الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قصة الفلاح الفصيح

طلعت رضوان

2020 / 5 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


قصة الفلاح الفصيح: الجمع بين الواقع والصياغة الأدبية
الفلاح الذى شبّه العدالة بالميزان
البردية التى أخذتْ اسم (الفلاح الفصيح) وذاعتْ شهرتها ترجمها كل من عالم اللغويات والمصريات البريطانى (جاردنر) والعالم الألمانى (أدولف إرمان) والعالم الألمانى (فوجلزانج) والعنوان الأصلى للقصة (ساكن الحقل) وفى رأى معظم علماء المصريات أنها (فى الغالب) عن واقعة حقيقية حدثتْ فى عهد الملك (خيتى) أحد ملوك هيراكليوبوليس (أهناس المدينة) فى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد. وذكرماسبيروأنّ هذه القصة لها ثلاثة مخطوطات: إثنان فى لندن وواحد فى برلين.
بطل القصة اسمه (خنوم أنوب) فلاح من وادى النطرون. قال لزوجته (ميرى) أنه سيذهب للمدينة لـيُحضرالطعام للأطفال..وأخذ ستة مكاييل من القمح ليستبدلهم (= المقايضة) بسلع أخرى..وترك عشرين مكيالا لزوجته وأطفاله..وأخذ معه بعض الطعام والبيرة (حِنكتْ) وهى المشروب الشعبى فى مصرالقديمة..ولما اندهشتْ الزوجة قال لأنّ السفرقد يطول..وحمل على حماره بعض النباتات والملح..وعندما وصل لمدينة أطفيح اعترضه (تحوت- نخت) الذى طمع فى الزكائب التى يحملها الحمار..ولكى يحتال على الفلاح وضع قطعة من النسيج وفرشها على الطريق..وقال للفلاح ((أتريد أنْ تطأ ملابسى؟)) فقال الفلاح: سأفعل ما تريد وابتعد عنه..ولكن تحوت نخت قال له: أتريد أنْ تجعل قمحى ممرًا؟ وظلّ يتربص به ويستفزه..وأخيرًا قال له: سآخذ حمارك أيها الفلاح لأنه يأكل قمحى. أخذ الفلاح يرجوه أنْ يُعيد إليه حماره ومتاعه. رفض (تحوت– نخت) وأصرّعلى موقفه، فذهب الفلاح خنوم أنوب إلى مديربيت الحاكم وبدأ يحكى له شكواه.
الشكوى الأولى:
يا مديرالبيت العظيم إذا ذهبتَ إلى بحر العدل، فإنّ الهواء لن يُمزق قلاعك..ولن يُحطم قاربك. دعنى أجعل اسمك فى هذه الأرض يتفق مع قانون العدل، فتكون حاكمًا مع الخير..وليس مع الشر..وتكون شريفـًا بعيدًا عن الدنايا. إنى أتكلم فهل لك أنْ تسمع؟ أقم العدل.
وبعد أنْ استمع المديرإلى ملخص الشكوى ذهب إلى الحاكم وقال له ((إنّ أحد الفلاحين سـُـرق متاعه..وقد حضرليتظلم..وفى الحق أنه فصيح)) فقال الحاكم ((طالما أنه فصيح فاجعله يمكث لدينا مدة من الزمن لنسمعه..وعليك أنْ تمد زوجته وأطفاله بالطعام وكل ما يلزمهم..وقـدّم الطعام والحِنكت (البيرة) إلى الفلاح وعاملوه بكل رفق. ثم طلبه ليستمع لشكواه.


الشكوى الثانية:
قال الفلاح ((أنت مثقال ميزان الأرض..وخيط الميزان. لا تتذبذب. إنّ السيد العظيم يأخذ حقه فقط..ولاينهب حق غيره. أليس من الخطأ أنْ يميل الميزان وتنحرف ثقالته؟ ماذا يحدث لوأنّ كيـّال الغلال عمل لمصلحة نفسه؟ لذلك يجب أنْ يُحكم عليه بمقتضى القانون. فمن الذى يكبح الباطل؟ ومن الذى عليه القضاء على الفقر؟ والحكمة تقول: عامل الناس بما تحب أنْ تـُـعامل به. إنّ السرقة عمل مشين. وأنت قائد قارب الحكم والدفة فى يدك..ومع ذلك فإنك لاتردع اللصوص وتتركهم يعتدون على الفلاحين. إنّ كيــّـال الغلال يعمل لمصلحة نفسه، ولذلك يجب أنْ يــُـقدّم حسابه تامـًـا، دون نقص أوتلاعب فى الكشوف..ويجب عليك أنْ تحكم بالقانون، عند حدوث السرقة..وكيف تسمح بأحام الباطل؟ وكيف ستقضى على الفقر، وأنت تترك اللصوص ينهبون مخازن الغلال؟ إنّ العمل الطيب يعيش طويلا..والحكمة تقول: عامل الناس بما تحب أنْ تــُـعامل به.
ينهض الأمير..ويتمشى فى المكان..ويستمع للفلاح بكل انتباه، بينما واصل الفلاح حديثه فقال: تأمل: إنك قوى وشديد البأس..ومشهورعنك صفة الرحمة، فكيف تترك الرجل الفقيرلينهشه الحزن؟ إنّ الحزن يقضى على الأقوياء..وليس على الضعفاء (فقط) اجعل لسانك يتجه إلى الحق..ولا تضل. إنّ لسان الإنسان قد يضره (هذا التعبيرالذى قاله الفلاح منذ آلاف السنين، تعاقب مع الأجيال التالية من شعبنا، وصارفى العصر الحديث: لسانك حصانك، إنْ صنته صانك، وإنْ هنته هانك)

الشكوى الثالثة:
اكبح جماح السارق. دافع عن الفقير. لا تقف ضد الشاكى. احذرمن غضب أوزير(إشارة إلى الحساب فى الآخرة) وقــّع العقاب على من يستحق العقاب..هل يُظهر (توت) تساهلا؟ (إشارة إلى إله الحكمة) اجعل نفسك معادلا للميزان واللسان.
لا ترد على الخيربالشر. ما أكثرالكلام من عشب خبيث. إنّ أصدق وزن للبلاد هو إقامة العدل. لاتكذب وأنت عظيم وأنت الميزان. إنك على مستوى واحد من الميزان، فإذا انحرف انحرفتَ أيضًا. امسك حبل الدفة وأوقف كل مغتصب..والعظيم لايكون عظيمًا إذا تملكه الجشع. لسانك هوثقالة الميزان..وقلبك هوما يوزن به. فإذا سترتَ المجرم فمن يكبح الشر؟
وعندما بدأ فى التطاول وإهانة الحاكم ضربه مديرالقصر..ولكن الأميرأوقفه، وطلب من الفلاح مواصلة حديثه فقال للحاكم: إنك مثل التونى الذى يعبربالناس فى سفينته..ومثل رئيس الخبازين لايسمح بالغش فى الخبز..ولكن عندما يسود الظلم فأنت مثل سفينة لاربان لها..وبلد لاعميد له..ومثل عصابة لامرشد لها. إنك حاكم يسرق وعميد قرية يقبل الرشوة..ومثل المفتش الفاشل الذى كان يجب عليه أنْ يقطع دابرالتخريب..ولكنه أصبح مثالا للمجرم.
الشكوى الرابعة:
فى اليوم التالى قال الفلاح للحاكم: إنك إنسان مُنغمس فى ملذاته..واعلم أنه لا يوجد إنسان مُـتسرّع فى كلامه يخلومن الخطأ والتعثر..والإنسان خفيف القلب يصعب عليه أنْ يكبح أهواءه..كنْ صبورًا حتى تـُحقق العدل..ولايوجد إنسان طائش يتفوّق فى عمله. علـّم قلبك الحرص على التأمل. لاتكن قاسيًا فيحيق بك الأذى. من يأكل يتذوّق ومن يُخاطب يُجيب. تأمل أيها الأحمق فإنك قد ضربتَ..وتأمل أيها المغفل فإنك قد استجوبتَ..وأنت يا مانح الماء فقد دخلتَ فيه فاحذرأنْ يغمرك الماء..ولاتجعل قاربك يرتطم..وأنت يا معطى الحياة لاتسلب الحياة من أحد..ولاتتسبّب فى خراب أحد..والآن هل سأقضى اليوم كله فى شكواى الرابعة؟
الشكوى الخامسة:
قال الفلاح للحاكم: لاتحرم أى إنسان (رقيق الحال) من أملاكه. فإنّ أملاك الرجل الفقيربمثابة الحياة بالنسبة إليه. أملاكه مثل تنفسه..ومن يغتصبها يجب عليك أنْ تكتم أنفه. إنّ منصبك يُحتم عليك أنْ تسمع الشكاوى..وتفصل بين المُـتخاصمين..وكبْح جماح اللص..ولكن تأمل: فإنّ ما تفعله هوأنك تقف مع اللص..والإنسان يضع ثقته فيك. ولكنك أصبحتَ مُعتديًا. لقد نصبتَ سدًا للفقير، فاحترس)) تركه الحاكم ليستمع للمزيد من بلاغته.
الشكوى السادسة:
خاطب الفلاح الحاكم قائلا: أنت أيها المديرالعظيم اعلم أنّ المحاكمة الحقة ضد الباطل..وتعلوبالصدق..وتــُـشجـّـع الحسنة وتقضى على السيئة..كالشبع عندما يقضى على الجوع..والكساء يقضى على العرى..وكالسماء تصفوبعد العاصفة..وتــُـدفىء كل من شعربالبرد..وكالنارتسوى النيىء..وكالماء يطفىء الظمأ. انظرإنّ المُـغتصب يحط من العدالة. إنّ حزنى فى قلبى..والإنسان لايعرف ما فى قلب غيره. لاتكن خاملا بل اهتم بشكواى.
وواصل حديثه فقال: إنّ مجداف القلوب فى يدك. فإذا انقـلب القارب فإنّ حمولته تتلف..وتضيع على رمال الشواطىء. إنك متعلم وماهر..ولكن ليس فى النهب. إنّ مثلك مثل الإنسان الذى كل أعماله ملتوية..والفاسد فى الأرض لايرى الاعوجاج.. ويرى كل شىء مستقيمًا..والبستانى الذى يروى حقله بأعماله الخاطئة فإنّ مزرعته تنموبالكذب. وعلى ذلك يرى المتاعب إلى الأبد.
الشكوى السابعة:
فى اليوم التالى قال الفلاح للحاكم: أيها المديرالعظيم إنك مُعادل ل (تحوت) فيجب أنْ تقضى دون أنْ تنحازلجانب ضد جانب..وكنْ صبورًا حتى يمكن للإنسان أنْ يستغيث بك لقضيته العادلة..ولاتجعل قلبى جموحًا فذلك لايليق بك..والإنسان الحكيم هو من عنده (بـُـعد نظر) لاتفرح بما لم يحدث بعد. إنّ الذى ينتهك حرمة القانون، لا يستطيع الإنسان الفقيرأنْ يـُـقاومه إذا لم تــُواجهه العدالة. إنّ جوفى وقلبى لمُفعمان. وقد طفح من جوفى تقريرحالتى. لقد كان صَدْعٌ فى السد فتدفق منه الماء..وانفتح فى الكلام..وعندئذ أعملتُ مجدافى لسبرأغوارنفسى..ونزحتُ مائى وروّحتُ عما فى جوفى..وغسلتُ كتانى (ملابسى) والآن انتهى خطابى..وانتهى بؤسى فى حضرتك، فما الذى تطلبه الآن؟ إنّ خمولك سيُضللك وشراهتك ستغشك..وعدم اكتراثك سيُولد لك الأعداء..ولكن هل يُمكن أنْ تجد فلاحًا مثلى؟ وهل الشاكى يقف على بيت الخامل؟ على أنه لايوجد إنسان صامت قد أنطقته. ولانائم قد أيقظته..ولامكتئب أزلتَ حزنه..ولا إنسان فمه مغلق فتحته..ولاجاهل جعلته يعرف..والحكام وظيفتهم القضاء على كل سوء..وأرباب الخيرأصحاب فن يصلون الرؤوس التى فــُـصلتْ عن أجسادها (صورة مجازية)
الشكوى الثامنة:
فى اليوم التالى قال الفلاح للحاكم: إنّ الناس يتحملون السقوط بسبب الطمع. والإنسان الجشع عاجزعن النجاح..ولكنه ينجح فى الخيبة. إنك جشع وذلك لاينسجم معك. إنك تسرق وذلك لايُفيدك. أنت يا من يسمح للإنسان أنْ يُشرف على قضيته الحقة. ذلك لأنّ جوفك قد امتلأ..وفى بيتك ما يـُـقيم أودك..ومكيال القمح قد طفح..وإذا اهتزّفإنّ الفائض منه يتبعثرعلى الأرض. أنت من يجب عليه أنْ يقبض على اللص. إنّ الحكام وظيفتهم أنْ يكبحوا الكذب..وليس الخوف منك هوالذى جعلنى أشكوإليك. إنك لا تـُـبصرما فى قلبى..والإنسان الذى لايتكلم ويُدافع عن حقه يتردّد فى توبيخك..والذى يُطالب بحقوقه لايخاف. الحكام يعطونك ومع ذلك تغتصب، فهل أنت لص؟
أقم العدل لرب العدل..وإلهة العدل (ماعت) عدالتها موجودة..وأنت يا أيها القلم وأنت يا أيتها البردية..ويا أيتها الدواة ويا تحوت (رمزالكتابة) ابتعدوا عن عمل السوء. إنّ العدل سيكون إلى الأبد..ويذهب مع من يعمله إلى الجبانة..ويُدفن وتطويه الأرض. ولكن ستظل ذكراه للخير..وهذا هوالقانون فى كلمة الآلهة..هوالميزان والميزان لايجب أنْ يميل..هولسان الميزان إذن..ولايجب أنْ يحيد عن الحق. لايجب أنْ يغش فى الميزان. إنك لاتــُـظهرالرحمة. إنك لاتعطينى مكافأة على تلك الخطب التى تخرج من فم (رع) انطق بالعدل وأقم العدل فالعدل عظيم. لايجوزوجود الظلم مع القانون.
الشكوى التاسعة:
وكانت هذه الشكوى (والأدق كما يقول علماء المصريات) كانت آخر رسالة فى (نقد الحكم) وفيها قال الفلاح للحاكم: أيها المديرالعظيم إنّ لسان الناس ليس إلاّ لسان ميزانهم..هوالميزان الذى يبحث عن نقائصهم..ويدل على طبيعتهم..وقــّع العقاب على من يستحق العقاب..واعلم أنه لاشىء يُماثل استقامتك. إنّ الصدق ثروة الإنسان. والكذب يُضلل الإنسان. الكذب يُبعد الإنسان عن العبوربقاربه..ويجعله لايقوم بأى تقدم. لاتكن ثقيلا يا من لستَ خفيفــًا. لاتكن متحزبًا واستمع لقلبك..ولاتــُـدارى وجهك عن إنسان تعرفه..ولاتتعامى عن إنسان رأيته. اترك هذا الخمول ولتكن حكمتك ((اعمل الخيرلمن يعمله لك)) حكمة تــُـروى على مسامع الناس، فيرجع الناس إليك. الخامل لا ذكرى له..والأصم عن العدل لارفيق له. تأمل: إنى أشكوإليك وأنت لاتسمع شكواى، لذلك سأذهب وأشكوك لأنوبيس (أنوبيس أحد مساعدى أوزيرفى العالم السفلى وتولى عملية تحنيطه)
نهاية القصة:
بعد أنْ ألقى الفلاح (خنوم أنوب) مرافعته التاسعة، أمرالحاكم بعودته ثانية. خاف الفلاح واعتقد أنه سيُعاقبه على النقد الذى وجّهه إليه. فقال الفلاح إننى مثل الظمآن الذى يقترب من الماء، والإنسان الذى يقترب اللبن من فمه. إننى مثل الإنسان الذى يقترب من الموت ولكنه يأتى مُتباطئــًا)) ولكن كانت المفاجأة عندما سمع الحاكم يقول له ((أيها الفلاح.. جهّز نفسك على أنْ تعيش معى)) ولما اندهش الفلاح سمع الحاكم يقول له ((سيأتى كاتب ليسمع شكواك من جديد ويكتبها على أوراق البردى..وأمرته أنْ يجعل كل شكوى فى بردية مستقلة)) ثـمّ أمربإرسالها إلى ملك مصر(بنكاو- رع) الذى ابتهج بعد قراءتها..وأمربتدريسها للتلاميذ فى المدارس (ترجم البردية من الهيروغليفى إلى العربى عالم المصريات (سليم حسن) فى (موسوعة مصرالقديمة- ج18)
وجاء فى آخرالبردية أنّ الحاكم أمربعقاب اللص بأنْ يؤول بيته ومزرعته إلى الفلاح خنوم أنوب..ويرى بعض العلماء أنّ تلك العقوبة صورة رمزية للعقاب الذى يجب أنْ يقع على الإنسان (الطمّاع) الجشع الذى يستبيح لنفسه سرقة أموال غيره، خاصة لوكان هذا الإنسان على درجة من يُسرالحال..ويمتلك مزرعة وماشية مثل الموظف (تحوت - نخت) الذى أعماه الجشع فطمع فى المحصول الذى كان يحمله حمارالفلاح (خنوم أنوب) وعن هذه القصة كتب عالم المصريات برستد فى كتابه (فجر الضمير) ((هذا المشهد يُعد من أقدم الأمثلة التى تدل على المهارة فى تصويرالمبادىء المعنوية فى شكل مواقف ملموسة))
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مزارع يتسلق سور المسجد ليتمايل مع المديح في احتفال مولد شبل


.. بين الحنين والغضب...اليهود الإيرانيون في إسرائيل يشعرون بالت




.. #shorts - Baqarah-53


.. عرب ويهود ينددون بتصدير الأسلحة لإسرائيل في مظاهرات بلندن




.. إيهود باراك: إرسال نتنياهو فريق تفاوض لمجرد الاستماع سيفشل ص