الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-خريف الكرز- الرواية التي منعت في بعض الدول. ج (16)

احمد جمعة
روائي

(A.juma)

2020 / 5 / 24
الادب والفن


من بار الفتاة السوداء، هكذا أطلق على الحانة التي رأى فيها المرأة، انساب يضيء مساءه بشعور خاوٍ من أي إحساس بشيء حوله سوى مساحة مقفرة لا يسكنها شعور ما، لاذ بتلك الحانة مُكْتَظة في طرف منها بالرواد عند المصطبة، فيما يسودها الهدوء عند طرفها الآخر المطل على طاولات الطعام، كعادته فضل الطرف المزدحم رغم بُغْضَه للضوضاء، كانت هناك عند المَشْرَب تقبع، الفتاة السمراء الداكنة ذات العينين الواسعتين الطويلتين السوداوين، تألقت في نظره كما لو كانت تحفة سمراء رآها من جديد مختلفة عما بدت عليه في المرة الأولى، بجانبها وقف شاب أبيض مفتول الصدر والعضلات، تأملهما للوهلة للتأكد من أنه معها، أدرك من همسه لها أنها على صلة به "هذه المرة لن أفقدها حتى لو هشمتني هذه الآلة الفولاذية بجانبها" ابتسم للخاطرة التي وردت على باله، سار نحو زاوية المَشْرَب الذي كانت قاعدة به، بينما وقف الشاب المفتول الجسم بجانبها، تعمد سفيان أن يأخذ جهة تلفت انتباه الفتاة وعَمَدَ رفع صوته وهو يطلب، دبل شيفاز وعلى أثره بدلاً من أن تلتفت هي نحوه، رَمَقه الرجل الذي بدا وجهه أصغر من جسمه بنظرة غَطْرسَة أوحت بِخُيلاء، تجنب سفيان الإمعان فيه وصد بوجهه نحو الجهة الأخرى، ثم اكتفي بأخذ جرعة قوية من كأسه الذي وضعه الساقي أمامه مع ورقة الفاتورة.
قَنَع بالبقاء ساكناً في مكانه من دون حركة تلفت نظر الرجل الأمهق، خلال دقائق بدت كساعات له، ترك الضخم مكانه واتجه على ما يبدو للحمام أو للخارج للتدخين، كانت قد التفتت على إثر مغادرة صاحبها لتقع عيناها عليه، فكانت رَعْشَة كأنها قنبلة انفجرت فيه، اهتز كيانه وصعق لسانه عن الرد حين بادرته مبتسمة ومتفاجئة بوجوده على مقربة منها.
" هاي.
كررتها مرة أخرى ظناً منها أنه لم يسمعها، لم تُدْرك أَنَ لسانه قد شُلَّ تلك الوهلة، "من أين يخطر ببالها ما يختبئ بداخله تجاهها؟" من نظرتها بدت له كما لو كانت بالنسبة له مجرد فتاة سوداء، مَرَت من أمامه ليلة وتلاشت، من أين تعلم بفحوى تلك المجازفات والجولات والإحباطات بحثاً عنها؟ كان لابد له أن يَغْتَنم الثواني قبل أن يقتحم الوحش المكان من جديد.
"إفْتقدتكِ منذ تلك الليلة.
ابتسمت، وردت متسائلة.
"هل أَذْكُرك؟
"طبعاً لا تذكرني، كانت ثملة وأنا لم أنتهز الفرصة لإحداث شرخٍ في ذاكرتها" سرَ لذاته وهو يتلفت خشية عودة مفتول الجثة، أخرج هاتفه بسرعة وذهب للصورة المَحْفُوظَة فيه كأنها قطعة ماسٍ، تجرع كأسه وقال بنبرة من يريد ثقب طبلة أذنها لشدة الضوضاء في المكان، قرب الهاتف من وجهها.
"هل تذكريني؟
في تلك اللحظة كان ثمة جبلٌ يقف وسطهما وسد نفسه الذي كاد يختنق به، إذ رفع رأسه ورأى ثكنة تغلق الطريق، أنْقَذه صوتها الذي هتف في أذْنهِ وهي تضحك غير عابئة بالجبل المشدود نحوها.
"أُهه، ألم تعثر عليها بعد؟
هَزَت رأسها وهي تنظر للمفتول البنية الواقف كجدار بينهما واستطردت قائلة وقد علا صوتها إثر ارتفاع صوت الموسيقى في المكان.
" الحب الذي يشقيك بيعه لغيرك قد يسعده.
"هذه هي فتاتي، لولا التَلَّة العثرة أمامي" قالها في سره، ليُفاجَأ بالمرأة تلتفت نحو صاحبها الهضبة قائلة بنبرة تعاطف معه.
"يعرض صورة في هاتفه الجوال يبحث عن صديقته، هل هي صديقتك؟ سألته ثم عادت للرجل الآخر بنبرة معاتبة.
"انظر كيف يحبها؟
تجرع الهرم الواقف بينهما كأسه دفعة واحدة سريعة ونظر لها وهو يبتسم، قال بلكنة أمريكية غائرة.
"ساعديه، ابحثي عنها معه.
قال جملته وانْصَرَف نحو مجموعة يبدو أنه انْشَق عنهم لينْضَّم إليهم من جديد، دَنَت السمراء منه معرفة عن نفسها.
"أنْجيلا، وأُفضل اختزاله،آنج.
تَفادَى النظر في عينيها مباشرة للوهلة حتى تطمئن له، رد عليها.
"أدعى سفيان ولا يوجد له اختصار.
ضحكت وانْكَبت تتحدث معه، وقد تَفادَى الخوض في مشكلته حتى بَلَغت السؤال الذي كان ينتظره منها.
" ماذا تعني لك الفتاة؟
"كل شيء ولا شيء.
"أَنْتَ تمزح.
ظهر له خلال الحديث معها لون أسنانها الصغيرة المرتبة والناصعة البياض، استغرب من بياضها حين اقترحت الخروج للباحة الخارجية للتدخين.
" كيف عرفتها؟
"إنها قصة طويلة لن اَزْعجك بها.
"يسرني أن أسْمَعَها، لكن دعنا بدايةً نُنْهي التدخين، أين تُقيم؟
بدا يساوره الهَلَع "بهذه السرعة تعرض مساعدتها؟" كان سفيان دائم التَوَجس ممن يعرض المساعدة بلا مقدمات، ورغم جرأته في العلاقات والاختلاط لكنه يجبن أمام الأغراب، وجد إعرابها المساعدة فرصته النَفِيسة في التَقصَّي والملاحقة مع فتاة ذكية لماحة مثلها، بذات الوقت حَجْز مساحة لصداقة عادية معها وهو الذي يكاد يحيا في بلاد الإنجليز وحيداً، سيَنْعتق من عزلته.
"وسط لندن.
أجابها، ولتغيير مجرى الحديث وحَرْفه عن مساره، سألها.
"من الرجل الأبيض، الهَضَبة الذي وقف سداً بيننا؟ صراحة أَفْزَعني.
تعمد التقليل من شأنه ليرى رد فعلها الأولي نحوه حتى يمضي معها في الحديث ونَسْج الصداقة، كان هناك بعض الرواد يدخلون ويخرجون، لا يبدو أن أحداً يهتم بالآخر، انْصًرف الجميع دون إهتمام لمن حولهم، بعضهم يخرج للتدخين والبعض منهياً ليلتهُ وبعضهم يستنشق الهواء، عَلَقَت ضاحكة.
"لا أحد، مجرد عَمِيل.
قالت عبارتها بِلا اهْتمام، لم يدرك دَلالَة كلمة عَمِيل التي رمت إليها، لكنه تجاوز المقصود متمسكاً ألا يُضَّيعها من جديد، رد عليها.
"هل أَراكِ قريباً؟
بسرعة، مبتسمة وهي تسحق عَقْب سجارتها بِكَعْبها العالي، ردت بنبرة سعيدة.
"طبعاً، نحن أصدقاء.
****
"نحن أصدقاء، بهذه السرعة؟" ناقش نفسه، بعد أن تركها، اقتنع بجدوى معرفتها مهما كلفه الأمر، اتصل بتقي وطلب منه المال كالعادة بعد أن قدم له تقريراً عن صحته ورغبته في البقاء هنا، لم يُفْصح له عن شيري ولا عن أنجيلا واكتفى بالقول أن العملية تَأجَلت لأسباب فنية، في اليوم التالي وعلى غير توقع منذ الصباح الباكر، رن هاتفه وإذ بأنجيلا تعرض عليه أن يفطرا معاً، توافقا على اللقاء عند ناصية حلبة التزلج، ومن هناك سارا لمطعم قريب من الحلبة، حينما وصلا وجدا جمعاً من الناس وأعداداً من السيارات وحين اقتربا وجدا فريق تصوير سينمائياً يقوم بالتصوير، فيما جموع الناس تتعقب الحدث، لم يستهويهما المشهد انعطفا باتجاه كافتيريا واسع يطل على الشارع الرئيسي ودلفا إليه.
طوال رحلته الصباحية المبكرة معها والتي بدت له غريبة، إذ لم يسبق أن صحا في تلك الساعة أو خرج لتناول الفطور تلك الفترة، كان تغييراً طارئاً أحدث فرقاً في حياته اللندنية، كان ثمة رغبة مقرونة بغبطة في البقاء معها، والحرص على الاستمرار رغم شعوره بالإعياء وعدم ارْتياحه من هذه الارتباطات ذات الالتزمات الضيقة والتي لم يعتد عليها، خاصة أنها تثقله بأوقات كان يجدها من قبل ممتعة لعزلته "سأُجْري تعديلاً على حياتي من الآن وصاعداً "أقنع نفسه بهذه الفكرة التي استحدثها في ذهنه لتبرير خروجه المبكر والتزامه بها " لكن لن أسمح بِجَري لأكثر من ذلك" رد صوته الآخر، لكنها قطعت نقاشه مع نفسه وهي تقترح عليه أن يجرب الفطور الشرقي الكلاسيكي، المكون من الجبن والبيض والزيتون والحمص والحليب مع العسل والتوست، بالإضافة لعصير الموسم المختار، حين قرأت القائمة عليه، أصيب بعسر في المعدة وتلبك الأمعاء كما لو أنه انتهى من تناول الوجبة تلك، وهو الذي اعتاد أن يبدأ صباحه المتأخر، ببيضتين مسلوقتين وكوب قهوة غالباً ما تكون سوداء.
"هذا حتى أكثر من وجبة غدا أو عشاء معاً.
رد عليها وبداخله خمن بأنها اخْتارت تلك القائمة كونها، فرصتها على اعْتبار أنه سيدفع فاتورة الإفطار، ابتسم وشجعها على طلب تلك القائمة، واختار هو الإفطار الإنجليزي المكون من المقانق والبيض شرائح البطاطس ثم علق قائلاً.
"سأعتبر هذا فطوري وغذائي.
"يبدو أني جَذَبتُك مبكراً ليوم لم تعتد على تفاصيله، أَظن أَنَكَ من النوع الليلي؟
ضحك وقد وجد نفسه يقتحم علاقة ودية بسيطة وغير متكلفة، كانت تتكلم بعفوية وتتصرف من دون تَحَذْلق، ثَبَّت شعوره لدى رؤيته لها في المرة الأولى من عفويتها الغريزية، كانت تجسد الفتاة الذكية ولكنه أجل حكمه النهائي عليها حتى فترة معاشرة أطول.
"صراحة، أنا سايَرْتُكِ في الخروج المبكر وطلب هذا الإفطار السمج مجاملةً، أعذريني، هدفي كان التعرف عَليكِ والتقرب منكِ أكثر.
فوجئ بها تقفز ضاحكة بصوت لَفَت انتباه بعض رواد المقهى، لَمَتهُ وقَبَلتهُ في خده.
"أعجبتني صراحتك، لن أتباهى بك، تعرف لِمَ؟ الصداقة من أجل التَباهي كاستئجار سيارة فخمة للوجاهة.
عندما نتهى الاثنان من وجبتهما، هي تناولت تقريبا جل القائمة، وهو بالكاد تمكن من قطعتي نقانق وبيضة مسلوقة دون الصفار، وعندما طلب فاتورة الطعام أصرت على أن يدفع كل منهما قيمة طعامه، رغم إلحاحه على دفع المبلغ كاملاً صَممت على دفع فاتورتها قائلة وهي تضحك.
"لا أُريد أن يظن الناس أَني زوجتك، وبالأخص الساقي هنا الذي من سَحْنته يعتقد أني خليلتك، بالطبع لستُ كذلك.
"صدق حدسي هذه الفتاة ثمينة" قالها لسانه الآخر، وهو ينهض باسماً
"بالطبع، لا تنسي أني أَبْحَث عن فتاتي.
رد عليها، وبعدها راحا يتجولان حتى حَلَّت الساعة الحادية عشرة وسبع دقائق، وقفا عند مفترق الطريق بين هدفيهما، وسألته وهي تضحك.
"ماذا الآن؟ انْتَهت الجولة، ماذا تقترح؟
"لا أعرف، انت فاجَأتِني، أترك لك الخطة، مثلما إنْتزَعتِني هذا الصباح من فراشي الدافئ تحكمي بالوضع.
تطلعت للسماء كانت الغيوم تتكتل، وبدا لها الشارع هادئاً من حولهما، هزت رأسها ومدت يدها تصافحه.
"لاشيء، نلتقي الليلة في الحانة، لكن لن نسهر كما البارحة، اليوم إجازتي من العمل وغداً اطْمَئنَ لن أُوقظكَ مبكراً، نم حتى الموت.
"لم تخبريني أين تَعْمَلين، أنجيلا؟
ابتعَدت وهي تقول ساخرة.
"الليلة سأطلعك، ربما لو أخْبرتك الآن لن تَرْغب في لقائي ثانيةً، باي.
خلال الوقت القصير نسبياً الذي أمْضاه معها، نَسِي التفكير في شيري، تَساءل في سرهِ وهو عائد لشقته وصورة سحنَتها السمراء الداكنة بعض الشيء ذات البثور المثيرة تلازمه.
"هل هذا جيد؟
****
مع رَيْعان شتاء المساء، وعُنْفُوان الرياح الباردة التي هبت مع بدء الغروب، انسلت شمس لندن الضبابية الكئيبة بضوئها الأصفر الشاحب حيث تناصف الخريف وحلت بوادر الشتاء القاتم في مثل هذا الفصل من السنة عند منتصف أكتوبر، وفي اوْجِ شغفه بالتنقيب عن شيري، غرق في تفاصيل عالم أنجيلا، الصاعق بالمرح والسخرية، غطت مساحتها البوهيمية، محيطه الضجر الذي تكيف معه وبدا له في وقت ما هو عالمه الطبيعي الأزلي حتى يتم التحول الهرموني المنتظر، ظل مجرى العلاقة مع أنجيلا يُثْري يوماً بعد يوم، زال الحذر منها والذي لازمه في البداية إثر عقدة شيري، كان سبب ثقته بها صدمتها بقصة شيري حينما رواها لها بالتفصيل، فما كان منها إلا أن صعقته بدورها بحكاية ظنها في البداية مجرد مزحة، ولكنها اعترفت له، بنيتها استغلاله، لكنها بعد سماعها لقصة الاحتيال مع شيري.
"صدق أني كنت انوي الاحْتيال عليك.
نظرته لها القارسة، جعلها تؤكد نيتها بشدة قائلة.
"أنت لا تعرف المرأة، هرمونك غريب.
غيرت سحْنَتها ورسمت لوجهها هَيْبة ثم استطردت بنبرة جازمة.
"أَنْتَ سَهل الخداع.
من يومها انزاح الحذر من محيطه معها وبدا يفصح لها عن الجزيل، حتى إنها قررت أن تُسْهم في البحث عن شيري رغم محاولتها الفاشلة في ثنيه عن التفكير في فتاة دَبَرت وشاركت في عملية احتيال بهذا الحجم.
"حبك لها سيكون بحد ذاته احتيالاً، ذاك لا يعني أن نتركها سوف أنتزعها من الثقب الأسود الذي رويت لي قصتك معه.
"ربما لو ضاجعتها فقدت بريقها عندي، أَحْسُ بخيانة مشاعري لو نسيتها.
كان يرافقها بعد نهاية دوامها عند الخامسة، قادمة عبر شارع اكسفورد من بناية كلاسيكية تطل على منعطف جون لويس، توقفا عن الحديث، والتفتت حولها حائرة أي منفذ تختار، ثم حسمت قرارها بعد أن ربتت على كتفه مغادرة.
"نلتقي الليلة، في شقتك، أَعْدَّ لي مفاجأة.
أحاديثها معه مثل التَرانِيم، زْبدة الكلام ورَشاقته، دون إطْناب، ليست ككل الذين عرفهم يَحْشون كلامهم بفراغات لا طائل منها، ليست مزعجة، تتركه وقت يشعران بالضجر، لا تفرض أوقاتاً تتدحرج خارج الموضوع، مجرد أن يحسان بالملل يفترقان. كانت تتعامل مع الوقت وكأنه اليوم هو اليوم الأخير لها، هذا ما استنبطه من إيقاع حياتها المريع وكأنها في سباق مع الزمن.
"ليت في الحب يكون الوضع هكذا"ضحك وهو يستعيد حواراته معها، يَعْرج على شيري، يقارن بينهما، تلك يعشقها ويهيم بجسدها الهرموني، لو كانت صادقة من بين كل ما قالته عن عملية التحول، أَنجيلا سائحة في دنيا الله لا تزعم لنفسها موقعاً ولا ترسم صورة مسبقة لتصرفاتها، تفاجئك من حيث لا تخطط، تجذبه سماتها ولونها الداكن، وشعرها القصير المموج عند الأطراف، تمحو الأيام من حوله التواريخ والأسماء، تغيب صور العائلة والأصدقاء النادرين، تذوب صورهم كبقع الزيت في الماء، تتكسر وتتلاشى، التسكع هنا في الشوارع، عبر البنايات والمقاهي والمكتبات، بين القراءة وتَضاؤل فرص المضاجعة، كلما دَنا من جسد اضْمَحَل، وكلما ناهَز عتبة العملية، قفزت المُبَاغَتات، اندثرت حدود الوطن، تحولت لفَقاعات راقصة عند مطاعم شارع العرب، بروائحه الدبقة كما هو شارع الزبارة في البحرين، مع فارق اللهجات والوجوه والنكهات والاحْتيالات بالطبع، الشيء الذي يواسيه، تَهَكمه تجاه ملابس الجاليات، حتى عندما يرتدون الغربي، تَخْذلهم الألوان والخليط المشاكس، لا شيء يحمله على البقاء سوى العملية وإنجازها ولكن من أَينَ يبدأ مرة أُخْرى؟ "ربما لو ذَهَبْتُ لسانتا مونيكا بلوس أنجلوس ستجد فرصتك" عندما اقْتَرَحت عليه أنجيلا ذلك، شعر بحماسة السفر والاسْتكشاف، لكن بشرط ترافقه.
"قد لا تعلم، أصلي أَمْرِيكية، من L.A
عندما التقيا، في المساء بعد يومين من توقف اللقاءات حسبما فرضت عليه حتى لا يضجرا كلاهما، جاءته بفكرة تقديم شكوى لمركز الشرطة وإِطلاعهم على المكان المفترض للعيادة، أخبرته بأن فكرة أن الشرطة لن تفعل شيئاً توحي بأن ثمة تواطئًا في المسألة.
"أَقْتَرح الشرطة حتى نصل للمحتالة الجميلة التي سحرتك مَرَتَين، مرة فَتَنَتْك
ومرة سَرَقَتْكَ، من هنا نمسك خيط الجريمة المنظمة.
ضحكت عند عبارة الجريمة المنظمة، كان ذلك خلال حديثهما في مطعم الحانة، سهرا حتى قبل منتصف الليل، ثم رافقته لشقته لقضاء ليلة نهاية الاسبوع عنده، وهناك بدأت حكاية لم يعرف إن كانت خططت لها أو وُلِدَت عفوية.
مع أكواب الشراب والقهوة وسجائر الحشيشة، اشتعلت الشقة وأَوْقَدت معها الحوار، إذ بدأ لهيب الحكاية حينما ثَمَلت وسَقطت في حضنه وأخذت تضحك وهي تتأمل وجهه الذي تَوَرد وبدا على إاسْتِحْياء، قرصته في الأسفل قائلة.
"هل تريد أن تُجرب قبل التغيير؟
لم يعجبه ارْتِجالها، خاصةً وأنها كانت تضحك، شعر بأنه مُحْتَقر لأنها وجدت تسلية فيه، هل تعتقد بأنه غير قادر على مضاجعتها؟ هل تَسَرَّع في إطلاعها على حكايته كاملة معها؟
قذفها بهدوء من حضنه، نهض، أعد له كأساً ثم دلف الحمام، انتصبت بدورها، وراحت تعدل من شعرها، ثم بدأت تتصفح كتاباً كان قريباً منها على الطاولة جانب الكنبة المستطيلة بالصالة، لم تفهم منها شيئًا، كانت روايةdavnci code” “the، ثم رفعت كتاباً كُتِب بلغة بدت لها عربية أو فارسية لم تَتَبيّن ماهِيته، حين عاد، بدأت بالاعتذار له ثم سألته عن محتوى لغة الكتاب المبهمة، الذي لفت انْتِباهها غلافة ذي الريشة المغمورة في كأس زجاجي.
"أَنْتَ تتوتر بسرعة، كأنك تتأهب لخوض حربٍ مع الريح.
وقف أمامها، فصلت بينهما مسافة قصيرة، تبادل النظر بينها وبين جهاز تشغيل الموسيقى على المكتبة في جهة من الصالة، وحوله عدد من أقراص cd، قال وهو يتجه للجلوس على الكنبة.
"كنت أسمع الموسيقى وقت الحديث معها.
"شيري، شيري.. أَنْتَ أَدْمَنتها، وَهْمكَ بها صنع وهجهاً وهمياً.
وهي تشير للسيجارة في يدها.
"هي مثل هذه الحشيشة، يشعُ منها الإدمان.
"كلما قَلَلّتِ من شأنها، زاد الوهج، ضاعفتِ بالمقابل وَلَهي بها.
" مشكلتك أَنكَ لم تضاجعها ورغم ذلك تتوقع أَنكَ ستصل معها، هذا يعني أنك قادر مع غيرها.
وثب يعد كأسه، أخذ اللفافة من يدها وراح ينفث الدخان في سماء الغرفة وراح يسبح مع خيوطه، عاد لمكانه وقال مؤكداً بحسم.
"منذ العاشرة وأنا أشعر بخطأ ما في جسدي، أدركت بعد ذلك أني في الجسد الخاطئ، جَرَبتُ كل الوسائل وكل أنواع الأجساد والجنسيات والألوان. ابتسمت حين ذَكر الألوان وسَأَلَت؟
" متى عَرْفت؟
" حين وَجدتُ جسدي لا ينصهر في الجسد الآخر.
ركزت في عينيه، حدق هو في السقف ثم نزلت عيناه الأرض، رد.
"حتى الآن لا أعرف.
"إذن كيف حَكَمت على نفسك؟
راحت تداعب أصابع يده لتضفي على نفسه السكون، كانت حركته متوترة حين قال بنبرة مثقلة بالشَجَن
"لا أصل للنشوة، لا أبلغ الذروة وأميل للنساء من بعيد، ألا يكفي ذلك؟
مَطْت شفتيها، عصرت فكرها كما بدا من سحنتها وهي تتأمل سؤاله.
"لا يكفي.
قالت ذلك محاولة إزالة شعور الأسى من أعماقه كما بدا لها من نبرة صوته الْكَربة، فتحت الليلة جرحه وعليها أن تسده، هكذا شعرت وهي تعصر أصابع يده اليمنى، رَنَت عيناها للانصهار في وجهه المفجوع بالألم، كشراع مثقوب لا يتسع للهواء، سألها، ومازالت تقبض على أصابعه.
"هل قَرأتِ أنا وغانياتي، غارسيا ماركيز؟
قهقت وهي تهز رأسها بنعم.
"أنت تحسده وقد بلغ التسعين، ليس كل الرجال هكذا، حتى الثور يشيخ وينضب، غارسيا كان حالة شاذة، لا تتسرع في الحكم.
رد عليها منفعلاً
"أَنتِ تَسْمَعين نَفْسكِ، كالشراع توجهه الريح.
لم يظهر عليها أي رد فعل تعبيرياً، كانت الابتسامة خاملة لا تترك أي إيحاء وهذا ما أثاره، رفع كأسه واحتسى رشفة جامدة، ردت بنبرة وديعة مُستفزة
" أَعْتَبرها فاكهة فاسدة، ماذا يُغْرِيكَ فيها؟
"يكفي احْتالَت عَلَيَّ ورغم ذلك أَشْتَهِيها من دون كل النساء، ألا يشكل ذلك خرقاً للقاعدة الهرمونية عندي؟
بنفس النظرة المُسْتفَزة والصوت الساكن، سألته.
ماذا تريد من شيري؟
هنا ابتسم، وزال عنه قليل من التوتر لدى ذكرها شيري، شعرت أنجيلا بأنه يكن للفتاة المحتالة إحساساً أكبر من الوله، ثَمَةَ عشق سحري مهووس بها قد يشكل بداية فهم قاع ذاته المظلمة.
"هنا..
قال ذلك وهو يشير بيده لمكان أنجيلا، بعدها استأنف مصوباً نظره لفضاء خاوٍ، بدا كما لو أنه سائل يَنْسكب وهو يعصر وجهه حتى تخرج الكلمات متزنة بعد أكثر من تسعة كؤوس من الويسكي، ما زال يشير بيده لمقعدها.
" في مكانك هذا، كانت تجلس مثلك تماماً، شربنا وتحدثنا بلغة سحرية لا تتصورين خيالها الجامح، لَعَبَت معي العاباً مثيرة بالكلمات، أغرتني، أغوتني، أحرقتني، أضْرمَت رغبتي فيها تلك الليلة، لم تترك لي فرصة أختبر هرموني معها رغم محاولتها إغْرائي، حتى إنها قبلتني بحرارة، مازال طعم لسانها يحرقني، بل دمرني منذ حينها، أَنْتِ لا تفهمين، أو تَعِينَ مدى شعوري وقد وجدت فيها تلك الليلة هذه القوة في هرموني، سَبَحتُ في محيطٍ من الخيال وحسمت قراري حينما سرت معها في اليوم التالي.
كانت قد نفضت يدها بهدوء قبل لحظة، ثم سرعان ما عادت وأمسكت بأصابعه، فيما تنهد هو زفرة بدت كصلاة نرجسية، ليسترد أنفاسه، من غير أن تقاطعة حتى بنظرة، إذ اكْتَفت بتـأمله من بعيد، ربما أرادت أن تَفسَح له رقعة انْعتاق من رقابة عيونها حينما تَعُوم فيه، أدركت مدى تأثيرها عليه، فتركت تلك المسافة ليستطرد بذات نبرة الكَرَب.
"قبل أن تختفي من عيني وأنا على مَقْربة من توقي لها، كنت أنتظر منها أن تَكُون خَلِيلَتي حتى بعد عملية التحويل، كادت أن تَبْنيِ لي قصراً من كريستال أَرِيجها مَشُوب بسعادة في جنة الأرض، لكنها بدلاً من ذلك أحْرَقت مملَكتي التي بناها خيالي.
ظلت مفتوحة العينين، غَمِيقَة الوجدان وهي تتأمله يَضْرم النار في نفسه، سَهَلَت له سرد لوعته عبر نظرات يَقِظَة تتابع حركة شفتيه وهما يعصران الكلمات قبل خروجها، حينما توقف يَلْهَث كأَنهُ هوى من قمة ساخطة، ارْتَج على الأرض، أَفْسَحت له وجدانها كي يفرغ مرارته، ثم دَنَت منه واحتضنته.
"هل تُريد أن تختبر هرمونك معي، أنا أُنثى.
بَغْتة من غير توقع، غرق في الضحك، فاجأتهُ من حَيْث لم يتصور علاقته بها يمكن أن تَقودَ للجنس.
"أُفَضَّل الانْتقام منها هي.
"أَلا أُثِيركَ؟
بدت في وهج الضوء مثل لَبوءةٍ مروَضة تسعى لتطويعه لها، رجفة، غمزة، سباق النظرات بينهما تشوش تفكيره، شَغَل باله بالعبث في كأسه، كان يَمسَح بخار الماء عنه ويدوره، فيما ما انْفَكَّت ممسكة بأصابع يده.
دون في كنف جسدك أني دَعَوْتُك للكتابة عليه، بمحض صوتي الذي يستصرخ فيك اخْتبار الروح والجسد معاً.
"ربما لو كُنا على خريطة زمنية غير هذه.
ضحكت
" شَرْط بدون ضمانات مُسْبقة.
رشف من كأسه، سحبت يدها وتركت أصابعه تستريح، تنهدت وقالت بصوت خافت، يتناغم مع هدوء المكان.
" لا تكره جسدك الآني، ربما لو مَنَحْتهُ فرصة يغتسل من الأوهام التي زَرَعتها فيه عبر أحلامك الشائكة، لغيرت مجرى الخريطة الهرمونية، جَرْب، معي أو معها إن وجدتها، سَيان، المهم تبقى نافذة العمر مفتوحة على كل الاحتمالات عزيزي "سوف"
للمرة الأولى منذ نَمَت العلاقة بينهما تختزل اسمه إلى سوفي، ابتسم لدى سماعه الاسم، فَوْر ذلك وَثَبَت وهي تمشي نحو الحمام، تَأهب بدوره حينما اختفت واتجه نحو النافذة وأزاح الستارة وفتح جهة واحدة من النافذة، كانت الغرفة تغرق في دخان السجائر والحشيشة، خيوط الدخان تصعد للأعلى بلونٍ أزرق شفاف يعكسه ضوء المكان، عاد صب كأسين ووقف يتأملها عائدة من الحمام وهي تترنح قليلا.
"الليلة صعقنا العالم.
قالت العبارة وقَصَدَت النافذة حالما وجدتها مفتوحة، سَحَبت جرار النافذة الأعلى فأنفتح المزلاج الفاصل مع الخارج، تقدم منها وقد لَفَحتهُما موجة هوائية قادمة من السماء الغائمة تلك الساعة، طلت على الشارع وقالت بنبرة ساخرة وهي تضحك.
"شعوري اللحظة مهيأ للقفز في الثقب الأسود.
أمسك بكتفها، وقد رآها تترنح بقرب حافة المكان المُشْرف على الفضاء.
" ليس ما يلوح لك، إنه الثقب الأخير، تعالي للداخل.
صدته وهي تضحك وأَصَرَّت على الوقوف عند الحافة، ظلت تضحك بينما راحت بين لحظة وأخرى تطل على الشارع الذي بدا بطيءَ الحركة تلك الساعة، سألته بنظرة تحدٍ
" أنت تَخْشى عَلَيّ؟
"لا.
"بلى
حاولت تَسَلق الحافة، تركها وابتعد وقلبه من الداخل يخفق كما لو سيتوقف عن النبض، لوح لها بيده قائلاً وقد ركبته لوثة ردة فعل الحشيشة.
"سأَثْبتُ أني لا أخشى عليك.
عادت تسأله وقد وضعت أحد فخذيها على الحافة.
"تخشى على شيري المحتالة؟
مرت فترةُ صمت بينهما، تركت المكان، كان الهواء يداعب طرف الستارة، اتجهت نحو السرير في الغرفة المقابلة، اسْتلقت عليه، أَغْمَضت عينها، فيما ظل وحده عند الشرفة، كانت السماء قاتمة، والهواء بارداً يتخلل النافذة، شعر بوجهه يتجمد ويَخْدَر، ظل واقفاً يتطلع لمجهول بدا له في الأفق.
"شيري.
قال الاسم ومر في باله فجأة تقي المرجاني، والده.
"تصبح على خير أبي الحكيم.



****

تعقبت، خيطاً من الشرطة دلها على ورقة قديمة عن شخص كردي يعمل في تصميم المواقع الإلكترونية الآنية التي تنشَأ في فترة مؤقتة وتُزال بِثوانٍ معدودة عند الانتهاء منها، فهم سفيان الآن فقط نوع العلاقة التي تربطها بالجبل البشري الذي التقاه معها في الحانة، عندما عَرَجَت عليه بصحبته في مرآب قديم لتصليح السيارت بالضاحية من المدينة، دَلَفت إلى مكتب صغير بواجهة زجاجية، فيما ظل في السيارة، بعد دقائق، خرجت من المكتب يرافقها الرجل الكتلة، وحين لَمحه رَمَقهٌ الآخر بعين نثرت الغبار، هذا ما أوحته النظرة الخاطفة من على بعد وهو يودع أنجيلا.
" للجبال فوائد عند الحاجة.
ضحكت
"تعنى ماثياس؟ أنتَ مُتْعَسّف بشأنه.
إنطلقت بسيارة المازدا الصغيرة، ورفعت صوت الموسيقى وراحت تردد بعض الكلمات، كان خلالها يمسح المنطقة التي يراها للمرة الأولى رغم أنها لا تبعد كثيراً عن قلب المدينة، حينما توجها بعدها لاسْتِلام قائمة بأسماء المحال التي تشتغل في تصميم الواجهات الالكترونية، عَمَدت أيضاً لتركه في السيارة ينتظر وعادت ومعها بعض الأوراق والكاتلوجات.
"أنا ديكور فقط.
لا تملك سوى تلك الضحكة التي بدا أَنْهُ ضَجر منها ولم يعد يَحْتَملها، كانت ضحكتها تلك مستفزة عند المواقف الغامضة والتي بالكاد تَكْشف عنها.
"لا تستعجل، سترى أنكَ لست بحاجة لتفهمَ كل شيء، العبرة بالنتائج.
نظرت نحوه بعد أن انطلقت بالسيارة، مَنَحتهُ فرصة ينظر لها أكثر من مرة بينما تقود السيارة وتتلفت بين فينة وأخرى، ثم قالت بنبرة جادة.
"جاء دورك، اشْحن السيارة بالوقود.
خلال دقائق أظلمت الدنيا، زخات مطر خفيفة راحت تتساقط، ومع عزف الموسيقى الصاخبة، قام سفيان بتغيير الموسيقى إلى كلاسيك وسط نظرات ترصد منها كما لو تنتظره، أين ينتهي؟
"هذه الموسيقى تناسب الطقس.
ردت عليه دون ابتسامة.
"لكنها لا تُعاضّد أعمال التحري.
رد عليها بنفس اللهجة وهو يتعمد عدم النظر إليها، كان قد أنزل نافذة السيارة من جهته للنصف، وقال بنبرة خافتة، بين الصمت والهمس المُفتعل.
"أَنْتِ سيدة الليل.
"وأَنْتَ؟
تساءلت، ورد عليها مباشرة.
"صلاة الفجر.
خَبَّطتهُ على كتفه بعد أن أطلقت ضحكة جسيمة، وقالت وابتسامة عَرِيضة، شَقَّت وجهها وبدت في غاية الانْبهار.
"أُحْبكَ سُوفي.
"لا تًعْنِينَها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الفنان أحمد عبد العزيز ينعى صلاح السعدنى .. ويعتذر عن انفعال


.. االموت يغيب الفنان المصري الكبير صلاح السعدني عن عمر ناهز 81




.. بحضور عمرو دياب وعدد من النجوم.. حفل أسطوري لنجل الفنان محمد


.. فنانو مصر يودعون صلاح السعدنى .. وانهيار ابنه




.. تعددت الروايات وتضاربت المعلومات وبقيت أصفهان في الواجهة فما