الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-حديث الحس-: مساهمة في التلقي

كمال التاغوتي

2020 / 5 / 21
الادب والفن


تصدير: أُقسِّمُ جسمِي في جُسومٍ كثيرَةٍ // وأحْسُو قَـراحَ الماءِ والماءُ بارِدُ
(عروة بن الورد)

يتجاوز القارئ حدود الضيافة ويخرق آدابها وطقوسها. فهو لا ينزل ضيفا على العمل الأدبي بل يَعُدُّ نفسه شريكا أصليا في عملية إنتاج المعنى، رغم ما يُوهم به الإبداع من فردية. والمؤلف يدرك الأمر ويعمل على تكريسه بخرق أفق انتظار القارئ والرفع من درجة التشفير لينشئ عالما في ذاته فيجبر المتلقي على تفعيل مخزونه من النصوص والصور من أجل التوغل في أجَمة العلامات وشبكاتها المعقدة. ولما كانت عادات القراءة تنحو صوب تحيين آلية الأشباه والنظائر، أملا في إلحاق النص المنجَز بمنجَز من شِكله أو بمذهب أو تيار قد يُيَــسِّرُ الوصول إلى مفاتيحه، فإن المؤلف يفاجئ قارئه على الدوام بعُدوله عن المألوف؛ بل إنه يعمل على تغيير ذائقته الفنية فيضطر القارئ إلى الإقامة – في – النص /العالم، والبحث في فرادته وطرقه الفذة في إنتاج المعنى.
ذاك ما تجلوه مغامرة محمود المسعدي في "روايته" حدث أبو هريرة قال..."؛ فهذا الأثر الفني وإن أعلن البعض انتماءه إلى جنس أدبي (الرواية) محدد انصياعا لما تمليه المؤسسة النقدية فإنه يظل زَلوقا عن كل قبضة، لا مناص من اقتحام مجاهله وشعابه والاصطدام بنتوءاته ومطاردة علاماته. وقد وقع الاختيار على فصل منه يرِد تحت عنوان "حديث الحس" (الكتاب ص.ص.75-79)، لأنه في رأيي يمثل أسلوب الكتاب خير تمثيل؛ فرغم توفره على أركان القص الأساسية (شخصيات، حدث، مكان، زمان) إلا أنه ينْـبُو عن هذه المعالجة لاسيما وأن مداره حالٌ عاشتها الشخصية الرئيسية – أعني المرض – مما يجعل البعد الحدثي يتقلص إلى الحد الأدنى مفسحا المجالَ لحركة مغايرة لا تُدرك بالحس في فضاء مجرد لا يمكن رسم تخومه. بيد أنّ هذه الخاصيةَ لا تحُول دون قيام الصراع فيه، وهو صراع لا يمنح نفسه من الوهلة الأولى لأنه يتوارى خلف طبقات من العلامات تختلف درجة كثافتها. لعل هذا ما يجعل النظر في بنية النص وطرق تشكله سبيلا نحو فهمه وتفعيل دلالاته.
حديث الحس مشحون بالمفارقات؛ أولها في هذا العنوان/اللافتة، فملفوظ "الحس" وإن يُحِلْ مباشرة على طريقة في إدراك العالم، أي عبر الحواس، فإنه يشتمل على معانٍ معجمية أخرى، جاء في لسان العرب ما لَفْظُه: الحِسّ مس الحُمّى أول ما تبدأ؛ والحِسّ: وجَع يصيب المرأة بعد الولادة، وقيل: وجع الولادة عندما تحسّها؛ وحَسْ، بفتح الحاء وكسر السين وترك التنوين: كلمة تقال عند الألم... والحِسّ: صوت الحركة ... إن هذا الطيف الدلالي يعصف بالانطباع الأول، ويكتنف العنوان بالغموض. فهناك أكثر من معنى معجمي مرشح ليكون المقصود؛ والنص ذاته لا يرجح معنى محدّدا، وكل معنى يرجحه القارئ يصطدم بما ينقضه؛ تفصيل ذلك أن ترجيح دلالة الحس على المدرك بالحواس يجد صداه في حضور الجسد؛ لكن القارئ ربما ينتظر نصا حسيا إيروسيا فإذا به يقف أمام جسد عليل يتم تجاوزه إلى الروح. وبذلك يميل القارئ إلى ترجيح دلالة الألم فيصير العنوان "حديث الحَسْ" لصلته بالمرض وتواتر لفظ الألم بمشتقاته في فضاء النص، بيد أنه يلفي الشخصية الرئيسية تتلذذ بعلّتها؛ وقد يرجح دلالة الحس على الحركة وصوتها، ولهذه الدلالة حضور في خطاب الراوي والشخصية الرئيسية لكن النص ينزل بالحركة المادية المحسوسة إلى أدنى مستوياتها. وفي ترجيح دلالة الوجع – سواء بسبب الحُمّى أم الولادة-وجاهةٌ أيضا، فالشخصية الرئيسية تتوجع من علة ألمّت بها، لكنها تنقلب على الوجع الحسي لتعبر عن وجع غير ملموس ومرض لا صلة بأوصاب الجسد. ليس ما ذكر من باب التعجيز، إنما مدار الأمر أن العلاقة بين النص وعتبته متوترة توترا يجعل النص يفعّل كل الطيف الدلاليّ تفعيلا حقيقيا واستعاريا؛ وهو ما يولّد مفارقات لفظية ستجد صداها في النص لتساهم في تحريك الصراع.
يقوم حديث الحس، أكان فصلا أم مشهدا، على التباين والتعارض، فحركته بين قطبين متضادين: العلة والصحة؛ لكل قطب منهما فلك خاصٌّ به في مداره ملفوظات جارية، بعضها من جنسه وبعضها الآخر مما ينتج عنه فهي سليلته. في مدار العلة تجري ملفوظات (المرض والإمحال وذهاب الماء وتفكك الجسد وتميّز الوصال) وهي توسعة للقطب تتنزل ضمن لائحة مستقاة من لائحة مشتركة بين السارد والمتلقي، كما تجري ملفوظات (الضنى والوجع والألم واللذع والبكاء والفناء والنزع والعدم) وهي وليدة القطب مترتبة عليه تتنزل ضمن لائحة تفعّل المعجم الرثائي وطاقته التفجعيّة. أما مدار القطب الثاني – أعني الصحة-فتجري فيه ملفوظات (الشفاء والاستقامة والإبلال والقوة والسلامة) وهي نظيرة المرض وما يتصل به، وملفوظات (اللذة والحياة وخلاّق والخلد والكيان) وهي نظيرة الفناء وما يتصل به. وبذلك يحكم النصَّ توترٌ ناجم عن حضور هذه الثنائيات وتكرارها بنسب متفاوتة. هذا التوتر يكشف عن تجربة عنيفة يخوضها أبو هريرة تلقي به مباشرة في مواجهة الجسد وهو يتهاوى وينهار، فيفقد توازنه وتخترقه فوضى تفككه وتدفع به نحو التلاشي. يتوزع تصوير هذه الحال وتشخيصها على شخصيتين تمثلان قطبين آخرين؛ ريحانة الوجه الأنثوي من جهة وأبو هريرة الوجه الذكوري: أما الأولى فهي خارج التجربة وإن تكنْ مندرجة فيها وجدانا بتعاطفها وشفقتها، أي بردّ فعلها على ما تشاهده. وأما الثاني فداخلها يعانيها ويختبرها حسا ووجدانا وذهنا. لا جرم أن تختلف وجهات النظر وتبلغ حد التعارض هي الأخرى، فكل طرف من هذين الطرفين يصدُر عن خلفية يحددها موقعه من التجربة الراهنة. يترتب على التباين في استقبال العلة نمطان من السلوك يسطرهما النص أقوالا وأعمالا، تتجلى في ضربين من الخطاب ضمن الحوار الثنائي: الأول خطاب ريحانة الراوية، فهي تعرض شهادتها بما رأته في أثناء مرافقتها أبا هريرة؛ لذلك تعتمد سردا يقوم على تبئير خارجي إذ تكتفي في سردها الأحداث بما يدرك بالعين (مرض، ذهب عنه بعض المرض فدخل الإبلال، تنفّس، ابتسم وسكن، دموعه، ضمني وضممته) فهي لا تتجاوز ما ينبئ عنه الظاهر ولا تبسط أمام القارئ ما يجول بذهن العليل ونفسه؛ إنها – على الرغم من إشفاقها الدال على حبها – تقيم بعيدة عما أثمرته العلة من مشاعر ورؤى. تعود هذه المباعدة الذهنية – النفسية، وهي تعارض التقارب الجسدي الحسيّ، إلى انشداد ريحانة إلى تصورات مألوفة عن العلة والصحة تتجلى خاصة في سلوكها عندما نزلت العلة بأبي هريرة إذ تتألم لألمه وتتوجع لما يكابده من الضنى، لتترجم ذلك كله بالبكاء بين يديه والحنوّ عليه. مشاركتها الوجدانية وقربها الجسدي يساهمان في انتشال العليل من عذابه خاصة وأن النص لا يبوح بطبيعة العلة ولا يمنحها اسما؛ فما يراه المتلقي ليس سوى آثار المرض وتبعاته الحسية والنفسية (الوجع والألم). وفي غياب التسمية تنزلق الذات إلى السديم المفرغ من المعنى. فلا يمكنه السيطرة على ألمه ليتحول شيئا فشيئا إلى عذاب مقيم. إن ريحانة من خلال رد فعلها تعبر عن نفورها من العلة بما أنه ليس فيها "غير الإمحال وذهاب الماء"؛ فتحاول عبر اللمس والضم احتواء العليل وترميم ذاته لأنها تعتقد أن العلة تؤول به إلى نقصان في الوجود؛ وهي بذلك تزيد المسافة اتساعا بينها وبين أبي هريرة، لأنها تنظر إلى المرض من بعد واحد يتمثل في كونه خطْبا ينهك الجسد ويتهدد الحياة وينذر بالموت والفناء؛ ولا خلاص منه إلا باستعادة جسدٍ معافى. إنها وجهة نظر تشريحية (نقول عنها "واقعية")؛ تتعامل مع الجسد العليل تعاملها مع آلة أصابها عطَبٌ، ومن ثمة يفقد جدواه وفعاليته. هكذا هي ريحانة في معالجة هذه "الأزمة"، تقف على شاطئ المعاناة لا تدرك شيئا مما يجيش في الأغوار. لعل ذلك ما يدفعها إلى القول – وهي مشفقة متوجعة - : "... حتى كأني منه."؛ فالناسخ "كأنّ" الدال على التوهّم يبرهن على إدراكها، أو حدسها، المسافة الفاصلة بينهما، وهذه الهوة الذهنية تسعى ريحانة إلى ردمها بتشابيه توهم بأنها جاوزت مظهر أبي هريرة إلى مخبره فتقول في أكثر من موضع: "فيلقي بأذني كالحنين، وكان في صوته كصدى غيب بعيد، فإذا دموعه كقطر الندى على خده" تجمع هذه التشبيهات المجملة بين المألوف والغريب، فتقرّب الموصوف حتى يمسي محسوسا: الحنين*( صوت الأم الى ولدها ؛ صوت الذي في فؤاده نزعة ألم؛ صوت العود عند النقر عليه؛ صوت المشتاق.) وقطر الندى؛ وتبعّد حتى تُغْرب: صدى غيب، لتمنح أبا هريرة بعدين أحدهما حسي تدركه والثاني مجرّد يغرب عن الحواس فلا يمكن إدراكه إلا بخوض التجربة، ذاك ما يصوّره النوع الثاني من الخطاب على لسان أبي هريرة ذاته. يحتل خطابه المساحة الأكبر من النص، لتتخذ ريحانة عند إنجازه موقع المتلقي خاصة في مرحلة الإبلال والتماثل للشفاء، أي أن الرجل قد خرج من مرضه نسبيا وخفّت وطأة العلّة عليه. في هذا المضمار ينقسم كلامه إلى سرد وتأويل دون أن يكون ذلك على نسق واحد أو ترتيب، فهو يراوح بين الحكي والتأمل ويوجه الخطاب وجهة مغايرة لمألوف الناس وعوائدهم. بيان ذلك أن أبا هريرة يشرع في هدم شبكة العلاقات القائمة بين قطبي العلة والصحة، وإنشاء علاقات مغايرة تُضحِي بموجبها العلة والمرض والألم مولدة لمعان عهدناها من نقائضها؛ ثمة شبكة دلالية جديدة تربك المعاجم القائمة في الأذهان، فالعلة (أو المرض) تصبح في عُرف أبي هريرة "من محييات الحياة" فبهذه العلة "تمت" حياته وازداد "مقدار القوّة" فإذا بقرب الفناء – وهو نفسه اشتداد العلة – "خلاّق" فيؤدي إلى ضده. وعلى هذا المنوال يسلب الخطابُ الصحة بهاءها وجاذبيتها حين يحل التضاد فيقول: "آلمني أن يكون نصف متاع الدنيا في حال لا يصيبها الإنسان إلا حينا بعد حين، إذا سلِم من كثافة الصحة.". ص.79 فالسلامة تكف عن أن تكون ضدا للأمراض والعلل وكل خَطْب يقرّب المرءَ من الموت لتقيم في القطب المضاد. يعرض أبو هريرة تفسيرا لهذا التصور غير المعهود من خلال سرد استرجاعي للحظات مرضه؛ لكنه – على خلاف ريحانة – ينأى بتصويره عن تلك الرؤية التشريحية الخارجية، ليستبطن ذاته ويصغي إلى خطاب آخر غالبا ما يهمّش في خضم فوضى الحواس؛ إنه يصغي إلى الجسد العليل "كيف يرقّ حتى كأنه عود كلما جسسته أنَّ" فيجد في ذلك خفة وشفافية تبلغ حدها الأقصى عندما يقول في غمرة النشوة: "وقد ذهبت لي والله ساعاتٌ وأنا أقفُو أثر الروح تنتقل من يدي إلى رأسي أو منه إلى صدري وتتردد على الأعضاء والقلب والأمعاء ترددَّ الفجر، فكأني أسبح في دمي يجري." تضيء العلة الذات وتمكنها من التجلي والظهور ساعة إشرافها على الانهيار والفناء: إنها لحظة نادرة شاذة يبلغ فيها الوعي درجة قصوى تتجاوز سطح الأشياء، وتنفض عن الجسد ما تراكم عليه من محرمات عبر تاريخ القمع الطويل. هكذا يتحوّل أبو هريرة بالعلّة/ المرض من عرَضٍ إلى جوهر يبعث الحياة في ذاكرة الجسد ويكشف للكائن البشري الفاني انشطاره الأوّليّ. ذاك ما يفسره جمع أبي هريرة في حديثه بين الأضداد مستخدما المقابلة والطباق (الروح/ الجسد، لذة/ ألم، حنظل لا كحنظل الناس، مرارة وحموضة /تحسن في العين ...) ولكن هذا الكشف لا يثمر سوى الحسرة على انفلات تلك اللحظة، لحظة التجلي كما يسميها الصوفيون. بيد أن صاحبها – رغم اقترابه من المتصوفة في طلب صفاء النفس بترويض الجسد – لا يبحث، في هذه المرحلة، عن الفناء في ذات مفارقة؛ إنما وكده الخروج من عالم يحكم على الفرد بالتحدد ويقهره بالعزلة والانفصال؛ ومن ثمة تكون العلة – شأنها شأن العشق – سبيل الفرد إلى تجاوز شرطه البشري القائم على تناقض مأساوي فيبلغ تمامه.
يبتني على ما سبق أن العلّة / المرض تتغير سماتها بتغير زاوية النظر؛ فالنص يقيم تعارضا بين موقف ريحانة وإشفاقها منها وبين أبي هريرة وحسرته على ذهابها، أعني العلة. فريحانة تجد في العشق الإيروسي اكتمالها فتكتفي وتقنع، بينما يكتشف أبو هريرة نقصانه فهو ما يزال حبيس انشطاره البشري. لذلك يعبّر عن شوقه إلى العلوّ فيقول: " وددت من زمن بعيد لو أني علقت بين السماء والأرض... فلم أصب ذلك إلا في علّتي تفكّ الجسد وتميّز الأوصال فيخفّ اللحم والدم فكأني في الخلد.". ص.78 إن تجربة المرض بوصفها إشرافا على الموت تخلص الجسد من كثافته فتصفو النفس وتَـلطُف فتحرر. إنّ لحظة تفكك الأوصال ووقوف الكائن على حافة انهياره هي ذاتها لحظة إعادة خلقه؛ فتجربة التخوم هذه – على حد تعبير جورج باتاي – تمنح الجسدَ عمقه ونافذة يطل منها على أبعاده غير المرئية. يقول أبو هريرة مستخلصا حكمة:" إنه لا تكون الحياة أبدع مما تكون بين العدم والكيان..." ص.79 إلا أن هذا البرزخ ليس مكانا بعينه، إنما هو حال يشهدها المرءُ – في حدس وعفوية – عندما يخرج من قوالب الأشكال الاجتماعية المنتظمة دافعا بالذات إلى هوة الضياع. حقّا، إنها لَمجازفة.
يتسم "حديث الحس" بكثافته، فالراوي يستخدم سردا مؤلفا تارة ومجملا قائما على الحذف – إضمارا أو إسقاطا – تارة أخرى، ليخلو النص من الأحداث أو يكاد. وعلى الرغم من ذلك يلوح المشهد دراميا شديد التوتر، ومردّ ذلك إنما هو المواجهة بين الرؤيتين. فالصراع الدائرة رحاه في النص ذهني تتدافع فيه الأفكار من خلال عبارات ووسائل فنية تستدعي مرجعيات معرفية وثقافية تدور كلها في فلك الجسد العليل لتعالج قضية وجودية تتمثل في ماهية الكائن البشري وإمكاناته وحدوده. فريحانة بدفقها العاطفي وسعيها إلى انتشال العليل من علته إنما تحافظ على الموجود، وتعمل على تمديد تجربة دشنها صاحبها منذ اكتشف الجسد. في مواجهة ذلك ينتهج أبو هريرة مسلكا موضوعيا في تعاطيه مع علّته، فتغيب العواطف ليهيمن الفكر بمصطلحاته وصيغه المنطقية وقضاياه الفلسفية، فيقدم بطلا إشكاليا لا يكف عن البحث والسؤال، والرحيل الدائم في الذات والآخر على حد سواء. إن وجع أبي هريرة وألمه ليسا بسبب المرض، بل بسبب اكتشافه المسافة الفاصلة بينه وبين ريحانة، يقول في حسرة: "وجعت أن لست في مثل علّتي" ص.77 قد تكون العلة المقصودة مرضه الجسدي، فيكون التشابه المرجو في خوض التجربة واختبار العلة من منظور مشترك وعدسة موحدة؛ وقد تكون العلة المقصودة قلقه الوجودي وقد أيقظته علته الجسدية فيكون التماثل المرجو انخراط ريحانة في التجربة برمتها، وهذا مما يتعذر حدوثه في سياق النص. إن هذه الحسرة ما هي إلا إيذان برحلة جديدة وتلبية لنداء بعيد حيث يتجلى الوجود وينكشف. هكذا يستقر الحس في دلالة وجع الولادة على نحو استعاري، وقد آن الأوان للوضع وهو الحديث الموالي مباشرة.
ينفر أبو هريرة من البيوت – الأماكن المغلقة – ويفضل الظهور والتغير بحثا عن بداية أخرى تنقض الجاهز المألوف وتدشن عالما مغايرا يباين المعهود. ليس يعني هذا آليا الانطلاق من الجذور لبلوغ نهاية ما. لا ضرورة للمنتهى؛ إنما تكون الانطلاقة مما أطلق عليه جيل دلوز اسم "الجذمور" rhizome أي البداية مما هو كائن، من الوسط. ولا يتأتى هذا إلا إذا مارس الفكر الترحيل المتصل فلا استقرار ولا توطين يجبر المرء على الانقياد لمؤسسات المجتمع وأحكامه الجاهزة وعباراته المسكوكة. إن أبا هريرة كما صاغه المسعدي رحّالة – حقيقة أو مجازا – يرغب دائما في صقل الدروب وتجاوز نتوءات تصطنعها السلطة – في تجلياتها المختلفة -من أجل توطين الأفراد وإرساء نظام يتحكم في تدفق الرغبة. والرحالة ينفر من القوالب الميتة ويبحث له عن نقاط هروب تمكنه من الخروج الدائم. فأبو هريرة، إلى جانب جوهره المأساوي، يذكّر بما حفظته الأساطير والخرافات من أسماء تحولت إلى أيقونات للرحيل: غلغامش في رحلة البحث عن الخلود وأوليس في رحلة العودة والسندباد في بحثه عن الثروة والمغامرة... كذلك الشأن بالنسبة إلى الكتب المقدسة. هذه الرغبة في الخروج لا تعني الهروب من الواقع، بل مواجهته بالحركة الدؤوب والانفلات من قبضة المعتاد. وبذلك فإن الرحالة يقحم البداوة، بوصفها بحثا دائما وجريانا لا ينقطع، في القائم المؤسس، فيرفض الخضوع والسكن إلى المنجز. يظل الرحالة مشروع استيطان لا يكتمل البتة يحمل على كاهله عبء وجوده مكافحا من أجل نحت كيان قد لا يكتمل إلا عند تشظيه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا