الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هولدرلين والمثالية الألمانية

حميد لشهب

2020 / 5 / 25
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تأليف: إرنست كسيرر

كان هولدرلين Johann Christian Friedrich Hölderlin (1770 – 1843) من الشعراء والأدباء الألمان المرموقين في زمانه. عرفت أشعاره اهتماما كبيرا تحليلا ونقدا على الصعيد العالمي، وبقي وفيا في قافيته إلى إرث فلسفي جرماني كبير، استغله من بين من استغله هيدغر واشتغل عليه في كثير من نصوصه.

لم ينتبه الباحثون إلى أهمية هولدرلين فيما يخص المثالية المبكرة بعد كانط إلا نهاية القرن العشرين، أي بعد حوالي قرن من الزمن. وما ميز موقفه الفلسفي المبدئي هو ما قد نسميه "أفكار الوحدة الكلية All-Einheits-Gedanken"، يعني وحدة الطبيعة ووحدة الإنسان والطبيعة. وبهذا يمكن أن نُسجل هولدرلين في قلب التفكري الفلسفي الأيكلوجي، دون أن نُخفي بأنه كان يتجول أيضا في حدائق فلسفة وحدة الوجود وفلسفة سبينوزا. ويبقى أفلاطون أهم فيلسوف بالنسبة لهولدرلين، الذي اكتشفه من خلال فلسفة فيشينو (1433 – 1499) وهيمسترهويس Hemsterhuis (1721 – 1790) ومن طبيعة الحال هيردر (1744 – 1803). وتعتبر فلسفة وحدة الوجود هذه محاولة القضاء على الفرق بين الطريقة التي يفكر ويعيش بها الإنسان.

اهتم هولدرلين بالفلسفة الذاتية عند كانط وفخته بطريقة مؤيدة ونقدية في الآن نفسه. فقد رفض مثلا بناء أستاذه فختيه لنسقه الفلسفي على مبدأ سام واضح، سماه "الأنا المطلق". كما أنه يستبعد الرجوع إلى الذات (Ichheit) والمطلق Absolutheit. فالأنا بالنسبة له مبني على الفصل بين الذات والموضوع، ولهذا السبب لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يكون أسمى مبدأ في الفلسفة. لكن موقفه من دياليكتيك فختيه كان إيجابيا، ويتمثل هذا الموقف في كون الأنا واللأنا يحددان بعضهما البعض، كان إيجابيا، تماما كما كان الأمر عليه فيما يخص مفهوم الطموح أو الرغبة، وهو مفهوم مركزي في الفلسفة العملية لفختيه. وطبقا لهولدرلين فإنه على الإنسان أن يطمح من جهة إلى النهائي ومن جهة أخرى إلى الحدود. من هنا فإنه كان يعتقد بأن الإنسان لا يمكنه أن يكون مثل الله، لكن ليس من حقه أن يتدنى إلى مستوى الحيوان.

إذا كانت أولوية الفلسفة التطبيقية عند كانط وفختيه هي الأخلاق، فإن الإستيتيقا (الجماليات) هي محور الفلسفة عند هولدرلين. وهنا يلتقي الفيلسوف والشاعر والأديب في شخصيته. وكانت رغبته في ميدان الشعر مثلا هي تطوير التمييز الذي قام به شيلر بين الشعر الساذج ونظيره العاطفي. طبق تعاليم السذاجة والبطولية والمثالية بادئ الأمر على نصوصه الأدبية من شعر وملحمة ودراما. تكون النغمة الأساسية في الشعر ساذجة ولابد أن يكون تقديمه/عرضه مثاليا. وأسمى نوع أدبي بالنسبة له هو التراجيديا، تكون النغمة الأساسية فيها مثالية ومظهرها بطوليا. وتعبر العلاقات الثلاثة الرئيسية للذات بالعالم عنده في النغمة: التفاني الساذج في العالم، القوة البطولية الذاتية في العالم، التوازن المثالي لكلا الإتجاهين.

كهيدغر، كان مخطط والديه -وبالخصوص والدته- أن يصبح راهبا؛ لكن رغبته في محاولة فهم العلاقة التي تجمع روح الشعر والتفكير الفلسفي، كانت أقوى من أمنية والديه. وحتى وإن لم يُصبح راهبا، فإن اهتمامه بما هو إلهي وبالمسيح، سواء في نقاشاته مع هيجل وشيلنغ أو في نصوصه فيما بعد، بقي واضح المعالم.

لم ينشر هولدرلين أي مخطوط فلسفي، ومع ذلك مارس تأثيرا كبيرا على رفاق دراسته شيلنغ وهيغل، مع من تقاسم غرفة في مرحلتهم الدراسية بمدينة توبينغن. اعترفا به كفيلسوف وكُمخاطَب مهم، وكان مرشد هيغل بين 1797 و1800، بحيث كانت فلسفة وحدة الوجود التي "مارسها" في إنتاجاته الأدبية، من الأهمية بمكان لديالكتيك هيغل.

كان إرنست كاسرير من أوائل من اهتم بهولدرلين بطريقة عميقة، باحثا عن تأثيره وتأثره بالمناخ الثقافي والسياسي والفلسفي لعصره، أخذا وعطاء. وكان نصه: "هولدرلين والمثالية الألمانية" بمثابة المصباح السحري الذي فتح من بعد العهد لدراسات عديدة، أي لاهتمام الباحثين بفكر هولدرلين. ونظرا لأهمية هذا النص، ترجمناه للعربية حصريا لموقع "حكمة" لتعميم الفائدة على القراء العرب، وإضافة لبنة من اللبنات الأساسية لفهم الإرث الجرماني بعد كانط وتلك الحركة الفلسفية الدؤوبة والهائلة، التي لم يصلنا عنها ومنها بالعربية إلا النذر القليل. وكما ننبه في كل ترماتنا، فإن الهدف ليس هو تبجيل الفكر الألماني ومن خلاله الفكر الغربي، ولا تبخيس قيمته، بل يكمن هدفنا الرئيس في الإستمرار في توسيع بوابة هذا الفكر لنقترب منه أكثر ونهضمه ونستفيد منه، ونتفاعل معه، قصد فهم أفضل له، يبعدنا عن "تقديسه" و"شيطنته.

تبقى الإشارة إلى أن نص كسرير هذا قد نشر في "اللوغوس، المجلة العالمية لفلسفة الثقافة Logos, Internationale Zeitschrift fur Philosophie der Kultur في العدد السابع، سنة 1917/1918 من ص. 262 إلى ص 282 وفي العدد الثامن، سنة 1919/1920 من ص 30 إلى ص 49. وهو نص ناذر جدا، لا تتوفر عليه إلا القليل من مكتبات الجامعات الألمانية.

النص الأصلي:

"يرتبط هولدرلين بتاريخ المثالية الألمانية بحياته نفسها أولا وقبل شيء. يتموضع منذ شبابه، من المراحل الأولى من تطوره الفكري، ضمن الحركة الكبرى للأفكار التي تأخذ مصدرها من كانط. وتقع سنوات دراسته الثانوية والجامعية، وكذلك سنوات نضجه الشعري، تحت هذه العلامة. وُلد عام 1770، وهو العام الذي تمكن فيه كانط، بعد العديد من التقلبات و"الإنتكاسات"، أن يحدد بوضوح في أطروحته الجامعية الخطوط العريضة لنظامه النقدي المستقبلي.

التقى هولدرلين هيغل وشيلنغ في بداية شبابهم بجامعة توبنغين. ومعهم تعرض للتيارات الفكرية الرئيسية لعصره. تأثرت سنته الدراسية الأولى في يينا Iéna بشكل حاسم بشخصية وتعليم فيخته. وقد يكون أول طالب لفختي مِمَّن فهموا وقدروا مدى وبُعد تعليمه، وقال هيغل لشيلنغ: "يذهب للإستماع إلى فيخته ويتحدث عنه بحماس كما لو أنه يتحدث عن جبار يقاوم من أجل الإنسانية ولا يقتصر تأثيره على من يستمع في المدرج".

تأثر بشكل أكثر عمق ولمدة طويلة بالمثالية الجمالية لشيلر. وعندما اعترف فيما بعد لهذا الأخير بـ: "أنه كان يمارس عليه تأثيرا لا "يقاوم"، فإنه لم يكن يعني فقط شعر شيلر، بل بنفس القوة النظرية الجديدة للفن المُؤَسَّسَة والمُنظَّمة في نصيه: "مقال حول النعمة والكرامة" و"رسائل حول التربية الجمالية للإنسان". من جهة، فإن تصور وتشكيل هذين النصين سابقة على إقامة هولدرلين في يينا، ومن جهة أخرى كانت معاصرة لإقامته هذه ولقائه بشيلر. وبهذا كان هولدرلين قادرا دائما وفي كل مكان، ليس فقط على استيعاب المثالية الفلسفية في استنتاجاته، بل أيضا متابعتها في تطورها، بالذهاب إلى قلب الأسباب القصوى الشخصية أو الموضوعية التي نظمت هذا التطور.

على الرغم من ذلك، ومهما كانت قوة وقبضة هذه الحركة، فإنه لم ينخرط فيها أبدا كليا ودون شروط. لقد تابعها بالتأكيد في كل تفاصيلها، وهناك في نصوصه الفلسفية التي نُشرت له بعد موته محاولات ديالكتيكية حول التعارض بين "العُضوية l’organique" و"العضوي l’orgique"، حيث يبدو أنه يتنافس مع شيلنغ وهيغل. لكن في عزمه الفكري كما في تصوره الفني للعالم والحياة، كانت هناك -بطريقة شبه مخفية، لاشعورية- مطالب أخرى لم تجد في هذا ما يُرضيها. ففي غضون السنوات التي قضاها في فرانكفورت، حيث اكتشف خصوصيته كشاعر، فإنه كان يشعر بضرورة الإبتعاد عن التيارات الفكرية والفنية التي كانت تتطور من حواليه، عوض تركها تحمله معها. كان يشعر إلى أية درجة، كما كتب ذلك إلى شيلر، كان: "من الصعب بمكان قيادة الطبيعة إلى تعبيرها الجيد في عصر يُحاط المرء فيه بالروائع، وعوض أن يكون الفنان لوحده مع العالم الحي، فإنه يميز نفسه قليلا عن هذه الطبيعة، إنه يكون قريبا جدا منها لكي تكون له حاجة في معارضتها أو لقبول سلطانها. لكن هذا البديل السيء يصبح حتميا عندما تمارس عبقرية الأساتذة الناضجين، الأقوى والأعقل من الطبيعة، تأثيرها على الفنان الشاب بطريقة أكثر واقعية ومُقيدة".

لم يُواجه هولدرلين بقلق التوجهات المطبوعة من طرف غوتي وشيلر وحسب، بل أيضا البناءات الفلسفية الكبيرة لوقته والأفكار الثورية حول الأخلاق. ولا يكفي، من أجل فهم موقف الشاعر من عصره، الإشارة إلى رغبته في الرثاء، التي قادته كل مرة إلى "بلدان بعيدة"، إلى ألسي Alcée وأناكريون Anacréon (أشعار إغريقية: إ. م)، لأن هذا الحنين إلى اليونان هو هنا ليس السبب بل التأثير لاستعداد فكري رئيسي، يحكم فنه ونظرته للعالم. ويمكننا أن نشرح حركات الإبتعاد والإقتراب، الجذب أو الرفض، التي تميز علاقاته مع عصره ومع الحركة الفلسفية، انطلاقا قبل كل شيء من أسلوب وجوده كفنان. وكل توصيف يكتفي فقط بتعداد التأثيرات الخارجية التي خضع لها هولدرلين في بيئته الفكرية البعيدة أو القريبة سيبقى غير كاف بالضرورة وأحادي الجانب. بالمشي في هذا المسار، كشفت الأبحاث في التاريخ الأدبي بالتأكيد بعض التفاصيل المهمة، ولكن كلما تراكمت المواد، كلما هدد الشكل الفني الفريد لهولديرلين بالانحلال إلى العديد من العلاقات التاريخية الخاصة والمتناقضة. ويتضح هذا من الدرسات التي خصصها زينكرناغل Zinkernagel للمؤلف الرئيس لهولدرلين "نشأة هيبيرون لهولدرلين La Genèse de l’Hypérion de Hölderlin " (1907). وليس هناك إلا العنوان تقريبا الذي يربط مختلف نسخ المُؤلف وطبقاته. وتختلف هذه النسخ طبقا للخطة والتصور الفني الكلي، ولكن المرء كان يريد شرح هذه الإختلافات من خلال التأثيرات الخارجية فقط، التي لربما تعرض لها هولدرلين وقت كتابة لمُؤلفه. فإلى جانب نسخة شيلرية خالصة للرواية، هناك نسخة أخرى مُحدّدة بالكامل من طرف فيخته وأفلاطون، وبجانب هيبيرون المطبوع بتيك Tieck وحده (وهو شاعر ألماني 1773 – 1853: إ. م)، هناك نسخة أخرى لا تحمل إلا بصمة شيلنغ. قد يكون شعر هولدرلين جزء من عملية تحول داخلي مستمر للعالم الداخلي للشاعر، وحتى وإن تم التعبير عنه بأنقى وأسمى تعبير، فإنه لن يكون إلا الإنعكاس الشعري لتفلسف ذلك الوقت.

سوف لا نفحص هنا الأدلة التاريخية الأدبية التي قُدمت للدفاع عن هذه الأطروحة، لكن لابد أن نعترف بأنها صعبة الفهم بالنسبة لكل من يتعاطى إلى تأمل دون معرفة قبلية لشعر هولدرلين، حتى وإن لم يتعلق الأمر إلا بأسباب مبدئية والنقد الداخلي. ندرك في الواقع عند هولدرلين، أكثر من أي شاعر آخر، على الرغم من تنوع المواد والمحاولات الشعرية، إيقاع ونبض نفس الإحساس الغنائي الأساسي. وهذه النغمة الأساسية هي التي تعطي لرواية هيبريون Hypérion ودراما "موت إمبيدوكليس La mort d’Empédocle" حركتهما وامتلائهما الذاتي، ولنفس الحركة صدى في رسائل الشاعر ومحاولاته الفلسفية. ونجد أنفسها هنا في قلب شخصيته وعمله، وإذا قبلنا بأن هولدرلين كان محددا بتأثيرات خارجية حتى في أعمق طبقات وجوده، فإننا سنتخلى على منحه تفردا فكريا حقيقيا. على تاريخ الأفكار، الذي يظل الفرد نقطة انطلاقه ووصوله، أن يبحث منذ البداية على سُبلٍ أخرى. عليه أن يُحاول استيعاب الكائن الشعري -الأصلي وقبل كل انعكاس مجرد- لهولدرلين السمات التي تتأكد بالمزيد من القوة في رؤيته الكاملة للعالم والحياة. وفي صياغة وتبرير هذه الرؤية الفريدة للعالم، يلتقي هولدرلين إذن بالأفكار الأساسية للمثالية الفلسفية ويتبناها. وبما أن هذه الأفكار تأتي من عوالم عقلية أخرى، فإنها تأخذ معنى ولونا عند الشاعر مختلفا عن مؤسسي التفكير المثالي. وهذا الموقف الجديد للفرد -الغريب جدا في تاريخ الأفكار والعلاقة المتبادلة بين الفرد والكوني- يؤثر بدوره على الفرد. لا ينخرط هولدرلين، اتجاه الحركة المثالية العامة، في هذه المثالية، بل إنه في انخراطه فيها يغني هذه الحركة بمضمون جديد إيجابي. فالأخذ والعطاء عند المرء وتحديده بما يتلقاه وبالمقابل تحديد ما يقوم بإعطائه. وستحاول الصفحات الموالية تفصيل الحديث عن هذا الدور المزدوج لهولدرلين في تدخله في تاريخ المثالية الألمانية.

إن الأرضية التي نشأت فيها كل من الإعتبارات الأساسية للمثالية التخمينية spéculatif والمفهوم الشعري-الفلسفي لهولدرلين محددة بثلاثة أسماء: كانط، سبينوزا، أفلاطون. وفي الطريقة التي يربط المرء بها هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الأوائل، فإن المبدعين الثلاثة اللاحقين للأنظمة الكبيرة فيخته وشيلنغ وهيجل، يختلفون عن بعضهم البعض، كما يختلفون عن هولدرلين.

بدأ هولدرلين التعود على تعاليم كانط منذ سنوات شبابه ودراسته بتوبينغن. وإذا كان في ذاك الوقت لا يزال يُنكر دون أدنى شك التفكير النقدي، فقد أصبح هذا الشك أقل وأقل عندما اقترب من مركز نظام فلسفة كانط هذا. في رسالة كتبها لأخيه عام 1794 من مدينة فولترسهاوزن Woltershausen، قال بأن فيما يخص العلوم، فإن كانط والإغريق كانا في ذلك الوقت اهتمامه الوحيد وبأن روحيهما الهائلتان كانت تنكشفان له أكثر وأكثر. وحتى بعد سنوات، عندما انفصل بالفعل في نقطة حاسمة عن تجريدات كانط عن الحرية، فإنه يعترف صراحة بتأثير هذه النظرية على زمانه وضرورتها المطلقة. بالنسبة له، لم يكن بإمكان الألمان أن يحصلوا على تأثير مفيد أكثر من تأثير الفلسفة الجديدة التي تدفع إلى أقصى الحدود نحو المصلحة العامة وتكشف في قلوب الرجال عن تطلعات لا نهائية. وبالتالي، ستكون هذه الفلسفة، حتى وإن تمسكت بطريقة أحادية باستقلال الطبيعة البشرية، الفلسفة الوحيدة الممكنة لذاك الوقت. وبهذا كان كانط موسى أمتنا، الذي قادها من الضيقة المصرية إلى صحراء التكهنات الحرة والعزلة ويُحضر القانون القوي من الجبل المقدس. ومن الواضح أن هذا التقدير يسير جنبا إلى جنب مع حقيقة كون هولدرلين يرى النظرية النقدية فقط كمدرسة تمهيدية للفكر. وكان هو نفسه ينتظر بفارغ الصبر أن يرى التحول يحدث من التمهيد النقدي إلى نظام فلسفي وتصور للحياة.

يبدو أن شكل هذا النظام مُقترح بطريقة مثالية من طرف السبينوزية، التي استمد منها هيغل وشيلنغ وهولدرلين معرفة أكثر حميمية من خلال رسائل فريديريك هاينريك جاكوبي Friedrich Heinrich Jacobi حول "تعاليم سبينوزا" ويستخلصون قناعة تتمثل في كون الرؤية السبينوزية للعالم ستعطي شكلا قبل كل شيء، بطريقة متسقة ونقية بشكل خاص، لمثال معرفي جديد. مال شيلنغ الشاب إلى قياس نفسه بسبينوزا في الميدان الذي كان ميدانه، ووضع لنفسه هدف -ابتداء من أول نص له "حول إمكانية شكل من أشكال الفلسفة بشكل عام"- بناء نظير مثالي للسبينوزية وتتبع كل المراحل التي تقود إلى الأنا وحده عن طريق الإستنتاج إلى أن تكثر تمظهراته.

لكن محور اهتمام هولدرلين كان يوجد في مكان آخر. فـ"الواحد" الذي كان يبحث عنه، ليس هو المبدأ الأعلى للإستنتاج، كما هو الشأن عند شيلنغ وفخته، وليس هو تصورا أسمى يتضمن الكل ومنه تُستنتج كل معرفة خاصة. فعندما اختار وهو ابن الواحد والعشرين سنة الواحد والكل Ἑν χαὶ πᾶν كـ "رمز" وكتبه في الكتاب الذهبي لصديقه هيغل، فإنه كان يمتلك بوضوح تأويلا آخر للواحد وللكل. لم يفهم هذه الصيغة من ضرورة مجردة للمعرفة، لكن بطريقته الخاصة في الشعور بالطبيعة وتأملها. بحث وَوَجَدَ تأكيد الشعور الأساسي الذي كان يربطه منذ الطفولة بالطبيعة وبقواها المختلفة، بالشمس والأرض والهواء. وكما فعل غوتي الشاب في قراءته الأولى لسبينوزا، فإن هولدرلين سيعطي منذ البداية مضمونا جديدا خاصا لمفهوم الكائن السبينوزي، المجرد والرياضي. فالواحد ليس هو الجوهر اللانهائي الذي يتضمن الكل، وهو جوهر لا يعرف لا تغيرا ولا تطورا، لكنه الواحد الذي يتضمن في ذاته إمكانية الكثرة والتغير ἔν διαφέρον ἐαυιῶ، الواحد المغاير لذاته، كما سيحدده هولدرلين فيما بعد في الهيبيرون بكلمات هرقليط.

من هنا، قاده السبيل مبكرا إلى أفلاطون، لكن ليس أفلاطون المنطقي الذي أبهره، وليس ذاك الذي انتقد تيتيت Théétète (الرياضي اليوناني، الذي عُرف بواسطة أفلاطون: إ.م) الذي عارض تصورات هرقليط المتعلقة بالمستقبل وقدم بديلا لها يتمثل في الوجود الحقيقي للفكرة ὄντως. كأفلاطونية شافتيسبوري Shaftesbury وفينكلمان Winckelmann، فإن أفلاطونية هولدرلين تركز حصريا على ظهور الجمال والحياة. وقادته المحاولة الأولى له لتحديد مفاهيمه الجمالية الأساسية إلى التعليق على فايدروس Phèdre، وتُهيمن على النسخة الأولى من هيبريون أصل أسطورة الإيروس، الذي يحكيه ديوتيم في "المأدبة Le Banquet":

"عندما تضيع
[...] روحنا في طيرانها الحر
أثناء ترك الأثير والسماء للذهاب
إلى الأرض وتستحوذ المجاعة
على الوفرة والحب
استطاع أن يولد.
حصل هذا يوما
عندما خرجت أفروديت من الماء
[ ... ] والآن نشعر بحدود وجودنا
تقاوم القوم المسجونة بصبر
ضد سلاسلها وتتحمل الروح
الحنين إلى الأثير الشفاف"

ومع ذلك، فإن ما يظهر كعقبة أمام وجودنا، هو في نفس الوقت شرط كل النشاط البشري الواعي. ولا يشتعل الوعي إلا في هذا الحاجز ولا يولد الشعور بالفردي إلا في التناقض مع العام. فالروح التي لا تعاني، الروح "الخالصة" يمكنها أن تتضمن في ذاتها كل الوجود، لكنها لن تمتلك أي وجود في ذاتها. يوحد الحب الحاجتان المتعارضتان والضروريتان، الحاجة إلى اللانهاية والحاجة إلى الحدود، ويخلق بهذا شكل وإمكانية الحياة الواعية.

ويشير هذا اللجوء إلى الأسطورة الأفلاطونية في الوقت نفسه، في خلفية خصوصية محتواه، إلى سمة عامة لروح هولدرلين، بفضلها يمكن أن توضح رؤيته للإغريق والطبيعة. فالأسطورة عنده ليست رمزًا استعاريًا خارجيًا للفكر، بل تشكل شكلاً أصليًا لا ينفصم من الروح. فالتمثل الأسطوري ليست شيئا للتزيين نضيفه إلى صورة الواقع فيما بعد، بل إنها أحد الأجهزة الضرورية لفهم الواقع نفسه. في الأسطورة يتم بالفعل حسب هولدرلين اكتشاف وتفسير العالم والحياة ، اختبر قوى الطبيعة كقوى أسطورية أصلية حتى قبل أن يسميها ويفصلها عن بعضها كمفاهيم. يمتد هذا الشعور الأساسي عبر كل شعره، وصولاً إلى العناصر القصوى لأسلوبه الغنائي. (يوضح فريدريش جاندولفFriedrich Gundolf ، في تحليل يأخذ فيه مثال أرخبيل الشاعر، بأية طريقة قام بذلك، - وقبله أشار ديلتي Dilthey في مقاله حول هولدرلين إلى هذه السمة بالفعل). لم تعد الآلهة القديمة مجازات وعبارات خالصة، بل تُعرف على الفور وتُدرك كحقائق الحواس والعقل. يعارض هولدرلن بغضب "الشعراء المنافقين" الذين لم يكن عالم الآلهة عندهم سوى الأسماء والاكسسوارات والديكور البلاغي:
"أنتم أيها المنافقون الباردون لا تتكلموا عن الآلهة!
لديكم ذكاء! لا تؤمنون بهيليوس، ولا بالرعد، ولا بإله البحر.
ماتت الأرض، فمن سيشكرها؟"
بالنسبة للشخص الذي لا تكون الأسطورة عنده إلا اختراعًا خالصًا، حتى لو كان هذا الإختراع "شاعريًا"، ولا يجد فيها شكلاً خاصًا وضروريًا للعقل، فإنه يفقد الحق في استخدامها كشاعر.لأنه بالنسبة له، العالم ليس سوى مجموعة خاملة من شظايا المادة، أو نظام من القوى الميكانيكية يمكن التنبؤ به ويمكن استيعابه كاملا بواسطة الذكاء.

عالم الآلهة اليونانية هو عالم هولدرلين، وبالمقارنة مع شيلر وعلى النقيض منه تظهر خصوصية عالم مشاعره وتمثلاته بشكل أوضح. يحقق هولدرلين ما كان شيلر يتمناه. فإذا كان هذا الأخير لا يأخذ إلا موقفا خاضعا و"عاطفيا" اتجاه عالم الآلهة اليونانيين الذي اختفى، فإن هولدرلين يتحدث عنه من جديد بإيمان وسذاجة. بالنسبة لشيلر فإن أشكال الآلهة القديمة، هيليوس وأفروديت، لا تبقى على الرغم من كل شيء، حتى وإن كان يتمنى رجوعها، إلا "مخلوقات جميلة من عالم الخرافات"، لا تعيش أثارها إلا في دنيا الخيال للأغاني. وعلى العقل إعادة بناء ما فقدته معرفة الطبيعة إلى الأبد: "أعطته الحياة الأسطورة، وحرمته الحياة من الروح/وسيُرجع له العقل الحياة الخلاقة من جديد". لكن ما يميز هولدرلين هو أنه تغلب على هذه الثنائية منذ البداية في الشعور الأصيل والفريد الذي كان يشعر به اتجاه الطبيعة. لم يكن في حاجة لإعادة ة بناء شخصيات الآلهة القديمة بشكل مصطنع عن طريق التفكير: فقد ظلت هذه الشخصيات حاضرة دائما فنيا فيه، من خلال توجيه خياله وقانون هذا الأخير. وفيما يتعلق بهذا الوجود المكثف، فإن القرب الحساس والفوري من "الأشياء" ومن الحقائق التجريبية يفقد عنده كل أهميت: " [ ...] أشعر بأن المرء باعني/ في عبودية سماوية / إلى الأماكن التي مر بها أبولو / على شكل ملك / وحيث انحدر زيوس نحو شباب عبقري / وبِسِرّ غامض خلف أولادا / وبناتا / هو الأسمى يختلط بالبشر". رأى كيف أن هيليوس، المُتعب من رحلته، يغسل شعره الشاب في غيوم الذهب وكان يسمعه يغني مليئا بأوتار ذهبية ترنيمته المسائية على قيثارته السماوية.

لم "تتشكل" هذه السمة المميزة لإحساس هولدرلين بالطبيعة ولم يتسبب فيها أي تأثير خارجي. إنها أتت من شكل أصلي لعقله، ظل كما هو من البداية إلى النهاية، وعبر عن نفسه بطريقة غنية وواعية بشكل متزايد. بنفس الطريقة التي كان يسمع بها الصبي "صمت الأثير" وفسره جيدًا قبل أن يمسك بكلمات الراشدين، ويتطرق هولدرلين في إحدى قصائده الأكثر تأخرا والأكثر نضجا -"أناقة المتجول" -مرة أخرى إلى هذا المناخ بطريقة ملفتة للنظر: "لذا أبقى وحدي. لكن أنت الذي يحكم فوق الغيوم، / أب الوطن، الأثير القوي، وأنتما / الأرض، والشمس، أنتم الثلاثة الذين تحكمون وتحبون، / الآلهة الأبدية، لن تتكسر الروابط التي تربطني بكم أبدا". لم يبق ما يعبر عنه بهذه الكلمات خارجيًا ومتغيرًا وتعسفيًا، بل هو جوهر كيانه الفكري والشعري. هناك خاصية أخرى من السمات الأساسية لوحدة الوجود الفني لهولديرلين تأخذ أصلها هنا وتدور فكرته حول هذا السؤال: كيف ينتشر اللامحدود "الكل-الواحد" في العديد من الشخصيات الفردية؟ كيف لا يمكن أن يكون له صدى إلا في هذه الشخصيات المفردة؟ ولكن هنا مرة أخرى، بالنسبة للشاعر، فإن فهم هذه العلاقة (بين الكل-الواحد والشخصيات الفردية) بمفهوم ما، وفهمه من خلال دليل الحواس، يتفقان ويتوحدان بشكل غير محسوس.

كما أن تصوره بعيد كل البعد عن وحدة الوجود الرياضية المنطقية لسبينوزا وعن وحدة الوجود الجدلية لشيلنغ وهيغل، على الرغم من أنه يقترب من هذا الأخير في صياغته، كما هو واضح في إشارته للواحد الذي يختلف عن نفسه ἔν διφέρον ἐαυτῶ لهيراقليطس. في العمق يبقى اللانهائي نفسه بالنسبة له قابلا للفهم والحساسية؛ إنه ليس القاعدة الوحيدة المطابقة دائمًا لنفسها، والتي ترتفع فوق كل شيء لتصبح، مفهوم أو قوة الوجود الذي يُشرح من ذاته: يقدم اللانهائي نفسه له بشكل ملموس منذ البداية.

فالهواء والضوء، الأثير والسماء هي أقرب رموزه - طالما أنها تخترق بنفسها وبدون حدود وبشكل دائم كل كائن خاص، وتحيط به وتعبره. ويشعر فيها على الفور بأنه تم الاستيلاء عليه من طرف وحدة كل شيء يعيش وفيها يريد أن ينحل كيانه.

بهذا الشعور بالكل، يبقى هولدرلين جزءًا من العصور القديمة، يبقى في تصور لا يفقد الخطوط الحساسة للخاص عندما يهتم بالعام. عندما يتحدث عن الهواء كعنصر متحرك باستمرار، يجتاز كل شيء، كمادة خام لكل شيء، يمتد إلى كمال أبدي في جميع تداعيات الحياة – فإننا نعتقد بأننا نسمع فيلسوفا أيونيا قديما للطبيعة، يتهيأ لنا بأننا رفقة أناكسيم أو ديوجين الأبولوني.

ولكن هنا أيضًا فإن كل فهم نظري يذوب ويتحول إلى إحساس فوري، وبالنسبة لتصور الطبيعة هذا، لا يحتاج هولدرلين إلى أي دليل آخر غير الإحساس الذي يعطيه الإنسان في أي يوم ربيعي مشرق ومفرح: "كان منظر جميل. كما عندما تدعو الأم غريمها بصوت مُداعب" -ويصف هيبريون اليوم الذي التقى به بيوتيم لأول مرةهكذا-: "يرى جميع أبنائه يركضون، يمدّ أصغرهم يده خارج المهد، وهكذا يقفز كل وجود، يطير، يمتد نحو الهواء الإلهي؛ الحشرات، السنونو، الحمام، اللقلاق تمرح في ارتباك احتفالي في الأعماق والارتفاعات؛ أولئك الذين تربطهم الأرض، أصبحت خطواتهم طيران، يطير الحصان فوق الخنادق، والغزلان فوق التَّحَوُطَات، ويطفو السمك من قاع البحر قافزا إلى السطح. أخذهم هواء الأمومة جميعًا إلى قلبه، ورفعهم، وضمهم إليه". وتجد النغمة المأساوية الكامنة وراء شعر هولدرلين نغمتها النهائية هنا. يجب أن يذوب كل حب وكل معاناة في النهاية في الهواء وفي النور وفي السموات. لا يدرك الفرد/الخاص الأسباب الأساسية لوجوده، يبقى في الظل محروما من القلب، إلى حين يعترف ذاك الذي يحيط بكل شيء، "الأب الأثير" الكل.

لا يمكننا فهم تأثير المثالية الفلسفية لعصره عليه وتأثيره عليها، إلا عندما نحدد أسس تصور هولدرلين للطبيعة -الذي رافقه الشاعر طوال حياته-. إذا أخذنا بعين الإعتبار موقف هولدرلين من فخته، فإن هذا الموقف يتحدد في خطوطه العريضة العامة دون التباس. ففي الإستنتاجات الشاقة والمعقدة للنظرية الفختية للعلوم، يفهم هولدرلين منذ البداية البرهان المركزي والحاسم له. ذلك أن التعارض بين الأنا Moi واللانا Non-moi ما هو إلا تعبير آخر للتعارض بين الطبيعة والحرية. فقد عَلَّمت الطبيعة فيختي بأنه لا يمكنه تحديد الطبيعة، لأنها ليست مطلقا، إنها ليست كائنا أصيلا وحرا، يكون حاضرا فِيَ. على العكس من هذا إنها الحدود التي يعطيها الفرد لنفسه لكي يتجاوزها فيما بعد، وانطلاقا من فهم وتجاوز هذه المادة يكون باستطاعة الأنا المطلق أن يصبح واعيا بذاته وبمسؤوليته اللامحدودة. إنها إذن ليست تنظيم كائن في العالم يوجد بذاته، إنها تحدد/تعين أهداف وميدان المسؤولية، الجوهر المثالي، الذي يجد النشاط الحر نفسه من خلاله، ويلقي الضوء على مساره واتجاهه. فكل كائن "مُعطىَ" للطبيعة لا يكون موجها إلا لكي يُغيَّر بفضل الإرادة الأخلاقية ويُقْضَى عليه ويُلغى ككائن "مُعْطى". من السهل فهم ما كانت تعنيه هذه التعاليم التي طورها فخته دون هوادة وحزم بالنسبة لهولدرلين، لأن شروط تقبله واستقباله لهذه التعاليم كانت متوفرة عنده منذ مدة طويلة. فقد اتخذت فكرة الطبيعة عنده، في حماس الشباب لروسو - وضع اسم روسو على الصفحة الأولى من "ترنيمة للإنسانية"-، إضافة إلى مضمونها الخالص والمفاهيمي، خاصيات مثال أخلاقي. ففي أشعار الشباب يُحيل كل عنصر من هذه العناصر إلى الآخر ويتداخلان. في الترانيم التي يتغنى فيها هولدرلين بصمت الطبيعة أو ببعض أبعادها الكبيرة، نجد أخرى تمجد بحماس تجريدي بناءات مجردة كالصداقة أو الإنسانية أو الشرف أو الحرية.

لكن التعميق الأول لتعاليم فخته عليها حل وحدة الواجهة التي عاش فيها هولديرلين حتى ذلك الحين. ما كان مُطالبا به يقدم نفسه كبديل واضح وحاد، الاختيار بين وجهة نظر الوجود ووجهة نظر الواجب. يبدو في لحظة ما بأنه يخضع لـ "تيتان" فخته ويضحي "بالطبيعة" من أجل "المثالي". ومع ذلك، لا يستطيع أن يقدم هذه التضحية دون التخلي العميق والمؤلم، لأن ما طُولِب به ليس سوى انقطاع مع هذا الشعور الأصيل في الطبيعة، وهو شعور رافقه منذ بداية حياته. لم تعد الطبيعة مجموع القوى الروحية أو الإلهية الموجودة، تعمل من أجل نفسها ولكن فقط Gegenwurf (النموذج المضاد) لفكرة الحرية ومادة مصيرنا الأخلاقي. ومن هذه النقطة تحديدًا يسجل هولدرلين رفضه وتأكيده اتجاه فيخته. يحاول بدء فهم فخته بأسلحته الخاصة: فإذا كان صحيحا بأن الأنا واللأنا لا يوجدان إلا من أجل بعضهما، ويتحددان ويتأسسان في إطار تبادل الأنشطة والمعاناة -كما يؤكد فختيه على ذلك في مبادئ عقيدة العلوم- فإن الطبيعة تكون إذن معفية من سلبيتها الخالصة، فقد حصلت على معنى مثالي خاص. لا يجب التفكير في هدمها كهدف، لأن ذلك يساوي هدم الأنا. إذا كان الأنا، ولكي يرتفع إلى وعي الذات، يحتاج إلى حَدٍّ، وإذا كان يحتاج إلى علاقة مع النهاية، إذن يجب أن تكون هذه العلاقة في حد ذاتها أكثر من حَدٍّ خالص. فما لا يمكن أن نعتبره، من وجهة نظر الإرادة، إلا كمادة، يجب أن يُفهم، في تغيير للاتجاه، كشكل مستقل، خاضع لقانونه الخاص. يعود هولدرلين هنا إلى الإستنتاجات النظرية للرسائل الجمالية لشيلر، لكنه يعبر عن طريق هذه الإستنتاجات عن مطلب شخصي وعن تجربة فكرية أساسية بالنسبة له. وبما أنه كان ينتظر بفارغ الصبر أن يُذَوِّب هذه التجربة في الرواية التي رافقته في حياته وتكوينه، فإن هيبريون رأى النور في صيغة يينا في شتاء 1794 – 1795. ويتم التعبير عن هذا الزخم العام بوضوح مجرد تقريبًا. في الجزء المتري لهيبريون:

"لا يهتم العقل الخالص المتحرر من الألم
بالمادة، لكنه ليس أيضا
واعي بأي شيئ ولا بذاته
ليس هناك عالم بالنسبة له لأن
لا شيء يوجد خارجا عنه [ ...]
نشعر الآن بحدود وجودنا
تقاوم القوة المسجونة بصبر
ضد سلاسلها ويحمل العقل
حنين الاثير الشفاف
لكن هناك شيء فينا
يحب أن يحمل السلاسل لأنه إذا كان الإلهي
موجودا فينا وغير محدود بأية مقاومة
فلن يكون لنا الإحساس
لا بأنفسنا ولا بالآخرين
وعدم الشعور بأي شيء يعني الموت [ ... ]
ليكن العقل الإنساني شاسع
وغير مرن في متطلباته
عليه ألا ينحني تحت نير الطبيعة
لكن عليه أن يعرف كيف يقدر مساعدتها حتى وإن
أتت من عالم الحواس، الذي لا تحتقر
فما هو نبيل تحت غطاء قاتل
وعندما تتدخل الطبيعة بطريقتها
بلهجتها، فليس عليها أن تخجل
من رفيقة اللعب المحبوبة هذه".

يعود هولدرلين بهذه الكلمات من جديد فنانا، بامتيازات الفنان، أمام التفكير الفلسفي الأخلاقي لفختيه. لكن المعركة لم تُحسم بعد. ذلك أنه إذا كانت وحدة الطبيعة والعقل الإنساني قد أعيد تشكيلها من خلال ظاهرة الجميل، فإن هذه الوحدة تستمر في حمل عناصر صراع تراجيدي في ذاتها، ويتم إحباط الإخلاص الفني الخالص للواقع وإزعاجه باستمرار بمطالب تهاجمه من الخارج. لم يعد الارتباط الحميم الأول الذي لا جدال فيه الذي ربط الإنسان بالطبيعة يظهر من جديد بنفس القوة ولا بنفس السرعة. تعارض الضرورة المجردة للعقل قانون الحدس وخصوصيته. ينفصل الشعور بالارتباط بالطبيعة عن القانون الذي يحكم عالم الإنسان والذي يرتكز عليه نظام هذا العالم. فالأحلام والعقل، اللذان كانت حدودهما غير واضحة عند الطفل والمراهق، أصبحت مفصولة الآن بشكل حاد وجذري.

ومن ثم، فإن الوضوح الجديد يُظهر المعاناة بوحشية كمبدأ لكل واقع. وتعبر قصيدته "إلى الطبيعة"، نظمها عام 1795 بعد مدة قصيرة من عودته من يينا، عن هذا بطريقة ملفتة للنظر. ففيها يتأصل التصور الدرامي للعالم الخاص بهولدرلين، وهذا هو الشكل المبدئي الذي نجده في هيبيريون وكذا في أومبيدوكل Empédocle. ويهيمن على هذا الأخير أيضا شعور مليء مُفعمة. وهو الشعور الذي سمح له بالتبلُّلِ بالطبيعة وجعلها مفهومة من الداخل من طرفه. لكنه لا يكتفي بهذا الإتحاد: أوحي له بنظام الطبيعية وهو في حاجة الآن إلى تحقيقه في عالم الإنسان الذي يحيط به عن طريق قانون الدولة والجماعة. وفي تحريك الأنشطة الحقيقية للإنسان، في الحد والتكيف اللذين يلحقان بأهدافه، ينخفض ويتدهور هذا الحدس الكبير بالطبيعة. فعندما يجعل الإنسان من المعرفة التي تربطه بالطبيعة وسيلة من أجل هدف معين، وعندما يُقلص الطبيعة إلى مرتبة الخادمة، فإنه يفقد سحرها. ودون مساعدتها فإنه سيجد نفسه وحيدا وسط العالم الضيق لأمثاله، متعرضا لضرباتهم. وفقد عندما ينفصل عن هذا المجال ويبتعد عن المتاجرة بالآراء ونوايا البشر وبمقاومة كل الإغراءات التي تنبثق عنها وبارتمائه في نيران بركان إتنا Etna برغبة رهيبة، فإنه يعيد ربط العلاقة القديمة بالطبيعة. وهذا هو أساس التراجيديا: لا يمكن أن تتصالح الطبيعة والحرية، فعلى الذي يحاول أن يعيش ويسلك طبقا لقواعد العالم الإنساني أن ينفصل عن قواعد الطبيعة، وعلى من يريد أن يجد طريقة إليها من جديد أن يتخلى على قواعد عالم البشر وعلى مسراته وآلامه. ويُظهر نص "تأسيس الأومبيدوكل" بأن هولدرلين باعتباره فنانا لا يكتفي بتشكيل هذا التعارض، بل لا يتوقف عن المقاومة ليعطيه تعبيرا عاما ومجردا. لكن إذا استحضر المرء إلى الذهن مجموع شعره، فيمكنه أن يلاحظ حتى في هذا التجريد الأسمى حساسية شخصية اتجاه العالم والحياة.

يكشف هذا التطور الداخلي لهولديرلين استمرارا وجوديا للترتيبات والأسئلة. وحتى عندما تعرض لتأثير خارجي، فإنه نجح، بعد أزمة قصيرة، في العودة إلى هذه الاستمرارية بفضل قواه الخاصة.

من طبيعة الحال قد تكون لنا وجهة نظر أخرى ونقبل فكرة كون هولدرلين، لكي يتجاوز التأثير الذي مارسته عليه تعاليم فخته -وكان تأثيرا صاعقيا وهداما على شخصيته الشعرية الخاصة- كان عليه أن يبحث عن مساعدة خارجية، ووجد هذه الأخيرة في "فلسفة الطبيعة" لشيلنغ. لكن البراهين التي قدمت لدعم هذه الأطروحة لا تقنع كثيرا: فكل التشابهات التي أكد المرء عليها، بعبارات عامة ومفصلة، بين تصور الطبيعة عند شيلنغ وهولدرلين، تتعلق بالتحديد بالعناصر التي تم تثبيتها عند الشاعر منذ شبابه، وهي عناصر تعطي لهذا التصور أساسه الجوهري. لا يقتنع المرء بسهولة بأن صورة "الأب الأثير"، التي تجتاز كل شعر هولدرلين، قد أُخذت من "روح العالم" لشيلنغ، إذا علمنا بأن هذه الصورة تظهر عند الشاعر في كل وضوحها، في وقت لم تكن فيه المفاهيم الأولى لفلسفة الطبيعة توجد بعد عند شيلنغ. فمقطع الهيبرون Hypérion الذي نشر عام 1794 في مجلة طاليا Thalia، يحتوي بالفعل على هذه الصورة (أعاد استعمالها وطورها سنة بعد ذلك في قصيدة "إلى الطبيعة"): "لا أدري ماذا يلهمني منظر الطبيعة التي لا تنضب، لكن الدموع التي أذرفها عند قدمي المعبود المُحجَّب هي دموع مقدسة ومباركة. ليلمسني النَّفَس الخفيف والغامض للمساء، فكل كياني يصمت ويُصغي. ضائع في الشساعات الزرقاء، كثيرا ما أرفع عيناي نحو الأثير، أو أنزلهما اتجاه البحر المقدس، ويتهيأ لي بأنني أرى انفتاح باب اللامرئي أمامي، وأنمحي مع كل ما يحيط بي". ويمكن أن نرى هنا أيضا مصدر شعر متأخر على "الأثير"، دون أن يكون عليه البحث له عن مصدر مفاهيمي بحت. لم يعد المرء مقتنعا بالبرهان القائل بأن هولدرلين، بتغنيه بالضوء كمصدر للحياة، يعتمد على تأويل شيلنغ للضوء كـ "السبب الإيجابي الأول للقطبية العامة": نعرف أن الأمر يتعلق من جديد بتصور من التصورات الأساسية التي كان يقول عنها بأنها لا تأتي من تعليم ما، بل -بطريقة حرة وضرورية- من حساسيته الأصلية. وها هنا كلماته في الأبيدوكل:

[ ... ] آه هذا الوقت!
متعة الحب هذه عندما تستيقظ روحي
كإينديميون من طرف الآلهة
من نعاس طفولته انفتح
حية أنت أيتها الأيام
شباب، عباقرة الحياة
أنت أيتها الشمس الجميلة كثيرا، لم يقل لي الناس
أي شيء، قلبي وحده هو الذي دفعني
في حبه الخالد اتجاه الفانين
اتجاهك أيها الضوء الهادئ، لم أستطع
أن أجد أكثر ألوهية منك"

لا نحتاج لأية أمثلة إضافية، ذلك أن كل سطر من شعر هولدرلين يذهب في نفس الإتجاه. بل إن هذا هو مجموع التأكيد القائل بأن هولدرلين، بعدما عاش في قرارة نفسه انهيار نسق فختيه، بحث ووجد مساعدة فكرية في فلسفة الطبيعة لشيلنغ، التي لم يصبر على عدم النقد. ذلك أنه عندما التقى من جديد بهولدرلين (كان ذلك في غشت 1795 عندما رجع من يينا وزار شيلنغ في توبيتغن)، وكان شيلنغ نفسه تحت التأثير الكامل لنظرية العلم لفختي. وكان قد كتب بضعة أشهر من قبل إلى هيغل، بأن طموحه كان يتمثل في استقبال فختيه كبطل في بلد الحقيقة: "لنحي الرجل العظيم، سينهي العمل!". عندما رأى هولدرلين، وما كان يشغله هو معرفة ما إذا كان تقدم بما فيه الكفاية ليبقى في مستوى فكر فختيه. طمأنه هولدرلين بقوله: "لا تقلق، فقد تقدمت مثل فختيه. لا تنس بأنني كنت أَحْظُر دروسه".

فيما يخص إنتاج هيغل، فقد كان هناك ثلاثة نصوص مهيئة أو في إطار التحضير: "حول إمكانية شكل للفلسفة بصفة عامة"، "حول الأنا كمبدأ للفلسفة"، "رسائل فلسفية حول الدوغمائية والنقدية". وانضاف "الإستنتاج الجديد للقانون الطبيعي". ولم يخرج هيغل في كل هذه النصوص عن دائرة مبادئ فختيه. ذلك أن المبدأ الأخلاقي يبقى -وبالخصوص في النصين الأخيرين- المبدأ العام للفلسفة، ومفهوم الإستقلال المركز الذي يدور حوله بناء العالم المفاهيمي للعالم الواقعي، عالم العقل وعالم الطبيعة. ولا تعدو الإشارة إلى الطبيعة أن تكون هنا إلا في معنى استعمالها كدليل ومثال لفكر الإستقلال، لأن الحياة هي "الإستقلال في تمظهره". ما كان شيلنغ يحاول القيام به هو محاولة تشبه محاولة فختيه في "القانون الطبيعي"، الذي كان يحاول استنتاج قبلي للهواء والضوء انطلاقا من ضرورة كون أغلبية الكائنات الحرة يجب أن توجد ويجب عليها أن تتواصل وتكون في مجتمع مع بعضهم البعض. لكن لم يعبر المرء في أي مكان عن فكرة كون الطبيعة، باعتبارها تسلسل هرمي للقوى، تتمتع بوجود وقيمة مستقلين. فالأخلاقية المجردة لفختيه لم تُعوض بعد في أي مكان بدينامية النظريات التي طورها شيلنغ فيما بعد، ويقول النص حول "الأنا le Moi": "من الضروري أن توجد كائنات نهائية، لكي يقدم اللانهائي وجوده في الواقع [ ... ] فالقصد من الفلسفة النظرية هو توصيف، وإذا جاز التعبير، تقرير حصة السببية العملية في ميدان الفعالية. إذن لا تهتم الفلسفة النظرية بالفعالية إلا لتسمح للسببية العملية بأن تجد ميدانا يكون فيه تقديم الواقع اللانهائي ممكنا". فكل سببية تنتج في آخر المطاف من الغائية، وكل دراسة للحياة تجد شرحها وتوضيحها في آخر المطاف في فكرة الأخلاق في حد ذاتها. وبهذا يجد هولدرلين نفسه مع شيلنغ مُواجها بنفس التصور الذي رفضه عندما التقى به عن فختيه، والذي عارضه بتصوره الخاص عن الحياة والجمال في الجزء المتري للهيبيرون. ويسمح الرجوع إلى هذا الجزء بملاحظة كون هناك سؤال يبقى معلقا في العلاقة التاريخية بين شيلنغ وهولدرلين، كما في العلاقة بين تصوريهما للعالم. عندما صاغ شيلنغ فيما بعد نتائج فلسفته الطبيعية، فإنه قام بذلك بكلمات تُذكر بسرعة صراع هولدرلين مع فختيه: "إن الطبيعة ليست لَوْحا يُعلقه الأنا الأول أمامه، ليصطدم به ويرجع إلى ذاته ويُحاصر بالتفكير ويصبح أنا نظريا، وبعد ذلك يشتغل على هذا الأنا النظري ويغيره، أي ممارسة نشاط عملي. إن الطبيعة هي سُلُّمٌ يرتفع العقل به إلى ذاته، يتكشَّفُ العقل انطلاقا من الطبيعة، إنها ليست شيئا وحسب، إن لها شيئا ما روحيا".

نرى بأن هذه الكلمات قد توجد كذلك تحت ضوء جزء "يينا" في الرواية، وفيما بعد بكثير، في كُتيبِه ضد فختيه لعام 1806، يُعاتب هذا الأخير على تماثليته ورفضه للطبيعة، وقد حدث هذا الإنعطاف بكل قوة في النسخة المترية للهيبريون:
"عندما تولد فيك الحواس
علامة إلهية والسحاب الذهبي
يُحيك بأثير الأفكار
لا تتعدى على هذه الأشكال المضحكة
لأنك تحتاج إلى تقوية الطبيعة".

للإشارة، لا تتوقف روابط المواضيع والمقارنات عند هذا الحد. فالدور الذي ينيطه هولدرلين للفن ولظاهرة الجمال في تأسيس العالم الروحي تمت صياغته بطريقة واضحة جدا وحاسمة في الصيغة النهائية للهيبيرون، التي اشتغل عليها هولدرلين في فرانكفورت أثناء شتاء 1796-1797. لكن الفكرة الحاسمة ترجع لسنوات "يينا Iéna": "إن أول طفل للجمال الإنساني وللجمال الإلهي هو الفن. ففيه يتجدد الإنسان الإلهي ويُولِدُ نفسه [ ... ] وهكذا أعطى الإنسان آلهة لنفسه [ ... ] وثان طفل للجمال هو الدين. إن الدين هو حب الجمال [ ... ] وبدون حب الجمال هذا، دون هذا الدين، فإن كل نوع من الدولة هي بمثابة هيكل عظمي جاف، منعدمة فيه الحياة والعقل، وكل فكرة وكل فِعْل هو شجرة دون نهاية (تاج)، عمود وحسب، مُجرَّد من سرادقه". وهنا أحد الأسباب الأساسية للعالم الفكري الذي بناه شيلنغ فيما بعد، سنة 1800 في "نسق المثالية المتعالية". وتتمثل الخاصية الثانية في الدور الحاسم الممنوح للأسطورة وللخيال الأسطوري. ففي المحاولات الفلسفية التي عُثر عليها بعد موته، طرح هولدرلين على نفسه بطريقة مجردة ونظرية خالصة إشكالية قيمة الأساطير وحاول البرهنة بأن: "كل دين هو جوهريا شعرا". وأهم من هذا التعبير المجرد هناك الشكل الملموس لرؤيته وحساسيته اتجاه العالم، وهو الشكل الذي يتم فيه إدراج الأسطورة في كل مكان كعنصر ضروري وحيوي. ولربما لم يكن من باب المستحيل أن هذه الاصالة قد أصبحت مشكلا بالنسبة لفكر شيلنغ، الذي كان يرى بعينيه الخطوط العريضة لما أسسه هو نفسه فيما بعد في "فلسفة الأساطير". وبهذا فإن اللقاء بين هولدرلين وشيلنغ في غضون صيف 1795 -بمعنى مختلف كل الإختلاف عما افترضه المرء حتى الآن- كان حاسما لتطور المثالية الألمانية.

بالتأكيد لا يمكننا أن نزعم بأن شيلنغ لربما كان استعار بعض الإستنتاجات من فكر هولدرلين، لأن هذا الأخير، حتى وإن كان طول حياته اهتم بجد بالإشكاليات الفلسفية، لم يكن أبدا مفكرا نسقيا. لربما قدم لشيلنغ مضمونا جديدا، بحث له عن شكل وتبرير نظري. لربما أعطى هولدرلين اتجاها جديدا لأفكار شيلنغ، لربما كان هذا الأخير معرضا لتحد جديد. من طبيعة الحل أن كل هذا لا يعدو أن يكون إلا افتراضا. وهي فرضية ناتجة ضروريا تقريبا من دراسة التطور الفكري لشيلنغ وهولدرلين ومن مقارنة تطور اللحظات الحاسمة في تطورهما؛ لكنها تبقى فرضية لا يمكننا تقديم حجة تاريخية مباشرة عليها.

إن الإكتشاف الأخير لمخطوط يسلط ضوء جديدا غير متوقع على هذه المسألة. يتعلق الأمر بورقة سِجل une feuille in-folio اقتنتها المكتبة الملكية لبرلين عام 1913 في مزاد علني، نُشرت حديثا في تقرير دورية أكاديمية العلوم بهايدلبيرغ تحت عنوان: "أقدم برنامج نسقي للمثالية الألمانية". ويرجع نشرها إلى فرانتس روزنتفايغ Franz Rosenzweig الذي علق عليه بطريقة ملحوظة. ذلك أن أفكارا بأهمية تاريخية ونظرية كبيرة مُركزة في مساحة ضيقة لورقة وجها وقفا. قيل فيها أولا بأن كل ميتافيزيقا مستقبلية ستكون في المجال الأخلاقي، وهي فكرة لم يعط كانط منها إلا المثال الأول، والتي لم يعطيها المرء كل تطورها وكل معناها. ذلك أن كل الأفكار التي تتأسس على الفكرة الأساسية للحرية، فإن نسق الأفكار سيتوافق فيها مع نظام جميع الفرضيات العملية. وتتمثل أول هذه المسلمات في تصور أنا مستقلا كليا، ولكن في نفس الوقت، فإن الوعي الحر بذاته هو عالم كامل ينبثق أيضا من لاشيء: "ها هنا سأنزل إلى ميدان الفيزياء، والسؤال هو: كيف يجب تكوين العالم لكي يكون أخلاقيا؟ أريد أن أعطي أجنحة جديدة لفيزيائنا، التي تتقدم ببطئ وعناء بتدفق مع التجارب".

يتم الإنطلاق من الطبيعة للوصول بعد ذلك إلى تطور "العمل الإنساني". بدء من الدولة، التي لا تُعتبر هي نفسها إلا ميكانيكا خالصة، لأن عليها أن تعتبر كائنات حرة كَتُرُوس ميكانيكية. عليها (المقصود الدولة: إ.م) أن تختفي. لابد أن تمر المبادئ الحقيقية الأساسية لتاريخ البشرية بنقد تطور مبادئها الإمبريقية، كل هذه الأعمال البئيسة للإنسان: الدولة، الدستور، التشريع. وفي نهاية الأمر، تأتي هيئة عليا، الفكرة التي تجمع كل الأفكار، إنها فكرة الجمال. ويُستعمل المصطلح في معناه الأفلاطوني الأسمى، لأن الحقيقي والخيِّر لا ينتميان لبعضهما إلا في الجمال. وبالتالي فإنه على الفيلسوف أن يمتلك نفس القوة الجمالية كالشاعر. إن فلسفة الروح هي فلسفة جمالية: "وبهذا يحصل الشعر على كرامة أسمى، يُصبح في النهاية ما كان عليه في البداية، مربي الإنسانية". ولهذه القناعة الأساسية أيضا عواقب على تصور الدين. فطبقا لحكم مسبق تافه، فإن العامة وحدها هي التي عليها تخيل وإحضار مضمون الدين عن طريق الصور. لكن الفيلسوف بنفسه في حاجة لمثل هذا التأمل الحسي: "وحدانية العقل والقلب، تعدد الخيال والفن، هذا ما نحتاجه. سأتحدث في المقام الأول هنا على فكرة لم تخطر على بال أي كان في السابق، حسب ما أعرفه، لابد أن تكون لدينا اسطورة جديدة، لكن يجب أن تكون هذه الأسطورة في خدمة الأفكار، عليها أن تصبح أسطورة العقل. ذلك أن الأفكار قبل أن نجعلها جمالية، يعني أسطورية، لا تكون لها أية أهمية بالنسبة للشعب، والعكس صحيح، ذلك أن أسطورة ما وقبل أن تكون عقلانية، فإنها تكون موضوع عار للفيلسوف. لهذا يجب على الناس المستنيرين والناس الغير المستنيرين في نهاية المطاف مد أيديهم لبعضهم، فعلى الأسطورة أن تصبح فلسفة لتجعل الشعب عاقلا، وعلى الفلسفة أن تصبح أسطورة، لتجعل الفلاسفة حساسين. عندها ستسود الوحدة الأبدية بيننا. لن يعود هناك أبدا نظرة ازدراء ولا ارتعاش العامة أمام حكمائها وكهنتها. عندها فقط ينتظرنا تطور متساو لجميع القوى، القوى الخاصة ونظيرتها العامة. لن تُقمع أية قوة. وستعم الحرية والمساواة الشاملة العقول".

إن الورقة التي بين أيدينا مكتوبة بخط هيغل، وطبقا لدراسات خطية، فإنها ترجع تاريخيا إلى حوالي يونيو أو يوليوز 1796. لكن كل ما لدينا -وبالخصوص بعد دراسة دلتي Dilthey لمخطوطات هيجل بالمكتبة الملكية ببرلين- حول تطور فلسفة هيغل يناقض الإفتراض بأن هيجل قد يكون بالفعل كاتب النص.

بالإعتماد على حجج أكثر إقناعا، فإن فرانتس روزنتفايغ Franz Rosenzweig دافع عن الموقف المتمثل في كون المخطوط لشيلنغ، وصل إلينا بنسخ من هيغل. وأظهرت دراسة أخرى أكثر عمقا بأنه فيما يخص وقت الكتابة، فلا يمكن للمرء أن يتصور إلا الوقت الذي أقام فيه شيلنغ في شتوتغارت في شياء 1795 – 1796، يعني الوقت الذي تبع مباشرة زيارة هولدرلين لشيلنغ. وفي إطار مثل هذا، فإن المخطوط يكتسب أهمية تاريخية خاصة جديدة بالنسبة لنا. إننا نرى ذلك: فكل ما كان هولدرلين يطلبه ويتمناه من الفلسفة أثناء تلك الزيارة مُعلن في هذه الورقة. فكل الإشكاليات التي كانت تشغل فكره -وبقيت أغلبيتها دون جواب- لُخصت وعُرضت بطريقة قوية، مُدمجة ومنهجية.

إن المجالات الثلاثة الرئيسية، حيث لا يمكن إنكار التشابه بين أفكار شيلنغ وهولديرلين: الميل للطبيعة، فلسفة الفن، فلسفة الأسطورة تظهر هنا بوضوح خاص، كما أنها مرتبطة بقوة ببعضها. وقد نميل في البداية -كما قام بذلك روزنتسفايغ- إلى تأويل هذه العلاقة بالطريقة التالية: كان شيلنغ هنا الذي يعطي الوحيد، وهولدرلين الوحيد الذي يتلقى.

لكن رأينا بأن هذا التصور لا يقاوم النقد، وبأن الشروط الداخلية لظهور الأعمال تعارض ذلك، تماما كالشروط الخارجية لتسلسلها الزمني. ولكي نأخذ بعين الإعتبار السياق، فإنه ليس هناك إلا تأويل واحد ممكن: كان شيلنغ أول من أعطى ما كان ضرورة فكر هولدرلين، أي تعبيره الواعي والنسقي. فما كان عند هولدرلين ضرورة لطبيعته الفنية، تحول عند الآخر إلى ضرورة قابلة للبرمجة. بكل حدة فكره -وهي حدة تتأكد في المرور بين الميادين والإشكاليات، وإذا جاز التعبير في وضوحهما-غموضهما، ألقى شيلنغ الضوء فجأة على مضمون وهدف الصراعات التي كانت تدور في خلد هولدرلين. أعار/قدم المفهوم والكلمة للرغبة الغير المؤكدة لصديقه. أعطاه التأكيد بأن بين ما يرغب فيه وما يطلبه كشاعر وبين الفلسفة والعقل اللذان أعلنا بأنهما المسؤولية العليا، لم يكن هناك لا هاوية لا يمكن تجاوزها ولا ثنائية من المستحيل حلها. من حق الشعر وبإمكانه أن يُصبح مربي البشرية. و"توحيد العقل" و" تعددية الخيال" يتصالحان بهذه الطريقة ويتحدان. فحدس هولدرلين فيما يتعلق بطبيعة العالم وآلهة الإغريق تحول من طرف شيلنغ إلى استنتاج واع. وإذا تصورنا علاقتهما بهذه الطريقة، فإننا نقضي بذلك على تناقض وصعوبة يعارضان إدراج "البرنامج النسقي الجديد" لعام 1796 في مجموع التطور الروحي لشيلنغ. ويمكن للمرء أن يلاحظ بأن هناك العديد من محاولات الأفكار المعروضة هنا، لا تجد لا استمرارية ولا تطورا في كتابات شيلنغ في غضون السنوات التي لحقت هذا. وتبقى خطوط التفكير التي وضحنا هنا لبعض الوقت في الخلفية تماما، لكن سيتم تناولها مرة أخرى في وقت لاحق. وحتى فلسفة الطبيعة التي تبدو هنا مُتوقعة بوضوح، لم تكتمل إلا لاحقا، خلال إقامة شيلنغ في يينا Iéna.

يمكن فهم هذا بسهولة إذا لم يكن الأمر يتعلق، في هذا "البرنامج النسقي الجديد" إلا بمسودة سريعة، شعر شيلنغ بأنه مدعو لها ومدفوع لها من الخارج، لكن لتحقيقها كليا تنقصه كل الوسائل والشروط. ظهرت أسئلة جديدة ومسؤوليات جديدة داخله، والشعور المتمثل في كونه وجد على التو حلولا جديدة، تتناسب تماما مع الثقة بالنفس اللامتناهية التي كانت له منذ ذلك الوقت. وقد حصل له أيضا، فيما بعد، في مرات متعددة، أن اعتبر عرض تصميم فلسفي كمُنجز. إذا تناولنا علاقة شيلنغ وهولدرلين هكذا، فيبدو أنها مماثلة للعلاقة التي كانت لشيلنغ بزمانه وببيئته الفكرية. لأنه إذا كان قد اكتشف مشاكل جديدة وأصيلة، فقد كان ذلك إلى حد أقل بكثير مما كان يوعزه لنفسه. لكنه، وأكثر من أي شخص آخر، كان يعرف كيف يضع الكلمات ويعطي تعبيرا واعيا إلى حركات فكر كانت تشتغل من حواليه. وبفضل موهبته في الإستقبال التي لا تُضاهى -إنه العبقري الحقيقي في الإستقبال-، فقد فهم وأَوَّلَ هذه الحركات. بإكمال لأول نص لفختيه حول مفهوم نظرية العلوم، والتي لم تكن تحتوي إلا على بعض الإشارات. ما لبث أن طور كل البرنامج المستقبلي للتخصص الجديد. قام بذلك بطريقة كاملة وسريعة، لم يستطع فختيه والحالة هذه من تتبعه في التطوير الأدبي للأفكار. وكرر شيلنغ هذه القدرة، بمحاسنها ومساوئها، وإذا افترضنا بأنها حدثت أيضا مع هولدرلين أثناء ذاك اللقاء عام 1795، فيمكننا إذن أن نلاحظ التأثير المتبادل لبعضيهما، الواحد على الآخر. وتتوافق هذه الفرضية مع خصائص كل منهما وتحتفظ، دون إنكار العلاقات والتأثيرات، بخصوصية الشخصيات الفردية التي تمارس هذا التأثيرات بينها.

تتجلى الرؤية الغنائية، عند كل شاعر عظيم، فيما يكون فيها حاسما وخاصا، يتجلى من خلال الشعور الذي له عن الطبيعة ومن خلال الشعور الذي له عن شكل وأحداث الروح. وفقط في التقاء هذين العنصرين وفي تفاعلهما، ينشأ الإبداع والتعبير الغنائي الخاصين به. ويضاف في الشعر الألماني للعصر الكلاسيكي عامل ثالث ليس أقل حسما لرؤية العالم ككل: إنها إرادة عدم الإكتفاء بممارسة هذا الإبداع الغنائي، ولكن بوعي ذلك وتبريره داخليا. بالإضافة إلى الأشكال الشعرية الموضوعية حيث يريد الشعور الأصلي للحياة التعبير عن نفسه، فإنه يسعى أيضًا إلى فهم أصل ومصدر ذاتيته الخاصة؛ فـ "الداخل" و"الخارج"، القانون الذي يحكم الذات وما ينطبق على العالم لا يسعى فقط إلى التشابك، لكنهما يختبران بعضهما البعض بالتناوب، ويحاول كل واحد فهم الآخر انطلاقا من ذاته. وبهذا فقط يصبح الشاعر واعيا بالفعل بوحدة كل الكون الحي: فاندماج عناصر الحياة -في داخله- يعطيه اليقين الحميم للانسجام الموضوعي للوجود.

لقد تم منح غوته إمكانية ليس فقط لتمثيل هذا الانسجام كشاعر ولكن إدراكه وصياغته كعالم طبيعة. أصبحت الصورة العظيمة للتحول الذي استوعب بها الطبيعة في نفس الوقت وسيلة لفهم تعاقب وتحويل الأشكال التي اختبرها داخليًا. وهكذا كُشف له سر الحياة وسر الخيال الفني في آن واحد. ثم جعل هذه العلاقة المتبادلة ضرورة ثابتة لنظريته الجمالية. لا يمكن للفنان -وقد تأكد من هذا أكثر وأكثر- الدخول في منافسة مع الطبيعة إلا إذا تعلم منها، على الأقل في الخطوط العريضة، الطريقة لإبداع الأعمال. وطبقا للقانون الذي يتغير، فإنه يقوم بتجربة الموازنة بين الأشياء، وبهذه الطريقة فقط يمكن لخياله امتلاك الحزم والثقة. واشتكى غوته بانتظام من الفنانين الشباب في عصره الذين حرموا من ثقل الموازنة المفيد هذا، وأدرج هولدرلين في هذا الحكم، معتبرا إياه، بطريقة ظالمة، بين مواهب الدرجة الثانية.

ومع ذلك، لم يتوقف شعر هولدرلين عند الذاتية البسيطة والضيقة المنسوبة إليه من قبل غوته وشيلر، اللذان لم يكن لديهما سوى معرفة غير كاملة به. يسود عنده هذا الشكل الجديد والمفرد من "الموضوعية" التي لا تتأصل في التأمل ومراقبة الطبيعة كواقع حساس، ولكن في الشعور بالطبيعة الموجودة في الأسطورة. إنه عالم الآلهة الإغريق، الذي أصبح عند هولدرلين "الطبيعة" الثانية. السبب الكامن وراء مأساة حياة هولدرلين والطريقة التي فهم بها هذه التراجيديا وشَكَّلَهَا، لا تكمن في عدم وجود توازن داخلي بين الموضوع والشيء، بين الأنا والعالم. على المرء البحث عنها في عناصر هذه العلاقة ذاتها وفي الطريقة التي شعر بها هولدرلين وأولها. بالنسبة إلى غوته يتم في التحولات الدؤوبة والتحويل للأشكال الكشف عن وحدة الطبيعة النهائية التي يمكن لأعيننا وأفكارنا فهمها: الإنقباض والإنبساط الأبدي. فتصوره النظري والشعري لا يتجاوز هذه الظاهرة الأولية للحياة. يغتبط بهذا الظاهر الحقيقي دون الرغبة في معرفة الـ "لماذا" ولا "الأسس" النهائية. على عكس هذا، فإن تصور الطبيعة عند هولدرلين يذهب منذ البداية إلى اتجاه آخر. يبحث فيها عن المستقبل والكائن، وليس في حركيتها، بل في صمتها تنكشف، مانحة نفسها له.

جلبت أغنية "إلى الصمت" التي كتبها هولدرلين في سن الثامنة عشرة نغمة أكثر حرية وأكثر فردية لشعر شبابه، بقيت مجردة وتقليدية. ويمكن للمرء أن يشعر فيها بصدى تجربة مُؤَسِّسَة لسنوات شبابه. وينتهي الهيببريون بنفس الشعور تماما الذي بدأه هولدرلين: "أنت أيتها الطبيعة، أنت وآلهتك! أعتقد. حلمته في كل الجوانب، حلم الأشياء البشرية، وأقول أنت الوحيدة التي تعيش، هل اخترعت الكائنات دون سِلْم أو امتلكت بالقوة، تذوب هذه الآلئُّ (مفرد لؤلؤ: إ.م) شمعا وتذهب للهيب! كم من وقت حُرمُوا منك؟ كم من الوقت تُهِينك الحشود وتحتقرك، أنت وآلهتك، الهدوء المبارك". لربما ينمحي حدس الحياة العضوية عند هولدرلين بسبب ميل عقله -في تصوره للطبيعة وبالطريقة التي يبدعها بها-، في حين أننا نجدها (أي الطبيعة العضوية: إ.م) عند غوته مُضمرة. فعندما يغطس غوته في صورة للطبيعة العضوية، كما هو الأمر في قصيدة "أشجار البلوط"، فإنه يخرجها على الفور من إطار الطبيعة وسياقها: تُصبح مثالا ونظيرا للحياة الأخلاقية. على العكس من هذا فإن كل قوة روح الطبيعة تتمظهر في التمثل الذي له عن عناصر القوة الأساسية والغير العضوية لهذه الطبيعة. فالهواء والضوء، الأرض والسماء، الأثير والشمس هي التصورات التي تَتكرَّر، حيث ينكشف شعره. ويعني ميل خيال هولدرلين للعصور القديمة وللأسطورة -حتى عندما يستسلم تماما للحركة والثبات والوحدة الديناميكية للطبيعة- ضرورة تجسيد هذه الوحدة بذاتها في تفاصيل ملموسة وآلهة مُجسدة. لكنه يكون في ذروة شعره، كما هو الحال في قصيدة "الخبز والنبيذ" الأنيقة، عندما يخلق الصمت ذاته ويعطيه كلمات ولحن. وهنا فقط تصبح رنته الأكثر حميمية مرئية بالكامل:

"تنام المدينة من حولنا. يستقبل الزقاق المضيء الصمت،
ويبتعد ضجيج السيارات مع وميض المشاعل ويموت.
مشبعون بملذات اليوم، يذهب الرجال للإستراحة،
وتزن جبهة منحنية، راضية وحالمة
الخسائر والأرباح. مجردة من أزهارها، مجردة من عناقيدها،
متعب من شغل ألف يد، خالية، تنام السوق
لكن من قلب الحدائق تستيقظ وترتجف موسيقى بعيدة،
لربما يعزف محبا، من يدري؟ أو أن رجلا وحيدا
يتذكر الأصدقاء الذين ضاعوا، شبابه، وفي رائحة
وعلى الأرضيات الخشبية المزهرة تغني النوافير العذبة الدؤوبة.
يرتج صوت النواقيس في صمت الغسق
ويصرخ الحارس، حارس الساعات، بأعلى صوته رقما.
أوه، هنا يولد ويرتعش النسيم مع الأوراق العالية للسياج
انظر! شبح كوننا، القمر،
يظهر بشكل سري، والليل المتحمس يأتي
مسكون بالنجوم وغير مكترث بحياتنا؛
مانح العجائب، والغريب بين الناس
على قمم الجبال، هنالك ينكشف ويتألق في روعته الكئيبة".

لكن رؤية الطبيعة المعبر عنها في هذه السطور تقابل عند هولدرلين مفهومًا معينًا وحساسية معينة للتتابع الزمني للأحداث. وبالإستسلام لتدفق هذه الأحداث، وبالانغماس فيها، فإنه مع ذلك يسعى باستمرار إلى نقطة ستتجاوز الوقت، إن جاز التعبير. وبمثل هذا التغلب على كل صخب المستقبل، فإنه يعتقد حقًا بأنه فهم كل باطن الوجود. وهكذا يتوسل إلى إله الزمن الذي يشعر بأنه يتصرف فوق إرادته، لكي لا يقبض على روحه بقوة كبيرة أو عنف شديد:

"آه، كطفل، أنظرا دائما إلى الأرض
وأحاول الهروب منك في الأعالي
كأبله أحاول أن أجد مكانا
حيث لا تكون، أنت الذي يهز كل شيء".

لا ينطبق هذا على الأحداث الخارجية فقط، بل يمتد أيضا إلى الوضع الداخلي المحض والروحي. لا يكتفي هولدرلين بتأمل الحياة، في الإنعكاس الملون للأحداث الداخلية والخارجية، لكنه مجذوب دائما بما هو سري، بما يوجد خارج كل ما هو زمني، بما يولد ويختفي: "هل هذا الشفق عُنصرُنا؟ لماذا لا أستطيع الإستراحة فيه؟ رأيت بأنه ليس هناك بالكاد أي صبي نائم بجانب الطريق، ووالدته التي تسهر عليه، تغطيه باهتمام ببطانية حتى ينام بسلام في الظل، ولا تبهره الشمس. لكن الطفل لم يرد أن يبقى هادئا وأزاح البطانية عنه، رأيته يحاول النظر إلى الضوء الودود، يحاول مرارا وتكرارا، إلى أن تؤلمه عيناه ويدير وجهه نحو الأرض وهو يبكي. فكرت بأنه طفل مسكين، هناك آخرون ليس لهم مصير أفضل! واقترحت على نفسي أن أتخلى عن هذا الفضول المتهور. لكن لا يمكنني ذلك، لا يجب علي القيام بذلك! يجب أن يظهر السر العظيم الذي يعطيني الحياة أو الموت".

في هذا السياق يصبح تصور التراجيديا الأساسية للأومبيدوكل Empédocle قابلا للفهم تماما. يجب ألا تقتصر المأساة التي تم تصويرها في الأومبيدوك على معنى فردي: إنها كونية، لا تنتج عن شروط خاصة للأفراد أو للشخصيات، لكنها تنتج عن مجموع الكائن. ويقول هولدرلين هذا في معنى نظري خالص: "لابد من تصور أومبيدوك مستاء، غير هادئ ويعاني، حتى في الظروف الجميلة في الحياة، لأنها فقط ظروف خاصة، ولأنه، في اللحظة التي يكون فيها القلب والفكر يحتضنان ما هو موجود، مأخوذ في قانون التتابع الزمني. إلغاء هذا القانون وتركيز مضمون الحياة في لحظة واحدة، يتم فيها إيقاف تقدمها وإلغائه: هذا هو إذن معنى الموت القرباني للشاعر. ولا يرجع قرار موته لليوم، كما قال لباوسانياس Pausanias: "لقد كان هذا مُقررا منذ ولادتي". ولا يفصح الكون عن آخر أسراره إلا للذي وصل إلى هذه النقطة، والذي يعرف ويبحث عن هدوء الموت وراء تناوب تقلبات الحياة:
" [ ... ] يا حدَّ وقتي،
يا أيها العقل الذي رفعنا، ويمدِّدُ قوتك
سر في واضحة النهار وبين النجوم،
يا أيها الأثير!
أنا هادئ الآن، لأن الساعة
المُعدَّة منذ فترة تنتظرني، الساعة الجديدة.
ليس في التصور، ليس كما سبق
في السعادة القصيرة للبشر
أجد في الموت ذاك الذي يعيش [ ... ]
هل تعرف الصمت حوله؟ الهدوء
للإله المستيقظ دائما؟ انتظره هنا!
سيُنجز لنا كل شيء في منتصف الليل [ ... ]
لنُثبت إذن بأننا أقاربه،
سنتبعه في اللهيب المقدس".

وفي هذا الإنسجام الأقصى يتحد عند هولدرلين تصور الطبيعة وتصور الحياة الروحية. لكن هنا تظهر اللحظة الثالثة، لحظة المضاربة الخالصة. فبقدر ما يتقدم هولدرلين في بناء وتشكيل مأساته/تراجيديته، بقدر ما تنضج فيه المفاهيم الأساسية لإستيتيقا عامة للتراجيديا، يرتبط من خلالها من جديد بالميل العام للتخمين المثالي. والظاهر أن ما يريد الشاعر تمريره والتعبير عنه هو هذا التصور الميتافيزيقي الأعلى للقانون الأساسي للحياة: "إن التراجيديا في نغمتها الأساسية مثالية، ويجب أن تكون كل المؤلفات ذات الصلة بها مؤسسة على تصور فكري، لا يمكن أن يكون إلا وحدة مع كل ما يعيش، ولا يمكن لعقل محدود رؤية هذه الوحدة، ولا يمكن إلا حدسها في أعلى التطلعات، لكن من الممكن أن تُعرف بالعقل، وهي ناتجة عن استحالة تفرقة وعزل مُطلقين".

ويقودنا مفهوم الرؤية الفكرية هذا إلى النقطة المركزية للتخمين الفلسفي لذاك الزمان وإلى نظريات فختيه وشيلنغ. ولكي نحدد علاقة هولدرلين بهذه التخمينات، ولكي نحدد إلى أي حد هو تابع لها -وعلى العكس من هذا إلى أي حد أغناها وأعاد تشكيلها انطلاقا من التصور والتمثل الشعريين الخاصين به- علينا الرجوع إلى الأصول التاريخية وإلى الأسس النسقية للحركة المثالية بصفة عامة. تنطلق المثالية الكانطية النقدية من التقابل بين "العام" و"الخاص"، لكنه لا يفهم هذا التقابل إلا في معنى الإمتثال المنطقي. لم يكن همه هو مصدر الكائن والتجربة، لكن قيمة وضرورة أحكام التجربة. وهذا هو المعنى الجديد للتسائل الخالص "الترنسندنتالي": الذي لا يهتم بالأشياء فقط، لكن بالطريقة التي نتعرف بها على الأشياء، شريطة أن يكون هذا التعرف ممكنا مسبقا.

كيف يمكن للإدراك أي يصبح تجربة وكيف في كل اقتراح يبدو فرديا للتجربة يكون هناك شكل قار للتجربة ونظام مبادئ يشتغلان: هذا ما يريد النقد الكانطي للعقل إظهاره. فإمكانية الأحكان التركيبية القبلية يعني إمكانية قيام مثل هذا الرابط الأصلي بين كل التفردات، كما يعني أيضا بأنه على هذه الأخيرة أن تكون، منذ البداية، مناسبة للشكل المنطقي لتجربة كاملة وتشير لنا بأن القواعد التي تنظم هذا الكل هي شرط كل معرفة خاصة.

نفس الشيء فيما يخص أخلاقيات كانط، ذلك إن مذهبه في الحرية يتموضع في هذا التوجه النقدي المتعالي. لا يتعلق الأمر بالتساؤل كيف تكون الحرية ممكنة ومن أي أساس ميتافيزيقي تصدر: على العكس من هذا فقد دحض كانط دائما أية "نظرية" من هذا القبيل. لا يتعلق الأمر إلا بتحقيق التالي: كيف يمكن للمرء، بسبب الضمير الأخلاقي، أن يستنتج الصلاحية غير المشروطة للقانون الأخلاقي الأعلى، وكيف في ضوء هذا القانون، ومن خلال إخضاع الدوافع التجريبية إلى الحد الأقصى إلى قاعدة الضرورة القاطعة تكتسب الإرادة الخاصة قيمة جديدة، متمثلة في الإرادة العامة. هكذا ففي ميدان المنطق، كما في ميدان الأخلاق، وفي ميدان العقل النظري كما في ميدان العقل التطبيقي، فإن الأمر لا يتعلق بالنسبة لكانط بكيف ينتخ الخاص عن العام، لكن كيف توجد، في كل خاص، علاقة مضمرة مثالية بضرورة وبصلاحية عامة، وهي علاقة طُورت ونظِّر لها في الفلسفة النقدية. ويمكن فهم التعارض الحاسم والخاص الذي يميز هذا التوجه الكانطي الأساسي وتخمين من تبعه، عندما نفحص التعبير الجديد الذي أعطاه هذا التخمين للإشكالية النقدية المركزية، يعني لإمكانية الأحكام التركيبية القبلية.

لقد حدثت نقطة التحول هذه بالفعل بطريقة طبيعية وغير واعية تقريبًا في رسائل شيلنغ الفلسفية. اعتقد شيلنغ بأنه يتموضع داخل نقد العقل نفسه باستبدال سؤال إمكانية الأحكام التركيبية القبلية بسؤال آخر، وهو مقتنع بأن هذه الإشكالية لا تختلف إلا في الشكل فقط، لكنها تعادل في محتواها الأحكام التركيبية القبلية: وتتمثل إشكاليته في كيفية إمكانية خروج المطلق من ذاته. وطبقا له، يمكن للإشكالية أن تقدم بشكل آخر: كيف يكون المرور من اللانهائي إلى النهائي، وحتى إلى وجود العالم، ممكن؟ لكن لا يعرف نقد العقل عن هذا "المرور" أي شيء. ذلك أن اللغز الذي كان عليه حله لا يتعلق بوجود العالم، لكن بالقواعد العليا والأساسية للمعرفة التي تتمظهر بها المعرفة، كنظام مفاهيم ومبادئ ضرورية، كـ "مبدعة للطبيعة" في نفس الوقت".

من جهته، كان فختيه يعتقد بأنه كان يوجد على طريق النقد المتعالي، بالقدر الذي -بطرحه أيضا لإشكالية إمكانية وجود العالم- يعطيه جوابا لم يُصَغْ في فئات الميتافيزيقا القبل الكانطية. طبقا له فإن الدوغمائية تبدأ من اللحظة التي نضع فيها، كما فعلت ذلك كل التعاليم القبل الكانطية، أصل الوجود الإمبريقي في وجود آخر، مطلق. لكن الفلسفة النقدية وفلسفة الحرية تأخذان طريقا آخر. ذلك أن الأصل الحقيقي لكل شيء، بالنسبة لها، والمطلق الحقيقي لا يوجد في الوجود/الكائن لكن في الفعل، ليس في الحقائق، بل في الأفعال. ولا يمكن في الحقيقة طرح سؤال كيفية معرفة كيف يخرج شيء مطلق من نفسه ويتمظهر في أشياء خاصة متعددة. لكن من الممكن، ومن الضروري، إعطاء جواب عن السؤال المتمثل في معرفة أهمية الأفعال الأساسية للذكاء، الضرورية لتمثل الواقع "الموضوعي" وفكر اللأنا Non-moi وللقواعد التي تنظمه. ويشكل مجموع هذه الأفعال الأساسية سلسلة متتابعة، حيث تكون كل حلقة مشروطة بالحلقة السابقة عليها وموضوعة من طرفها. وفي هذا التسلسل الاستنتاجي للشروط التي تقدمها لنا نظرية العلوم تُسدُّ الفجوة بين اللانهائي، بين الكائن اللامشروط والتجريبي.

يبدو الآن أن المعيار المناسب للفعل نفسه هو الذي يتطلب تحديده التدريجي. وفقط عندما يفرض الفعل حدا له، يمكنه، داخل هذا الحد، أن يصبح مدركًا لنفسه ولهدفه الأساسي. وفقط في صورة الكائن التجريبي الذي يطرحه أمامه، يمكن للواجب الخالص، وبالتالي للأنا الخالص، أن يعرف ذاته: لأنه فقط في تمثل الحد، يكون قادرا على ضمان قوته الأصلية لتجاوز هذا الحد بوسائله الخاصة والتقدم، ما وراء هذا الحد، نحو اللانهائي. وهكذا، في معنى نظرية العلم، لا يمكن "تفسير" المحدود من وجهة نظر زمنية وجينية، لأنه يعني أننا نربطه بشيء آخر يكون نهائيا بدوره عندما يجب أن نعيده، غائيًا، إلى معناه الأساسي النهائي، بينما يجب أن يرسو هذا المعنى في معيار مطلق. وفقط في هذه القاعدة، في الوعي غير المشروط الذي يحمله الواجب عن ذاته، يتوقف السؤال عن "لماذا؟ ويتم القضاء على التناقض الذي لم تستطع الميتافيزيقا الدوغمائية حله في الأخلاق النقدية. لأن المحدود يجب أن يكون ولا يكون؛ إذا كان يوجد فَلِكَيْ يتم تجاوزه. هنا نصل، في معنى تعالم فختيه، إلأى الألوهية الحقيقية للعالم. الوجود التجريبي له ما يبرره من خلال فهمه، بالتأكيد كنقيض للنشاط الأخلاقي غير المشروط، ولكن أيضًا كموضوع دائم له و"عتاب" له.

يذهب شيلنغ أبعد من فختيه بتوسيعه مفهوم الفعل إلى المفهوم العام للحياة. وهكذا تخضع الرؤية العامة للطبيعة إلى تحول جذري. من وجهة نظر الفعل، فإن الطبيعة هي فقط الشيء، المادة التي تُعطى للفعل الحر، الذي يكون عليه التمرن على تغييرها بتشكيلها وتحويلها. لكن مثل هذه المادية الخالصة، مثل هذه السلبية غير المشروطة، تتناقض وفقًا لشيلنغ مع مفهوم الطبيعة ذاته. فكما أن مفهوم المادة يتغير إلى نظام قوة (طبقا للفكرة التي نجدها عند كانط في المبادئ الأولية لعلم الطبيعة)، فإن تفرد وجود الطبيعة هو نتيجة تفرد لقواها. ففيها نلاحظ علاقة تتجاوز المادية العامة والمجردة للمادة الخالصة، كما أنها توجد أيضا قبل القوانين الموضوعة عن وعي للنشاط الأخلاقي الحر. يتم استبدال الفعل الواعي هنا بهذا الشكل الآخر من الذكاء الذي نفهمه في الوظائف الداخلية للحياة العضوية. وفيها يتم تمرير مرحلة الشيء في ذاته، دون تذويب شكل الطبيعة في تلك الإرادة أو المعايير الأخلاقية. يتم رفع الطبيعة من شيء خالص، كما كان الحال مع فختيه، إلى مرتبة موضوع-شيء، من منتوج فعل أصبحت من جديد عملية داخلية للخلق؛ وهي العملية التي تظل غير واعية حتى تكتمل ولم يتعرف على نفسه في نتيجته العليا، الذكاء الحر. وهكذا يتم تأكيد الفرضية القائلة بأنه لا يمكن للمرء أن يعرف بالفعل ما هو إنتاج الطبيعة ما لم يضع نفسه، من خلال المنتج، داخل فعل الإنتاج و شروطه. وهذا هو بالضبط ما يجب أن تسمح به "الرؤية بالفكر". فالإدراك الحسي والمفهوم التجريبي (الذي يستخدمه ويتبعه) يلتقطان الطبيعة فقط كمجموع لما حدث وبالتالي كتوازي جنبًا إلى جنب لعناصر معينة لا علاقة لها ببعضها البعض، على العكس من هذا فإن الرؤية بالفكر تدخل داخل ديناميكيات الصيرورة، وتقدمها لنا في شكل تعاقب غير منقطع، لتطور ينتقل من العام إلى الخاص ومن الكل إلى الفريد. من الطحالب التي تكشف بصعوبة أثر تنظيم ما، إلى الشكل النبيل الذي يبدو بأنه حرر نفسه من أغلال المادة، فإننا نتعرف الآن على نفس الجهد، يحاول الإشتغال طبقا لنفس المثال الوظيفي، والإستمرار إلى اللانهائي والتعبير على نفس الشكل الأول، الشكل الخالص لعقلنا. لكن إذا رأينا هذا الشكل بهذه الطريقة من خلال الطبيعة والحياة العضوية، فإنه يتمظهر لنا في أصله كشكل أخلاقي أقل بكثير منه كشكل جمالي.

ما نسميه الطبيعة هي قصيدة مخفية في كتابة سرية ورائعة: وإذا كان من الممكن الكشف عن اللغز، فسوف ندرك فيه أوديسية الروح، التي خُدعت بشكل رائع، هاربة من نفسها عن طريق البحث عن نفسها: لأنه في جميع أنحاء العالم المحسوس لا يوجد سوى مملكة الخيال التي نطمح إليها، من خلال ضباب شبه شفاف، مثل المعنى من خلال الكلمات.

هنا بدأ هيغل في معارضة المنهج الأساسي لفلسفة شيلنغ. لا تزال كتابات هيغل المبكرة تتعامل بشكل رئيسي مع مشاكل فلسفة الدين. يؤولان مفهوم التوليف/التركيب، الوحدة والمعارضة بين الموضوع والذات من خلال ربطه بظاهرة الحب الأخلاقية والدينية. نعيش في الحب إصلاح الانقسام الأصلي بين الأنا و الأنت: لأن الحب هو هذا الوعي الذي يملكه المرء عن نفسه من خلال امتلاكه وعيه الذاتي الخاص في الوعي الذاتي للآخر.

يحافظ نظام النضوج الهيغيلي على هذا التفسير، لكنه يقدم أساسًا منطقيًا مختلفًا وأوسع للمشكلة الأساسية. يجب البحث عن الحل الحقيقي للتعارض في المفهوم وبأساليب المفهوم فقط. وطالما لم تتحمل الفلسفة هذا العمل ولم تُنجزه، فإن تأكيدها على "المطلق" يظل تأكيدًا فارغًا. لا ينبغي ليقين المطلق أن يُنسب إلى النشوة، لكن لضرورة الشيء، في تقدمه البارد. فيما يسمى بالوحدة، في الكمال الجمالي والاكتفاء الذاتي للرؤية، من الضروري إعادة إدخال اختلافات الذكاء، إعادة إدخال الجدية والألم والصبر وعمل السلبية. هذا هو العمل الذي تخضع له فينومينلوجية الروح والمنطق لهيغل، انطلاقا من نقاط هجوم مختلفة واستخدام وسائل مختلفة.

سيتم هنا وضع أشكال الوعي والأشكال الخالصة للمفهوم في مثل هذه العلاقة، بحيث سنرى بوضوح كيف يميل كل واحد منهما نحو اللاحق، يكون أعلى ويذوب فيه. على ضوء كل تطورات الوعي والمفهوم الخالص، يتم الكشف عن القصور الداخلي والتناقض المرتبط بأي تكوين معين. وبما أنه يتم حل كل مرحلة خاصة بواسطة هذا التناقض ويتم دفعها إلى ما وراء نفسها، فإنها تجد بالضبط فيما تهدمه "الحقيقة" الخاصة بها. لذا يجب أن تكون حركة وحياة الوعي مغموسة بالمفهوم وضرورته، لكن يجب في نفس الوقت توضيح كيف أن هذه الضرورة لم يتم حلها في تجريد واحد، ويتم كشفها بالكامل في ديناميكيات المفهوم فقط وفي تطور كل لحظاته وقراراته. وتُغلق دائرة هذا التطور عندما يفهم ويعرف بنفسه بأنه وصل إلى أعلى مرحلة، أي مرحلة الفكرة والوعي الذاتي. وتلغى كل حقيقة غريبة في هذا الوعي الذي يكون للعقل عن ذاته. إنه يتحرر من غلاف الموضوعية. ثم يظهر العقل الخالص، الذي أصبح في جوهره موضوعًا يفهم كل ما بداخله، ويفهم نفسه ككل. وبهذا التذكير بالأفكار الأساسية للفينومينولوجيا الهيغيلية، نكون قد تجاوزنا الحقبة التي كان فيها هولديرلين قادرًا على تتبع الحركة الفكرية لعصره بنفسه. فعندما ظهرت الأعمال المنهجية الأولى لهيغل، كان هولديرلين سنوات عديدة قبلها ضحية مرضه العقلي الذي لم يكن له دواء.

لا يتعلق الأمر هنا بتتبع علاقتهما في مسارها التاريخي فقط. فالتأثيرات التاريخية التي لعبت دورا بينهما، والتأثيرات الفعلية التي مارسها كل واحد منهما على الآخر، وبالخصوص أثناء إقامتهما معا في فرانكفورت، لم تُوضَّح بالكامل بعد، حتى بعد الدراسة المعمقة التي قام بها ديلتي Dilthey لهيغل الشاب. ما يمكن قوله هو أن العلاقة هنا لم تكن أحادية الجانب، فلم يكن هيغل المانح الوحيد وهولدرلين المُستقْبِل. حاول المرء أن يبرهن على أن فلسفة التاريخ لهيغل تنعكس في الجزء الأول من الهيبيرون، الذي نشر في عيد الفصح لسنة 1797. وعلى العكس من هذا، فقد تم التذكير بحق بأن تصميم وتحقيق هذا العمل (المقصود الهيبيرون: إ.م) كان متقدما جدا، ليمارس هيغل تأثيرا عليه.

لكن ما هو أكثر أهمية من قضية التأثير المباشر هي العلاقة الغير المباشرة التي كانت موجودة بين فكر هيغل ونظيره هولدرلين. فقد شعرا معا منذ وقت مبكر بأنهما ينتميان لنفس الجماعة الفكرية. ما كان يجمعهما ليس هي صداقة الشباب -كما كان الأمر عليه مثلا بين هولدرلين ونويفر Neuffer وسينكلير Sinclair-، لكن الوعي بالرابط بين مجموع أفكارهما.

في رسالة له لهيغل من فالترسهاوزن Waltershausen في يونيو 1794 يقول هولدرلين: "أنا على يقين بأنه حدث أن فَكَّرتَ فِي منذ أن افترقنا على هذا الشعار: مملكة الله. وهو شعار يُمكننا من خلاله التعرف على أنفسنا مهما كان تحولنا. أنا متأكد مهما حدث، فإن الوقت لن يمحو تلك السمات الخاصة بك. هذه السمات هي ما نعتز به مع بعضنا البعض، وهذه هي الطريقة التي يمكننا بها التأكد من أبدية صداقتنا". وذَكَّرَ هيغل أيضا فيما بعد هولدرلين في قصيدة "Éleusis"، التي بعثها له إلى فرانكفورت، الصلة القديمة التي تجمع روحيهما.

ومن هذه الخلفية المشتركة تبرز بوضوح أكثر وبشكل لافت للنظر السمات المميزة لكل منهما. نستخدم هنا ، وبغض النظر عن قيمتها التاريخية الخاصة، عملية ذات أهمية أساسية للطريقة العامة لتاريخ الأفكار. ما نلاحظه بطريقة مُقنعة، بأخذ مثال مهم، هو الطريقة التي ينعكس ويتمظهر بها الكوني l’universel في الفرد والطريقة التي يتخذ بها نظام أفكار ما - الذي كان يلعب في وقته دورًا مميزًا وأساسيًا- مظاهر مختلفة طبقا للناس العظماء، حيث يجد شكله الملموس. ويُكذِّب هولدرلين نفسه مثل هذا التمييز، بحيث إن العناصر الفكرية وتلك التي تكون شعرية بحتة تتشابك بطريقة غريبة في تطورها. لا يفهم الحياة والفكر كميدانين مختلفين، لكن كميدانين يرجع كل واحد منهما للآخر ويكونان متحدان ومرتبطان. ويعلن بنفسه في قصيدته "سقراط وألكيبياديس Socrate et Alcibiade" عن هذه العلاقة: "إن الذي يملك الأفكار الأكثر عمقا سيحب كل ما هو على قيد الحياة". ومع ذلك فإن طريقه سيختلف منذ هذه اللحظة عن التخمين المثالي الذي عاصره. ولأنه كان يرجع باستمرار بطريقة نظرية خالصة إلى الصراع بين النهائي واللانهائي وإلى الدياليكتيك العام للواحد والمتعدد، فإن فكره كان محددا ومدفوعا من طرف اتجاه مختلف. وقد رأينا فيما سبق بأية قوة يظهر هذا التناقض الأساسي من أعماق تصوره الغنائي. فشكله الغنائي يقود إلى نقطة حيث يظهر بأن الحركة والراحة تختلط، حيث ينبع الإحساس الأكثر صفاء من الطبيعة وحياة الروح، حيث يكون تدفق شخصيات الطبيعة والروح هو الجمود.

إن هذه العلاقة التي لم تكن إلى حد الآن محددة إلا بطريقة عامة، تتطلب تعميقا شخصيا، وليس هناك إلا شعر هولدرلين -نظرا للطريقة التي يشعر بها ويُبدع- للقيام بهذا الأمر. لا يمكن إرضاء ثيودسي La théodicée الشاعر، كما يفعل منطق هيغيلي، بإلغاء الحد المتأصل في كل "لحظة" فريدة ومنتهية، من خلال إرجاع اللحظة إلى الكل حيث تكون من جهة مندرجة ومن جهة أخرى تتوقف على امتلاك وجود خاص. وهذه الخاصية بالضبط هي ما يكشف عنه دياليكتيك النظام المنطقي كوهم، يعتبر العنصر الأكثر حيوية في التصور الشعري ذاته. قد يكتفي هذا الأخير بإعادة توزيع مجموع الكائن/الوجود على سلسلة من اللحظات المختلفة، تُكَمِّل كل لحظة اللحظة السابقة عنها، الغير القادرة على الإكتفاء بذاتها. عليها تركيز كل المضمون المثالي الذي تعبر عنه في لحظة واحدة، وتشكيله في شكل محدد جيدا وفي شكل وحيد. ينطلق الشعور الغنائي للعالم دائمًا إلى مثل هذه الذروة، حيث يتركز كل محتوى الحياة وكل ما يحتويه من المتعة والألم، كما لو كان لحظة واحدة. ولكن فقط عندما يتم تجاوز الذروة -عندما تظهر الأحداث الرتيبة والفارغة، بدلا من اللحظة التي تضمنت كل شيء- تتجلى اللعنة، قوية ومؤلمة، تثقل على كل وجود معين خاص. ويَعْبُر هذا الشعور الأساسي الهيبيرون كله: "لا تكن إلا واحدا مع كل ما يعيش! بهذه الكلمات تتخلص الفضيلة من الغضب في صدرها وعقل الإنسان من صولجانه/سلطته، تنمحي كل الأفكار أمام صورة العالم الأزلي الواحد [ ...] أَقِفُ دائما على هذا المرتفع يا بيلأرمين Bellarmin ! لكن لحظة تفكير تُسقطني، أُغَيِّرُ رأيي وأجد نفسي كما كنت، وحيدا بكل عذاب الإنسان، ويتم ذلك بملجأ قلبي، العالم الفريد إلى الأبد. تغلق الطبيعة ذراعينا عني، أنا هنا أمامها كغريب، ولا أفهمها".

والنتيجة هي أنه بينما تسعى الجدلية الفلسفية للتغلب على "ألم السلبي" في تقدم الفكر، ويغلق هيغل نظامه بترنيمة لـ νοησιζ νοησεωζ (noesis noeseos) إلى "فكر الفكر" الإلهية، فإن هولدرلين من جانبه يتخلى على هذا الحل على الفور. فالطبيعة -وهذا ما يقوله بالفعل جزء من هيبيرون- لا تريد أن نلجأ إلى مناطق الفكر للهروب من عواصفها، قانعون بنسيان الواقع في العالم السلمي للممكن. فالحدود بين حياة الآلهة وحياة البشر قاسية ولا يمكن إلغاؤها. تُدوي هنا بلا رحمة أغنية القدر التي سمعها هولديرلين بالفعل عندما كان طفلاً. لا يمكن لأي وسيط أن يحل النزاع بين الآلهة التي تزدهر روحها إلى الأبد ومعاناة البشر. فأية محاولة لتخفيف هذه المعاناة المرتبطة بقوة بالإنسانية، من خلال رفعنا من فكرة الوجود الفردي نحو فكرة "روح العالم" التي يجب أن تتحد فيها جميع الأضداد في وئام، محكوم عليها بالفشل. يجب الشعور ومقاومة المأساة/التراجيديا المتأصلة داخل كل كائن نهائي حتى النهاية. ولا تبدو هذه المأساة لأحد بعمق أكبر باستثناء الشاعر. فحياة الإنسان الحساس أو حياة الإنسان صاحب إرادة تقتصر على العلاقات بين الوسائل والغايات وعلى التناوب بين الطموح والإنجاز.

فالزخم الخاص والمحدود يجد هنا الراحة في شيء معين ومحدود، إلى أن يُشعل شيء جديد زخما جديدا، وهكذا تتقدم الحياة من هدف نسبي إلى آخر. لكن الفنان لا يشعر في تسلسل هذه المشاعر، من شيء إلى آخر، إلا بالذهاب والإياب المستمر للشعور وبحركتها الأرجوحية الخالصة. إنه يرغب في انتظام مصير الإنسان العادي، دون أن يكون قادرًا على عيش هذا المصير وأخذ قسط من الراحة فيه:

"وأنا، إلى أين سأذهب إذن؟ يعيش المعرضون للموت
من العمل والأجر، يتناوبون على الألم والسلام.
كل شيء هو بهجة بالنسبة لهم، لماذا في قلبه وحده
لا يريد عقرب الساعة النوم أبدا".

نسمع باستمرار هذا الرثاء المؤلم في شعر هولدرلين، هذه الرغبة في التمسك بما هو فان/نهائي، داخل ما انتهى، ولكن بالشعور في نهاية المطاف بالتوتر/الأرق اللامحدود للإحساس والخيال كمصير حقيقي له:

"يرتاح يوم الخريف الآن في كماله،
نُقِّيَ العنب والحقل أحمر بالفواكه،
على الرغم من أن بعض الأزهر الجميلة،
سقطت لتشكر الأرض.
وفي الحقول المجاورة، عندما أمشي
على الطريق الهادئ، تكون الخيرات قد نضجت
للقانعين، وهي مشاق
جميلة، تلك التي تمنحها إياهم الوفرة.
[ ... ]
سعيد في حضن بيته الخاص
ذاك الذي تعتني به زوجة الصالحة/الورعة!
تشرق السماء فوق أرض مستقرة
بالكثير من البريق بالنسبة للرجل الواثق من حياته.
[ ... ]
تجذبونني بقوة كبيرة
أيتها المرتفعات العلوية، في الزوبعة عندما
أشعر بِكُنَّ تتغيرن، في يوم جميل
وتُمزِّق صدري، قوى إلهية متحركة،
[ ... ]
ليكن قلبي المعرض للموت بمثابة إغاثة،
وبالنسبة لآخرين ملجأ دائما!
لا على روحي التائهة البحث
حمل رغبتها إلى ما بعد الحياة".

في هذه الرغبة بالتحديد التي تتوق إلى ما بعد الحياة يمكننا فهم معنى جديد وأكثر غنى للحياة نفسها، وهو معنى لا يمكن التعبير عنه بطريقة مجردة وبأخذ مسافة منه، لكنه معنى يتحدد بطريقة قوية في الصيغة الشعرية. لا تُحل معاناة الإنسان لأن سعيه يصل إلى هدف ما، وبهذا تصل حركة الروح إلى نهايتها. لا تُحل إلا عندما تميل هذه الحركة نحو نقطة يختفي فيها التعارض بين المتعة والألم، نقطة ستظهر عندما نتخلى بوضوح عن هذه الحركة. ما يبقى بعد ذلك هو الإيقاع الخالص، منخفضات ومرتفعات الحياة ذاتها، دون أن يُكسر هذا الإيقاع في التناقضات النوعية للمتعة والاستياء، الفرحة والحزن. في هذه الديناميكية العامة للشعور يتم حل تناقض كل حركاته المادية الخاصة:

"ألا تَطِنُّ ألحان القدر
بالقرب منك أبدا؟ أتفهمها؟
يقول تنافرها نفس الشيء".

هكذا يتكلم هيبيريون كحكيم ومعلم، في الجزء الميتري من القصيدة. يبدو وكأن الشعور هنا قد تحرر من كل أساس، لا يهتز إلا في ذاته ويستمع للحنه الخاص. لم يعد الشاعر يشعر باللذة والألم كما هما، كحالات نفسية منفصلة: إنه يقبض عليهما كلحظتان متساويا القيمة، لأن كلاهما ضروري لصورة الوجود التي يلتقطها بطريقة موضوعية خالصة ويُبدعها من جديد. ويمكنه بهذا الموافقة على الحالتين دون إلغاء تعارضهما في أية وساطة فكرية، لأن اللذة والألم هما بالنسبة له متضمنان بطريقة متساوية في هذه الصورة:

"لأن الذين يمنحوننا النار من السماء،
الآلهة، تعطينا أيضا الألم المقدس
لِنَقْبِلَه".

أجاب ديوتيم Diotime هيبيريون عما يعنيه الحلم بالنسبة له وهل هو معاناة أم فرح؟: "يوجد الإثنان، وجميل أن يوجدا معا"، لأننا لا نرى ونفهم الواقع العميق للعقل إلا في تداخلهما، في الطبيعة كما في أنانا Moi الخاص. وكالعندليب في الظلام، لا يكون لأغنية العالم أي صدى في داخلنا إلا في حضن معاناة شديدة. وما يمكن للشاعر أن يقدمه لنا هو ثيوديسة théodicée حقيقية والتبرير النهائي لهذا الألم: لا يحصل العالم على أغنيته الأكثر صفاء إلا من خلال هذا الأخير، وهنا تبدأ هذه الأغنية بالطنين الحقيقي لنا. فما يطغى على شعر وإستيتيقا هولدرلين هو الإقتناع العام: ولا يستمر الإيقاع المتأصل في أحداث العالم إلا في الشاعر. وحتى في وقت الحُمْقِ لم يتوقف -بشهادة بيتينا Bettina- عن الصراع ضد هذه الفكرة الأساسية لـ "ميتافيزيقا الإيقاع": إنها تعبر وتغزو شروحه من ترجمات سوفوكليس .إنها الحركة النقية للوجود والتشكيلات الخاصة للطبيعة التي تجد في الشاعر تعبيرها المتضخم. فسيل الحياة الذي يغرق فيه يتحول إلى "سيل من الكلمات" بالنسبة له. مسلحًا بهذه الهدية، يشعر إيمبيدوكليس Empédocleمتحدًا بطريقة أصلية وفورية بكل أشكال الوجود:
"كنت طفلا لا أفهم ما كان
يتحرك أمام عيناي، غريب في النهار،
بينما الأشكال الكبيرة
الرائعة في هذا العالم تحيط
قلب طري العود ينام في صدري
كنت أستمع غالبا، مندهشا، لسيلان الماء،
وكنت أرى الشمس تُزهر وتُشتعل
اليوم للشاب للأرض الهادئة
تستيقظ أغنية فِي، وقلبي
يضيء في الفجر بصلاة أصبحت شعرا،
عندما كنت أعطي اسما للأجانب الحاضرين،
لآلهة الطبيعة، وليكشف لي العقل
بالكلمة والصورة المُباركة
لغز الحياة".

في هذا الحل الأسمى بالضبط وفي تكثيف كل هذا الوجود، تظهر المأساة مرة أخرى، التي تَعْبُر الكائن. ففقط بمغادرة نفسه وبهدم الذات كفرد محدود، يمكن للشاعر سماع أغنية العالم. عليه أن يختار بين الإنجاز الخالص والأسمى لمهمته ووجوده ككائن إنساني. ومن الخطأ والغباء الإعتقاد بأنه بإمكان المرء الجمع بينهما، وأن يجد الشاعر ملاذا آمنا في وجود إنساني خاضع لشروط إمبريقية. ذلك أنه يجب كسر الإيناء الذي قُدم به انسجام العالم للبشر، بما أنه خاص ومحدود. وقد شعر هولدرلين طيلة حياته بهذه المعضلة داخله، ووجد لها التعبير الأقصى والساحق في قصيدة موت إيمبيدوكليس Empédocle. كان يعرف ويشعر بأنه لا مفر من هذه المعضلة في كل لحظة في الحياة، حتى وإن كانت أعلى لحظة. ولا يمكن للذي أظهر له مرة سر الكون أن تكون له جذورا فيما يسميه الناس واقعهم: واقع اللذة/الرغبة والفعل، الإرادة والإنجاز:

"لم أعد من أنا
ولا يُحسب الوقت الذي بقي لي بالأعوام،
إنه ومضة فقط ستمر قريبا
نغمة على بعض الأوتار".

إنها المكافأة الجوهرية التي يتلقاها الشاعر لأنه فصل نفسه عن ركيزة كل الوجود التجريبي المحدود، وعن التعارض بين اللذة والمعاناة. ومع ذلك ، لم يتخل هولديرلين، دون مقاومة داخلية، عن هذا المصير الذي يعرف أنه أمر لا مفر منه. لم يتوقف أبدًا عن التوسل إلى الآلهة لإزالة الهدية التي يلتوي تحتها. فبالنسبة للبشر الذين تعرضوا لقوة المصير هذه، فإن الإمكانية التي حصل عليها البشر للعيش بدون مصير تصبح خرابه:

"آه، لكي أتحملها، انزعوا
من قلبي الحياة الإلهية".

لكن هناك تناقض آخر أكثر واقعية يسيطر على مخطط دراما إيمبيدوكليس Empédocle. يأخذ التعارض بين عالم الشاعر والعالم التجريبي للناس شكل معركة يقودها هذا العَالَم الشعري ضد الحقائق التاريخية والسياسية. في مقال "أساس إيمبيدوكليس"، حدد هولدرلين بنفسه هذا الصراع مُعتبرا إياه الجوهر الحقيقي للدراما التي استغل عليها: "يظهر إيمبيدوكليس قبل كل شيء وكأنه وُلد شاعرا [ ... ] فالصراع بين، من جهة الفن والفكر والنظام والقدرات الخلاَّقة للإنسان، ومن جهة أخرى الطبيعة اللاواعية، يظهر بأنه يُحل فيه. فكل هذه العناصر تجتمع إلى حدودها القصوى وبتبادل الأشكال الخاصة بها. وكان هذا السحر الخاص بإيمبيدوكليس عندما ظهر في عالمه. فالطبيعة -التي سيطرت من خلال قوتها وجاذبيتها على معاصريه ذوي التفكير الحر إلى حد تجاهلها لدرجة جعلها غير معروفة- تظهر بكل نغماتها في عقل وفهم هذا الرجل، بطريقة داخلية جدا ودافئة وشخصية، إلى درجة أن قلباهما ظهرا وكأنهما قلبا واحدا، وأن روح العنصر بدت وكأنها تسكن في شكل بشري بين الناس".

يكمن الخطأ المأساوي لإمبيدوكليس الآن في حقيقة أنه يعتقد أنه قادر على تسليط الضوء على هذه الوحدة الداخلية التي وجدها في التعامل مع الطبيعة، وإدراكها/تحقيقها في صورة تاريخية فردية. وبهذا فإن خطته تُدفع خارج مجاله الخاص ولا يمكن استعادتها في نقاوتها لا من خلال عالم الشعر ولا من نقيضه المتطرف، عالم النشاط السياسي. فقط تضحية إمبيدوكليس تعيد وحدة كيانه وكذا القوة الروحية الأخلاقية الأصلية الخاصة به: "لم يكن مصير وقته والنوبات العنيفة التي نشأ فيها يتطلب الغناء [ ... ] كما لم يكن مصير وقته يتطلب فعلًا حقيقيًا، يتدخل وينقذ على الفور ولكن بشكل أكثر حصرية [ ... ] كان هذا القدر يتطلب تضحية".

يبرز التصميم العام لهولديرلين الذي يكمن وراء هذه النقطة مرة أخرى بشكل أكثر وضوحًا عند مقارنته بالتوجه الأساسي لفكر هيغل. بالنسبة لهيغل، فإن فينومينلوجية الروح والمنطق هما معا وسيلة للارتقاء إلى عالم "العقل الموضوعي"، الذي يراه يتحقق في القوى الروحية التاريخية. لكن كل هذه القوى تجتمع بالنسبة له في نهاية المطاف في فكرة الدولة الواحدة. الدولة هي جوهر العقل نفسه، تحقيق العقل في التاريخ. فـ"الكل" ليس هو الحقيقة فقط، كما وضح في فينومينلوجية الروح، ولكنه أيضًا - في شكل مجتمع الدولة - أعلى واقع أخلاقي-. وقد أثرت الأسباب التي دفعت بهيغل لتطوير هذا المفهوم عن الدولة بعمق في هولديرلين. شاطر هيغل حماس الشباب للثورة الفرنسية ولحكم الحرية الجديد الذي بدا أنه يحدث هناك. كان ينتمي إلى دائرة الطلاب الداخليين في معهد توبينغن الذين، وفقًا لرواية معروفة، عندما كانوا يتلقون أول أخبار الحركة الثورية، ينصبون شجرة الحرية ويرقصوا بسعادة من حولها.

كتب هولدرلين عام 1792 إلى أخته بعد التقارير الأولى حول القتال بين النمساويين والفرنسيين: "بأن الأمر سيُحسم قريبًا، صدقيني، سنواجه أوقاتًا صعبة إذا فاز النمساويون. إن إساءة استخدام السلطة الأميرية سيصبح رهيبًا. صدقيني وصلي من أجل الفرنسيين المدافعين عن حقوق الإنسان".

بعد فترة وجيزة ، أظهرت علاقاته بفختيه بأن الفكرة المجردة للحرية لم تعد كافية لعقله. كما هو الحال مع حقوق "الطبيعة" ضد الواجب الخالص، فقد اتخذ موقفًا واعيًا وحاسمًا بشكل متزايد تجاه حقوق الفرد ضد المجتمع وضد نفوذ الدولة. وهذا التغيير، الذي حاول المرء إرجاعه لهومبولت Humboldt أو شيلنغ، يأتي بشكل أساسي من متطلب أساسي بطبيعته الخاصة. يؤكد الآن بأن الإنسان يكون أكثر حرية كلما قلت خبرته ومعرفته بالدولة - بغض النظر عن شكل هذه الأخيرة-. وتقول النسخة الأولى المكتملة من الهيبيرون هذا بالفعل دون غموض: "بالسماء! لا يدرك خطيئته ذاك الذي يريد أن يجعل الدولة مدرسة أخلاق. فبعدما جعل من الدولة جحيما، يريد الإنسان أن يجعل منها جنة. اللحاء الخشن حول نواة الحياة، ولا شيء غير ذلك، هذه هي الدولة. إنه الجدار حول حديقة الفاكهة والخضار التي يزرعها الإنسان، ولكن فيما يفيد جدار حول تربة جافة".

هنا أيضا يشعر هولدرلين بعدم الرضا للرجوع المحض إلى عمومية ومجموع الدولة، وعلى العكس من ذلك، يطالب بحل المشاكل الأساسية للعقل على أرضية الفردانية ذاتها. فعقول الأفراد العظماء تستسلم للقوى التاريخية والسياسية لزمانهم، لكن هذا العقل لا ينتمي إليهم أبدًا دون شروط، يحافظ على ميدانه الخاص ليعود إليه في أي وقت. يعلن إمبيدوكليس، ككاهن ورَائِيٍ، لمواطني أغريجنتو Agrigente، قبل تركهم، مثالًا جديدًا للدولة لا تقوم على قوانين مكتوبة ولا على عادة ما بل على قرارات يتخذونها بحرية بأنفسهم:

"لذا، تجرؤا! إرثكم، إنجازاتكم
قصص ودروس من أفواه آبائكم،
قوانين وعادات، أسماء آلهة قديمة،
انسوهم بجرأة لترفعوا الأعين
مثل أطفال حديثي الولادة، إلى الطبيعة الإلهية"

لكنه لن يكون هو نفسه قادراً على الانتماء إلى هذا المجتمع الجديد، لأنه جُرَّ إلى ما وراء كل حدود الحياة، حتى يتم فك اللغز الأساسي لهذه الحياة، ويُكشف سر الارتباط بين الفرد والكون في الموت في نهاية المطاف. وفي هذه الحالة، يأخذ إجازة من كل سعادة بشرية ومن كل معاناة ومن جميع القواعد الإنسانية الموضوعية:

"لذا لا تطالبوا بعودة الإنسان
الذي أحبكم لكنه كان مثل الغريب
بينكم ووُلد لفترة قصيرة فقط،
آه! لا تطلبوا للبشر فقط
إنه لا يزال يخاطر بنصيبه المقدس وروحه!
كان الوداع الذي مُنحنا إياه جميلا
واستطعتُ أخيرًا، يا أعز كنزي،
من منحك قلبي الممزق من قلبي.
إذن أليس كذلك! ماذا أفعل بجانبك؟!".

مرة أخرى، يوضح لنا هذا السطر الأخير علاقة هولدرلين الحميمة بزمانه وبالقوى الفكرية لعصره. إن وحدة الوجود التي يشاركها مع معاصريه تأخذ بصمة جديدة وخاصة به لأنها تأتي من عمق شخصيته الشعرية. يستخدم بالتأكيد لتمثيل هذا الوجود المفاهيم والفئات التي أوجدتها المثالية الفلسفية لهذا الغرض. لكن تتخذ هذه المفاهيم في نفس الوقت معنى جديدًا فيه، لأن لديها أصلًا آخر. فبدلاً من ظهور جدلية المفهوم، تظهر بشكل نقي وحازم جدلية الشعور، شعور شعري بالعالم، متماسك ومتناقض في نفس الوقت. لا يشعر بأناه Moi إلا كنغمة تختفي في لعبة أوتار العالم. وأثناء الاختفاء، تحتفظ هذه النغمة بنبرة خاصة بها غير قابلة للإختزال. فالفردانية لا تذوب في الكل وللكل في واحد كوني: وحتى عندما تذوب في حياة الكون وتبدو وكأنها تختفي فيها، فإنها تعرف أن تبقى سيدة وواحدة. لذا تحافظ رؤيته على الاتجاه المزدوج الذي سجله في نُقُوش الهيبيريون: " non coerceri maximo, contineri tamen minimo divinum est " "ألا يُسجن المرء بالأكبر، وأن يوجد على الرغم من ذلك ...".

عندما يحاول هيجل، من خلال العمل الفكري المتواصل، حل جدلية العام والخاص، المحدود واللانهائي، من خلال العمل الفكري المتواصل، نُعجَبُ بهذا النضال العملاق الذي يحتضن المدى الكامل للحياة الفكرية ويخرجها على ما يبدو من حركة العقل الخالص. لكن الشعور الأساسي لهولدرلين يؤثر فينا بطريقة شخصية وبعمق كبير. إنه شعور لا يدعي إيجاد حل لهذا الصراع الأصلي ولكنه يسعى فقط إلى قياسه وتمثيله في كل عمقه بالوسائل الشعرية".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تظاهرات في جامعات أميركية على وقع الحرب في غزة | #مراسلو_سكا


.. طلبوا منه ماء فأحضر لهم طعاما.. غزي يقدم الطعام لصحفيين




.. اختتام اليوم الثاني من محاكمة ترمب بشأن قضية تزوير مستندات م


.. مجلس الشيوخ الأميركي يقر مساعدات بـ95 مليار دولار لإسرائيل و




.. شقيقة زعيم كوريا الشمالية: سنبني قوة عسكرية ساحقة