الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حيرة في فراغ الكلام

عايدة نصرالله

2006 / 6 / 19
الادب والفن


عجلات الباص تدور ببطء شديد, كأنه آت من العصر البخاري ، يهدر متثاقلا بحمولته, ويطرطر, طر-طر…. وشتان ما بين تباطؤ الباص ولهفتي. بدا لي الباص مقرفا ومثيرا للأعصاب حتى أن يدي دفعت بالمتكأ الأمامي, وكأني أريد بكل قوتي دفع الباص عله يزيد من سرعته أكثر.
الطقس حارق, الشمس تضرب بأشعتها بغير رحمة رأسا لم تغطه إلا شعيرات خفيفة مر الزمان بها فنزع الكثير منها, وصبغ الكثير بلون أبيض لامع. نظرة إلى الساعة ثم نظرة عبر الشباك علّ الطريق تنتهي. " كم هو بطيء الوقت, خاصة عندما تتوقع شيئا مفرحا ؟! لم استطع تحديد مشاعري , وكيف أحددها بعد أن غابت عن مخيلتي ظلال العيون, وجفت إشراقة البسمات, وخبا دفء الصدور .
لسعتني التنهدات , ومع ذلك, لا… سأفرح. نعم, فبعد أقل من ساعة, وهناك فقط , هناك تنتظرني لحظات ربما تكون جديدة . ربما أولد من جديد, فقد سئمت الارتماء على الصدور, وفي الداخل نزيف رهيب. فعندما يستريح الباص المقيت بعجلاته المتثاقلة , سألتقي حديثا متجسدا في إنسان , إنسانا آخر .هذه الأفكار, تجعلني مرتجفة خائفة , كطفلة في أول يوم دراسي , تماما كالشعور بالانسلاخ عن الأم . لكن لماذا ؟ أنا امرأة ناضجة, ومع ذلك أحتاج الى من يربت على كتفي
ما السر ؟
لا أعرف ,
أريد باستمرار من أسند رأسي على صدره ،
لا . لا أريد .. ترى عم أبحث ؟! لا جواب؟
لا..بل.. يوجد, أبحث عن حديث, يا للسخرية ,حديث ؟! أسمعتم انسانة تبحث عن حديث ؟ ولم لا ؟ وها أنذا أبحث عمن يحدثني . ذلك الحديث … ليس الحديث الذي سمعت وأسمع, شيء آخر، فقط أنا أعرفه وأريده ... كل الذين عرفتهم لم أجد فيهم إلا صدورا …شفاها… و… في إحدى المرات عندما ذهبت أبحث عن كلمة عند أحدهم وبادرته قائلة :"صديقي, أشعر في المدة الأخيرة بأصوات تناديني من بعيد … تماما كما في الحلم … صدى غريب , قدماي لا تمشي على الأرض . أشعر نفسي وكأنني أطير مرتفعة . كم يخيفني هذا الشعور ؟ لقد عرفت بأن أي شيء يرتفع عن الأرض يسقط وكيف وأنا أرتفع وأعلو علوا شاهقا؟.حاولت الاستعانة بكل ما أعرفه عن جاذبية الأرض, وحالات الارتفاع والهبوط ، لم أجد تفسيرا.

كنت متحمسة لكلماتي وهو يحدق بي ابتداء من عين في العين وانتهاء في بؤرة كانت هناك مخفية, ثم عودة إلى عين في العين وقال: "يا لعينيك ما أشد حلكتهما ,ورموشهما الحانية الطويلة , آه وما هذه الشامة التي ارتاحت على خدك ففضحت بياض بشرتك الناصع ؟ قولي لي هل ورثت آل فرعون بحاجبيك الطويلين كقوسين يكادان يلتقيان في لا نهاية؟. واقترب قليلا ثم تابع : يهيأ لي أن نكهتك كنكهة رغيف خبز ساخن خارج توا من طابون , تركيبة وجهك لفلاحة بسيطة…"
أثارتني كلماته , والتشبيه اغتصب ضحكة ألم من داخلي. بعد لحظات, داوني بالتي كانت هي الداء …"
نفضت رأسي وربما ملامحي كانت تهتز مع الأفكار. ونفضت رأسي مرة أخرى للتأكد, كمن أريد التخلص من هذه الأفكار .

كلمات تتردد هنا وهناك . هذا الباص يحمل هموم الدنيا, هموم أرامل, فقراء , مخدرات. على كل مقعد تجلس كومة ألم, الكل غارق, شارد فيما يعنيه, تماما مثلي. وأنا قلبي ما زال يحاول أن يؤقلم نفسه حسب سير الباص ولكن صعب جدا, فكيف لخفقان قلبي أن يتخذ العد التنازلي ولم يبق سوى ربع ساعة على لقائه. هل أنا فرحة حقا؟ نعم.. رغم كل شيء فرحة. سأحاول رفض كل مشاعر الذل التي تحاول أن تشوه فرحتي . نعم, أنا طلبت لقاءه .

هذه أول مرة أكون بادئة في مثل هذه المواقف. وما دمت قد بدأت فيجب أن أتحمل . في الماضي طبقت قرارات. آن لي أن أقرر أنا متى أريد ومتى أشاء. ومن أريد. آن لي أن أقرر من أحب, من أعشق, ومتى وأين . ونوع العشق والحب . واليوم عنوانه حديث… مجرد حديث.
كل ما فعلت أنني كتبت له بضع كلمات وسط الزحام في إحدى الحفلات ودسستها في يده. وكان كأنما أختلس شيئا بعيدا عن أعين الناظرين . وفي الرسالة القصيرة جدا جدا كتبت :" أود كسر جدار أعمالك وهمومك وألتقي بك".

جاءني الرد ابتسامة, ونظرة موافقة انبعثت من عينين صغيرتين احتار القلم في وصف لونهما, لا أخضر ولا أصفر -ذكيتان ضاحكتان. اطمأن قلبي.

حددنا موعدنا, بل حددت موعدا وأنا بين الإقدام والإحجام . وشيء بين لحظات الضعف ولحظات القوة في داخلي . الأولى تردعني والأخرى تشجعني . حلمت دائما بلقاء إنسان أتحدث معه حتى في أتفه التوافه, نتجلى بشخصيتنا الحقيقية, بلا رتوش ولا "مكياج" ولكني خفت أن يكون الرد قاسيا أو مخيبا للأمل. وها أنا ذاهبة إليه … للقائه, سأكلمه. نعم سأقول له :" صديقي, هل هربت ذات مرة من نفسك إلى نفسك (حتما سيفهمني وإلا لما اخترته هو بالذات), هل حاولت الهروب من سفر إلى سفر؟ أو وضعت نفسك في زجاجة وخنقتها أو عملتها شرنقة صغيرة وحبستها في بوتقة لا ترى بالعين كي لا تخرج, وتضج, وتنتفض بصرخة, صرخة حب, غضب, قهر, لا تريد لها التجول فتنفجر تقتل أو تحطم أو تدمر ؟ هل تاقت نفسك إلى ذلك السفر؟ كم أتوق إليه عزيزي, كم أتوق الى سفر بلا سفر, سفر داخلي حيث لا هدوء ولا ضجيج, لا مغالطات ولا مفارقات, فقط أنا وحدي, داخل نفسي, ترى هل هربت؟ هل جربت؟ وهل وجدت هناك سعادة ؟ دلني عليها !.."

نظرت عبر شباك الباص , ندت عني " آه" بدت كالصرخة , خنقتها وسط الطريق, فقد وصلت. نزلت من الباص أحمل حقيبة أسفاري , أحمل قلبي المتعب من الخفقان الدائم , أحمل أحلامي وتنهداتي, أكاد أخنقها.

آه كيف سيكون اللقاء, ماذا…؟ ولماذا هو بالذات ؟ لماذا هذه أعرفها , لأنه هو. وفقط هو . الذي بإمكانه انتزاع كل ما هو مؤلم مختزن في الذاكرة . لا يوجد آخر … آه ما أتفهني كيف أجزم؟ وهو؟ هل هو آلة بيدي أشغلها كيفما أريد ؟ ماذا أريد منه ؟…

كل هذه الأفكار مرت كلمح البصر دون إجابة واضحة, بينما رجلاي تحاولان اعتلاء الدرج الذي خلته يدفعني إلى الوراء. اعتراني شعور بالتراجع. صعدته كمن لا أريد التقدم, ولكني خطوت, ووصلت آخر درجة, طرقت بيدي باب الغرفة. "يا ربي, صوته يناديني " تفضل" صوته يناديني , صوت رخيم رحيم . دخلت. آه , عالم ينطق بعالم صاحبه, غرفة صغيرة, لونها أبيض, كنبة مع كراس يميل لونها إلى الأخضر الغامق.. فاتح مع غامق … شيء جميل. على الجدران معلقة رسوم أرضيتها بيضاء والخطوط سوداء مع إطارات سوداء شيء يوحي بأنه ليس لصاحب الاختيار حل وسط. أبيض. أسود. أوراق صغيرة مبعثرة بشكل فوضوي مرتبة على الطاولة. رائحة نظافة تعبق في الغرفة, موسيقى كلاسيكية تنبعث من راديو صغير وضع على الطاولة, لا أعرف من مؤلفها ولا من أي مقطع أو رقم أية سيمفونية. لكنها كالنسيم الرقيق في ليلة صيف قائظ, توقظ حنينا قديما إلى طفولة مع استفزاز ما إلى دفء يهيئك لقضاء لحظات جميلة تسربت داخلي .

لمحت كل ذلك في أقل من دقيقة, بنظرات متعبة. ويبدو أن وجهي نطق بطول المسافة التي قطعتها وبحرارة الشمس التي لسعتني. نظر الي قريبا جدا. وآه من بريق عينيه, وهذه المرة أيضا لم أستطع تحديد لون واحد لهما. كأنما تحدتا الطبيعة فاحتفظت بسحرها بكل الألوان . أطل علي بعينيه فاستقرت نظراته ما وراء شبكة عيني حتى لم أعد ار سوى ألوان متعددة براقة . هربت الكلمات مني . بدوت أصغر من حجمي بكثير. آه. وددت الكلام , الكلام, الكلام, قابلني بلمس, لمس ولمس, بادرني قائلا :" أعرف أنك متعبة, أعملي لك فنجان قهوة ".

دون مقدمات شعرت أننا متعارفان منذ زمن بعيد. ابتسمت, جررت نفسي إلى المطبخ, بينما كانت يداي تمسكان الغلاية مرتجفتين, كانت يداه تحاصران كتفي, شفتاه تحاصراني بقبلات محمومة لم استطع ردها وغلاية القهوة الساخنة بين يدي .

لم أصدق. إن الجدار الذي خلته جبلا أصبح لينا, شعرة رفيعة ما أن نظرت في عينيه حتى ذابت تلك الشعرة. صدمتني المفاجأة, كنت أحلم بكلمة وإذا بأحضانه تحتويني, تقتحمني, لم أستطع التملص, أو هكذا أردت, لا أعرف. لم أفهم. حاولت الابتعاد ولكنه صنع حولي حصارا. ارتعبت من نفسي أكثر مما ارتعبت منه, خجلت, بدوت كمراهقة لا تعرف معنى الحب, معنى اللمس, معنى العناق. أغرقني بكل ذلك وأنا بعد لا أعرفه, لا يعرفني ,لا أعرف ما أريد..لم أعرف ما أريد.. قلت له
- أرجوك أنا لا أعرفك, ولا تعرفني, دعني أتكلم قليلا, حلمت بالكلام , دعني أعيش هذا الحلم"
- لكنه لم يأبه بكلماتي, وقال لي :" إن المشاعر لا تقاس بالمرات .أية مرات تدخلينها في العلاقات الإنسانية ؟
- لا . لا أقصد المرات بالمعنى العددي وإنما بفترة الزمن التي تؤهل الناس لتحديد علاقاتهم أو تسميتها. ألا تعرف أننا لا نستطيع تحديد لقائنا, ثم أفترض أنك تعطي مشاعرك لإنسانة لا تستحق؟
- لا يوجد إنسان لا يستحق.
لم أشأ مناقشته. فقد كنت في حالة من خيبة الأمل منه. لا. بل من نفسي. وقعت في الدوامة ذاتها. لماذا؟ هل يتغلب نداء الجسد أحيانا ؟ الكلمة كانت هي المبتغى. هل لنداء الروح الغلبة؟ أم أن لا أحد له الغلبة على الآخر؟ هل أنا بحاجة للنداءات ؟
لم أدرك. لم أعرف. كل ما أعرفه أنه اقتحمني برفق, بحنان وبلين. اغتصاب لين. غريب أليس كذلك؟ نعم اغتصاب فريد من نوعه. وصمت. أحسست أن لساني قد هاجر وقلبي قد هاجر وكل عضو في جسمي قد هاجر. ووقفت صرخة لم تصل إلى ملمس شفتي.
حاصرني بلمساته. عندما حاولت التملص هزمني بكلمة رجاء :" أرجوك , أنا بحاجة إليك " أشفقت عليه فأنا ضعيفة أمام كلمات الرجاء.
قبل أن أودعه قلت له :" كم أخاف أن أكون ضمن اللحظات العابرة في حياتك, أنا لم أرد العطاء هكذا سريعا…لم…ولا..
ضمني بقوة. قال لي وهو يحتضن يدي:
- إنني سعدت بك أكثر مما سعدت بي. أعرف ذلك
صدم توقعي. بعد أن ابتعدت وفي داخلي قرار أن لا أعود ,أعترف أن كل لمسة منه ما زالت عالقة على جسدي, وكل كلمة قالها ما زلت أفتش لها عن معنى في لهاث داخلي وعن مكان تستقر فيه. وقررت قراءة نفسي من جديد.
1989








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل يوم - لقاء في الفن والثقافة والمجتمع مع الكاتب والمنتج د/


.. الفنان أحمد سلامة: الفنان أشرف عبد الغفور لم يرحل ولكنه باقي




.. إيهاب فهمي: الفنان أشرف عبد الغفور رمز من رموز الفن المصري و


.. كل يوم - د. مدحت العدل يوجه رسالة لـ محمد رمضان.. أين أنت من




.. كل يوم - الناقد الرياضي عصام شلتوت لـ خالد أبو بكر: مجلس إدا