الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيريتوس. . و تقنية الإسترجاع لبلوغ الحلم

صباح هرمز الشاني

2020 / 5 / 23
الادب والفن


بيريتوس. . و تقنية الإسترجاع لبلوغ الحلم

صباح هرمزالشاني

تبدأ الرواية بالسرد الذاتي على لسان الشخص المزمع أن يكتب هذه الرواية، بوصفه روائيا معروفا وله تجربة طويلة في كتابة هذا الجنس الأدبي. ولكن بعد ثلاث صفحات من شروعه بالحديث عن كيفية اللقاء (ببطرس) الذي هو صاحب القصة، وتعرفه عليه بعد غيابه لفترة طويلة في المكان الذي كان يلتقي به في بيروت، يخرج السرد من بين يديه وينتقل الى بطل الرواية (بطرس)، لا على أساس أن ما يقصه للراوي هو رواية، لأنه ليس راويا، بقدر ما هو قصة وقعت أحداثها له، أثناء عمله حارسا لخربة سينما سيتي بالاس الكائنة على خط التماس الذي يقسم بيروت بين شرقية وغربية، لكي يقوم الراوي بكتابتها. وهو يقول له: (لا أريد أن أقرأ قصتي بالعامية بل بالفصحى)، في سعي منه لإقناع المتلقي بأن أحداث الرواية ليست مكتوبة من قبله، بل من قبل الراوي، ذلك أن أحدا لن يصدق قصة حياته إذا كتبها هو بنفسه، لأنه ليس إلآ حارسا، كما أن الراوي معروف بصياغته لقصص تبدو حقيقية، حتى وإن كانت أقرب الى الخيال. ولأن قصة حياته كذلك، فهو أكثر الروائيين جدارة بكتابتها.
إن مؤلف الرواية ربيع جابر، بالرغم من علمه بأن هذه اللعبة التي يحاول تمريرها، لن تنطلي على المتلقي، إلآ أنه يتواصل معها الى نهاية الرواية، لهدف واحد، وهو شد المتلقي الى ترقب اللحظة التي تحين أن يبدأ الراوي بسرد أحداث الرواية، هذه اللحظة التي ينتظرها ولا تأتي، مثلها مثل غودو الذي لا يأتي، ربما تشبها بياسمينة التي لا تأتي مع بطرس في النهاية الى خارج القبو (بيروت)، وإنما تختفي، وقد تكون وحدها قد خرجت، بحثا عن زوجها المفقود. لذا فإن بطل الرواية هو الذي يغدو راويا، بدلا من الراوي الحقيقي أو المزمع بسرد الأحداث.
يعمد المؤلف بالتعبير عن ترقب المتلقي في سرد أحداث الرواية من قبل الراوي الحقيقي، بالتعويل على ضمير المتكلم المخاطب (أنت) من قبل بطل الرواية بطرس للراوي، موظفا هذا الضمير أربع مرات في البداية، وثلاثا في النهاية. في المرة الأولى من خلال مفردة: (أسمعني)، وهو يقول للراوي: ( ها أنا أصل الى بداية القصة.). وفي المرة الثانية عبر جملة: (علي أن أخبرك) التي تتكرر مرتين. ليخبره في المرة الأولى: (أنه في تلك الأطلال في قلب الوسط التجاري كان يرى دائما حشرات)، وفي الثانية كان معتادا في حراسته الليلية على سماع أصوات غريبة في هذه الأطلال. وفي الثالثة في جملة: (أريد أن أعتذر)، لأنه تكلم كثيرا قبل أن يصل الى البداية، وفي الرابعة في جملة: (لك أن تكتب ما تشاء)، لأنه سقط في القبو، أي أن المتن الحكائي لقصته، يبدأ من لحظة هذا السقوط.
بعد مرور مائتين صفحة من آخر تذكير بطل الرواية للقاريء في الصفحة (37) بأنه ما زال يحكي قصته للراوي، يعود ثانية وفي الصفحة ( 234) و (242) و (248)، قبل نهاية الرواية بعشر صفحات، تذكيره بالشيء نفسه، ذلك أنها تقع في (252) صفحة من الحجم المتوسط، من خلال الجمل الثلاث التالية:
(لا أريد أن أحكي لك عني. مع أنك تظل تسألني عن أخي ومرض أبي!).
(لا تزعل مني. أنا لا اسخر من رواياتك. أنا أقول فقط أن ما يكتب يصير يسبب ألما أقل).
(لا أريد أن أضجرك بالتفاصيل. كما قال الفلكي فعلت. بقيت أسلك الدروب الى يساري).
تدور أحداث هذه الرواية في مدينة تقع تحت مدينة بيروت، تسمى (بيريتوس) وهو الأسم الاغريقي لمدينة بيروت، لحارس خربة سينما سيتي بلاس الذي يدعى (بطرس)، أثناء قيامه في إحدى الليالي الممطرة بحراسة بنايتها، إذ فجأة تناهى الى سمعه في الظلمة التي تلفه صوتا غريبا، فما كان منه إلآ أن يشعل مصباحه موجها نوره نحو مصدر الصوت. فخيل إليه أنه رآى ولدا في ثوب أبيض. ما حدا به أن يتعقبه، راكضا خلفه، لكن الولد الأبيض الثوب، قفز مثل الأرنب وأختفى. ليقفز هو الآخر وراءه الى أعماق الأرض. أو كما يقول بطل الرواية (بطرس): (قفزت وأنزلقت في الحفرة، نازلا الى تحت، الى تحت، وبدا لي أنني لن أبلغ القعر أبدا.)، ليجد نفسه في مكان أعمق من قعر البئر حيث كان غائبا عن الوعي، وحين عاد الى رشده، عرف أنه تحت الأرض وبرعاية أسحاق وأبنته راحيل، لأنه كان مصابا في كل أنحاء جسمه. ومن هنا من بيت إسحاق الذي يظل فيه طريحا في فراشه لعام واحد ، تبدأ قصة بطرس، وغرائبية الأحداث التي يعيشها في هذه المدينة المطمورة تحت مدينة بيروت.
تأثيرات كافكا وماركيز، واضحة على ربيع جابر في روايته هذه، بالتعويل على الفانتازيا، لإشاعة السوداوية وتوظيف الأسطورة السحرية فيها، من خلال مزج الواقع بالخرافي الكائن في لا وعي الإنسان الشرقي. وهذا ما ذهب اليه أيضا فاضل العزاوي في روايته (آخر الملائكة). في سعي من كليهما، من العزاوي وجابر لإيجاد أسلوبا خاصا لرواياتهما، يشي بما هو أقرب الى الواقعية السحرية، وذلك بمغازلة أسلوبي كافكا وماركيز، والتململ بينهما، ولكن دون أن يقعا تحت تأثيرهما، بل بالإفادة من عملية التزاوج بين تقنياتهما، والخروج منهما بتقنية أنضج. وذلك بفعل زج الأول بشخوصه في أمكنة غريبة، ومواجهتها لكائنات غير معقولة كالجن والملائكة والشياطين، والثاني بزج شخوصه في أمكنة غريبة أيضا، مع أن شخصياته ليست بحاجة الى مثل هذه الأمكنة، لأنها تعيش في هذا الوسط. بالأحرى أن المكان الذي تعيش فيها شخصيات الرواية، هي بحد ذاتها غريبة، ذلك أن المدينة متاهة من البيوت التي مداخلها جانبية وبدون أبواب، وتعامل بطل الرواية مع أحداث أكثر غرابة، وشخصيات أقرب الى الخيال منه الى الواقع، كناس الوحل الذين يحيون خارج المدينة، والناس الذي يعيشون في مدينة العميان، والفلكي غريب الأطوار الذي غالبا ما يجمع بين الضحك والحزن والشرود في آن، وياسمينة الذي يعتقد البعض بأنها مجنونة، نتيجة إختطاف زوجها. ولكن أغرب ما في هذه المدينة هو عدم إهتمام سكانها بالوقت، ذلك لعدم شروق وغروب الشمس فيها، بدليل أن الساعة المتعلقة على الحائط في بيت إسحاق، متوقفة على الثامنة ودقيقة واحدة- العقرب الطويل جاوز للتو الرقم 12- متوقفة على هذا الوقت الغامض منذ سنين. كما أن ليس في المدينة أديان، ولا أحد يصلي، ومع هذا فإن سكانها لا يعرفون الكذب. ولا يوجد فيها دستور، وينتخب رئيسا لها لعام واحد فقط، ولكن الرئيس غالبا ما يتخلى عن منصبه، لأنه لا يستطيع أن يغادر غرفة القصر التي يعيش فيها كأي سجين، ولم تشهد المدينة حروبا، ولا يوجد فيها قبور ما عدا قبر واحد، ذلك أن الجثث تلقى في النهر، وتعثر عليها أحيانا مرمية قرب نوافذ البيوت.
يعمد المؤلف في بناء المتن الحكائي لروايته على مد جسر من التفاهم بين ذاكرة بطل الرواية لما يعيشه الآن في القبو تحت الأرض، وما عاشه في طفولته وشبابه في مدينة بيروت الحقيقية، أي بالتعويل على عملية الإسترجاع المعروفة في مسرحيات هنريك إبسن. وذلك من خلال إجراء وجه المقارنة بين حياته في القبو، مع الناس الذين يحتك بهم، كياسمينة وراحيل والفلكي والمؤرخ، والشيخ إسحاق، وبين حياته خارج القبو، مع الناس القريبين منه، كوالده ووالدته وشقيقه وأصدقائه وأبن خالته. ولبلوغ المتن الحكائي لروايته نضجه، يستعين بفيض من المقارنات التي قد تتعدى العشرين.
وأولى المقارنات تبدأ بمقارنة الراوي بلحظة سقوطه في قعر مبنى سيتي بلاس، بموت والده، ذلك إذا كان موت والده أسوأ لحظات حياته، لعجزه عن التغلب عليها، إلآ أن لحظة سقوطه في قعر مبنى سيتي بلاس كانت أسوأ، أو كما يقول الراوي: (كانت أسوأ لأنها أخذتني الى هناك، الى تحت الأرض.). والمقارنة الثانية يجريها الراوي بين لحظة إنزلاقه في الحفرة، نازلا الى الأرض، وبين نزوله مع أصدقائه في نفق تحت الشارع يفضي الى الوادي، حين كان صغيرا في قرية الجبل.
أما المقارنة الثالثة فتتمثل بين نومه أثناء سقوطه في القبو، وبين تعوده النوم في الملجأ في (مونو) وهو طفل صغير في بيت خاله. في نومه الأول: ( يرى أولادا ثلاثة عيونهم واسعة يحملونه على نقالة الإسعاف عبر ممرات طويلة متشعبة الى كهف. . ). وفي الثاني: (كان ينام ولا يستيقظ على دوي القصف، بينما زوجة خاله تصلي مع أختها للأم مريم العذراء لكي تحفظهم من القنابل.). بينما المقارنة الرابعة تأتي بين عدم ميله للأغاني الحديثة التي لا تشبه موسيقاها بأغاني أم كلثوم ولا عبدالوهاب، ومع هذا ومقارنة بالوضع المزري الذي هو فيه، في القبو، ترآى له أنه يسمع أحلى الأصوات في حياته. والمقارنة الخامسة بين (راحيل) وزوجة شقيقه: (كل إنسان لا يشبهها، لا يحكي مثلما تحكي ولا يتصرف كما يتصرف الناس عموما، كل شخص مختلف قليلا يبدو لها (أخوت)، ليس طبيعيا. .). والمقارنة السادسة بين كتلة التين التي أهداها له الفلكي، وبين حبات كوسى رفيعة تنقر عليها والدته. والسابعة بين: (بكاء يصله من فوق الأرض، يوقظه من نومه، وبين هو في منامه على الرصيف، ينظر الى (البيكاديللي) وهي لا تزال سينما ومسرحا ولم تتحول الى مطعم بعد، في الأعلى، فوق. والبكاء الذي يوقظه من نومه يقوده الى إمرأة عارية حارة البدن مبلولة بالدموع أندست تحت غطائه، وهذه المرأة هي ياسمينة) الشبيهة بالنادلة المتعبة التي ترآت له في الخارج، وهي تمسح آثار الكحل والحمرة عن وجهها، وتبكي قليلا. وكلا الرؤيتين في المرأتين تشيران الى حدوث تغيير ما في حياة الراوي، متمثلا هذا التغير بخروجه من القبو، وهو يرى في النوم يمتطي حصانا يخترق سهولا لا نهائية: ( قطعت السهل وحوافر الحصان لا تكاد تلمس الأرض. كان المساء يقبل ورائحة الطبيعة تتبدل والأشياء ترتاح وتستقر وترقد. . . ). وفي الثامنة بين هجرة أهل القبو لبيوتهم التي تسدها الوطاويط، وبين هجرتهم لبيتهم في الجبل حين نسفوه بالديناميت عام 1984. والتاسعة بين النهر الذي يقذف جثث الموتى على نوافذ البيوت في القبو، وبين شقيقه نزار الذي قاد ذات يوم فرقة شياطين سود على محور السوديكو- بشارة الخوري. وفي العاشرة تذكره صفرة الريح الطويلة للتهوية بأبيه. وفي الحادية عشرة يجري مقارنة بين فراق ياسمينة، وبين إختطاف إبراهيم أبن خاله.
وإذا كانت المقارنة الأولى، تهدف من خلال نزول بطرس في الحفرة أسوأ من موت والده الى ما عاناه من ألم، جراء الكسور التي أصيب بها جسمه، وهو طريح الفراش في بيت أسحاق، بدون أن يقدر على الحركة، فإن المقارنة الثانية بإنزلاقه في الحفرة نازلا الى الأرض، مقارنة بنزوله في نفق الشارع، يفضي الى الوادي في قرية الجبل، تهدف الى الحنين الى تلك اللحظة، لحظة وجوده في الوادي، بالعودة الى طفولته، والخروج من القبو. بينما المقارنة الثالثة، تهدف وهو لا يصحو على صوت القنابل الى إطمئنانه بأن صلوات زوجة خاله ستنقذه من أذيتها، مقارنة في وجوده بمكان يخلو من الصلوات، تحت الارض= الجحيم. وتهدف المقارنة الرابعة الى حاجته الماسة الى سماع الموسيقي والاغاني، أيا كان مستواها لحرمانه منهما في القبو. والمقارنة السادسة والسابعة بحنينه الى الخارج، وفي الثامنة بحدوث الرعب للذين في الداخل والذين في الخارج عل حد سواء، للداخل من خلال سد بيوتهم من قبل الوطاويط، والخارج عبر هجرتهم هروبا من نسف بيوتهم بالديناميت. والتاسعة ببعث الرعب أيضا لأهل القبو، وجثث الموتى تهاجمهم في بيوتهم، حيال قيادة شقيقه للأعمال الإرهابية في فرقة شياطين سود.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، تحديدا من فيض المقارنات التي أجراها الراوي بين الواقع الذي يعيشه بطرس في القبو والحياة التي عاشها في الخارج، هذه المقارنة التي تنطوي على دلالات السعي للتحرر والإنطلاق من الخناق الذي يلف على رقبته في القبو. فضلا عن سقوطه من مكان له ذكرى أليمة في قلوب الشعب اللبناني، أبان الحرب الأهلية اللبنانية، حيث حفرة خربة سيتي بلاس، السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ترى إقترانا بهاتين الدلالتين، أليس من المنطق والمعقول أن يكون كل ساكني القبو قد سقطوا فيها جراء قيام تلكم الحرب، أو الحروب بين الطوائف؟
إن صح هذا التفسير، وهو فعلا كذلك، لوجود أكثر من جملة في الرواية، تؤكد صحته، أقول إن صح هذا التعبير، فإن ما يروم أن يقوله المؤلف هو أن الحرب ما هي إلآ جحيم، إن لم تكن مقبرة، والذين يعيشون في هذا الجحيم، يمارسون شريعة الغاب، إذ لا قانون ولا دستور ولا رئيس دولة، ذلك كما يقول الفلكي كلنا رؤساء. وبصورة أوضح، أن نتائج الحرب كارثية، وتفضي الى تشويه الإنسان شكلا ومضمونا، وتعيده لحقبات طويلة الى الوراء، كما كان أجداده يعيشون في العصر الحجري القديم. ولإثبات أهل القبو هم من سكان مدينة بيروت الحقيقية، أسوق الدلائل التي أستقيتها من الجمل والعبارات الواردة في صلب الرواية:
- إطلاع الفلكي على خارطة بيروت أكثر من إطلاع الراوي عليها، بدليل انه لا يعرف بعد سوق الحدادين ترتفع الأرض الى أعلى، وعلى قمة الجبل يوجد القصر الحكومي فقط، وإنما أيضا وعلى سقفه قرميد، كما هناك حديقة.
هذا يعني أنه يستدل على سوق الحدادين والقصر الحكومي، ليس عن طريق الخريطة فقط، وإنما عن طريق المشاهدة أيضا، وإلآ كيف عرف أن على سقف القصي يوجد قرميد؟!
- في الصفحة (99) يقول الفلكي وهو بصدد حديثه عن الحرب التي تجري في مدينة بيروت: (كان زمنا فظيعا. مات بشر. وأختنق أطفال. وفي تلك الفترة أيضا بدأ الصيادون يخرجون الى (برا) ويرجعون محملين بأطعمة وألبسة وأثاث. . . ).
إن هذا القول من قبل الفلكي، اعتقد ليس بحاجة الى تعليق، أو توضيح لأنه قلبا وقالبا يؤكد أن أهل بيروت، فروا من الحرب الأهلية ونزلوا في القبو.
- في الصفحة (114) يقول العجوز المؤرخ: (أن هؤلاء الجرحى الذين هربوا من المذابح والنار (يروي أن في طفولته أول سماعه تلك القصص، كان يحسبانهم هربوا من براكين أنفجرت وأحرقت، بيوتهم وحقولهم وطمرتها بالسيول والرماد. . . ولم يعرف أنهم تهجروا بسبب الحرب إلآ حين كبر)، هؤلاء المهجرون من جبال بعيدة هم الذين أسسوا بيروت).
قول العجوز المؤرخ هنا هو إمتداد لقول الفلكي ودعما له، ويؤكد الشيء نفسه. وهكذا بالنسبة لبقية البراهين التي تثبت أن أهل القبو هم أصلا من مدينة بيروت الحقيقية،
- وفي الصفحة (116) يقول المؤرخ وهو يتحدث عن ناس الوحل: (إن أخاه الذي مات قبل سنتين رآهم مرة. ثم قال أن خبرهم منقوش في الحجر وأن أجداده كانوا يعرفونهم ويعيشون معهم، ذلك أن أناس الوحل كانوا أصلا من أهل بيروت. وما حدث هو أنهم اضطروا للخروج وراء الأسوار. أنهم طردوا طردا، حدث ذلك سنة الطاعون، قبل زمن بعيد من المجاعة البرانية التي سببت إزدحاما هنا.
- لكن بعض الرجال الذين جاؤوا الى مدينتنا من (برا) – أثناء الحرب – مدوا تلك الاسلاك الغريبة الحديدية . من هؤلاء الذين نزلوا في الحرب؟ متى نزلوا؟ أما زالوا هنا؟
- هل يوجد رابط بين هذه الأعمال فوق وبين جفاف النهر تحت، لكن الإحتمال وارد؟
- رأيت وجها لا أنساه. . . كان إبراهيم (أبن خاله وهما في القبو)، ينظر إلي ولا يراني! خفت أن أتكلم. إذا سمع صوتي من هذه المسافة القريبة أن يعرف من أكون. . حين خرجت من حي العميان عرفت أنني لن أنتظر إنتهاء موسم الأمطار: علي أن افر. . إذا بقيت أكثر لن أطلع من هنا: سأبقى هنا مثلما بقي الجميع.
إذا كان المؤلف، لبناء المتن الحكائي لروايته، يعمد الى ربط الحاضر بالماضي، لإثبات أن أهل القبو الذين يعيشون تحت الأرض، هم أساسا من مدينة بيروت الحقيقية. فإنه بالقدر نفسه يسعى من خلال الأحلام التي تترآى لبطل الرواية (بطرس)، أن ينقذ الناس التي تعيش تحت الارض، كما لو كانت في الجحيم، أو مقبرة، لتعود الى موطنها الأصلي، في إشارة الى إنتهاء الحروب وإدانتها. ولعل قوله: (أن أهبط إذا لم أنزل فمن ينقذ كل هؤلاء البشر من الموت الآتي اليهم؟ أثبت دليل على ذلك. ولبلوغ هذا الهدف، تفيض الرواية بالأحلام التي تترآى لبطرس، للخروج من تحت الى فوق.
تشرع الأحلام التي تراود بطرس، أبتداء من عزف الشيخ إسحاق على الموسيقى التي تذكره بأمه، لينقبض قلبه فجأة، ويتوق لرؤية الخارج، (برا): نور الشمس والسماء الزرقاء وبنايات مدينة بيروت وأعمدة الكهرباء. . . مرورا بحديث الفلكي عن الوقت الأسود، وهي الحرب التي جرت (برا)، ليتذكر: (والده في حقله في الجبل)،: (وأمه على المصطبة، خارج بيتهم في الجبل): (وشقيقه وهو جالس معه بين جذور الشجرة الظاهرة فوق التراب). مرورا بإيقاظه من نومه على نشيج متواصل، وهو يرى نفسه في المنام: (واقفا أمام أفران بربر في منطقة الحمراء يأكل منقوشة زعتر مع بندورة ونعناع وكبيس زيتون ورشة سمسم وخيار وملح. .)، وإنتهاء بتخيله أنه: ( يسمع صوتا لبكاء يأتيه من فوق الأرض. من بيت، أو ربما من مطاعم المدينة يمسحون البلاط من القاذورات . .). أو وهو: (يسمع الأصوات من الاعلى، من عالمه، ويشعر أنه بحاجة الى البكاء، لكنه لم يبك، فقط أرتجف صدره.).
والى جانب المقارنة بين الداخل والخارج، والأحلام التي تترآى لبطرس، يستخدم المؤلف تقنية الإيحاء، تمهيدا للحدث، ووضع المتلقي أزاء عدة إحتمالات لوقوعه. كما مثلا في جملة: (ناظرا الى أسفل) التي توحي وهو يصافح (بطرس) الراوي المزمع كتابة الرواية، أنه جاء من تحت الأرض، في أول لقاء له مع الناس، بعد خروجه من القبو، أو هذا ما يريد أن يقوله له، أنه كان في الأسفل. ولكن ليس عن طرق الكلام، وإنما عبر الإشارة التي ربما أكتسب هذه العادة، عادة الحديث بالإشارات من الناس الذين يعيشون في الأسفل. كما أن جملة: (وحين تكلم هذا الصوت الهامس الضعيف)، هي الأخرى توحي الى ان هذه العادة قد اكتسبها من سكان القبو. ذلك أنهم غالبا ما يتحدثون بالهمس والإشارات: (لا أدري لماذا أصواتهم هامسة هكذا، فلا بد أنهم قادرون على الصراخ.) ص38. :(ألاحظ انهم في بعض المواقف لا يستعملون الكلمات أبدا. بل يلجأون الى التعبير بالجسم كله. أتذكر راحيل تستقبل ياسمينة بالعناق، فأبتسم.) ص111.
كما ان جملة: (قفز الولد الأبيض الدشداشة، قفزة أطول، قفزة أرنب حقيقي وأختفى)، توحي الى خروج ياسمينة من القبو بالطريقة السريعة نفسها التي دخلت فيه، وتختفي عن أنظار بطرس فجأة في القبو، كما اختفت عن أنظاره في الخارج: (اختفت ياسمينة ولم ترجع الى بيتها وباتت بيريتوس أشد ظلاما في عيني.).
إن الشبح الذي ترآى لبطرس في ثوب أبيض في خربة سينما سيتي بلاس في بداية الرواية، لم يكن ولدا، وإنما كان بنتا، كان ياسمينة. وهنا يطرح سؤالا آخر نفسه بإلحاح: ترى إذا كانت ياسمينة قادرة على الخروج من القبو، لماذا لم تحاول أن تخرج لوحدها؟ هل لأنها أحبت بطرس وكانت تنتظر لحين شفائه ليخرجا معا؟ وهي تقول له: (هل تأخذني معك الى (برا)؟ ثم لماذا كانت تراقبه في خربة سينما سيتي بلاس، إن لم تكن قد أحبته، وبلغ درجة مراقبتها له من الشدة أن تعرف، أنه قد تغير كثيرا بعد نزوله في القبو. وترفض الخروج معه فيما بعد. وهي تقول في أول زيارة له في بيت إسحاق: (لقد تغيرت كثيرا). دون أن يفهم تحديدا ما تقصده في قولها هذا، ويظل قلقا وفي حيرة من أمره.
لقد حاولت ياسمينة إنقاذ نفسها وإنقاذ بطرس من المحنة التي يعيشان فيها، وحاول هو أيضا، كذلك. إلآ أن قساوة القبو وتحجره ومتاهاته وتوقف الزمن فيه وغياب الدستور وإصفرار وجوه ساكنيه لعدم تعرضهم لضوء الشمس وعيونهم الواسعة وقصر قاماتهم وهجوم جثث الموتى على نوافذ بيوتهم، كل هذه الأسباب والعوامل، كانت أقوى من محاولاتهما. ما أدى أن يتيه الأثنان، كما كانا تائهين في متاهات الأسفل، أن يتيها كذلك في متاهات الأعلى، وبمناسبة مفردة (المتاهة)، فقد جاءت في الرواية أكثر من عشر مرات.
ثمة ربط بين كفن زوج ياسمينة التي تخيطه وتحرقه بعد إكماله، وبين الثوب التي تنسجه لتلبسه يوم خروجها من القبو. فإذا كان الكفن، يقترن بعباس، لأنها عملته بحضوره وهو يطلب الزواج منها، فإن الثوب الذي تنسجه، يقترن ببطرس للسبب نفسه أيضا، ذلك أنها كما يقول بطرس: ( لا تنظر إلي. تنظر الى الثوب على المغزل). إن دلت هذه الجملة على شيء، فإنما تدل على رفضه. والمؤلف بهذا الربط بين الحالتين المتشابهتين والمتنافرتين في آن. يوحي الى أنها لا تتزوج أي واحد منهما، وأنها وفية لزوجها أيليا سواء أكان حيا أو ميتا، فإذا كان ميتا فها هي تعمل له الكفن. أما إذا كان حيا فهي ذاهبة اليه بثوبها الجديد. ويبدو أنها كلما خرجت من القبو، لإحتفالها لهذه المناسبة، تغير ثوبها القديم الذي يرمز الى عذابات القبو بثوب آخر، يليق بمستوى فرحها. وإذا كانت في خروجها الأول، أثناء مطاردتها من قبل بطرس، كانت ترتدي ثوبا أبيض، فهي في آخر خروجها، ترتدي ثوبا جديدا.
إن ياسمينة في سعيها لإنقاذ بطرس من محنته، أقرب الى شخصية أوفيليا لمسرحية (هاملت) لشكسبير وهي تحاول إبعاد فكرة الإنتقام من رأسه، سيما وأن بطرس يشبه ياسمينة بها، وهي بذلك، أي شخصية ياسمينة تتآخم في تناص مع شخصية أوفيليا. حيث تتيه في متاهات العاصمة بيروت، بحثا عن زوجها الذي تجهل مصيره. كما أن شخصية (نزار) شقيق صبري، تتناص مع شخصية شقيق السارد في رواية ( الحلم العظيم) لأحمد خلف، من حيث العلاقة السيئة التي تربط بين الشقيقين في كلا الروايتين، من خلال سعي الشقيقين الكبيرين لجر شقيقيهما الأصغر منهما الى مواقفهما.
إن لغز بناء الهيكلي لمعمارية هذه الرواية، لا يكمن فقط في إجراء المؤلف وجه المقارنة بين حاضر الراوي وماضيه، والأحلام التي تراوده عل أمل الخلاص من محنته، وتقنيات الإيحاء التي وظفها، بل في وحدة الموضوع الذي أستطاع أن يوزعه بين شخصياته الثلاث الرئيسة، ليخرج منه بالنتيجة نفسها، وهي الإنتظار المفعم بقلق. والشخصيات الثلاث هي: بطرس وياسمينة وراحيل. وذلك من خلال وضع المتلقي في حالة توتر وترقب للحظة ممارسة بطرس الجنس مع راحيل، مثلما يمارس مع ياسمينة، ولكن هذه اللحظة لا تأتي، كما لم تأت لحظة سرد الرواية من قبل الراوي الحقيقي، وكما لم تأت ياسمينة الى الخارج مع بطرس. مع أنها جاءته مرة، وعرف أنها ليست ياسمينة، بل راحيل حين غمرته برائحتها الشبيهة برائحة حيوان مفعم بعاطفة. غير أنها تملصت من ذراعيه، ووقفت جنب مقعد الحجر. لتخبره بأن ياسمينة لن تأتي الليلة.
وبالرغم من أن الرواية تقوم على السرد الذاتي، عبر ضمير (أنا)، بيد أنها لم تخل من السرد البوليفوني (تعدد الأصوات). إذ يظهر فيها بالإضافة الى صوت بطرس المهيمن، صوت الفلكي، وصوت المؤرخ، وصوت ياسمينة، وصوت الجغرافي، وصوت زكريا. وإذا كان صوت راحيل أقل الأصوات ظهورا، إلآ أنها، في الليلة التي تزور فيها مخدع بطرس تحكي كما يقول الراوي: ( اكثر مما حكت في حياتها كلها! كأنها حكت في تلك الليلة الواحدة كل الحياة). وهي بذلك تكشف عن شخصيتها، ورغبتها الخروج من القبو، وهي مثل ياسمينة تطلب من بطرس أن تخرج معه، لكن لعدم وجود ما عداها من يقوم برعاية والدها الطاعن في السن، جعلها ان تتراجع عنه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اللحظات الأخيرة قبل وفاة الفنان صلاح السعدني من أمام منزله..


.. وفاة الفنان المصري القدير صلاح السعدني عن 81 عاما




.. سماع دوي انفجارات في أصفهان وتبريز.. ما الرواية الإيرانية؟


.. عاجل.. وفاة الفنان الكبير صلاح السعدنى عن عمر يناهز 81 عاما




.. وداعا العمدة.. رحيل الفنان القدير صلاح السعدنى