الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هي الفلسفة

احسان طالب

2020 / 5 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الفيلسوف الألماني الشهير أدموند هوسرل ( 1859- 1938) جمع ما ألقاه كمحاضرات في جامعة السبورن بتاريخ 25-2-1929-
في كتاب عنوانه " تأملات ديكارتية " يعبر في مقدمتها عن رأيه ببداية طريق الفيلسوف " لابد، في البداية، لكل من يريد أن يصبح فيلسوفا أن يعود إلى ذاته ولو مرة واحدة أثناء حياته، وأن يحاول في داخل ذاته قلب كل المعارف التي سلم بها حتى ذلك الحين، ثم بعد ذلك يحاول إعادة بنائها من جديد. إن الفلسفة -الحكمة- هي على نحو ما عمل شخصي بالنسبة للفيلسوف، فالفلسفة ينبغي أن تنشأ بوصفها فلسفته، وأن تكون حكمته هو، ومعرفته الخاصة، التي على الرغم من أنها تنزع نحو ما هو كوني، فإنها يجب أن تظل نتيجة لتحصيله الشخصي، وأن يكون بمقدوره تبريرها، من أولها وخلال كل مرحلة من مراحلها، باعتماد على حدوسه المطلقة."( 1)
ربما تكون نصيحة هوسرل تعبيرا تجديديا لمقولة سقراط المأثورة : الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لا أعرف شيئا"(2)
الفلسفة وعد بالوصول إلى الحقيقة ، سعي دؤوب مشحون بشغف لا ينقطع لتحصيل المعرفة ، أقرب ما تكون لتأمل ذاتي داخلي قبل انبثاقها كموضوع يتحدث أو يصنع مفاهيم مجهولة أو جديدة ، هكذا تبدو صلة الفلسفة بالحقيقة والمعرفة جزءاً كلياً، خليطا ماهيته الوجود أو فكرة الوجود. ألم يقل الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز(1925-1995) إن مهمة الفيلسوف هي صناعة أو ابداع المفاهيم و إن الفلسفة بتدقيق كبير هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم" في الواقع لا يمكننا فهم الفلسفة دون الاعتماد على الفلاسفة؛ أي دون فهم مذاهبهم ومدارسهم ،دون استيعاب كلي أو جزئي لمادة العلم الكلي ، والمقصود بالمادة هنا مَوضَعة الفكرة ضمن سياق يفضي في النهاية إلى تأسيس علم كلي علم اليقينيات وفقا لأرسطو . لم تعد الفلسفة كما كان يشتهي الأقدمون علما لكل العلوم بل باتت علما خاصا قائما بين العلوم الأساسية ، رام هوسرل في القرن التاسع عشر وما تلاه تأسيس علم خاص بالفلسفة بعد أن تم للعلوم استقلالها عنها ، ما أراده هو تقديم بداهات كلية قابلة للبرهنة ، أي البحث عن أسس يقينية للعلم، " إن ما تقتضيه الفلسفة هو ما تقتضيه أية معرفة جدية تشتمل على أدلة وبراهين يمكنها ،تعلن ، وتعم وتفرض نفسها على كل العقول اليقظة ، واعدة بالوصول إلى الحقيقة في إطار تعيين كلي"(3 ) إنه نزوع مستمر إلى " عدم القبول إلا بالحقائق التي قام البرهان على صحتها ، أي القبول بالمعرفة الجدية القائمة بذاتها الحاملة لإمكانية الصواب في كل الأزمنة ، وبمقابلة تلك الصرامة والصلابة المرافقة للمفهوم نلحظ نزوعا حقيقيا نحو اشتهاء السعادة وإمتاع العقل باكتشاف الحقيقة بل وتأـسيس حقائق جديدة " إن من يقل بأن ساعة التفلسف لم تأت بعد ، أو أنها انقضت كمن يقول إن ساعة اشتهاء السعادة ما أزفت بعد أو أنها قد ولت" ( 4 )
يمتلك الفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة حساً تلقائيا يعطيه الأسبقية والريادة ، فهو على قناعة تبلغ حد اليقين بأن لديه تفسيرا منطقيا لما تجاوزته العلوم وما اعتبرته بداهة لا تحتاج لبرهان ، قدرة على تحليل وفهم الظواهر كمواضيع مجردة منضبطة أو محكومة بقوانين المنطق ، وبذلك يفضي علمه إلى إعطاء تفسير لأسباب الظاهرة ومآلاتها طبقا لنسق عام كلي. ربما تكون تلك الميزة الأهم للتفلسف فالتجربة العيانية ليست سبيلا وحيدا لبلوغ العلم ولعلها ليست دائما سبيلا للعلم ، فالتأمل الذاتي أي تلك الحركة الواعية للعقل ـ ليست إلا فعلاً منطقيا متسقا يُنتج معرفة جديدة انطلاقا من قاعدة معارف سابقة مختزنة بوعي. لا يعني ذلك دحض للعلوم التجريبية بل يعني ادخال التجربة المنطقية للعاقل المتأمل ضمن سياق اكتشاف الحقيقة وبناء العلم. " في وسع الإنسان دوما أن يدع التأمل جانبا ، وأن يدين التفكير باعتباره نوعا من العبث لا جدوى فيه ويجرمه لأنه يصرفنا عن الاهتمام بأعمال أكثر أهمية ، وبوسعه أيضا أن يؤثر على الوعي الديكارتي وعي العامة . لكن هذا كله يعني القول : إن في وسع الإنسان الامتناع عن التفلسف" (5)
هل حقا يمكن لباحث أو فيلسوف أو مُصَنف محقق تقديم جواب شامل مانع لماهية ومعنى الفلسفة؟ بالتأكيد سيكون الجواب بالنفي ، الطريف هنا أنه كلما حاولت لم شمل المعنى تفتح لك آفاق جديدة، فعند دراسة المذاهب القديمة ومحاولة فهمها أو نقدها وحتى نقضها، تجد الباب مشرعا لمذاهب جديدة أو مدرسة ناشئة ، هكذا على مدار العقود والقرون كان الفلاسفة يشيدون مناهج ومدارس جديدة من رحم الأسبق والأقدم ، إذن تبدأ مغامرة الكشف ولا تنتهي ، هكذا يسلم الأسبق الراية لمن يليه أو يتبعه أو حتى من يجره للخلف، تاركا المجال واسعا لاستقراء عوالم كونية معرفية جديدة، ببساطة متناهية لا حد يحقق المعنى كونه بجلاء لا يخفى على المستبصر مازال في طور النضوج، والسبب عائد لذلك الصغير الذي يسع الكون بل يخلق أكوانا حديثة متخيلة وحقيقية إنه العقل ، ونحن مدينون بتعريفه والدخول أيضا في دوامة معرفية قائمة ومستمرة في الدوران والاستقطاب.
لعلنا ندرك الفرق بين يقينية كلية علمية ـ الفلسفة ـ وبين المعتقدات الصارمة الغير قابلة للنقاش والنقد، فمن المهم جدا إدراك الفلسفة كعلم وليس كمعتقد، وبالرغم من التداخل اللغوي ينبغي لنا التفريق بين يقينية فلسفية تعمل على إدراك بداهة قابلة للبرهنة وبين يقينية اعتقادية يعنيها التصديق أولا ولا تمانع بالاستفادة أو الاستعانة بالبرهان بعد التصديق. ونلحظ هنا اقترانا وافتراقا بين يقين واعتقاد لا يتسقان بنسق واحد، فمهمة العقل هنا ليست ذاتها مع امكانية التوافق في النتائج وربما الغايات.
الفيلسوف البريطاني الشهير بيرتراند راسل 18-5-1872 ـ 2-2-1970 أجاب على سؤال خلال مقابلة تلفزيونية ما هي الفلسفة؟ هي فرضيات حول أمور لا يمكن الحسم فيها بطريقة نهائية من الناحية المعرفية ، وفائدتها الابقاء على التكهنات المتعلقة بالمسائل التي لا يستطيع العلم التطرق إليها ، و أن لا يكون خيال العالم محدودا أو مقتصرا على ما نستطيع معرفته حاليا ، أي ايساع نطرة البشر عن العالم لمستوى افتراضي، هناك أشياء ظننا أننا نعلمها لكننا لا نعلمها ، إنها تمكننا من الاستمرار في التفكير ، العلم هو ما نعرفه والفلسفة هي ما لا نعلم والأسئلة تمر من الفلسفة إلى العلم مع التطور .
ليس فقط البحث والتفتيش عن اجابات بل عن أسئلة لم تسأل بعد ، وليس فقط الغوص في التكهنات التي لا يُتطرق إليها بل الابقاء على التكهنات والافتراضات الكائنة والممكنة ، عن الوجود ما قبل وبعد وكيف وأين ولماذا ، إنها عالم افتراضي كلي للسؤال ومتعة ولذة الحصول على اجابات عصية على العلم.
ليس عسيرا على المتأمل في معاني الفلسفة ملاحظة التعدد والتنوع بل والتناقض والأضداد ، فعلى الرغم مما يظهره ذلك النهر الهادر للجهد العقلي الدؤوب الزاخر بالمكنونات والمخبوءات من وحدة وتماسك حتى الوصول إلى مصبه في بحر علوم الفلسفة ، فلا يشك باحث في تمثل تلك الوحدة على خليط متجانس تشابكت فيه عناصر المعرفة الحسية وعمليات التأمل النظري البحت والبداهة المطلقة لتصب بالنهاية في محيط الفلسفة كعلم كلي " الأشياء الالهية والبشرية ، أي جميع الكائنات العاقلة أي الموجودات طرا ، وذلك ما دامت الطبيعة مستوعبة هي نفسها في الأشياء الإلهية، وبذلك تكون مهمتها قد رسمت ؛ سواء أتعلق الأمر بالمنطق وبنظرية المعرفة أم بالأخلاق أم بعلم الطبيعة أم بعلم النفس ، فإن قوام هذه المهمة في الأحوال جميعها استبعاد اللامعقولية ورؤية فعل العقل الخالص وحده دون سواه في الطبيعة كما في السلوك." ( 6 ) وفقا لذلك المنهج الذي يبدو إلى حد ما قريبا من شتى المدارس والمذاهب الفلسفية ستسير تأملاتنا كدفق ساقية عذبة متجاهلة قدر الامكان دحض الفلسفة الذي يعني أن نرفض الفهم . سنقف متأملين للحقيقة والمعرفة والفضيلة والخير والوجود والخوف والنمط والمشكلة والذكاء والقلق ، وغيرها من المفاهيم والمشاعر بحثا عن ابداع مفاهيم محققين بذلك مقولة دولوز في الفلسفة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الفلسفة ليست علما
منير كريم ( 2020 / 5 / 27 - 15:51 )
تحية للكاتب المحترم
كما ذكرت حضرتك ان مفهوم الفلسفة كام العلوم او علم العلوم لم يعد مقبولا , فذاك المفوهم ساد في الفلسفات الميتافيزيقية التي كانت تبني نظما شمولية للكون كفلسفة هيجل
بنفس الوقت الفلسفة ليست علما ولا تبحث عن الحقيقة ولا تضيف حقائق جديدة كبقية العلوم التخصصية
يمكن اعتبار الفلسففة سعى لفهم عام للعالم
فلسفة العلوم المعاصرة تدرس مدى دقة المفاهيم العلمية وحدود استخدامها والطرائق العلمية المعتمدة في العلوم التخصصية
شكرا


2 - بنية الفلسفة مختلفة
احسان طالب ( 2020 / 5 / 27 - 19:11 )
تحية طيبة أستاذ منير كريم
بنية الفلسفة ذات منهجية مغايرة لبنية العلوم الأساسية فكما هو معروف العلوم الطبيعية قامت على
التجريبية في المقام الأول
وهذه مسألة مستبعدة منهجيا لدى البحث الفلسفي ربما من هنا كانت قضية افتراقها عن علم النفس
والرياضيات
ولك خالص الشكر


اخر الافلام

.. قصف مستمر على مناطق عدة في قطاع غزة وسط تلويح إسرائيلي بعملي


.. عقب نشر القسام فيديو لمحتجز إسرائيلي.. غضب ومظاهرات أمام منز




.. الخارجية الأمريكية: اطلعنا على التقارير بشأن اكتشاف مقبرة جم


.. مكافأة قدرها 10 ملايين دولار عرضتها واشنطن على رأس 4 هاكرز إ




.. لمنع وقوع -حوادث مأساوية-.. ولاية أميركية تقرّ تسليح المعلمي