
موفق حدادين
عَمّان


2 - القصة حقيقية ولكن بعض الحقائق مرّ
حسين علوان حسين ( 2020 / 5 / 22 - 19:44 )
الأستاذ الفاضل موفق حدّادين المحترم
ت 1
تحية مستجدة وبالغ الشكر على التعليق
هذه القصة حقيقية بقضها وقضيضها ، وقد ذكرت إسم راويها منذ البداية . كان إياد بن ميشيل عفلق (ألذي يكتب إسمه -أياد- وليس -إياد- برسمه الصحيح) يراقب العمال من مقره المبرّد في بناية القيادة القومية البعيد/ الطابق الثاني ، وليس في لفح موقع العمل ، وما كان بمقدوره التشخيص الدقيق للفاعل ، ولذلك فقد إحتاج خمس دقائق للوصول إلى موقع الأمن الخاص للإبلاغ .
كتبت أول قصة عام 1961 وحصلت على الجائزة الأولى في المدرسة عليها ، وأنا مستمر على الكتابة في القصة القصيرة والمسرحية والرواية و أدرِّسها وأعرف قيمة نفسي و لا أوجبها .
ما كان ميشيل عفلق عريقاً ولا أصيلاً قط ، بل كان دمية انتهازية مكشوفة للداني وللقاصي نفذت
أجندات فرنسا وبريطانيا وأمريكا في الشرق الأوسط بكل صَغار ومذلة . ولو كان عريقا وشريفاً بحق لأعدمه صدام مثلما أعدم عبد الخالق السامرائي عضو القيادة القومية ومنيف الرزاز الامين العام المساعد للقيادة القومية وغيرهم الآلاف من القياديين والعسكريين البعثيين الشرفاء . ولأن للتاريخ لسان ، فقد قال كلمة الحق فيه وفي صدام وضحاياه

اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا